الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الْقِسْمُ الثَّالِثُ: وَهُوَ مُتَوَسِّطٌ بَيْنَ الطَّرَفَيْنِ: كُلُّ حَظٍّ عَاجِلٍ مُعِينٍ عَلَى أَعْمَالِ الْآخِرَةِ، وَهُوَ مَا لَا بُدَّ مِنْهُ لِيَتَأَتَّى لِلْإِنْسَانِ الْبَقَاءُ وَالصِّحَّةُ الَّتِي بِهَا يَصِلُ إِلَى الْعِلْمِ وَالْعَمَلِ، وَهَذَا لَيْسَ مِنَ الدُّنْيَا كَالْقِسْمِ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّهُ مُعِينٌ عَلَى الْأَوَّلِ وَوَسِيلَةٌ إِلَيْهِ، فَمَهْمَا تَنَاوَلَهُ الْعَبْدُ عَلَى قَصْدِ الِاسْتِعَانَةِ بِهِ عَلَى الْعِلْمِ وَالْعَمَلِ لَمْ يَكُنْ بِهِ مُتَنَاوِلًا لِلدُّنْيَا، وَلَمْ يَصِرْ بِهِ مِنْ أَبْنَاءِ الدُّنْيَا، وَكَانَتِ الدُّنْيَا فِي حَقِّهِ مَزْرَعَةً لِلْآخِرَةِ، وَإِنْ أَخَذَ ذَلِكَ بِقَصْدِ حَظِّ النَّفْسِ فَهُوَ مِنَ الدُّنْيَا. فَإِذَنِ الدُّنْيَا: حَظُّ نَفْسِكَ الْعَاجِلُ الَّذِي لَا حَاجَةَ إِلَيْهِ لِأَمْرِ الْآخِرَةِ، وَيُعَبَّرُ عَنْهُ بِالْهَوَى، وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى:(وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى)[النَّازِعَاتِ: 40، 41] وَمَجَامِعُ الْهَوَى خَمْسَةُ أُمُورٍ، وَهِيَ مَا جَمَعَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي قَوْلِهِ:(أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ)[الْحَدِيدِ: 20] .
وَالْأَعْيَانُ الَّتِي تَحْصُلُ مِنْهَا هَذِهِ الْخَمْسَةُ سَبْعَةٌ، يَجْمَعُهَا قَوْلُهُ تَعَالَى:(زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا)[آلِ عِمْرَانَ: 14] وَبِالْجُمْلَةِ فَكُلُّ مَا لَيْسَ لِلَّهِ فَهُوَ مِنَ الدُّنْيَا، وَمَا هُوَ لِلَّهِ فَذَلِكَ لَيْسَ مِنَ الدُّنْيَا.
بَيَانُ حَقِيقَةِ الدُّنْيَا فِي نَفْسِهَا
اعْلَمْ أَنَّ الدُّنْيَا عِبَارَةٌ عَنْ أَعْيَانٍ مَوْجُودَةٍ لِلْإِنْسَانِ فِيهَا حَظٌّ وَلَهُ فِي إِصْلَاحِهَا شُغْلٌ، وَإِنَّمَا الْأَعْيَانُ الْمَوْجُودَةُ الَّتِي لَدَيْنَا عِبَارَةٌ عَنْهَا، فَهِيَ الْأَرْضُ وَمَا عَلَيْهَا، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:(إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا)[الْكَهْفِ: 7] فَالْأَرْضُ فِرَاشٌ لِلْآدَمِيِّينَ وَمِهَادٌ وَمَسْكَنٌ وَمُسْتَقَرٌّ، وَمَا عَلَيْهَا لَهُمْ مَلْبَسٌ وَمَطْعَمٌ وَمَشْرَبٌ وَمَنْكَحٌ، وَيَجْمَعُ مَا عَلَى الْأَرْضِ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ: الْمَعَادِنُ وَالنَّبَاتُ وَالْحَيَوَانُ.
أَمَّا النَّبَاتُ: فَيَطْلُبُهُ الْآدَمِيُّ لِلِاقْتِيَاتِ وَالتَّدَاوِي.
وَأَمَّا الْمَعَادِنُ: فَيَطْلُبُهَا لِلْآلَاتِ وَالْأَوَانِي، كَالنُّحَاسِ وَالرَّصَاصِ، وَلِلنَّقْدِ كَالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، وَلِغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْمَقَاصِدِ.
وَأَمَّا الْحَيَوَانُ: فَيَنْقَسِمُ إِلَى الْإِنْسَانِ وَالْبَهَائِمِ، أَمَّا الْبَهَائِمُ فَيَطْلُبُ مِنْهَا لُحُومَهَا لِلْمَآكِلِ، وَظُهُورَهَا لِلْمَرْكَبِ وَالزِّينَةِ، وَأَمَّا الْإِنْسَانُ فَقَدْ يَطْلُبُ الْآدَمِيَّ لِيُسْتَخْدَمَ كَالْغِلْمَانِ، أَوْ لِيَتَمَتَّعَ بِهِ كَالْجَوَارِي وَالنِّسْوَانِ، وَيَطْلُبُ قُلُوبَ النَّاسِ لِيَمْلِكَهَا بِأَنْ يَغْرِسَ فِيهَا التَّعْظِيمَ وَالْإِكْرَامَ، وَهُوَ الَّذِي يُعَبَّرُ عَنْهُ بِالْجَاهِ، إِذْ مَعْنَى الْجَاهِ مِلْكُ قُلُوبِ الْآدَمِيِّينَ، فَهَذِهِ هِيَ الْأَعْيَانُ الَّتِي يُعَبَّرُ عَنْهَا بِالدُّنْيَا، وَقَدْ جَمَعَهَا اللَّهُ تَعَالَى فِي قَوْلِهِ:(زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ) وَهَذَا مِنَ الْإِنْسِ، (وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ) وَهَذَا مِنَ الْجَوَاهِرِ وَالْمَعَادِنِ، وَفِيهِ تَنْبِيهٌ عَلَى غَيْرِهَا مِنَ اللَّآلِئِ وَالْيَوَاقِيتِ وَغَيْرِهَا، (وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ) وَهِيَ الْبَهَائِمُ وَالْحَيَوَانُ، (وَالْحَرْثِ) وَهُوَ النَّبَاتُ وَالزَّرْعُ، فَهَذِهِ هِيَ أَعْيَانُ الدُّنْيَا، إِلَّا أَنَّ لَهَا مَعَ الْعَبْدِ
عَلَاقَتَيْنِ: عَلَاقَةٌ مَعَ الْقَلْبِ، وَهُوَ حُبُّهُ لَهَا، وَحَظُّهُ مِنْهَا، وَانْصِرَافُ هَمِّهِ إِلَيْهَا، حَتَّى يَصِيرَ قَلْبُهُ كَالْعَبْدِ أَوِ الْمُحِبِّ الْمُسْتَهْتِرِ بِالدُّنْيَا، وَيَدْخُلُ فِي هَذِهِ الْعَلَاقَةِ جَمِيعُ صِفَاتِ الْقَلْبِ الْمُعَلَّقِ بِالدُّنْيَا، كَالْكِبْرِ، وَالْغِلِّ، وَالْحَسَدِ، وَالرِّيَاءِ، وَالسُّمْعَةِ، وَسُوءِ الظَّنِّ، وَالْمُدَاهَنَةِ، وَحُبِّ الثَّنَاءِ، وَحُبِّ التَّكَاثُرِ وَالتَّفَاخُرِ، وَهَذِهِ هِيَ الدُّنْيَا الْبَاطِنَةُ، وَأَمَّا الظَّاهِرَةُ فَهِيَ كَالْأَعْيَانِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا.
الْعَلَاقَةُ الثَّانِيَةُ مَعَ الْبَدَنِ، وَهُوَ اشْتِغَالُهُ بِإِصْلَاحِ هَذِهِ الْأَعْيَانِ؛ لِتَصْلُحَ لِحُظُوظِهِ وَحُظُوظِ غَيْرِهِ، وَهِيَ جُمْلَةُ الصِّنَاعَاتِ وَالْحِرَفِ الَّتِي الْخَلْقُ مَشْغُولُونَ بِهَا. وَالْخَلْقُ إِنَّمَا نَسُوا أَنْفُسَهُمْ وَمَآبَهُمْ وَمُنْقَلَبَهُمْ بِالدُّنْيَا لِهَاتَيْنِ الْعَلَاقَتَيْنِ: عَلَاقَةِ الْقَلْبِ بِالْحُبِّ، وَعَلَاقَةِ الْبَدَنِ بِالشُّغْلِ، وَلَوْ عَرَفَ نَفْسَهُ، وَعَرَفَ رَبَّهُ، وَعَرَفَ حِكْمَةَ الدُّنْيَا وَسِرَّهَا - عَلِمَ أَنَّ هَذِهِ الْأَعْيَانَ الَّتِي سَمَّيْنَاهَا دُنْيَا لَمْ تُخْلَقْ إِلَّا لِقَوَامِهِ؛ لِيَتَقَوَّى بِهَا عَلَى إِصْلَاحِ دِينِهِ، حَتَّى إِذَا فَرَغَ الْقَلْبُ مِنْ شُغْلِ الْبَدَنِ أَقْبَلَ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى بِكُنْهِ هِمَّتِهِ، وَبَقِيَ مُلَازِمًا لِسِيَاسَةِ الشَّهَوَاتِ وَمُرَاقِبًا لَهَا، حَتَّى لَا يُجَاوِزَ حُدُودَ الْوَرَعِ وَالتَّقْوَى، وَلَا يُعْلَمُ تَفْصِيلُ ذَلِكَ إِلَّا بِالِاقْتِدَاءِ بِالْفِرْقَةِ النَّاجِيَةِ، وَهُمُ الصَّحَابَةُ، فَقَدْ كَانُوا عَلَى الْمَنْهَجِ الْقَصْدِ، وَعَلَى السَّبِيلِ الْوَاضِحِ، فَإِنَّهُمْ مَا كَانُوا يَأْخُذُونَ الدُّنْيَا لِلدُّنْيَا، بَلْ لِلدِّينِ، وَمَا كَانُوا يَتَرَهَّبُونَ وَيَهْجُرُونَ الدُّنْيَا بِالْكُلِّيَّةِ، وَمَا كَانَ لَهُمْ فِي الْأُمُورِ تَفْرِيطٌ وَلَا إِفْرَاطٌ، بَلْ كَانَ أَمْرُهُمْ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا، وَذَلِكَ هُوَ الْعَدْلُ وَالْوَسَطُ بَيْنَ الطَّرَفَيْنِ، وَهُوَ أَحَبُّ الْأُمُورِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى.