الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
شعيب، ثم حديثا مستفيضا عن قصة موسى مع فرعون ومع بنى إسرائيل.
وقد تكلم الإمام الرازي عن فوائد مجيء قصص هؤلاء الأنبياء مع أقوامهم في هذه السورة بعد أن تحدثت عن أدلة توحيده وربوبيته- سبحانه- فقال: اعلم أنه- تعالى- لما ذكر في تقرير المبدأ والمعاد دلائل ظاهرة، وبينات قاهرة، وبراهين باهرة أتبعها بذكر قصص الأنبياء وفيه فوائد:
أحدها: التنبيه على أن إعراض الناس عن قبول هذه الدلائل والبينات. ليس من خواص قوم النبي صلى الله عليه وسلم بل هذه العادة المذمومة كانت حاصلة في جميع الأمم السالفة، والمصيبة إذا عمت خفت، فكان ذكر قصصهم، وحكاية إصرارهم وعنادهم، يفيد تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم وتخفيف ذلك على قلبه.
ثانيها: أنه- تعالى- يحكى في هذه القصص أن عاقبة أمر أولئك المنكرين كان إلى اللعن في الدنيا، والخسارة في الآخرة، وعاقبة أمر المحقين إلى الدولة في الدنيا، والسعادة في الآخرة، وذلك يقوى قلوب المحقين، ويكسر قلوب المبطلين.
وثالثها: التنبيه على أنه- تعالى- وإن كان يمهل هؤلاء المبطلين، ولكنه لا يمهلهم، بل ينتقم منهم على أكمل الوجوه.
ورابعها: بيان أن هذه القصص دالة على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم لأنه كان أميّا. وما طالع كتابا ولا تتلمذ على أستاذ. فإذا ذكر هذه القصص على هذا الوجه من غير تحريف ولا خطأ دل ذلك على أنه إنما عرفها بالوحي من الله- تعالى-» «1» .
والآن فلنستمع بتدبر واعتبار إلى السورة الكريمة وهي تحدثنا عن قصة نوح مع قومه فتقول:
[سورة الأعراف (7) : الآيات 59 الى 64]
لَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (59) قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَراكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (60) قالَ يا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلالَةٌ وَلكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (61) أُبَلِّغُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَأَنْصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (62) أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَلِتَتَّقُوا وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (63)
فَكَذَّبُوهُ فَأَنْجَيْناهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً عَمِينَ (64)
(1) تفسير الفخر الرازي ج 4 ص 245 طبعة المطبعة الشريفة سنة 1324 هـ.
تلك هي قصة نوح مع قومه كما وردت في هذه السورة، وقد وردت بصورة أكثر تفصيلا في سورة هود، والمؤمنون، ونوح وغيرها.
وقوله: لَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ جواب قسم محذوف، أى: والله لقد أرسلنا نوحا إلى قومه والدليل على هذا القسم وجود لامه في بدء الجملة.
وينتهى نسب نوح- عليه السلام إلى شيث بن آدم- عليه السلام وقد ذكر نوح في القرآن في ثلاث وأربعين موضعا.
وقوم الرجل أقرباؤه الذين يجتمعون معه في جد واحد. وقد يقيم الرجل بين الأجانب فيسميهم قومه مجازا للمجاورة.
وكان قوم نوح يعبدون الأصنام فأرسل الله إليهم نوحا ليدلهم على طريق الرشاد.
قال ابن كثير: قال عبد الله بن عباس وغير واحد من علماء التفسير: كان أول ما عبدت الأصنام أن قوما صالحين ماتوا، فبنى قومهم عليهم مساجد، وصوروا صور أولئك الصالحين فيها ليتذكروا حالهم وعبادتهم فيتشبهوا بهم، فلما طال الزمان جعلوا أجسادا على تلك الصور، فلما تمادى الزمان عبدوا تلك الأصنام وسموها بأسماء أولئك الصالحين: ودا وسواعا ويغوث ويعوق ونسرا فلما تفاقم الأمر بعث الله- تعالى- رسوله نوحا فأمرهم بعبادة الله وحده لا شريك له» «2» .
(1) تفسير الآلوسى ج 8 ص 148.
(2)
تفسير ابن كثير ج 2 ص 232.
وقوله: فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ حكاية لما وجهه نوح لقومه من إرشادات، أى: قال لهم بتلطف وأدب تلك الكلمة التي وجهها كل رسول لمن أرسل إليهم:
اعبدوا الله وحده لا شريك له، فإنه هو المستحق للعبادة، أما سواه فلا يملك نفعا أو ضرا.
وكلمة غَيْرُهُ قرئت بالحركات الثلاث، بالرفع على أنها صفة لإله باعتبار محله الذي هو الرفع على الابتداء أو الفاعلية. وقرأ الكسائي بالجر باعتبار اللفظ، وقرئ بالنصب على الاستثناء بمعنى، ما لكم من إله إلا إياه.
ثم حكى القرآن أن نوحا حذر قومه من سوء عاقبة التكذيب، وأظهر لهم شفقته بهم وخوفه عليهم فقال: إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ أى: إنى أخاف عليكم إذا ما سرتم في طريق الكفر والضلال وتركتم عبادة الله وحده عذاب يوم عظيم، ووصف اليوم بالعظم لبيان عظم ما يقع فيه ولتكميل الإنذار.
قال صاحب الكشاف: فإن قلت ما موقع الجملتين بعد قوله: اعْبُدُوا اللَّهَ قلت: الأولى- وهي ما لكم من إله غيره- بيان لوجه اختصاصه بالعبادة، والثانية وهي- إنى أخاف
…
إلخ- بيان الداعي إلى عبادته لأنه هو المحذور عقابه دون ما كانوا يعبدونه من دون الله. واليوم العظيم: يوم القيامة، أو يوم نزول العذاب بهم وهو الطوفان» «1» .
بهذا الأسلوب المقنع المهذب دعا نوح قومه إلى وحدانية الله. فكيف كان ردهم عليه؟
لقد ردوا عليه ردا سقيما حكاه القرآن في قوله: قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَراكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ.
الملأ: الأشراف والسادة من القوم. سموا بذلك لأنهم يملؤون العيون مهابة. وقيل: هم الرجال ليس فيهم نساء. والملأ: اسم جمع لا واحد له من لفظه: كرهط.
والجملة الكريمة مستأنفة، كأنه قيل فماذا قالوا له؟ فقيل: قال الملأ
…
إلخ والرؤية هنا قلبية ومفعولاها الضمير والظرف، وقيل: بصرية فيكون الظرف في موضع الحال. أى: قال الأشراف من قوم نوح له عند ما دعاهم إلى وحدانية الله: إنا لنراك بأمرك لنا بعبادة الله وحده وترك آلهتنا في انحراف بين عن طريق الحق والرشاد.
يقال: ضل الطريق يضل وضل عنه ضلالا وضلالة، أى زل عنه فلم يهتد إليه، وجعلوا الضلال ظرفا له فِي ضَلالٍ مُبِينٍ مبالغة في وصفهم له بذلك وزادوا في المبالغة بأن أكدوا ذلك بالجملة المصدرة بإن ولام التأكيد.
(1) تفسير الكشاف ج 3 ص 271.
ورحم الله ابن كثير فقد قال عند تفسيره لهذه الآية. وهكذا حال الفجار، إنما يرون الأبرار في ضلالة، كقوله- تعالى-: وَإِذا رَأَوْهُمْ قالُوا إِنَّ هؤُلاءِ لَضالُّونَ «1» .
وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كانَ خَيْراً ما سَبَقُونا إِلَيْهِ، وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هذا إِفْكٌ قَدِيمٌ «2» إلى غير ذلك من الآيات «3» .
ويرد نوح على قومه بأسلوب عف مهذب، فينفى عن نفسه الضلالة، ويكشف لهم عن حقيقة دعوته ومصدرها فيقول- كما حكى القرآن عنه-:
قالَ يا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلالَةٌ أى: قال نوح لقومه مستميلا لقلوبهم: يا قوم ليس بي أدنى شيء مما يسمى بالضلال فضلا عن الضلال المبين الذي رميتمونى به، فقد نفى الضلال عن نفسه الكريمة على أبلغ وجه، لأن التاء في- ضلالة- للمرة الواحدة منه، ونفى الأدنى أبلغ من نفى الأعلى، والمقام يقتضى ذلك، لأنهم لما بالغوا في رميه بالضلال المبين، رد عليهم بما يبرئه من أى لون من ألوانه. وفي تقديم الظرف (بي) تعريض بأنهم هم في ضلال واضح.
ثم قفى على نفى الضلالة عنه بإثبات مقابلها لنفسه وهي الهداية والتبليغ عن الله- تعالى- فقال: وَلكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ. أُبَلِّغُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي، وَأَنْصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ.
فأنت ترى أن نوحا- عليه السلام بعد أن نفى عن نفسه أى لون من ألوان الضلالة وصف نفسه بأربع صفات كريمة:
أولها: قوله: وَلكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ أى: لست بمنجاة من الضلال الذي أنتم فيه فحسب، ولكني فضلا عن ذلك رسول من رب العالمين إليكم لهدايتكم وإنقاذكم مما أنتم فيه من شرك وكفر.
قال الجمل: (وقد جاءت لكن هنا أحسن مجيء لأنها بين نقيضين، لأن الإنسان لا يخلو من أحد شيئين: ضلال أو هدى، والرسالة لا تجامع الضلال ومِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ صفة لرسول ومن لابتداء الغاية)«4» .
وثانيها: قوله: أُبَلِّغُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي أى: أبلغكم ما أوحاه الله إلى من الأوامر والنواهي، والمواعظ والزواجر، والبشائر والنذائر، والعبادات والمعاملات.
قال الآلوسى: وجمع الرسالات مع أن رسالة كل نبي واحدة، رعاية لاختلاف أوقاتها أو
(1) سورة المطففين الآية 22.
(2)
سورة الأحقاف الآية 11.
(3)
تفسير ابن كثير ج 2 ص 222.
(4)
حاشية الجمل ج 2 ص 154.
تنوع معاني ما أرسل- عليه السلام به من العبادات والمعاملات- أو أنه أراد رسالته ورسالة غيره ممن قبله من الأنبياء كإدريس- عليه السلام) «1» والجملة الكريمة مستأنفة لتقرير رسالته وتقرير أحكامها.
وثالثها: قوله: وَأَنْصَحُ لَكُمْ أى: أبلغكم جميع تكاليف الله وأتحرى ما فيه صلاحكم وخيركم فأرشدكم إليه وآخذكم نحوه.
وأنصح: مأخوذ من النصح- وهو كما قال القرطبي- إخلاص النية من شوائب الفساد، يقال: نصحته ونصحت له نصيحة ونصاحة- أى أرشدته إلى ما فيه صلاحه- ويقال: رجل ناصح الجيب، أى: نقى القلب. والناصح الخالص من العسل وغيره، مثل الناصع. وكل شيء خلص فقد نصح «2» .
والفرق بين تبليغ الرسالة وبين النصح، هو أن تبليغ الرسالة معناه أن يعرفهم جميع أوامر الله ونواهيه وجميع أنواع التكاليف التي كلفهم الله بها، وأما النصح فمعناه أن يرغبهم في قبول تلك الأوامر والنواهي والعبادات ويحذرهم من عذاب الله إن عصوه.
وأما الصفة الرابعة فهي قوله: وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ أى: أبلغكم رسالات ربي وأنصح لكم عن إخلاص، وأعلم في الوقت نفسه من الأمور الغيبية التي لا تعلم إلا عن طريق الوحى أشياء لا علم لكم بها، لأن الله قد خصنى بها.
أو المعنى: وأعلم من قدرة الله الباهرة، وشدة بطشه على أعدائه، ما لا تعلمونه فأنا أحذركم عن علم، وأنذركم عن بينة فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ.
قال ابن كثير: وهذا شأن الرسول أن يكون مبلغا نصيحا عالما بالله لا يدركه أحد من خلق الله في هذه الصفات كما جاء في صحيح مسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه يوم عرفة وهم أوفر ما كانوا وأكثر جمعا: «أيها الناس، إنكم مسئولون عنى، فما أنتم قائلون؟ قالوا: نشهد أنك قد بلغت وأديت ونصحت. فجعل يرفع إصبعه إلى السماء وينكسها عليهم، ويقول:
اللهم اشهد، اللهم اشهد «3» .
وبعد أن وصف نوح نفسه بتلك الصفات الأربع، وبين لهم وظيفته أكمل بيان أخذ ينكر عليهم استبعادهم أن يخصه الله بالنبوة فقال:
(1) تفسير الآلوسى ج 8 ص 152.
(2)
تفسير القرطبي ج 7 ص 234.
(3)
تفسير ابن كثير ج 2 ص 223.
أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ، وَلِتَتَّقُوا، وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ الهمزة في أول الجملة للاستفهام الإنكارى، والواو بعدها للعطف على محذوف مقدر بعد الهمزة.
والمعنى: أكذبتم وعجبتم من أن جاءكم ذكر أى موعظة من ربكم وخالقكم على لسان رجل من جنسكم، تعرفون مولده ونشأته.
ولقد حكى القرآن عن قوم نوح أنهم عجبوا من أن يختار الله رسولا منهم، قال- تعالى-:
فَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ ما هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ، وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً ما سَمِعْنا بِهذا فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ «1» .
وقوله: لِيُنْذِرَكُمْ علة للمجيء، أى: وليحذركم العذاب والعقاب على الكفر والمعاصي.
وقوله: وَلِتَتَّقُوا علة ثانية مرتبة على العلة التي قبلها، أى: ولتوجد منكم التقوى، وهي الخشية من الله بسبب الإنذار.
وقوله: وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ علة ثالثة مترتبة على التي قبلها. أى: ولترحموا بسبب التقوى إن وجدت منكم.
قال بعض العلماء: وهذا الترتيب في غاية الحسن، لأن المقصود من الإرسال الإنذار، ومن الإنذار التقوى. ومن التقوى الفوز بالرحمة.
وفائدة حرف الترجي وَلَعَلَّكُمْ التنبيه على عزة المطلب، وأن التقوى غير موجبة للرحمة، بل هي منوطة بفضل الله، وأن المتقى ينبغي ألا يعتمد على تقواه ولا يأمن عذاب الله» «2» .
وإلى هنا نكون قد عرفنا أسلوب نوح في دعوته كما جاء في هذه السورة الكريمة، فماذا كان موقف قومه؟
لقد صرحت السورة الكريمة بأن موقفهم كان قبيحا، ولذا عوقبوا بما يناسب جرمهم قال- تعالى-: فَكَذَّبُوهُ أى: فكذب قوم نوح نبيهم ومرشدهم نوحا، وأصروا على التكذيب مع أنه دعاهم إلى الهدى ليلا ونهارا، وسرا وجهارا، ومع أنه مكث فيهم «ألف سنة إلا خمسين عاما» كانت نتيجة ذلك- كما حكى القرآن:
(1) سورة المؤمنون: الآية 24. [.....]
(2)
حاشية الجمل ج 2 ص 155.