الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وَيَدُلُّ عَلَى فَضْلِ التَّوْبَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: (إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ)[الْبَقَرَةِ: 222] وَقَالَ عليه الصلاة والسلام: «التَّائِبُ مِنَ الذَّنْبِ كَمَنْ لَا ذَنَبَ لَهُ» وَالْأَخْبَارُ فِي ذَلِكَ كَثِيرَةٌ.
وُجُوبُ التَّوْبَةِ عَلَى الْفَوْرِ وَعَلَى الدَّوَامِ:
لَا يَخْفَى أَنَّ وُجُوبَهَا عَلَى الْفَوْرِ لَا يُسْتَرَابُ فِيهِ، إِذْ مَعْرِفَةُ كَوْنِ الْمَعَاصِي مُهْلِكَاتٍ مِنْ نَفْسِ الْإِيمَانِ، وَهُوَ وَاجِبٌ عَلَى الْفَوْرِ، وَالْعِلْمُ بِضَرَرِ الذُّنُوبِ إِنَّمَا أُرِيدَ لِيَكُونَ بَاعِثًا عَلَى تَرْكِهَا، فَمَنْ لَمْ يَتْرُكْهَا فَهُوَ فَاقِدٌ لِهَذَا الْجُزْءِ مِنَ الْإِيمَانِ، وَهُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام:«لَا يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ» وَذَلِكَ لِكَوْنِ الزِّنَا مُبْعِدًا عَنِ اللَّهِ تَعَالَى مُوجِبًا لِلْمَقْتِ كَسَائِرِ الْمَعَاصِي لِأَنَّهَا لِلْإِيمَانِ كَالْمَأْكُولَاتِ الْمُضِرَّةِ لِلْأَبْدَانِ، فَكَمَا أَنَّهَا تُغَيِّرُ مِزَاجَ الْإِنْسَانِ وَلَا تَزَالُ تَجْتَمِعُ حَتَّى تُفْسِدَهُ فَيَمُوتَ دَفْعَةً، كَذَلِكَ تَعْمَلُ سُمُومُ الذُّنُوبِ بِرُوحِ الْإِيمَانِ عَمَلًا تَحِقُّ الْكَلِمَةُ عَلَيْهِ بِأَنَّهُ مِنَ الْهَالِكِينَ.
وَأَمَّا وُجُوبُ التَّوْبَةِ عَلَى الدَّوَامِ وَفِي كُلِّ حَالٍ فَهُوَ أَنَّ كُلَّ بَشَرٍ فَلَا يَخْلُو عَنْ مَعْصِيَةٍ بِجَوَارِحِهِ، فَإِنْ خَلَا فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ عَنْ مَعْصِيَةِ الْجَوَارِحِ فَلَا يَخْلُو عَنِ الْهَمِّ بِالذُّنُوبِ بِالْقَلْبِ، فَإِنْ خَلَا فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ عَنِ الْهَمِّ فَلَا يَخْلُو عَنْ وَسْوَاسِ الشَّيْطَانِ بِإِيرَادِ الْخَوَاطِرِ الْمُذْهِلَةِ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ، فَإِنْ خَلَا عَنْهُ فَلَا يَخْلُو عَنْ غَفْلَةٍ وَقُصُورٍ فِي الْعِلْمِ بِاللَّهِ وَصِفَاتِهِ وَأَفْعَالِهِ، وَكُلُّ ذَلِكَ نَقْصٌ وَلَهُ أَسْبَابٌ، وَتَرْكُ أَسْبَابِهِ بِالتَّشَاغُلِ بِضِدِّهَا رُجُوعٌ عَنْ طَرِيقٍ إِلَى ضِدِّهِ، وَالْمُرَادُ بِالتَّوْبَةِ الرُّجُوعُ، وَلَا يُتَصَوَّرُ الْخُلُوُّ فِي حَقِّ الْآدَمِيِّ عَنْ هَذَا النَّقْصِ، وَإِنَّمَا يَتَفَاوَتُونَ بِالْمَقَادِيرِ، فَأَمَّا الْأَصْلُ فَلَا بُدَّ مِنْهُ، وَلِهَذَا قَالَ عليه السلام:«إِنَّهُ لَيُغَانُ عَلَى قَلْبِي حَتَّى أَسْتَغْفِرَ اللَّهَ فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ سَبْعِينَ مَرَّةً» الْحَدِيثَ، وَلِذَلِكَ أَكْرَمَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِأَنْ قَالَ:(لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ)[الْفَتْحِ: 2] وَإِذَا كَانَ هَذَا حَالَهُ فَكَيْفَ حَالُ غَيْرِهِ.
وَإِنَّمَا أَطْلَقْنَا الْوُجُوبَ فِي كُلِّ حَالٍ، وَالتَّوْبَةُ عَنْ بَعْضِ مَا ذُكِرَ مِنَ الْفَضَائِلِ لَا الْفَرَائِضِ لِأَنَّا نَعْنِي بِالْوَاجِبِ مَا لَا بُدَّ مِنْهُ لِلْوُصُولِ بِهِ إِلَى الْقُرْبِ الْمَطْلُوبِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَالْمَقَامِ الْمَحْمُودِ بَيْنَ الصِّدِّيقِينَ، وَالتَّوْبَةُ عَنْ جَمِيعِ مَا ذَكَرْنَاهُ وَاجِبَةٌ فِي الْوُصُولِ إِلَيْهِ كَمَا يُقَالُ الطَّهَارَةُ وَاجِبَةٌ فِي صَلَاةِ التَّطَوُّعِ أَيْ لِمَنْ يُرِيدُهَا، فَإِنَّهُ لَا يُتَوَصَّلُ إِلَيْهَا إِلَّا بِهَا.
وَاعْلَمْ أَنَّهُ قَدْ سَبَقَ أَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَخْلُو فِي مَبْدَأِ خِلْقَتِهِ مِنِ اتِّبَاعِ الشَّهَوَاتِ أَصْلًا، وَلَيْسَ مَعْنَى التَّوْبَةِ تَرْكَهَا فَقَطْ، بَلْ تَمَامُ التَّوْبَةِ بِتَدَارُكِ مَا مَضَى، وَكُلُّ شَهْوَةٍ اتَّبَعَهَا الْإِنْسَانُ ارْتَفَعَ مِنْهَا
ظُلْمَةٌ إِلَى قَلْبِهِ كَمَا يَرْتَفِعُ عَنْ نَفَسِ الْإِنْسَانِ ظُلْمَةٌ إِلَى وَجْهِ الْمِرْآةِ الصَّقِيلَةِ، فَإِنْ تَرَاكَمَتْ ظُلْمَةُ الشَّهَوَاتِ صَارَتْ رَيْنًا كَمَا يَصِيرُ بُخَارُ النَّفَسِ فِي وَجْهِ الْمِرْآةِ عِنْدَ تَرَاكُمِهِ خَبَثًا كَمَا قَالَ تَعَالَى:(كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ)[الْمُطَفِّفِينَ: 14] فَإِذَا تَرَاكَمَ الرَّيْنُ صَارَ طَبَعًا فَيَطْبَعُ عَلَى قَلْبِهِ كَالْخَبَثِ عَلَى وَجْهِ الْمِرْآةِ إِذَا تَرَاكَمَ وَطَالَ زَمَانُهُ غَاصَ فِي جِرْمِ الْحَدِيدِ وَأَفْسَدَهُ وَصَارَ لَا يَقْبَلُ الصَّقْلَ بَعْدَهُ وَصَارَ كَالْمَطْبُوعِ مِنَ الْخَبَثِ، وَلَا يَكْفِي فِي تَدَارُكِ اتِّبَاعِ الشَّهَوَاتِ تَرْكُهَا فِي الْمُسْتَقْبَلِ بَلْ لَا بُدَّ مِنْ مَحْوِ تِلْكَ الْأَرْيَانِ الَّتِي انْطَبَعَتْ فِي الْقَلْبِ، كَمَا لَا يَكْفِي فِي ظُهُورِ الصُّوَرِ فِي الْمِرْآةِ قَطْعُ الْأَنْفَاسِ وَالْبُخَارَاتِ الْمُسَوِّدَةِ لِوَجْهِهَا فِي الْمُسْتَقْبَلِ مَا لَمْ يَشْتَغِلْ بِمَحْوِ مَا انْطَبَعَ فِيهَا مِنَ الْأَرْيَانِ.
وَكَمَا يَرْتَفِعُ إِلَى الْقَلْبِ ظُلْمَةٌ مِنَ الْمَعَاصِي وَالشَّهَوَاتِ فَيَرْتَفِعُ إِلَيْهِ نُورٌ مِنَ الطَّاعَاتِ وَتَرْكِ الشَّهَوَاتِ فَتَنْمَحِي ظُلْمَةُ الْمَعْصِيَةِ بِنُورِ الطَّاعَةِ، وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ عليه السلام:«أَتْبِعِ السَّيِّئَةَ الْحَسَنَةَ تَمْحُهَا» فَإِذَنْ لَا يَسْتَغْنِي الْعَبْدُ فِي حَالٍ مِنْ أَحْوَالِهِ عَنْ مَحْوِ آثَارِ السَّيِّئَاتِ عَنْ قَلْبِهِ بِمُبَاشَرَةِ حَسَنَاتٍ تُضَادُّ آثَارُهَا آثَارَ تِلْكَ السَّيِّئَاتِ.
وَلَقَدْ صَدَقَ «أَبُو سُلَيْمَانَ الدَّارَانِيُّ» حَيْثُ قَالَ: «لَوْ لَمْ يَبْكِ الْعَاقِلُ فِيمَا بَقِيَ مِنْ عُمْرِهِ إِلَّا عَلَى تَفْوِيتِ مَا مَضَى مِنْهُ فِي غَيْرِ الطَّاعَةِ لَكَانَ خَلِيقًا أَنْ يُحْزِنَهُ إِلَى الْمَمَاتِ، فَكَيْفَ مَنْ يَسْتَقْبِلُ مَا بَقِيَ مِنْ عُمْرِهِ بِمِثْلِ مَا مَضَى مِنْ جَهْلِهِ» وَإِنَّمَا قَالَ هَذَا لِأَنَّ الْعَاقِلَ إِذَا مَلَكَ جَوْهَرَةً نَفِيسَةً وَضَاعَتْ مِنْهُ بِغَيْرِ فَائِدَةٍ بَكَى عَلَيْهَا لَا مَحَالَةَ، وَإِنْ ضَاعَتْ مِنْهُ وَصَارَ ضَيَاعُهَا سَبَبَ هَلَاكِهِ كَانَ بُكَاؤُهُ مِنْهَا أَشَدَّ، وَكُلُّ سَاعَةٍ مِنَ الْعُمْرِ، بَلْ كُلُّ نَفَسٍ جَوْهَرَةٌ نَفِيسَةٌ لَا خَلَفَ لَهَا، وَلَا بَدَلَ مِنْهَا فَإِنَّهَا صَالِحَةٌ ; لِأَنَّهَا تَوَصِّلُكَ إِلَى سَعَادَةِ الْأَبَدِ وَتُنْقِذُكَ مِنْ شَقَاوَةِ الْأَبَدِ، وَأَيُّ جَوْهَرٍ أَنْفَسُ مِنْ هَذَا؟ فَإِذَا ضَيَّعْتَهَا فِي الْغَفْلَةِ فَقَدْ خَسِرْتَ خُسْرَانًا مُبِينًا، فَإِنْ كُنْتَ لَا تَبْكِي عَلَى هَذِهِ الْمُصِيبَةِ فَذَلِكَ لِجَهْلِكَ، وَمُصِيبَتُكَ بِجَهْلِكَ أَعْظَمُ مِنْ كُلِّ مُصِيبَةٍ، وَنَوْمُ الْغَفْلَةِ يَحُولُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَعْرِفَتِهِ، «النَّاسُ نِيَامٌ فَإِذَا مَاتُوا انْتَبَهُوا» فَعِنْدَ ذَلِكَ يَنْكَشِفُ لِكُلِّ مُفْلِسٍ إِفْلَاسُهُ وَلِكُلِّ مُصَابٍ مُصِيبَتُهُ، وَقَدْ رُفِعَ النَّاسُ عَنِ التَّدَارُكِ كَمَا قَالَ تَعَالَى:(وَأَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا)[الْمُنَافِقُونَ: 10، 11] .
وَقَدْ قِيلَ فِي مَعْنَى الْآيَةِ إِنَّهُ يَقُولُ حَالَتَئِذٍ: «يَا مَلَكَ الْمَوْتِ أَخِّرْنِي يَوْمًا أَتُوبُ فِيهِ إِلَى رَبِّي وَأَتَزَوَّدُ صَالِحًا لِنَفْسِي، فَيَقُولُ: فَنِيَتِ الْأَيَّامُ فَلَا يَوْمَ» ، فَيَقُولُ: فَأَخِّرْنِي سَاعَةً «، فَيَقُولُ: فَنِيَتِ السَّاعَاتُ فَلَا سَاعَةَ» ، فَيُغْلَقُ عَلَيْهِ بَابُ التَّوْبَةِ فَيَتَغَرْغَرُ بِرُوحِهِ وَتَزْهَقُ نَفْسُهُ، وَلِمِثْلِ هَذَا يُقَالُ:(وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ)[النِّسَاءِ: 18] وَقَوْلُهُ تَعَالَى: (إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ)[النِّسَاءِ: 17] .
مَعْنَاهُ عَنْ قُرْبِ عَهْدٍ بِالْخَطِيئَةِ بِأَنْ يَتَنَدَّمَ عَلَيْهَا وَيَمْحُوَ أَثَرَهَا بِحَسَنَةٍ يُرْدِفُهَا بِهَا قَبْلَ أَنْ يَتَرَاكَمَ الرَّيْنُ عَلَى الْقَلْبِ فَلَا يَقْبَلُ الْمَحْوَ، وَلِذَلِكَ قَالَ صلى الله عليه وسلم:«أَتْبِعِ السَّيِّئَةَ الْحَسَنَةَ تَمْحُهَا» وَمَنْ تَرَكَ الْمُبَادَرَةَ إِلَى التَّوْبَةِ بِالتَّسْوِيفِ كَانَ بَيْنَ خَطَرَيْنِ عَظِيمَيْنِ: