الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فَقَالَ: «أَطْفِئُوا السِّرَاجَ فَقَدْ حَدَثَ لِلْوَرَثَةِ حَقٌّ فِي الدُّهْنِ» ، وَأَخَذَ «الحسن» رضي الله عنه تَمْرَةً مِنْ تَمْرِ الصَّدَقَةِ وَكَانَ صَغِيرًا فَقَالَ صلى الله عليه وسلم:«كِخْ، كِخْ» أَيْ أَلْقِهَا.
وَتَقَيَّأَ الصِّدِّيقُ رضي الله عنه مِنَ اللَّبَنِ الَّذِي سَقَاهُ إِيَّاهُ رَفِيقُهُ - وَكَانَ تَكَهَّنَ فَأُعْطِيَ اللَّبَنُ أُجْرَةً لَهُ - وَذَلِكَ خِيفَةً مِنْ أَنْ يُحْدِثَ الْحَرَامُ فِيهِ قُوَّةً مَعَ أَنَّهُ شَرِبَهُ عَنْ جَهْلٍ وَكَانَ لَا يَجِبُ إِخْرَاجُهُ وَلَكِنَّ تَخْلِيَةَ الْبَطْنِ عَنِ الْخَبِيثِ مِنْ وَرَعِ الصِّدِّيقِينَ.
وَبِالْجُمْلَةِ فَكُلَّمَا كَانَ الْعَبْدُ أَشَدَّ تَشْدِيدًا عَلَى نَفْسِهِ كَانَ أَخَفَّ ظَهْرًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَأَبْعَدَ عَنْ أَنْ تَتَرَجَّحَ كِفَّةُ سَيِّئَاتِهِ عَلَى كِفَّةِ حَسَنَاتِهِ.
وَإِذَا عَلِمْتَ حَقِيقَةَ الْأَمْرِ فَإِلَيْكَ الْخِيَارُ، فَإِنْ شِئْتَ فَاسْتَكْثِرْ مِنَ الِاحْتِيَاطِ، وَإِنْ شِئْتَ فَرَخِّصْ فَلِنَفْسِكَ تَحْتَاطُ وَعَلَى نَفْسِكَ تُرَخِّصُ وَالسَّلَامُ.
مَرَاتِبُ الشُّبُهَاتِ:
قَالَ صلى الله عليه وسلم: الْحَلَالُ بَيِّنٌ وَالْحَرَامُ بَيِّنٌ وَبَيْنَهُمَا أُمُورٌ مُشْتَبِهَاتٌ لَا يَعْلَمُهَا كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ فَمَنِ اتَّقَى الشُّبُهَاتِ فَقَدِ اسْتَبْرَأَ لِعِرْضِهِ وَدِينِهِ، وَمَنْ وَقَعَ فِي الشُّبُهَاتِ وَقَعَ فِي الْحَرَامِ كَالرَّاعِي حَوْلَ الْحِمَى يُوشِكُ أَنْ يَقَعَ فِيهِ فَهَذَا الْحَدِيثُ نَصٌّ فِي إِثْبَاتِ الْأَقْسَامِ الثَّلَاثَةِ ; وَالْمُشْكِلُ مِنْهَا الْقِسْمُ الْمُتَوَسِّطُ الَّذِي لَا يَعْرِفُهُ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَهُوَ الشُّبْهَةُ، فَلَا بُدَّ مِنْ بَيَانِهَا فَإِنَّ مَا لَا يَعْرِفُهُ الْكَثِيرُ فَقَدْ يَعْرِفُهُ الْقَلِيلُ فَنَقُولُ:
الْحَلَالُ الْمُطْلَقُ: مَا خَلَا عَنْ ذَاتِهِ الصِّفَاتُ الْمُوجِبَةُ لِلتَّحْرِيمِ فِي عَيْنِهِ، وَانْحَلَّ عَنْ أَسْبَابِهِ تَحْرِيمٌ أَوْ كَرَاهَةٌ.
وَالْحَرَامُ الْمَحْضُ: هُوَ مَا فِيهِ صِفَةٌ مُحَرَّمَةٌ لَا يُشَكُّ فِيهَا كَالْخَمْرِ لِشِدَّتِهِ الْمُطْرِبَةِ وَالْبَوْلِ لِنَجَاسَتِهِ، أَوْ حَصَلَ بِسَبَبٍ مَنْهِيٍّ عَنْهُ قَطْعًا كَالْمُحَصَّلِ بِالظُّلْمِ وَالرِّبَا وَنَظَائِرِهِ، وَهَذَانَ طَرَفَانِ ظَاهِرَانِ، وَيَلْتَحِقُ بِالطَّرَفَيْنِ مَا تَحَقَّقَ أَمْرُهُ وَلَكِنَّهُ احْتَمَلَ تَغَيُّرَهُ وَلَمْ يَكُنْ لِذَلِكَ الِاحْتِمَالِ سَبَبٌ يَدُلُّ عَلَيْهِ «وَالِاحْتِمَالُ الْمَعْدُومُ دَلَالَتُهُ كَالِاحْتِمَالِ الْمَعْدُومِ فِي نَفْسِهِ» .
وَأَمَّا الشُّبْهَةُ فَمَا اشْتَبَهَ عَلَيْنَا أَمْرُهُ بِأَنْ تَعَارَضَ لَنَا فِيهِ اعْتِقَادَانِ صَدَرَا عَنْ سَبَبَيْنِ مُقْتَضِيَيْنِ لِلِاعْتِقَادَيْنِ.
وَلِلشُّبْهَةِ مَثَارَاتٌ:
الْمَثَارُ الْأَوَّلُ لِلشُّبْهَةِ: الشَّكُّ فِي السَّبَبِ الْمُحَلِّلِ وَالْمُحَرِّمِ:
فَإِنْ تَعَادَلَ الِاحْتِمَالَانِ كَانَ الْحُكْمُ لِمَا عُرِفَ قَبْلَهُ فَيُسْتَصْحَبُ وَلَا يُتْرَكُ بِالشَّكِّ، وَإِنْ غَلَبَ أَحَدُ الِاحْتِمَالَيْنِ عَلَيْهِ بِأَنْ صَدَرَ دَلَالَةٌ مُعْتَبَرَةٌ كَانَ الْحُكْمُ لِلْغَالِبِ، وَلَا يَتَبَيَّنُ هَذَا إِلَّا بِالْأَمْثَالِ وَالشَّوَاهِدِ فَلْنُقَسِّمْهُ إِلَى أَقْسَامٍ أَرْبَعَةٍ:
الْقِسْمُ الْأَوَّلُ: أَنْ يَكُونَ التَّحْرِيمُ مَعْلُومًا مِنْ قَبْلُ ثُمَّ يَقَعُ الشَّكُّ فِي الْمُحَلِّلِ فَهَذِهِ شُبْهَةٌ يَجِبُ اجْتِنَابُهَا وَيَحْرُمُ الْإِقْدَامُ عَلَيْهَا.
الْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يُعْرَفَ الْحِلُّ وَيُشَكَّ فِي الْمُحَرِّمِ فَالْأَصْلُ الْحِلُّ وَلَهُ الْحُكْمُ.
الْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ الْأَصْلُ التَّحْرِيمُ وَلَكِنْ طَرَأَ مَا أَوْجَبَ تَحْلِيلَهُ بِظَنٍّ غَالِبٍ فَهُوَ مَشْكُوكٌ فِيهِ، وَالْغَالِبُ حِلُّهُ، فَهَذَا يُنْظَرُ فِيهِ فَإِنِ اسْتَنَدَ غَلَبَةُ الظَّنِّ إِلَى سَبَبٍ مُعْتَبَرٍ شَرْعًا فَالَّذِي يُخْتَارُ فِيهِ أَنَّهُ يَحِلُّ وَأَنَّ اجْتِنَابَهُ مِنَ الْوَرَعِ، مِثَالُهُ أَنْ يَرْمِيَ إِلَى صَيْدٍ فَيَغِيبَ ثُمَّ يُدْرِكَهُ مَيِّتًا وَلَيْسَ عَلَيْهِ أَثَرٌ سِوَى سَهْمِهِ، وَلَكِنْ يُحْتَمَلُ أَنَّهُ مَاتَ بِسَقْطَةٍ أَوْ بِسَبَبٍ آخَرَ فَالْمُخْتَارُ أَنَّهُ حَلَالٌ لِأَنَّ الْجُرْحَ سَبَبٌ ظَاهِرٌ وَقَدْ تَحَقَّقَ، وَالْأَصْلُ أَنَّهُ لَمْ يَطْرَأْ عَلَيْهِ غَيْرُهُ، فَطَرَيَانُهُ مَشْكُوكٌ فِيهِ فَلَا يُدْفَعُ الْيَقِينُ بِالشَّكِّ.
الْقِسْمُ الرَّابِعُ: أَنْ يَكُونَ الْحِلُّ مَعْلُومًا وَلَكِنْ يَغْلِبُ عَلَى الظَّنِّ طَرَيَانٌ مُحَرِّمٌ بِسَبَبٍ مُعْتَبَرٍ فِي غَلَبَةِ الظَّنِّ شَرْعًا فَيَرْفَعُ الِاسْتِصْحَابَ وَيَقْضِي بِالتَّحْرِيمِ، مِثَالُهُ أَنْ يُؤَدِّيَ اجْتِهَادُهُ إِلَى نَجَاسَةِ أَحَدِ الْإِنَاءَيْنِ بِالِاعْتِمَادِ عَلَى عَلَامَةٍ مُعَيَّنَةٍ تُوجِبُ غَلَبَةَ الظَّنِّ فَتُوجِبُ تَحْرِيمَ شُرْبِهِ كَمَا تُوجِبُ مَنْعَ الْوُضُوءِ بِهِ.
الْمَثَارُ الثَّانِي: شَكٌّ مَنْشَؤُهُ الِاخْتِلَاطُ:
وَذَلِكَ بِأَنْ يَخْتَلِطَ الْحَرَامُ بِالْحَلَالِ وَيَشْتَبِهَ الْأَمْرُ وَلَا يَتَمَيَّزَ.
وَالْخَلْطُ أَنْوَاعٌ:
نَوْعٌ يَقَعُ بِعَدَدٍ مَحْصُورٍ كَمَا لَوِ اخْتَلَطَتْ مَيْتَةٌ بِذَكِيَّةٍ أَوْ بِعَشْرٍ مُذَكَّاةٍ أَوِ اخْتَلَطَتْ رَضِيعَةٌ بِعَشْرِ نِسْوَةٍ فَهَذِهِ شُبْهَةٌ يَجِبُ اجْتِنَابُهَا بِالْإِجْمَاعِ لِأَنَّهُ لَا مَجَالَ لِلِاجْتِهَادِ وَالْعَلَامَاتِ فِي هَذَا، وَإِذَا اخْتَلَطَتْ بِعَدَدٍ مَحْصُورٍ صَارَتِ الْجُمْلَةُ كَالشَّيْءِ الْوَاحِدِ فَتَقَابَلَ فِيهِ يَقِينُ التَّحْرِيمِ وَالتَّحْلِيلِ فَضَعُفَ الِاسْتِصْحَابُ، وَجَانِبُ الْحَظْرِ أَغْلَبُ فِي نَظَرِ الشَّرْعِ فَلِذَلِكَ تَرَجَّحَ.
وَنَوْعٌ يَقَعُ فِيهِ حَرَامٌ مَحْصُورٌ بِحَلَالٍ غَيْرِ مَحْصُورٍ كَمَا لَوِ اخْتَلَطَتْ رَضِيعَةٌ أَوْ عَشْرُ رَضَائِعَ بِنِسْوَةِ بَلَدٍ كَبِيرٍ فَلَا يَلْزَمُ بِهَذَا اجْتِنَابُ نِكَاحِ أَهْلِ الْبَلَدِ بَلْ لَهُ أَنْ يَنْكِحَ مَنْ شَاءَ مِنْهُنَّ، وَذَلِكَ لِغَلَبَةِ الْحِلِّ وَالْحَاجَةِ جَمِيعًا، إِذْ كُلُّ مَنْ ضَاعَ لَهُ رَضِيعٌ أَوْ قَرِيبٌ أَوْ مُحَرَّمٌ بِمُصَاهَرَةٍ أَوْ سَبَبٍ مِنَ الْأَسْبَابِ فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُسَدَّ عَلَيْهِ بَابُ نِكَاحٍ، وَكَذَلِكَ مَنْ عَلِمَ أَنَّ مَالَ الدُّنْيَا خَالَطَهُ حَرَامٌ قَطْعًا لَا يَلْزَمُهُ تَرْكُ الشِّرَاءِ وَالْأَكْلِ فَإِنَّ ذَلِكَ حَرَجٍ وَمَا (فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) [الْحَجِّ: 78] ، وَيُعْلَمُ هَذَا بِأَنَّهُ لَمَّا سُرِقَ فِي زَمَانِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِجَنٌّ وَغَلَّ وَاحِدٌ فِي الْغَنِيمَةِ عَبَاءَةً لَمْ يَمْتَنِعْ أَحَدٌ مِنْ شِرَاءِ الْمَجَانِّ وَالْعَبَاءِ فِي الدُّنْيَا، وَكَذَلِكَ كُلُّ مَا سُرِقَ، وَكَذَلِكَ كَانَ يُعْرَفُ أَنَّ فِي النَّاسِ مَنْ يُرَابِي فِي الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ، وَمَا تَرَكَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَلَا النَّاسُ الدَّرَاهِمَ وَالدَّنَانِيرَ بِالْكُلِّيَّةِ.
وَأَمَّا إِذَا اخْتَلَطَ حَرَامٌ لَا يُحْصَرُ بِحَلَالٍ لَا يُحْصَرُ كَحُكْمِ الْأَمْوَالِ فِي زَمَانِنَا هَذَا فَإِنَّهُ لَا يَحْرُمُ بِهَذَا الِاخْتِلَاطِ أَنْ يُتَنَاوَلَ شَيْءٌ بِعَيْنِهِ احْتَمَلَ أَنَّهُ حَرَامٌ وَأَنَّهُ حَلَالٌ إِلَّا أَنْ يَقْتَرِنَ بِتِلْكَ الْعَيْنِ عَلَامَةٌ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مِنَ الْحَرَامِ.
وَقَوْلُ الْقَائِلِ أَكْثَرُ الْأَمْوَالِ حَرَامٌ فِي زَمَانِنَا غَلَطٌ مَنْشَؤُهُ اسْتِكْثَارُ النُّفُوسِ الْفَسَادَ وَاسْتِعْظَامُهَا لَهُ وَإِنْ كَانَ نَادِرًا، حَتَّى رُبَّمَا يَظُنُّ أَنَّ الزِّنَا وَشُرْبَ الْخَمْرِ قَدْ شَاعَ كَمَا شَاعَ الْحَرَامُ فَيَتَخَيَّلُ أَنَّهُمُ الْأَكْثَرُونَ وَهُوَ خَطَأٌ فَإِنَّهُمُ الْأَقَلُّونَ وَإِنْ كَانَ فِيهِمْ كَثْرَةً.
وَبِالْجُمْلَةِ فَالْأَصْلُ الْحِلُّ وَلَا يُرْفَعُ إِلَّا بِعَلَامَةٍ مُعَيَّنَةٍ.