الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الْبَابُ الثَّالِثُ فِي الْآدَابِ الدَّقِيقَةِ وَالْأَعْمَالِ الْبَاطِنَةِ
دَقَائِقُ الْآدَابِ - وَهِيَ سَبْعَةٌ
.
الْأَوَّلُ: أَنْ تَكُونَ النَّفَقَةُ حَلَالًا وَالْهَمُّ مُجَرَّدًا لِلَّهِ تَعَالَى وَتَعْظِيمِ شَعَائِرِهِ، وَمَنْ حَجَّ عَنْ غَيْرِهِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ قَصْدُهُ زِيَارَةَ بَيْتِ اللَّهِ تَعَالَى وَمُعَاوَنَةَ أَخِيهِ الْمُسْلِمِ بِإِسْقَاطِ الْفَرْضِ عَنْهُ لَا أَنْ يَتَّخِذَ ذَلِكَ مَكْسَبَهُ وَمَتْجَرَهُ لِيَتَوَصَّلَ بِالدِّينِ إِلَى الدُّنْيَا فَيَطْلُبَ الدُّنْيَا بِعَمَلِ الْآخِرَةِ، بَلْ لِيَتَوَصَّلَ بِالدُّنْيَا إِلَى الدِّينِ أَيِ التَّمَكُّنِ مِنَ الْحَجِّ وَالزِّيَارَةِ فِيهِ.
الثَّانِي: التَّوَسُّعُ فِي الزَّادِ وَطِيبِ النَّفْسِ بِالْبَذْلِ وَالْإِنْفَاقِ مِنْ غَيْرِ تَقْتِيرٍ وَلَا إِسْرَافٍ بَلْ عَلَى الِاقْتِصَادِ، وَبَذْلُ الزَّادِ فِي طَرِيقِ الْحَجِّ نَفَقَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ عز وجل قَالَ «ابْنُ عُمَرَ» : مِنْ كَرَمِ الرَّجُلِ طِيبُ زَادِهِ فِي سَفَرِهِ.
الثَّالِثُ: تَرْكُ الرَّفَثِ وَالْفُسُوقِ وَالْجِدَالِ كَمَا نَطَقَ بِهِ الْقُرْآنُ «وَالرَّفَثُ» اسْمٌ جَامِعٌ لِكُلِّ لَغْوٍ وَفُحْشٍ مِنَ الْكَلَامِ، وَيَدْخُلُ فِيهِ مُغَازَلَةُ النِّسَاءِ، وَمُدَاعَبَتُهُنَّ وَالتَّحَدُّثُ بِشَأْنِ الْجِمَاعِ وَمُقَدِّمَاتِهِ فَإِنَّ ذَلِكَ يُهَيِّجُ دَاعِيَةَ الْجِمَاعِ الْمَحْظُورِ وَالدَّاعِي إِلَى الْمَحْظُورِ مَحْظُورٌ.
«وَالْفِسْقُ» اسْمٌ جَامِعٌ لِكُلِّ خُرُوجٍ عَنْ طَاعَةِ اللَّهِ عز وجل.
«وَالْجَدَلُ» هُوَ الْمُبَالَغَةُ فِي الْخُصُومَةِ وَالْمُمَارَاةِ بِمَا يُورِثُ الضَّغَائِنَ وَيُنَاقِضُ حُسْنَ الْخُلُقِ، فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ كَثِيرَ الِاعْتِرَاضِ عَلَى رَفِيقِهِ وَجِمَالِهِ وَعَلَى غَيْرِهِمْ مِنْ أَصْحَابِهِ، بَلْ يُلِينُ جَانِبَهُ وَيَخْفِضُ جَنَاحَهُ لِلسَّائِرِينَ إِلَى بَيْتِ اللَّهِ عز وجل، وَيَلْزَمُ حُسْنَ الْخُلُقِ، وَلَيْسَ حُسْنُ الْخُلُقِ كَفَّ الْأَذَى بَلِ احْتِمَالِ الْأَذَى.
الرَّابِعُ: أَنْ يَجْتَنِبَ زِيَّ الْمُتْرَفِينَ الْمُتَكَبِّرِينَ فَلَا يَمِيلُ إِلَى أَسْبَابِ التَّفَاخُرِ وَالتَّكَاثُرِ فَيُكْتَبُ فِي دِيوَانِ الْمُتَكَبِّرِينَ وَيَخْرُجُ عَنْ حِزْبِ الصَّالِحِينَ، وَفِي الْحَدِيثِ:«إِنَّمَا الْحَاجُّ الشَّعِثُ التَّفِثُ» يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: (ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ)[الْحَجِّ: 29] وَالتَّفَثُ: الشَّعَثُ وَالِاغْبِرَارُ، وَقَضَاؤُهُ بِالْحَلْقِ وَقَصِّ الشَّارِبِ وَالْأَظْفَارِ.
الْخَامِسُ: أَنْ يَرْفُقَ بِالدَّابَّةِ فَلَا يُحَمِّلُهَا مَا لَا تُطِيقُ وَلَا يَقِفُ عَلَيْهَا الْوُقُوفَ الطَّوِيلَ، وَيَنْزِلُ أَحْيَانًا عَنْهَا إِحْسَانًا إِلَيْهَا.
السَّادِسُ: أَنْ يَتَقَرَّبَ بِإِرَاقَةِ دَمٍ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ وَاجِبًا عَلَيْهِ وَيَجْتَهِدَ أَنْ يَكُونَ مِنْ سَمِينِ النَّعَمِ وَنَفِيسِهِ وَلْيَأْكُلْ مِنْهُ إِنْ كَانَ تَطَوُّعًا، وَلَيْسَ الْمَقْصُودُ اللَّحْمَ إِنَّمَا الْمَقْصُودُ تَزْكِيَةُ النَّفْسِ وَتَطْهِيرُهَا عَنْ صِفَةِ الْبُخْلِ وَتَزْيِينُهَا بِجَمَالِ التَّعَظُّمِ لِلَّهِ عز وجل:(لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ)[الْحَجِّ: 37] .
السَّابِعُ: أَنْ يَكُونَ طَيِّبَ النَّفْسِ بِمَا أَنْفَقَهُ مِنْ نَفَقَةٍ وَهَدْيٍ وَبِمَا أَصَابَهُ مِنْ خُسْرَانٍ وَمُصِيبَةٍ
فِي مَالٍ أَوْ بَدَنٍ إِنْ أَصَابَهُ ذَلِكَ، فَلَهُ بِكُلِّ أَذًى احْتَمَلَهُ وَخُسْرَانٍ أَصَابَهُ ثَوَابٌ، فَلَا يَضِيعُ مِنْهُ شَيْءٌ عِنْدَ اللَّهِ عز وجل.
طَرِيقُ الِاعْتِبَارِ بِأَعْمَالِ الْحَجِّ الْبَاطِنَةِ وَالتَّذَكُّرُ لِأَسْرَارِهَا وَمَعَانِيهَا:
فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ أَعْمَالِ الْمَنَاسِكِ تَذْكِرَةٌ لِلْمُتَذَكِّرِ وَعِبْرَةٌ لِلْمُعْتَبِرِ إِذَا انْفَتَحَ بَابُهَا انْكَشَفَ لِكُلِّ خَارِجٍ مِنْ أَسْرَارِهَا مَا يَقْتَضِيهِ صَفَاءُ قَلْبِهِ وَغَزَارَةُ فَهْمِهِ، وَقَدْ شَرَّفَ اللَّهُ الْبَيْتَ الْعَتِيقَ بِالْإِضَافَةِ إِلَى نَفْسِهِ، وَنَصَبَهُ مَقْصِدًا لِعِبَادِهِ، وَجَعَلَ مَا حَوَالَيْهِ حَرَمًا لِبَيْتِهِ تَفْخِيمًا لِأَمْرِهِ، وَأَكَّدَ حُرْمَةَ الْمَوْضِعِ بِتَحْرِيمِ صَيْدِهِ وَشَجَرِهِ، وَوَضَعَهُ عَلَى مِثَالِ حَضْرَةِ الْمُلُوكِ يَقْصِدُهُ الزُّوَّارُ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ وَمِنْ كُلِّ أَوْبٍ سَحِيقٍ شُعْثًا غُبْرًا مُتَوَاضِعِينَ لِرَبِّ الْبَيْتِ خُضُوعًا لِجَلَالِهِ، مَعَ الِاعْتِرَافِ بِتَنْزِيهِهِ عَنْ أَنْ يَحْوِيَهُ بَيْتٌ أَوْ يَكْتَنِفَهُ بَلَدٌ لِيَكُونَ ذَلِكَ أَبْلَغَ فِي رِقِّهِمْ وَعُبُودِيَّتِهِمْ وَأَتَمَّ فِي إِذْعَانِهِمْ وَانْقِيَادِهِمْ.
وَفِي الْإِحْرَامِ وَالتَّلْبِيَةِ إِجَابَةُ نِدَاءِ اللَّهِ عز وجل، وَفِي دُخُولِ مَكَّةَ تَذَكُّرُ الِانْتِهَاءِ إِلَى حَرَمِ اللَّهِ، فَلْيَخْشَ أَنْ لَا يَكُونَ أَهْلًا لِلْقُرْبِ وَلْيَرْجُ الرَّحْمَةَ.
وَفِي مُشَاهَدَةِ الْبَيْتِ إِحْضَارُ عَظَمَةِ الْبَيْتِ فِي الْقَلْبِ وَتَقْدِيرُ مُشَاهَدَتِهِ لِرَبِّ الْبَيْتِ لِشِدَّةِ تَعْظِيمِهِ إِيَّاهُ، وَفِي الطَّوَافِ بِالْبَيْتِ تَشَبُّهٌ بِالْمَلَائِكَةِ الْمُقَرَّبِينَ الْحَافِّينَ حَوْلَ الْعَرْشِ الطَّائِفِينَ حَوْلَهُ، وَمَا الْقَصْدُ طَوَافُ الْجِسْمِ بَلْ طَوَافُ الْقَلْبِ بِذِكْرِ الرَّبِّ، وَفِي التَّعَلُّقِ بِأَسْتَارِ الْكَعْبَةِ وَالِالْتِصَاقِ بِالْمُلْتَزَمِ طَلَبُ الْقُرْبِ حُبًّا وَشَوْقًا لِلْبَيْتِ وَلِرَبِّ الْبَيْتِ وَتَبَرُّكًا بِالْمُمَارَسَةِ وَالْإِلْحَاحِ فِي طَلَبِ الْمَغْفِرَةِ وَسُؤَالِ الْأَمَانِ كَالْمُذْنِبِ الْمُتَعَلِّقِ بِثِيَابِ مَنْ أَذْنَبَ إِلَيْهِ الْمُتَضَرِّعِ إِلَيْهِ فِي عَفْوِهِ عَنْهُ الْمُظْهِرِ لَهُ أَنَّهُ لَا مَلْجَأَ لَهُ مِنْهُ إِلَّا إِلَيْهِ وَأَنَّهُ لَا يُفَارِقُ ذَيْلَهُ إِلَّا بِالْعَفْوِ عَنْهُ.
وَفِي السَّعْيِ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ مُضَاهَاةُ تَرَدُّدِ الْعَبْدِ بِفَنَاءِ الْمُلْكِ جَائِيًا وَذَاهِبًا مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى إِظْهَارًا لِلْخُلُوصِ فِي الْخِدْمَةِ وَرَجَاءً لِلْمُلَاحَظَةِ بِعَيْنِ الرَّحْمَةِ كَالَّذِي دَخَلَ عَلَى الْمَلِكِ وَخَرَجَ وَهُوَ لَا يَدْرِي مَا الَّذِي يَقْضِي بِهِ الْمَلِكُ فِي حَقِّهِ مِنْ قَبُولٍ أَوْ رَدٍّ، فَلَا يَزَالُ يَتَرَدَّدُ عَلَى فِنَاءِ الدَّارِ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى يَرْجُو أَنْ يُرْحَمَ فِي الثَّانِيَةِ إِنْ لَمْ يُرْحَمْ فِي الْأُولَى.
وَفِي الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ وَرُؤْيَةِ ازْدِحَامِ الْخَلْقِ وَارْتِفَاعِ الْأَصْوَاتِ بِاخْتِلَافِ اللُّغَاتِ تَذَكُّرُ اجْتِمَاعِ الْأُمَمِ فِي عَرَصَاتِ الْقِيَامَةِ، وَتَحَيُّرِهِمْ فِي ذَلِكَ الصَّعِيدِ الْوَاحِدِ بَيْنَ الرَّدِّ وَالْقَبُولِ، وَفِي تَذَكُّرِ ذَلِكَ إِلْزَامُ الْقَلْبِ الضَّرَاعَةَ وَالِابْتِهَالَ إِلَى اللَّهِ عز وجل، وَرَجَاءُ الْحَشْرِ فِي زُمْرَةِ الْفَائِزِينَ الْمَرْحُومِينَ وَتَحْقِيقُ الرَّجَاءِ بِالْإِجَابَةِ فَالْمَوْقِفُ شَرِيفٌ، وَالرَّحْمَةُ إِنَّمَا تَصِلُ مِنْ حَضْرَةِ الْجَلَالِ إِلَى كَافَّةِ الْخَلْقِ بِوَاسِطَةِ الْقُلُوبِ النَّقِيَّةِ، وَلَا يَنْفَكُّ الْمَوْقِفُ عَنْ طَبَقَاتٍ مِنَ الصَّالِحِينَ وَأَرْبَابِ الْقُلُوبِ، فَإِذَا اجْتَمَعَتْ هِمَمُهُمْ وَتَجَرَّدَتْ لِلضَّرَاعَةِ وَالِابْتِهَالِ قُلُوبُهُمْ وَارْتَفَعَتْ إِلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ أَيْدِيهِمْ وَامْتَدَّتْ إِلَيْهِ أَعْنَاقُهُمْ وَشَخَصَتْ نَحْوَ السَّمَاءِ أَبْصَارُهُمْ مُجْتَمِعِينَ بِهِمَّةٍ وَاحِدَةٍ عَلَى طَلَبِ الرَّحْمَةِ فَلَا تَظُنَّنَّ أَنَّهُ يُخَيِّبُ أَمَلَهُمْ وَيُضَيِّعُ سَعْيَهُمْ وَيَدَّخِرُ عَنْهُمْ رَحْمَةً تَغْمُرُهُمْ.
وَفِي رَمْيِ الْجِمَارِ انْقِيَادٌ لِلْأَمْرِ إِظْهَارًا لِلرِّقِّ وَالْعُبُودِيَّةِ وَقَصْدُ رَمْيِ وَجْهِ الشَّيْطَانِ وَقَصْمُ ظَهْرِهِ.
وَفِي زِيَارَةِ الْمَدِينَةِ وَمُشَاهَدَتِهَا تَذَكُّرُ أَنَّهَا الْبَلْدَةُ الَّتِي اخْتَارَهَا اللَّهُ عز وجل لِنَبِيِّهِ صلى الله عليه وسلم وَجَعَلَ إِلَيْهَا هِجْرَتَهُ، وَأَنَّهَا دَارُهُ الَّتِي شَرَعَ
فِيهَا فَرَائِضَ رَبِّهِ عز وجل وَسُنَنَهُ وَجَاهَدَ عَدُوَّهُ وَأَظْهَرَ بِهَا دِينَهُ إِلَى أَنْ تَوَفَّاهُ اللَّهُ عز وجل، وَأَنَّهَا الْعَرْصَةُ الَّتِي اخْتَارَهَا اللَّهُ سُبْحَانَهُ لِنَبِيِّهِ وَلِأَوَّلِ الْمُسْلِمِينَ وَأَفْضَلِهِمْ عِصَابَةً، وَأَنَّ فَرَائِضَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ أَوَّلُ مَا أُقِيمَتْ فِي تِلْكَ الْعَرْصَةِ وَأَنَّهَا جَمَعَتْ أَفْضَلَ خَلْقِ اللَّهِ حَيًّا وَمَيِّتًا صلى الله عليه وسلم وَشَرَّفَ وَكَرَّمَ.