الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بَيَانُ الْخَطَأِ فِي تَرْكِ الطَّاعَاتِ خَوْفًا مِنَ الرِّيَاءِ:
مِنَ النَّاسِ مَنْ يَتْرُكُ الْعَمَلَ خَوْفًا مِنْ أَنْ يَكُونَ مُرَائِيًا بِهِ، وَذَلِكَ غَلَطٌ وَمُوَافَقَةٌ لِلشَّيْطَانِ وَجَرٌّ إِلَى الْبَطَالَةِ وَتَرْكٌ لِلْخَيْرِ، فَمَا دُمْتَ تَجِدُ بَاعِثًا دِينِيًّا عَلَى الْعَمَلِ فَلَا تَتْرُكِ الْعَمَلَ وَجَاهِدْ خَاطِرَ الرِّيَاءِ وَأَلْزِمْ قَلْبَكَ الْحَيَاءَ مِنَ اللَّهِ إِذَا دَعَتْكَ نَفْسُكَ إِلَى أَنْ تَسْتَبْدِلَ بِحَمْدِهِ حَمْدَ الْمَخْلُوقِينَ، وَهُوَ مُطَّلِعٌ عَلَى قَلْبِكَ، بَلْ إِنْ قَدَرْتَ عَلَى أَنْ تَزِيدَ فِي الْعَمَلِ حَيَاءً مِنْ رَبِّكَ وَعُقُوبَةً لِنَفْسِكَ فَافْعَلْ، فَإِنْ قَالَ لَكَ الشَّيْطَانُ: أَنْتَ مُرَاءٍ فَاعْلَمْ كَذِبَهُ وَخِدْعَهُ بِمَا تَصَادَفَ فِي قَلْبِكَ مِنْ كَرَاهِيَةِ الرِّيَاءِ وَإِبَائِهِ وَخَوْفِكَ مِنْهُ وَحَيَائِكَ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَإِنْ لَمْ يَبْقَ بَاعِثٌ دِينِيٌّ، بَلْ تَجَرَّدَ بَاعِثُ الرِّيَاءِ فَاتْرُكِ الْعَمَلَ عِنْدَ ذَلِكَ.
بَيَانُ مَا عَلَى الْمُرِيدِ قَبْلَ الْعَمَلِ وَبَعْدَهُ وَفِيهِ:
اعْلَمْ أَنَّ أَوْلَى مَا يُلْزِمُ الْمُرِيدُ قَلْبَهُ فِي سَائِرِ أَوْقَاتِهِ الْقَنَاعَةُ بِعِلْمِ اللَّهِ فِي جَمِيعِ طَاعَاتِهِ، وَلَا يَقْنَعُ بِعِلْمِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ لَا يَخَافُ إِلَّا اللَّهَ، وَلَا يَرْجُو إِلَّا اللَّهَ ; فَأَمَّا مَنْ خَافَ غَيْرَهُ وَارْتَجَاهُ اشْتَهَى اطِّلَاعَهُ عَلَى مَحَاسِنِ أَحْوَالِهِ، فَإِنْ كَانَ فِي هَذِهِ الرُّتْبَةِ فَلْيُلْزِمْ قَلْبَهُ كَرَاهَةَ ذَلِكَ مِنْ جِهَةِ الْعَقْلِ وَالْإِيمَانِ لِمَا فِيهِ مِنْ خَطَرِ التَّعَرُّضِ لِلْمَقْتِ وَإِحْبَاطِ الْعَمَلِ، وَلْيُرَاقِبْ نَفْسَهُ عِنْدَ الطَّاعَاتِ الْعَظِيمَةِ الشَّاقَّةِ، فَإِنَّ النَّفْسَ تَكَادُ تَغْلِي حِرْصًا عَلَى الْإِفْشَاءِ، فَيَنْبَغِي أَنْ يَثْبُتَ قَدَمُهُ وَيَتَذَكَّرَ فِي مُقَابَلَةِ عِظَمِ عَمَلِهِ مُلْكَ الْآخِرَةِ وَنَعِيمَ الْجَنَّةِ أَبَدَ الْآبَادِ، وَعِظَمِ غَضَبِ اللَّهِ عَلَى مَنْ طَلَبَ بِطَاعَتِهِ ثَوَابًا مِنْ عِبَادِهِ، ثُمَّ يُلْزِمَ قَلْبَهُ ذَلِكَ بَعْدَ الْفَرَاغِ حَتَّى لَا يُظْهِرَهُ، وَلَا يَتَحَدَّثَ بِهِ، وَإِذَا فَعَلَ جَمِيعَ ذَلِكَ فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ وَجِلًا مِنْ عَمَلِهِ خَائِفًا أَنَّهُ رُبَّمَا دَاخَلَهُ مِنَ الرِّيَاءِ الْخَفِيِّ مَا لَمْ يَقِفْ عَلَيْهِ فَيَكُونُ شَاكًّا فِي قَبُولِهِ وَرَدِّهِ، مُجَوِّزًا أَنْ يَكُونَ اللَّهُ قَدْ أَحْصَى عَلَيْهِ مِنْ نِيَّتِهِ الْخَفِيَّةِ مَا مَقَتَهُ بِهَا وَرَدَّ عَمَلَهُ بِسَبَبِهَا، وَيَكُونُ هَذَا الشَّكُّ وَالْخَوْفُ فِي دَوَامِ عَمَلِهِ وَبَعْدَهُ، وَأَمَّا فِي الِابْتِدَاءِ فَيَكُونُ مُتَيَقِّنًا أَنَّهُ مُخْلِصٌ مَا يُرِيدُ بِعَمَلِهِ إِلَّا اللَّهَ حَتَّى يَصِحَّ عَمَلُهُ، وَخَوْفُهُ لِذَلِكَ الشَّكِّ جَدِيرٌ بِأَنْ يُكَفِّرَ خَاطِرَ الرِّيَاءِ إِنْ كَانَ قَدْ سَبَقَ، وَهُوَ غَافِلٌ عَنْهُ.
وَالَّذِي يَتَقَرَّبُ إِلَى اللَّهِ بِالسَّعْيِ فِي حَوَائِجِ النَّاسِ وَإِفَادَةِ الْعِلْمِ يَنْبَغِي أَنْ يُلْزِمَ نَفْسَهُ رَجَاءَ الثَّوَابِ عَلَى دُخُولِ السُّرُورِ عَلَى قَلْبِ مَنْ قَضَى حَاجَتَهُ فَقَطْ، وَرَجَاءَ الثَّوَابِ عَلَى عَمَلِ الْمُتَعَلِّمِ بِعِلْمِهِ فَقَطْ دُونَ شُكْرٍ وَمُكَافَأَةٍ وَحَمْدٍ وَثَنَاءٍ مِنَ الْمُتَعَلِّمِ وَالْمُنْعَمِ عَلَيْهِ، فَإِنَّ ذَلِكَ يُحْبِطُ الْأَجْرَ، فَمَهْمَا تَوَقَّعَ مِنَ الْمُتَعَلِّمِ مُسَاعَدَةً فِي شُغْلٍ وَخِدْمَةٍ أَوْ مُرَافَقَةٍ فِي الْمَشْيِ فِي الطَّرِيقِ لِيَسْتَكْبِرَ بِاسْتِتْبَاعِهِ أَوْ تَرَدُّدًا مِنْهُ فِي حَاجَةٍ فَقَدْ أَخَذَ أَجْرَهُ فَلَا ثَوَابَ لَهُ غَيْرُهُ ; نَعَمْ إِنْ لَمْ يَتَوَقَّعْ هُوَ وَلَمْ يَقْصِدْ إِلَّا الثَّوَابَ عَلَى عَمَلِهِ بِعِلْمِهِ لِيَكُونَ لَهُ مِثْلُ أَجْرِهِ وَلَكِنْ خَدَمَهُ التِّلْمِيذُ بِنَفْسِهِ فَقَبِلَ خِدْمَتَهُ فَنَرْجُو أَنْ لَا يُحْبِطَ ذَلِكَ أَجْرَهُ إِذَا كَانَ لَا يُرِيدُهُ، وَلَا يَسْتَبْعِدُهُ مِنْهُ لَوْ قَطَعَهُ.
وَيَجِبُ عَلَى الْمُتَعَلِّمِ أَنْ يُلْزِمَ قَلْبَهُ حَمْدَ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمَ لِلَّهِ وَيَعْبُدَ لِلَّهِ وَيَخْدِمَ الْمُعَلِّمَ لِلَّهِ، لَا لِيَكُونَ لَهُ فِي قَلْبِهِ مَنْزِلَةٌ، وَلَا فِي قَلْبِ الْخَلْقِ، فَإِنَّ الْعِبَادَ أُمِرُوا أَلَّا يَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ، وَلَا يُرِيدُوا بِطَاعَتِهِمْ غَيْرَهُ.
وَأَمَّا الْمُعْتَزِلُ عَنِ النَّاسِ فَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُلْزِمَ قَلْبَهُ ذِكْرَ اللَّهِ وَالْقَنَاعَةَ بِعِلْمِهِ، وَلَا يُخْطِرَ بِقَلْبِهِ
مَعْرِفَةَ النَّاسِ زُهْدَهُ وَاسْتِعْظَامَهُمْ مَحَلَّهُ، فَإِنَّ ذَلِكَ يَغْرِسُ الرِّيَاءَ فِي صَدْرِهِ حَتَّى تَتَيَسَّرَ عَلَيْهِ الْعِبَادَاتُ فِي خَلْوَتِهِ بِهِ، وَإِنَّمَا سُكُونُهُ لِمَعْرِفَةِ النَّاسِ بِاعْتِزَالِهِ وَاسْتِعْظَامِهِمْ لِمَحَلِّهِ، وَهُوَ لَا يَدْرِي أَنَّهُ الْمُخَفِّفُ لِلْعَمَلِ عَلَيْهِ ; فَاسْتِشْعَارُ النَّفْسِ عِزَّ الْعَظَمَةِ فِي الْقُلُوبِ يَكُونُ بَاعِثًا فِي الْخَلْوَةِ، فَيَنْبَغِي أَنْ يُلْزِمَ نَفْسَهُ الْحَذَرَ مِنْهُ، وَعَلَامَةُ سَلَامَتِهِ أَنْ يَكُونَ الْخَلْقُ عِنْدَهُ وَالْبَهَائِمُ بِمَثَابَةٍ وَاحِدَةٍ، فَلَوْ تَغَيَّرُوا عَنِ اعْتِقَادِهِمْ بِهِ لَمْ يَجْزَعْ وَلَمْ يَضِقْ بِهِ ذَرْعًا إِلَّا كَرَاهَةً ضَعِيفَةً إِنْ وَجَدَهَا فِي قَلْبِهِ فَيَرُدُّهَا فِي الْحَالِ بِعَقْلِهِ وَإِيمَانِهِ.
وَلَوْ كَانَ فِي عِبَادَةٍ وَاطَّلَعَ النَّاسُ كُلُّهُمْ عَلَيْهِ لَمْ يَزِدْهُ ذَلِكَ خُشُوعًا وَلَمْ يَدْخُلْهُ سُرُورٌ بِسَبَبِ اطِّلَاعِهِمْ عَلَيْهِ.
وَمِنْ عَلَامَةِ الصِّدْقِ فِيهِ أَنَّهُ لَوْ كَانَ لَهُ صَاحِبَانِ أَحَدُهُمَا غَنِيٌّ وَالْآخَرُ فَقِيرٌ فَلَا يَجِدُ عَنْ إِقْبَالِ الْغَنِيِّ زِيَادَةَ هَزَّةٍ فِي نَفْسِهِ لِإِكْرَامِهِ إِلَّا إِذَا كَانَ فِي الْغَنِيِّ زِيَادَةُ عِلْمٍ أَوْ زِيَادَةُ وَرَعٍ فَيَكُونُ مُكْرِمًا لَهُ بِذَلِكَ الْوَصْفِ لَا بِالْغِنَى، فَمَنْ كَانَ اسْتِرْوَاحُهُ إِلَى مُشَاهَدَةِ الْأَغْنِيَاءِ أَكْثَرَ فَهُوَ مُرَاءٍ أَوْ طَمَّاعٍ.
وَمَكَايِدُ النَّفْسِ وَخَفَايَاهَا فِي هَذَا الْفَنِّ لَا تَنْحَصِرُ، وَلَا يُنْجِيكَ مِنْهَا إِلَّا أَنْ تُخْرِجَ مَا سِوَى اللَّهِ مِنْ قَلْبِكَ، وَتَتَجَرَّدَ بِالشَّفَقَةِ عَلَى نَفْسِكَ بَقِيَّةَ عُمُرِكَ، وَلَا تَرْضَى لَهَا بِالنَّارِ بِسَبَبِ شَهَوَاتٍ مُنَغِّصَةٍ فِي أَيَّامٍ مُتَقَارِبَةٍ.