الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[الْبَقَرَةِ: 86] . فَخَسِرَتْ صَفْقَتُهُمْ.
الْحَالَةُ الثَّالِثَةُ: أَنْ يَكُونَ الْحَرْبُ سِجَالًا بَيْنَ الْجُنْدَيْنِ، فَتَارَةً لَهُ الْيَدُ عَلَيْهَا وَتَارَةً لَهَا عَلَيْهِ، وَهَذَا مِنَ الْمُجَاهِدِينَ يُعَدُّ لَا مِنَ الظَّافِرِينَ، وَأَهْلُ هَذِهِ الْحَالَةِ هُمُ الَّذِينَ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ.
وَالتَّارِكُونَ لِلْمُجَاهَدَةِ مَعَ الشَّهَوَاتِ مُطْلَقًا يُشَبَّهُونَ بِالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا، إِذِ الْبَهِيمَةُ لَمْ تُخْلَقْ لَهَا الْمَعْرِفَةُ وَالْقُدْرَةُ الَّتِي بِهَا تُجَاهِدُ مُقْتَضَى الشَّهَوَاتِ، وَهَذَا قَدْ خُلِقَ لَهُ ذَلِكَ وَعَطَّلَهُ فَهُوَ النَّاقِصُ حَقًّا.
وَإِذَا دَامَتِ التَّقْوَى وَقَوِيَ التَّصْدِيقُ بِمَا فِي الْعَاقِبَةِ مِنَ الْحُسْنَى تَيَسَّرَ الصَّبْرُ.
بَيَانُ مَظَانِّ الْحَاجَةِ إِلَى الصَّبْرِ
وَأَنَّ الْعَبْدَ لَا يَسْتَغْنِي عَنْهُ فِي حَالٍ مِنَ الْأَحْوَالِ:
اعْلَمْ أَنَّ جَمِيعَ مَا يَلْقَى الْعَبْدُ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ لَا يَخْلُو مِنْ نَوْعَيْنِ: مَا يُوَافِقُ هَوَاهُ، وَمَا لَا يُوَافِقُهُ بَلْ يَكْرَهُهُ، وَهُوَ مُحْتَاجٌ إِلَى الصَّبْرِ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَهُوَ فِي جَمِيعِ الْأَحْوَالِ لَا يَخْلُو عَنْ هَذَيْنِ النَّوْعَيْنِ، فَإِذَنْ لَا يَسْتَغْنِي قَطُّ عَنِ الصَّبْرِ.
النَّوْعُ الْأَوَّلُ: مَا يُوَافِقُ الْهَوَى، وَهُوَ الصِّحَّةُ وَالسَّلَامَةُ وَالْمَالُ وَالْجَاهُ وَكَثْرَةُ الْعَشِيرَةِ وَاتِّسَاعُ الْأَسْبَابِ وَكَثْرَةُ الْأَتْبَاعِ وَالْأَنْصَارِ وَجَمِيعُ مَلَاذِّ الدُّنْيَا، وَمَا أَحْوَجَ الْعَبْدَ إِلَى الصَّبْرِ عَلَى هَذِهِ الْأُمُورِ، فَإِنَّهُ إِنْ لَمْ يَضْبِطْ نَفْسَهُ عَنِ الِاسْتِرْسَالِ وَالرُّكُونِ إِلَيْهَا وَالِانْهِمَاكِ فِي مَلَاذِّهَا الْمُبَاحَةِ، أَخْرَجَهُ ذَلِكَ إِلَى الْبَطَرِ وَالطُّغْيَانِ، وَلِذَلِكَ حَذَّرَ اللَّهُ عِبَادَهُ مِنْ فِتْنَةِ الْمَالِ وَالزَّوْجِ وَالْوَلَدِ فَقَالَ - تَعَالَى -:(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ)[الْمُنَافِقُونَ: 9] وَقَالَ عز وجل: (إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ)[التَّغَابُنِ: 14] . فَالرَّجُلُ كُلُّ الرَّجُلِ مَنْ يَصْبِرُ عَلَى الْعَافِيَةِ، وَمَعْنَى الصَّبْرِ عَلَيْهَا أَنْ لَا يَرْكَنَ إِلَيْهَا، وَأَنْ لَا يُرْسِلَ نَفْسَهُ فِي الْفَرَحِ بِهَا، وَأَنْ يَرْعَى حُقُوقَ اللَّهِ فِي مَالِهِ بِالْإِنْفَاقِ، وَفِي بَدَنِهِ بِبَذْلِ الْمَعُونَةِ لِلْخَلْقِ، وَفِي لِسَانِهِ بِبَذْلِ الصِّدْقِ، وَكَذَلِكَ فِي سَائِرِ مَا أَنْعَمَ اللَّهُ بِهِ عَلَيْهِ.
وَهَذَا الصَّبْرُ مُتَّصِلٌ بِالشُّكْرِ، وَإِنَّمَا كَانَ الصَّبْرُ عَلَى السَّرَّاءِ أَشَدَّ؛ لِأَنَّهُ مَقْرُونٌ بِالْقُدْرَةِ، وَالْجَائِعُ عِنْدَ غَيْبَةِ الطَّعَامِ أَقْدَرُ عَلَى الصَّبْرِ مِنْهُ إِذَا حَضَرَتْهُ الْأَطْعِمَةُ اللَّذِيذَةُ وَقَدَرَ عَلَيْهَا، فَلِهَذَا عَظُمَتْ فِتْنَةُ السَّرَّاءِ.
النَّوْعُ الثَّانِي: مَا لَا يُوَافِقُ الْهَوَى وَالطَّبْعَ، وَذَلِكَ إِمَّا أَنْ يَرْتَبِطَ بِاخْتِيَارِ الْعَبْدِ كَالطَّاعَاتِ وَالْمَعَاصِي، أَوْ لَا يَرْتَبِطُ بِاخْتِيَارِهِ كَالْمَصَائِبِ، أَوْ لَا يَرْتَبِطُ بِاخْتِيَارِهِ وَلَكِنْ لَهُ اخْتِيَارٌ فِي إِزَالَتِهِ كَالتَّشَفِّي مِنَ الْمُؤْذِي بِالِانْتِقَامِ مِنْهُ، فَهَذِهِ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ:
الْقِسْمُ الْأَوَّلُ: مَا يَرْتَبِطُ بِاخْتِيَارِهِ، وَهُمَا ضَرْبَانِ:
الضَّرْبُ الْأَوَّلُ: الطَّاعَةُ، وَالْعَبْدُ يَحْتَاجُ إِلَى الصَّبْرِ عَلَيْهَا؛ لِأَنَّ مِنْهَا مَا تَنْفِرُ عَنْهُ النَّفْسُ
بِسَبَبِ الْكَسَلِ كَالصَّلَاةِ، أَوْ بِسَبَبِ الْبُخْلِ كَالزَّكَاةِ أَوْ بِسَبَبِهِمَا جَمِيعًا كَالْحَجِّ وَالْجِهَادِ، وَكُلُّ ذَلِكَ يَحْتَاجُ إِلَى صَبْرٍ.
الضَّرْبُ الثَّانِي: الْمَعَاصِي، وَقَدْ جَمَعَ اللَّهُ - تَعَالَى - أَنْوَاعَ الْمَعَاصِي فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى -:(وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ)[النَّحْلِ: 90] فَمَا أَحْوَجَ الْعَبْدَ إِلَى الصَّبْرِ عَنْهَا سِيَّمَا مَا لَا يَثْقُلُ مِنْهَا عَلَى النَّفْسِ كَالْغِيبَةِ وَالْكَذِبِ وَالْمِرَاءِ وَالثَّنَاءِ عَلَى النَّفْسِ تَعْرِيضًا وَتَصْرِيحًا وَأَنْوَاعِ الْمَزْحِ الْمُؤْذِي لِلْقُلُوبِ وَضُرُوبِ الْكَلِمَاتِ الَّتِي يُقْصَدُ بِهَا الْإِزْرَاءُ وَالِاسْتِحْقَارُ وَالْقَدْحُ فِي الْمَوْتَى، وَلِمَصِيرِ ذَلِكَ مُعْتَادًا فِي الْمُحَاوَرَاتِ بَطَلَ اسْتِقْبَاحُهَا مِنَ الْقُلُوبِ لِعُمُومِ الْأُنْسِ بِهَا، وَهِيَ مِنْ أَكْبَرِ الْمُوبِقَاتِ.
الْقِسْمُ الثَّانِي: مَا لَا يَرْتَبِطُ هُجُومُهُ بِاخْتِيَارِهِ وَلَهُ اخْتِيَارٌ فِي دَفْعِهِ، كَمَا لَوْ أُوذِيَ بِفِعْلٍ أَوْ قَوْلٍ وَجُنِيَ عَلَيْهِ فِي نَفْسِهِ أَوْ مَالِهِ، فَالصَّبْرُ عَلَى ذَلِكَ بِتَرْكِ الْمُكَافَأَةِ، تَارَةً يَكُونُ وَاجِبًا وَتَارَةً يَكُونُ فَضِيلَةً، قَالَ - تَعَالَى -:(وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا)[الْمُزَّمِّلِ: 10] وَقَالَ - تَعَالَى -: (وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ)[آلِ عِمْرَانَ: 186] أَيْ تَصْبِرُوا عَلَى الْمُكَافَأَةِ، وَلِذَلِكَ مَدَحَ اللَّهُ - تَعَالَى - الْعَافِينَ عَنْ حُقُوقِهِمْ فِي الْقِصَاصِ وَغَيْرِهِ فَقَالَ - تَعَالَى -:(وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ)[النَّحْلِ: 126] وَقَالَ صلى الله عليه وسلم: " صِلْ مَنْ قَطَعَكَ وَأَعْطِ مَنْ حَرَمَكَ وَاعْفُ عَمَّنْ ظَلَمَكَ ".
الْقِسْمُ الثَّالِثُ: مَا لَا يَدْخُلُ تَحْتَ حَصْرِ الِاخْتِيَارِ كَالْمَصَائِبِ، مِثْلُ مَوْتِ الْأَعِزَّةِ وَهَلَاكِ الْأَمْوَالِ وَزَوَالِ الصِّحَّةِ بِالْمَرَضِ وَعَمَى الْعَيْنِ وَفَسَادِ الْأَعْضَاءِ، وَسَائِرِ أَنْوَاعِ الْبَلَاءِ، فَالصَّبْرُ عَلَى ذَلِكَ مِنْ أَعْلَى مَقَامَاتِ الصَّبْرِ، وَإِنَّمَا يَنَالُ دَرَجَةَ الصَّبْرِ فِي الْمَصَائِبِ بِتَرْكِ الْجَزَعِ وَشَقِّ الْجُيُوبِ وَضَرْبِ الْخُدُودِ وَالْمُبَالَغَةِ فِي الشَّكْوَى وَإِظْهَارِ الْكَآبَةِ وَتَغْيِيرِ الْعَادَةِ فِي الْمَلْبَسِ وَالْمَفْرَشِ وَالْمَطْعَمِ، لِأَنَّ هَذِهِ الْأُمُورَ دَاخِلَةٌ تَحْتَ اخْتِيَارِهِ، فَيَنْبَغِي أَنْ يَجْتَنِبَ جَمِيعَهَا وَيُظْهِرَ الرِّضَاءَ بِقَضَاءِ اللَّهِ - تَعَالَى - وَيَبْقَى مُسْتَمِرًّا عَلَى عَادَتِهِ، وَيَعْتَقِدُ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ وَدِيعَةً فَاسْتُرْجِعَتْ، كَمَا رُوِيَ عَنْ " أم سليم " - رَحِمَهَا اللَّهُ - قَالَتْ: " تُوُفِّيَ ابْنٌ لِي، وَزَوْجِي أبو طلحة غَائِبٌ فَقُمْتُ فَسَجَّيْتُهُ فِي نَاحِيَةِ الْبَيْتِ، فَهَيَّأْتُ لَهُ إِفْطَارَهُ، فَجَعَلَ يَأْكُلُ، فَقَالَ: كَيْفَ الصَّبِيُّ؟ فَقُلْتُ: بِحَمْدِ اللَّهِ لَمْ يَكُنْ مُنْذُ اشْتَكَى بِأَسْكَنَ مِنْهُ اللَّيْلَةَ، ثُمَّ تَصَنَّعْتُ لَهُ أَحْسَنَ مَا كُنْتُ أَتَصَنَّعُ لَهُ قَبْلَ ذَلِكَ حَتَّى أَصَابَ مِنِّي حَاجَتَهُ، ثُمَّ قُلْتُ: أَلَا تَعْجَبُ مِنْ جِيرَانِنَا؟ قَالَ: مَا لَهُمْ؟ قُلْتُ: أُعِيرُوا عَارِيَةً فَلَمَّا طُلِبَتْ مِنْهُمْ وَاسْتُرْجِعَتْ جَزِعُوا، فَقَالَ: بِئْسَ مَا صَنَعُوا، فَقُلْتُ: هَذَا ابْنُكَ كَانَ عَارِيَةً مِنَ اللَّهِ - تَعَالَى -