الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مُفْصِحًا عَنْ ضَعْفِ الْإِيمَانِ، فَإِنَّ الْأَخْلَاقَ السَّيِّئَةَ حَيَّاتٌ وَعَقَارِبُ لَدَّاغَةٌ، فَلَوْ نَبَّهَنَا مُنَبِّهٌ عَلَى أَنَّ تَحْتَ ثَوْبِنَا عَقْرَبًا لَتَقَلَّدْنَا مِنْهُ مِنَّةً وَفَرِحْنَا بِهِ، وَاشْتَغَلْنَا بِإِزَالَةِ الْعَقْرَبِ وَقَتْلِهَا، وَإِنَّمَا نِكَايَتُهَا عَلَى الْبَدَنِ، وَلَا يَدُومُ أَلَمُهَا يَوْمًا فَمَا دُونَهُ، وَنِكَايَةُ الْأَخْلَاقِ الرَّدِيئَةِ عَلَى صَمِيمِ الْقَلْبِ أَخْشَى أَنْ تَدُومَ بَعْدَ الْمَوْتِ أَبَدَ الْآبَادِ، ثُمَّ إِنَّا لَا نَفْرَحُ بِمَنْ يُنَبِّهُنَا عَلَيْهَا، وَلَا نَشْتَغِلُ بِإِزَالَتِهَا، بَلْ نَشْتَغِلُ بِمُقَابَلَةِ النَّاصِحِ بِمِثْلِ مَقَالَتِهِ، فَنَقُولُ لَهُ:«وَأَنْتَ أَيْضًا تَصْنَعُ كَيْتَ وَكَيْتَ» وَتَشْغَلُنَا الْعَدَاوَةُ مَعَهُ عَنِ الِانْتِفَاعِ بِنُصْحِهِ، وَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مِنْ قَسَاوَةِ الْقَلْبِ الَّتِي أَثْمَرَتْهَا كَثْرَةُ الذُّنُوبِ، وَأَصْلُ كُلِّ ذَلِكَ ضَعْفُ الْإِيمَانِ. فَنَسْأَلُ تَعَالَى أَنْ يُلْهِمَنَا رُشْدَنَا، وَيُبَصِّرَنَا بِعُيُوبِنَا، وَيَشْغَلَنَا بِمُدَاوَاتِهَا، وَيُوَفِّقَنَا لِلْقِيَامِ بِشُكْرِ مَنْ يُطْلِعُنَا عَلَى مَسَاوِينَا بِمَنِّهِ وَفَضْلِهِ.
الطَّرِيقُ الثَّالِثُ: أَنْ يَسْتَفِيدَ مَعْرِفَةَ عُيُوبِ نَفْسِهِ مِنْ أَلْسِنَةِ أَعْدَائِهِ،
فَإِنَّ عَيْنَ السُّخْطِ تُبْدِي الْمَسَاوِيَا
، وَلَعَلَّ انْتِفَاعَ الْإِنْسَانِ بِعَدُوٍّ مُشَاحِنٍ يَذْكُرُ عُيُوبَهُ أَكْثَرُ مِنِ انْتِفَاعِهِ بِصَدِيقٍ مُدَاهِنٍ يُثْنِي عَلَيْهِ وَيَمْدَحُهُ، وَيُخْفِي عَنْهُ عُيُوبَهُ، إِلَّا أَنَّ الطَّبْعَ مَجْبُولٌ عَلَى تَكْذِيبِ الْعَدُوِّ وَحَمْلِ مَا يَقُولُهُ عَلَى الْحَسَدِ، وَلَكِنَّ الْبَصِيرَ لَا يَخْلُو عَنِ الِانْتِفَاعِ بِقَوْلِ أَعْدَائِهِ، فَإِنَّ مَسَاوِيَهُ لَا بُدَّ وَأَنْ تَنْتَشِرَ عَلَى أَلْسِنَتِهِمْ.
الطَّرِيقُ الرَّابِعُ: أَنْ يُخَالِطَ النَّاسَ، فَكُلُّ مَا رَآهُ مَذْمُومًا فِيمَا بَيْنَ الْخَلْقِ فَلْيُطَالِبْ نَفْسَهُ بِهِ وَيَنْسُبْهَا إِلَيْهِ، فَإِنَّ الْمُؤْمِنَ مِرْآةُ الْمُؤْمِنِ، فَيَرَى مِنْ عُيُوبِ غَيْرِهِ عُيُوبَ نَفْسِهِ، وَيَعْلَمُ أَنَّ الطِّبَاعَ مُتَقَارِبَةٌ فِي اتِّبَاعِ الْهَوَى، فَمَا يَتَّصِفُ بِهِ غَيْرُهُ فَلَا يَنْفَكُّ هُوَ عَنْ أَصْلِهِ أَوْ عَنْ أَعْظَمَ مِنْهُ أَوْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ، فَلْيَتَفَقَّدْ نَفْسَهُ وَيُطَهِّرْهَا عَنْ كُلِّ مَا يَذُمُّهُ مَنْ غَيْرِهِ، وَنَاهِيكَ بِهَذَا تَأْدِيبًا، فَلَوْ تَرَكَ النَّاسُ كُلُّهُمْ مَا يَكْرَهُونَهُ مِنْ غَيْرِهِمْ، لَاسْتَغْنَوْا عَنِ الْمُؤَدِّبِ، وَهَذَا كُلُّهُ مِنْ حِيَلِ مَنْ فَقَدَ شَيْخًا مُرَبِّيًا نَاصِحًا فِي الدِّينِ، وَإِلَّا فَمَنْ وَجَدَهُ فَقَدْ وَجَدَ الطَّبِيبَ، فَلْيُلَازِمْهُ؛ فَإِنَّهُ يُخَلِّصُهُ مِنْ مَرَضِهِ.
بَيَانُ تَمْيِيزِ عَلَامَاتِ حُسْنِ الْخُلُقِ:
اعْلَمْ أَنَّ كُلَّ إِنْسَانٍ جَاهِلٍ بِعُيُوبِ نَفْسِهِ، فَإِذَا جَاهَدَ نَفْسَهُ أَدْنَى مُجَاهَدَةٍ حَتَّى تَرَكَ فَوَاحِشَ الْمَعَاصِي، رُبَّمَا يَظُنُّ بِنَفْسِهِ أَنَّهُ قَدْ هَذَّبَ نَفْسَهُ، وَحَسَّنَ خُلُقَهُ، وَاسْتَغْنَى عَنِ الْمُجَاهَدَةِ، فَلَا بُدَّ مِنْ إِيضَاحِ عَلَامَةِ حُسْنِ الْخُلُقِ، فَإِنَّ حُسْنَ الْخُلُقِ هُوَ الْإِيمَانُ، وَسُوءَ الْخُلُقِ هُوَ النِّفَاقُ، وَقَدْ ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى صِفَاتِ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُنَافِقِينَ فِي كِتَابِهِ، وَهِيَ بِجُمْلَتِهَا ثَمَرَةُ حُسْنِ الْخُلُقِ وَسُوءِ الْخُلُقِ، فَلْنُورِدْ جُمْلَةً مِنْ ذَلِكَ لِتَعْلَمَ آيَةَ حُسْنِ الْخُلُقِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:(قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ)[الْمُؤْمِنُونَ: 1 - 11] وَقَالَ عز وجل: (التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ)
[التَّوْبَةِ: 112] وَقَالَ عز وجل: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ)[الْأَنْفَالِ: 2 - 4] وَقَالَ تَعَالَى: (وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا)[الْفُرْقَانِ: 63] إِلَى آخِرِ السُّورَةِ، فَمَنْ أَشْكَلَ عَلَيْهِ حَالُهُ فَلْيَعْرِضْ نَفْسَهُ عَلَى هَذِهِ الْآيَاتِ، فَوُجُودُ جَمِيعِ هَذِهِ الصِّفَاتِ عَلَامَةُ حُسْنِ الْخُلُقِ، وَفَقْدُ جَمِيعِهَا عَلَامَةُ سُوءِ الْخُلُقِ، وَوُجُودُ بَعْضِهَا دُونَ بَعْضٍ يَدُلُّ عَلَى الْبَعْضِ دُونَ الْبَعْضِ، فَلْيَشْتَغِلْ بِتَحْصِيلِ مَا فَقَدَهُ وَحِفْظِ مَا وَجَدَهُ. وَقَدْ وَصَفَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْمُؤْمِنَ بِصِفَاتٍ كَثِيرَةٍ، وَأَشَارَ بِجَمِيعِهَا إِلَى مَحَاسِنِ الْأَخْلَاقِ فَقَالَ:«الْمُؤْمِنُ يُحِبُّ لِأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ» وَقَالَ عليه السلام: «مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيُكْرِمْ ضَيْفَهُ» وَقَالَ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيُكْرِمْ جَارَهُ» وَقَالَ: «مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيَصْمُتْ» . وَذَكَرَ أَنَّ صِفَاتِ الْمُؤْمِنِينَ هِيَ حُسْنُ الْخُلُقِ، فَقَالَ صلى الله عليه وسلم:«أَكْمَلُ الْمُؤْمِنِينَ إِيمَانًا أَحْسَنَهُمْ أَخْلَاقًا» وَقَالَ: «لَا يَحِلُّ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يُشِيرَ إِلَى أَخِيهِ بِنَظْرَةٍ تُؤْذِيهِ» وَقَالَ عليه السلام: «لَا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يُرَوِّعَ مُسْلِمًا» وَقَالَ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّمَا يَتَجَالَسُ الْمُتَجَالِسَانِ بِأَمَانَةِ اللَّهِ عز وجل، فَلَا يَحِلُّ لِأَحَدِهِمَا أَنْ يُفْشِيَ عَلَى أَخِيهِ مَا يَكْرَهُهُ» .
وَأَوْلَى مَا يُمْتَحَنُ بِهِ حُسْنُ الْخُلُقِ: الصَّبْرُ عَلَى الْأَذَى، وَاحْتِمَالُ الْجَفَا، فَقَدْ رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَوْمًا يَمْشِي وَمَعَهُ أنس، فَأَدْرَكَهُ أَعْرَابِيٌّ، فَجَذَبَهُ جَذْبًا شَدِيدًا، وَكَانَ عَلَيْهِ بُرْدٌ غَلِيظُ الْحَاشِيَةِ - قَالَ «أنس» رضي الله عنه:«حَتَّى نَظَرْتُ إِلَى عُنُقِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَدْ أَثَّرَتْ فِيهِ حَاشِيَةُ الْبُرْدِ مِنْ شِدَّةِ جَذْبِهِ» - فَقَالَ: «يَا مُحَمَّدُ هَبْ لِي مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي عِنْدَكَ» ، فَالْتَفَتَ إِلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَضَحِكَ، ثُمَّ أَمَرَ بِإِعْطَائِهِ «، وَلَمَّا أَكْثَرَتْ قُرَيْشٌ إِيذَاءَهُ قَالَ:» اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِقَوْمِي فَإِنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ «.
حُكِيَ أَنَّ» الْأَحْنَفَ بْنَ قَيْسٍ «قِيلَ لَهُ: مِمَّنْ تَعَلَّمْتَ الْحِلْمَ؟ فَقَالَ:» مِنْ قيس بن عاصم، قِيلَ لَهُ:«وَمَا بَلَغَ حِلْمُهُ» ؟ قَالَ: «بَيْنَمَا هُوَ جَالِسٌ فِي دَارِهِ إِذْ أَتَتْهُ جَارِيَةٌ لَهُ بِسَفُّودٍ عَلَيْهِ شِوَاءٌ فَسَقَطَ مِنْ يَدِهَا» فَوَقَعَ عَلَى ابْنٍ لَهُ صَغِيرٍ فَمَاتَ، فَدُهِشَتِ الْجَارِيَةُ، فَقَالَ لَهَا:«لَا رَوْعَ عَلَيْكِ، أَنْتِ حُرَّةٌ لِوَجْهِ اللَّهِ تَعَالَى» .
وَرُوِيَ أَنَّ عليا كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ دَعَا غُلَامًا فَلَمْ يُجِبْهُ، فَدَعَاهُ ثَانِيًا وَثَالِثًا، فَلَمْ يُجِبْهُ، فَقَامَ إِلَيْهِ فَرَآهُ مُضْطَجِعًا، فَقَالَ:«أَمَا تَسْمَعُ يَا غُلَامُ؟» قَالَ: «بَلَى» ، قَالَ:«فَمَا حَمَلَكَ عَلَى تَرْكِ إِجَابَتِي» ؟ قَالَ: «أَمِنْتُ عُقُوبَتَكَ فَتَكَاسَلْتُ» ، قَالَ:«امْضِ فَأَنْتَ حُرٌّ لِوَجْهِ اللَّهِ تَعَالَى» .