الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الْمَثَارُ الثَّالِثُ لِلشُّبْهَةِ: أَنْ يَتَّصِلَ بِالسَّبَبِ الْمُحَلِّلِ مَعْصِيَةٌ:
كَالْبَيْعِ فِي وَقْتِ النِّدَاءِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، وَالذَّبْحِ بِالسِّكِّينِ الْمَغْصُوبَةِ، وَالْبَيْعِ عَلَى بَيْعِ الْغَيْرِ وَالسَّوْمِ عَلَى سَوْمِهِ، فَكُلُّ نَهْيٍ وَرَدَ فِي الْعُقُودِ وَلَمْ يَدُلَّ عَلَى فَسَادِ الْعَقْدِ فَإِنَّ الِامْتِنَاعَ مِنْ جَمِيعِ ذَلِكَ وَرَعٌ لِأَنَّ تَنَاوُلَ الْحَاصِلِ مِنْ هَذِهِ الْأُمُورِ مَكْرُوهٌ، وَالْكَرَاهَةَ تُشْبِهُ التَّحْرِيمَ، وَمِثْلُهُ كُلُّ تَصَرُّفٍ يُفْضِي فِي سِيَاقِهِ إِلَى مَعْصِيَةٍ كَبَيْعِ الْعِنَبِ مِنَ الْخُمَّارِ وَبَيْعِ السِّلَاحِ مِنْ قُطَّاعِ الطَّرِيقِ.
وَقَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي صِحَّةِ ذَلِكَ وَفِي حِلِّ الثَّمَنِ الْمَأْخُوذِ مِنْهُ، وَالْأَقْيَسُ أَنَّ ذَلِكَ صَحِيحٌ وَالْمَأْخُوذَ حَلَالٌ وَالرَّجُلَ عَاصٍ بِعَقْدِهِ كَمَا يُعْصَى بِالذَّبْحِ بِالسِّكِّينِ الْمَغْصُوبِ وَالذَّبِيحَةَ حَلَالٌ، فَإِنَّهُ يَعْصِي عِصْيَانَ الْإِعَانَةِ عَلَى الْمَعْصِيَةِ وَلَا يَتَعَلَّقُ ذَلِكَ بِعَيْنِ الْعَقْدِ، وَالْمَأْخُوذُ مِنْ هَذَا مَكْرُوهٌ كَرَاهِيَةً شَدِيدَةً وَتَرْكُهُ مِنَ الْوَرَعِ الْمُهِمِّ.
تَنْبِيهٌ:
لَا يَنْبَغِي لِلْإِنْسَانِ أَنْ يَشْتَغِلَ بِدَقَائِقِ الْوَرِعِ إِلَّا بِحَضْرَةِ عَالِمٍ مُتْقِنٍ فَإِنَّهُ إِذَا جَاوَزَ مَا رُسِمَ لَهُ وَتَصَرَّفَ بِذِهْنِهِ مِنْ غَيْرِ سَمَاعٍ كَانَ مَا يُفْسِدُهُ أَكْثَرَ مِمَّا يُصْلِحُهُ، وَالْمُتَنَطِّعُونَ هُمُ الَّذِينَ يُخْشَى عَلَيْهِمْ أَنْ يَكُونُوا مِمَّنْ قِيلَ فِيهِمْ:(الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا)[الْكَهْفِ: 104] وَلِهَذَا قَالَ صلى الله عليه وسلم: فَضْلُ الْعَالِمِ عَلَى الْعَابِدِ كَفَضْلِي عَلَى أَدْنَى رَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِي.
الْبَحْثُ وَالسُّؤَالُ فِي الْحَرَامِ وَالْحَلَالِ:
اعْلَمْ أَنَّ كُلَّ مَنْ قَدَّمَ إِلَيْكَ طَعَامًا أَوْ هَدِيَّةً أَوْ أَرَدْتَ أَنْ تَشْتَرِيَ مِنْهُ أَوْ تَتَّهِبَ فَلَيْسَ لَكَ أَنْ تُفَتِّشَ عَنْهُ وَتَسْأَلَ وَتَقُولَ هَذَا مِمَّا لَا أَتَحَقَّقُ حِلَّهُ فَلَا آخُذُهُ بَلْ أُفَتِّشُ عَنْهُ، وَلَيْسَ لَكَ أَيْضًا أَنْ تَتْرُكَ الْبَحْثَ مُطْلَقًا، بَلِ السُّؤَالُ لَا بُدَّ مِنْهُ مِنْ مَوَاقِعِ الرِّيبَةِ، وَمَنْشَأُ الرِّيبَةِ بِالنِّسْبَةِ لِصَاحِبِ الْمَالِ أَنْ يَكُونَ مَشْكُوكًا فِيهِ أَوْ مَعْلُومًا بِنَوْعٍ ظَنِّيٍّ يَسْتَنِدُ إِلَى دَلَالَةٍ.
وَبِالنِّسْبَةِ لِلْمَالِ أَنْ يَخْتَلِطَ حَرَامُهُ بِحَلَالِهِ وَيَكُونَ الْحَرَامُ أَكْثَرَ مِنْ يَقِينِ وَجُودِهِ.
فَإِذَا كَانَ الْحَرَامُ هُوَ الْأَقَلُّ وَاحْتَمَلَ أَنْ لَا يَكُونَ مَوْجُودًا فِي الْحَالِ لَمْ يَكُنِ الْأَكْلُ حَرَامًا وَلَكِنَّ السُّؤَالَ احْتِيَاطٌ وَالِامْتِنَاعَ عَنْهُ وَرَعٌ، وَإِنَّمَا يُسْأَلُ مِنْ صَاحِبِ الْيَدِ إِذَا لَمْ يَكُنْ مُتَّهَمًا، فَإِنْ كَانَ مُتَّهَمًا بِأَنَّهُ لَيْسَ يَدْرِي طَرِيقَ كَسْبِ الْحَلَالِ أَوْ بِأَنَّهُ لَا ثِقَةَ فِي أَخْبَارِهِ وَأَمَانَتِهِ فَلْيُسْأَلْ مِنْ غَيْرِهِ، فَإِذَا أَخْبَرَهُ عَدْلٌ وَاحِدٌ قَبْلَهُ، وَإِنْ أَخْبَرَهُ فَاسْقٌ عَلِمَ مِنْ قَرِينَةِ حَالِهِ أَنَّهُ لَا يَكْذِبُ حَيْثُ لَا غَرَضَ لَهُ فِيهِ جَازَ قَبُولُهُ، لِأَنَّ الْمَطْلُوبَ ثِقَةُ النَّفْسِ وَالْمُفْتِي هُوَ الْقَلْبُ فِي مِثْلِ هَذَا الْوَضْعِ.
وَلِلْقَلْبِ الْتِفَاتَاتٌ إِلَى قَرَائِنَ خَفِيَّةٍ يَضِيقُ عَنْهَا نِطَاقُ النُّطْقِ فَلْيَتَأَمَّلْ فِيهِ فَإِذَا اطْمَأَنَّ الْقَلْبُ كَانَ الِاحْتِرَازُ حَتْمًا وَاجِبًا.
كَيْفِيَّةُ خُرُوجِ التَّائِبِ مِنَ الْمَظَالِمِ الْمَالِيَّةِ:
اعْلَمْ أَنَّ كُلَّ مَنْ تَابَ وَفِي يَدِهِ مَالٌ مُخْتَلِطٌ فَعَلَيْهِ وَظِيفَةٌ فِي تَمْيِيزِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجِهِ،
وَوَظِيفَةٌ أُخْرَى فِي مَصْرِفِ الْمُخْرَجِ فَلْيَنْظُرْ فِيهِمَا:
النَّظَرُ الْأَوَّلُ: فِي كَيْفِيَّةِ التَّمْيِيزِ وَالْإِخْرَاجِ: مَنْ تَابَ وَفِي يَدِهِ مَا هُوَ حَرَامٌ مَعْلُومُ الْعَيْنِ فِي غَصْبٍ أَوْ وَدِيعَةٍ أَوْ غَيْرِهِ فَأَمْرُهُ سَهْلٌ فَعَلَيْهِ تَمْيِيزُ الْحَرَامِ ; وَإِنْ كَانَ مُلْتَبِسًا مُخْتَلِطًا فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مِنْ ذَوَاتِ الْأَمْثَالِ كَالْحُبُوبِ وَالنُّقُودِ وَالْأَدْهَانِ، أَوْ يَكُونَ فِي أَعْيَانٍ مُتَمَايِزَةٍ كَالدُّورِ وَالثِّيَابِ، فَإِنْ كَانَ مِنَ الْمُتَمَاثِلَاتِ أَوْ كَانَ شَائِعًا فِي الْمَالِ كُلِّهِ كَمَنِ اكْتَسَبَ الْمَالَ بِتِجَارَةٍ كَذَبَ فِي بَعْضِهَا، وَكَمَنَ غَصَبَ دُهْنًا وَخَلَطَهُ بِدُهْنِ نَفْسِهِ وَفَعَلَ ذَلِكَ فِي الْحُبُوبِ أَوِ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ، فَإِنْ كَانَ مَعْلُومَ الْقَدْرِ مِثْلَ أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ قَدْرَ النِّصْفِ مِنْ جُمْلَةِ مَالِهِ حَرَامٌ فَعَلَيْهِ تَمْيِيزُ النِّصْفِ، وَإِنْ أَشْكَلَ فَلَهُ طَرِيقَانِ:
الْأَخْذُ بِالْيَقِينِ، وَالْأُخْرَى الْأَخْذُ بِغَالِبِ الظَّنِّ، وَالْوَرَعُ فِي الطَّرِيقِ الْأُولَى فَلَا يَسْتَبْقِي إِلَّا الْقَدْرَ الَّذِي يَتَيَقَّنُ أَنَّهُ حَلَالٌ.
فَأَمَّا إِذَا اشْتَبَهَ دَارٌ أَوْ ثَوْبٌ بِأَمْثَالِهِمْ وَكَانَ فِيهِمَا تَفَاوُتٌ أَخَذَ الْحَاكِمُ مِنْ طَالِبِ بَيْعِهَا قِيمَةَ الْأَنْفُسِ وَصَرَفَ إِلَى الْمُمْتَنِعِ مِنْهُ مِقْدَارَ قِيمَةِ الْأَقَلِّ، وَيُوقِفُ قَدْرَ التَّفَاوُتِ إِلَى الْبَيَانِ وَالِاصْطِلَاحِ.
مَسْأَلَةٌ:
مَنْ وَرِثَ مَالًا وَلَمْ يَدْرِ: مُوَرِّثُهُ مِنْ أَيْنَ اكْتَسَبَهُ أَمِنْ حَلَالٍ أَمْ مِنْ حَرَامٍ وَلَمْ يَكُنْ ثَمَّ عَلَامَةٌ فَهُوَ حَلَالٌ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ، وَإِنْ عَلِمَ أَنَّ فِيهِ حَرَامًا وَشَكَّ فِي قَدْرِهِ أَخْرَجَ مِقْدَارَ الْحَرَامِ بِالتَّحَرِّي.
وَإِنْ عَلِمَ أَنَّ بَعْضَ مَالِهِ كَانَ مِنَ الظُّلْمِ فَيَلْزَمُهُ إِخْرَاجُ ذَلِكَ الْقَدْرِ بِالِاجْتِهَادِ. وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: «لَا يَلْزَمُهُ وَالْإِثْمُ عَلَى الْمُوَرِّثِ» .
النَّظَرُ الثَّانِي فِي الْمَصْرِفِ: فَإِذَا أَخْرَجَ الْحَرَامَ فَلَهُ ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ إِمَّا أَنْ يَكُونَ لَهُ مَالِكٌ مُعَيَّنٌ فَيَجِبُ الصَّرْفُ إِلَيْهِ أَوْ إِلَى وَارِثِهِ، وَإِنْ كَانَ غَائِبًا فَيَنْتَظِرُ حُضُورَهُ أَوِ الْإِيصَالَ إِلَيْهِ، وَإِنْ كَانَتْ لَهُ زِيَادَةٌ وَمَنْفَعَةٌ فَلِتَجَمُّعِ فَوَائِدِهِ إِلَى وَقْتِ حُضُورِهِ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ لِمَالِكٍ غَيْرِ مُعَيَّنٍ وَقَعَ الْيَأْسُ مِنَ الْوُقُوفِ عَلَى عَيْنِهِ وَلَا يَدْرِي أَنَّهُ مَاتَ عَنْ وَارِثٍ أَمْ لَا، فَهَذَا لَا يُمْكِنُ الرَّدُّ فِيهِ لِلْمَالِكِ وَيُوقَفُ حَتَّى يَتَّضِحَ الْأَمْرُ فِيهِ، وَرُبَّمَا لَا يُمْكِنُ الرَّدُّ لِكَثْرَةِ الْمُلَّاكِ فَهَذَا يَنْبَغِي أَنْ يَتَصَدَّقَ بِهِ لِئَلَّا يَضِيعَ وَتَفُوتَ الْمَنْفَعَةُ عَلَى الْمَالِكِ وَعَلَى غَيْرِهِ، وَلَهُ أَنْ يَتَصَدَّقَ عَلَى نَفْسِهِ وَعِيَالِهِ إِذَا كَانَ فَقِيرًا.