الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أَحَدُهُمَا: قَلْعُ عُرُوقِهِ وَأُصُولِهِ الَّتِي مِنْهَا انْشِعَابُهُ.
وَالثَّانِي: دَفْعُ مَا يَخْطُرُ مِنْهُ فِي الْحَالِ:
الْمَقَامُ الْأَوَّلُ فِي قَلْعِ عُرُوقِهِ وَأُصُولِهِ:
وَأَصْلُهُ حُبُّ الْمَنْزِلَةِ وَالْجَاهِ، وَإِذَا فُصِّلَ رَجَعَ إِلَى ثَلَاثَةِ أُصُولٍ وَهِيَ: حُبُّ لَذَّةِ الْمَحْمَدَةِ، وَالْفِرَارُ مِنْ أَلَمِ الذَّمِّ، وَالطَّمَعُ فِيمَا فِي أَيْدِي النَّاسِ، فَهَذِهِ الثَّلَاثَةُ هِيَ الَّتِي تُحَرِّكُ الْمُرَائِيَ إِلَى الرِّيَاءِ. وَعِلَاجُهُ أَنْ يَعْلَمَ مَضَرَّةَ الرِّيَاءِ وَمَا يَفُوتُهُ مِنْ صَلَاحِ قَلْبِهِ، وَمَا يَحْرُمُ عَنْهُ فِي الْحَالِ مِنَ التَّوْفِيقِ وَفِي الْآخِرَةِ مِنَ الْمَنْزِلَةِ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى، وَمَا يَتَعَرَّضُ لَهُ مِنَ الْعِقَابِ وَالْمَقْتِ الشَّدِيدِ وَالْخِزْيِ الظَّاهِرِ. فَمَهْمَا تَفَكَّرَ الْعَبْدُ فِي هَذَا الْخِزْيِ وَقَابَلَ مَا يَحْصُلُ لَهُ مِنَ الْعِبَادِ وَالتَّزَيُّنِ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا بِمَا يُفَوِّتُهُ فِي الْآخِرَةِ وَبِمَا يُحْبِطُ عَلَيْهِ مِنْ ثَوَابِ الْأَعْمَالِ فَإِنَّهُ يَسْهُلُ عَلَيْهِ قَطْعُ الرَّغْبَةِ عَنْهُ، كَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّ الْعَسَلَ لَذِيذٌ وَلَكِنْ إِذَا بَانَ لَهُ أَنَّ فِيهِ سُمًّا أَعْرَضَ عَنْهُ. ثُمَّ أَيُّ غَرَضٍ لَهُ فِي مَدْحِهِمْ وَإِيثَارِ ذَمِّ اللَّهِ لِأَجْلِ حَمْدِهِمْ، وَلَا يَزِيدُهُ حَمْدُهُمْ رِزْقًا، وَلَا أَجَلًا، وَلَا يَنْفَعُهُ يَوْمَ فَقْرِهِ وَفَاقَتِهِ، وَهُوَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ.
وَأَمَّا الطَّمَعُ فِيمَا فِي أَيْدِيهِمْ فَبِأَنْ يَعْلَمَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى هُوَ الْمُسَخِّرُ لِلْقُلُوبِ بِالْمَنْعِ وَالْإِعْطَاءِ، وَأَنَّ الْخَلْقَ مُضْطَرُّونَ فِيهِ، وَلَا رَازِقَ إِلَّا اللَّهُ، وَمَنْ طَمِعَ فِي الْخَلْقِ لَمْ يَخْلُ مِنَ الذُّلِّ وَالْخَيْبَةِ، وَإِنْ وَصَلَ إِلَى الْمُرَادِ لَمْ يَخْلُ عَنِ الْمِنَّةِ وَالْمَهَانَةِ، فَكَيْفَ يَتْرُكُ مَا عِنْدَ اللَّهِ بِرَجَاءٍ كَاذِبٍ وَوَهْمٍ فَاسِدٍ، وَقَدْ يُصِيبُ وَقَدْ يُخْطِئُ، وَإِذَا أَصَابَ فَلَا تَفِي لَذَّتُهُ بِأَلَمِ مِنَّتِهِ وَمَذَلَّتِهِ، وَأَمَّا ذَمُّهُمْ فَلَمْ يَحْذَرْ مِنْهُ، وَلَا يَزِيدُهُ ذَمُّهُمْ شَيْئًا مَا لَمْ يَكْتُبِ اللَّهُ عَلَيْهِ، وَلَا يُعَجِّلُ أَجَلَهُ، وَلَا يُؤَخِّرُ رِزْقَهُ، وَلَا يَجْعَلُهُ مِنْ أَهْلِ النَّارِ إِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ، وَلَا يُبَغِّضُهُ إِلَى اللَّهِ إِنْ كَانَ مَحْمُودًا عِنْدَ اللَّهِ، فَالْعِبَادُ كُلُّهُمْ عَجَزَةٌ لَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا، وَلَا نَفْعًا، فَإِذَا قُرِّرَ فِي قَلْبِهِ آفَةُ هَذِهِ الْأَسْبَابِ وَضَرَرُهَا فَتَرَتْ رَغْبَتُهُ، وَأَقْبَلَ عَلَى اللَّهِ قَلْبُهُ، وَالْعَاقِلُ لَا يَرْغَبُ فِيمَا يَكْثُرُ ضَرَرُهُ وَيَقِلُّ نَفْعُهُ، فَهَذَا مِنَ الْأَدْوِيَةِ الْعِلْمِيَّةِ الْقَالِعَةِ مَغَارِسَ الرِّيَاءِ. وَأَمَّا الدَّوَاءُ الْعَمَلِيُّ فَهُوَ أَنْ يُعَوِّدَ نَفْسَهُ إِخْفَاءَ الْعِبَادَاتِ وَإِغْلَاقَ الْأَبْوَابِ دُونَهَا كَمَا تُغْلَقُ الْأَبْوَابُ دُونَ الْفَوَاحِشِ فَلَا تُنَازِعُهُ نَفْسُهُ إِلَى طَلَبِ عِلْمِ غَيْرِ اللَّهِ بِهِ.
الْمَقَامُ الثَّانِي فِي دَفْعِ الْعَارِضِ مِنْهُ أَثْنَاءَ الْعِبَادَةِ:
وَذَلِكَ لَا بُدَّ أَيْضًا مِنْ تَعَلُّمِهِ، فَإِنَّ مَنْ جَاهَدَ نَفْسَهُ بِقَلْعِ مَغَارِسِ الرِّيَاءِ وَقَطْعِ الطَّمَعِ وَاسْتِحْقَارِ مَدْحِ الْمَخْلُوقِينَ وَذَمِّهِمْ فَقَدْ لَا يَتْرُكُهُ الشَّيْطَانُ فِي أَثْنَاءِ الْعِبَادَةِ، بَلْ يُعَارِضُهُ بِخَطَرَاتِ الرِّيَاءِ، فَإِذَا خَطَرَ لَهُ مَعْرِفَةُ اطِّلَاعِ الْخَلْقِ دَفَعَ ذَلِكَ بِأَنْ قَالَ: مَا لَكَ وَلِلْخَلْقِ عَلِمُوا أَوْ لَمْ يَعْلَمُوا وَاللَّهُ عَالِمٌ بِحَالِكَ فَأَيُّ فَائِدَةٍ فِي عِلْمِ غَيْرِهِ، فَإِنْ هَاجَتِ الرَّغْبَةُ إِلَى لَذَّةِ الْحَمْدِ ذَكَرَ مَا رَسَخَ فِي قَلْبِهِ مِنْ قَبْلُ مِنْ آفَةِ الرِّيَاءِ وَتَعَرُّضِهِ لِلْمَقْتِ الْإِلَهِيِّ وَخُسْرَانِهِ الْأُخْرَوِيِّ.
بَيَانُ الرُّخْصَةِ فِي قَصْدِ إِظْهَارِ الطَّاعَاتِ:
اعْلَمْ أَنَّ فِي إِسْرَارِ الْأَعْمَالِ فَائِدَةَ الْإِخْلَاصِ وَالنَّجَاةَ مِنَ الرِّيَاءِ، وَفِي الْإِظْهَارِ فَائِدَةَ الِاقْتِدَاءِ وَتَرْغِيبَ النَّاسِ فِي الْخَيْرِ وَلَكِنْ فِيهِ آفَةُ الرِّيَاءِ، قَالَ «الحسن» :«إِنَّ السِّرَّ أَحْرَزُ الْعَمَلَيْنِ» .
وَلَكِنْ فِي الْإِظْهَارِ أَيْضًا فَائِدَةٌ، وَلِذَلِكَ أَثْنَى اللَّهُ تَعَالَى عَلَى السِّرِّ وَالْعَلَانِيَةِ فَقَالَ:(إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ)[الْبَقَرَةِ: 271] . وَالْإِظْهَارُ قِسْمَانِ:
أَحَدُهُمَا: فِي نَفْسِ الْعَمَلِ، وَالْآخَرُ: بِالتَّحَدُّثِ بِمَا عَمِلَ.
الْقِسْمُ الْأَوَّلُ: إِظْهَارُ نَفْسِ الْعَمَلِ كَالصَّدَقَةِ فِي الْمَلَأِ لِتَرْغِيبِ النَّاسِ فِيهَا، كَمَا رُوِيَ عَنِ الْأَنْصَارِيِّ الَّذِي جَاءَ بِالصُّرَّةِ فَتَتَابَعَ النَّاسُ بِالْعَطِيَّةِ لَمَّا رَأَوْهُ فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:«مَنْ سَنَّ سُنَّةً فَعَمِلَ بِهَا كَانَ لَهُ أَجْرُهَا وَأَجْرُ مَنِ اتَّبَعَهُ» وَتَجْرِي سَائِرُ الْأَعْمَالِ هَذَا الْمَجْرَى مِنَ الصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ وَالْحَجِّ وَالْغَزْوِ وَغَيْرِهِ، وَلَكِنَّ الِاقْتِدَاءَ فِي الصَّدَقَةِ عَلَى الطِّبَاعِ أَغْلَبُ، فَالسِّرُّ أَفْضَلُ مِنْ عَلَانِيَةٍ لَا قُدْوَةَ فِيهَا، أَمَّا الْعَلَانِيَةُ لِلْقُدْوَةِ فَأَفْضَلُ مِنَ السِّرِّ، وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ عز وجل أَمَرَ الْأَنْبِيَاءَ بِإِظْهَارِ الْعَمَلِ لِلِاقْتِدَاءِ، وَقَوْلُهُ عليه السلام:«لَهُ أَجْرُهَا وَأَجْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا» ، وَلَكِنْ عَلَى مَنْ يُظْهِرُ الْعَمَلَ وَظِيفَتَانِ:
إِحْدَاهُمَا: أَنْ يُظْهِرَهُ حَيْثُ يَعْلَمُ أَنْ يُقْتَدَى بِهِ أَوْ يَظُنُّ ظَنًّا، وَرُبَّ رَجُلٍ يَقْتَدِي بِهِ أَهْلُهُ دُونَ جِيرَانِهِ، وَرُبَّمَا يَقْتَدِي بِهِ جِيرَانُهُ دُونَ أَهْلِ السُّوقِ، وَرُبَّمَا يَقْتَدِي بِهِ أَهْلُ مَحَلَّتِهِ، وَإِنَّمَا الْعَالِمُ الْمَعْرُوفُ هُوَ الَّذِي يَقْتَدِي بِهِ النَّاسُ كَافَّةً، فَغَيْرُ الْعَالِمِ إِذَا أَظْهَرَ بَعْضَ الطَّاعَاتِ رُبَّمَا نُسِبَ إِلَى الرِّيَاءِ وَالنِّفَاقِ وَذَمُّوهُ وَلَمْ يَقْتَدُوا بِهِ فَلَيْسَ لَهُ الْإِظْهَارُ مِنْ غَيْرِ فَائِدَةٍ، وَإِنَّمَا يَصِحُّ الْإِظْهَارُ بِنِيَّةِ الْقُدْوَةِ مِمَّنْ هُوَ فِي مَحَلِّ الْقُدْوَةِ عَلَى مَنْ هُوَ فِي مَحَلِّ الِاقْتِدَاءِ بِهِ.
الثَّانِيَةُ: أَنْ يُرَاقِبَ قَلْبَهُ فَإِنَّهُ رُبَّمَا يَكُونُ فِيهِ حُبُّ الرِّيَاءِ الْخَفِيِّ فَيَدْعُوهُ إِلَى الْإِظْهَارِ بِعُذْرِ الِاقْتِدَاءِ وَإِنَّمَا شَهْوَتُهُ التَّجَمُّلُ بِالْعَمَلِ، وَبِكَوْنِهِ مُقْتَدًى بِهِ، فَلْيَحْذَرِ الْعَبْدُ خِدْعَ النَّفْسِ، فَإِنَّ النَّفْسَ خَدُوعٌ، وَالشَّيْطَانَ مُتَرَصِّدٌ، وَحُبَّ الْجَاهِ عَلَى الْقَلْبِ غَالِبٌ.
وَقَلَّمَا تَسْلَمُ الْأَعْمَالُ الظَّاهِرَةُ عَنِ الْآفَاتِ، فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَعْدِلَ بِالسَّلَامَةِ شَيْئًا، وَالسَّلَامَةُ فِي الْإِخْفَاءِ، وَفِي الْإِظْهَارِ مِنَ الْأَخْطَارِ مَا لَا يَقْوَى عَلَيْهِ أَمْثَالُنَا، فَالْحَذَرُ مِنَ الْإِظْهَارِ أَوْلَى بِنَا وَبِجَمِيعِ الضُّعَفَاءِ.
الْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يَتَحَدَّثَ بِمَا فَعَلَهُ بَعْدَ الْفَرَاغِ، وَحُكْمُهُ حُكْمُ إِظْهَارِ الْعَمَلِ نَفْسِهِ، وَالْخَطَرُ فِي هَذَا أَشُدُّ ; لِأَنَّ مُؤْنَةَ النُّطْقِ خَفِيفَةٌ عَلَى اللِّسَانِ، وَقَدْ تَجْرِي فِي الْحِكَايَةِ زِيَادَةٌ وَمُبَالَغَةٌ، وَلِلنَّفْسِ لَذَّةٌ فِي إِظْهَارِ الدَّعَاوَى عَظِيمَةٌ إِلَّا أَنَّهُ لَوْ تَطَرَّقَ إِلَيْهِ الرِّيَاءُ لَمْ يُؤَثِّرْ فِي إِفْسَادِ الْعِبَادَةِ الْمَاضِيَةِ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْهَا فَهُوَ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ أَهْوَنُ، وَالْحُكْمُ فِيهِ أَنَّ مَنْ قَوِيَ قَلَبُهُ وَتَمَّ إِخْلَاصُهُ وَصَغُرَ النَّاسُ فِي عَيْنِهِ وَاسْتَوَى عِنْدَهُ مَدْحُهُمْ وَذَمُّهُمْ وَذِكْرُ ذَلِكَ عِنْدَ مَنْ يَرْجُو الِاقْتِدَاءَ بِهِ وَالرَّغْبَةَ فِي الْخَيْرِ بِسَبَبِهِ فَهُوَ جَائِزٌ، بَلْ مَنْدُوبٌ إِلَيْهِ إِنْ صَفَتِ النِّيَّةُ وَسَلِمَتْ عَنْ جَمِيعِ الْآفَاتِ ; لِأَنَّهُ تَرْغِيبٌ فِي الْخَيْرِ، وَالتَّرْغِيبُ فِي الْخَيْرِ خَيْرٌ، وَقَدْ نُقِلَ مِثْلُ ذَلِكَ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ السَّلَفِ الْأَقْوِيَاءِ.