الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
هَذَا الْجَاهِلُ الْمَغْرُورُ أَنَّهُ أَكْرَمُ عَلَى اللَّهِ مِنْ أَنْبِيَائِهِ، وَأَنَّهُ قَدِ انْتَقَمَ لَهُ بِمَا لَمْ يَنْتَقِمْ لِأَنْبِيَائِهِ بِهِ، وَلَعَلَّهُ فِي مَقْتِ اللَّهِ بِإِعْجَابِهِ وَكِبْرِهِ، وَهُوَ غَافِلٌ عَنْ هَلَاكِ نَفْسِهِ، فَهَذِهِ عَقِيدَةُ الْمُغْتَرِّينَ، وَأَمَّا الْأَكْيَاسُ مِنَ الْعِبَادِ فَيَقُولُونَ مَا كَانَ يَقُولُهُ السَّلَفُ بَعْدَ انْصِرَافِهِ مِنْ عَرَفَاتٍ:«كُنْتُ أَرْجُو الرَّحْمَةَ لِجَمِيعِهِمْ لَوْلَا كَوْنِي فِيهِمْ» فَانْظُرْ إِلَى الْفَرْقِ بَيْنَ الرَّجُلَيْنِ: هَذَا يَتَّقِي اللَّهَ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا، وَهُوَ وَجِلٌ عَلَى نَفْسِهِ مُزْدَرٍ لِعَمَلِهِ، وَذَاكَ يُضْمِرُ مِنَ الرِّيَاءِ وَالْكِبْرِ وَالْغِلِّ مَا هُوَ ضُحَكَةٌ لِلشَّيْطَانِ بِهِ، ثُمَّ إِنَّهُ يَمْتَنُّ عَلَى اللَّهِ بِعَمَلِهِ.
وَمِنْ آثَارِ الْكِبْرِ فِي الْعَابِدِ أَنْ يَعْبَسَ وَجْهُهُ كَأَنَّهُ مُتَنَزِّهٌ عَنِ النَّاسِ مُسْتَقْذِرٌ لَهُمْ، وَلَيْسَ يَعْلَمُ الْمِسْكِينُ أَنَّ الْوَرَعَ لَيْسَ فِي الْجَبْهَةِ حَتَّى تُقْطَبَ، وَلَا فِي الرَّقَبَةِ حَتَّى تُطَأْطَأَ، وَلَا فِي الذَّيْلِ حَتَّى يُضَمَّ، إِنَّمَا الْوَرَعُ فِي الْقُلُوبِ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:«التَّقْوَى هَاهُنَا» وَأَشَارَ إِلَى صَدْرِهِ، فَقَدْ كَانَ صلى الله عليه وسلم أَكْرَمَ الْخَلْقِ وَأَتْقَاهُمْ، وَكَانَ أَوْسَعَهُمْ خُلُقًا وَأَكْثَرَهُمْ بِشْرًا وَتَبَسُّمًا وَانْبِسَاطًا كَمَا قَالَ تَعَالَى:(وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ)[الشُّعَرَاءِ: 215] .
الثَّالِثُ: التَّكَبُّرُ بِالْحَسَبِ وَالنَّسَبِ
، فَالَّذِي لَهُ نَسَبٌ شَرِيفٌ يَسْتَحْقِرُ مَنْ لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ النَّسَبُ وَإِنْ كَانَ أَرْفَعَ مِنْهُ عَمَلًا وَعِلْمًا، وَقَدْ يَتَكَبَّرُ بَعْضُهُمْ فَيَأْنَفُ مِنْ مُخَالَطَةِ النَّاسِ وَمُجَالَسَتِهِمْ، وَقَدْ يَجْرِي عَلَى لِسَانِهِ التَّفَاخُرُ بِهِ فَيَقُولُ لِغَيْرِهِ: مَنْ أَنْتَ وَمَنْ أَبُوكَ فَأَنَا فُلَانٌ ابْنُ فُلَانٍ، وَمَعَ مِثْلِي تَتَكَلَّمُ! .
وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ «أبا ذر» رضي الله عنه قَالَ: «قَاوَلْتُ رَجُلًا عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقُلْتُ لَهُ: يَا ابْنَ السَّوْدَاءِ، فَغَضِبَ صلى الله عليه وسلم وَقَالَ:» يَا أبا ذر، لَيْسَ لِابْنِ الْبَيْضَاءِ عَلَى ابْنِ السَّوْدَاءِ فَضْلٌ «فَقَالَ» أبو ذر «: فَاضْطَجَعْتُ وَقُلْتُ لِلرَّجُلِ: قُمْ فَطَأْ عَلَى خَدِّي» .
فَانْظُرْ كَيْفَ نَبَّهَهُ صلى الله عليه وسلم عَلَى أَنَّ ذَلِكَ جَهْلٌ، وَانْظُرْ كَيْفَ تَابَ وَقَلَعَ مِنْ نَفْسِهِ شَجَرَةَ الْكِبْرِ إِذْ عَرَفَ أَنَّ الْعِزَّ لَا يَقْمَعُهُ إِلَّا الذُّلُّ.
الرَّابِعُ: التَّفَاخُرُ بِالْجَمَالِ
، وَذَلِكَ أَكْثَرُ مَا يَجْرِي بَيْنَ النِّسَاءِ وَيَدْعُو ذَلِكَ إِلَى التَّنَقُّصِ وَالثَّلْبِ وَالْغِيبَةِ وَذِكْرِ عُيُوبِ النَّاسِ.
الْخَامِسُ: الْكِبْرُ بِالْمَالِ
وَذَلِكَ يَجْرِي بَيْنَ الْأُمَرَاءِ وَالتُّجَّارِ فِي لِبَاسِهِمْ وَخُيُولِهِمْ وَمَرَاكِبِهِمْ فَيَسْتَحْقِرُ الْغَنِيُّ الْفَقِيرَ وَيَتَكَبَّرُ عَلَيْهِ، وَكُلُّ ذَلِكَ جَهْلٌ بِفَضِيلَةِ الْفَقْرِ وَآفَةِ الْغِنَى.
السَّادِسُ: الْكِبْرُ بِالْقُوَّةِ وَشِدَّةِ الْبَطْشِ
وَالتَّكَبُّرِ بِهِ عَلَى أَهْلِ الضَّعْفِ.
السَّابِعُ: التَّكَبُّرُ بِالْأَتْبَاعِ وَالْأَنْصَارِ وَالْعَشِيرَةِ وَالْأَقَارِبِ
.
فَهَذِهِ مَجَامِعُ مَا يَتَكَبَّرُ بِهِ الْعِبَادُ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ.
نَسْأَلُهُ تَعَالَى الْعَوْنَ بِلُطْفِهِ وَرَحْمَتِهِ.
بَيَانُ أَخْلَاقِ الْمُتَوَاضِعِينَ وَمَجَامِعِ مَا يَظْهَرُ فِيهِ أَثَرُ التَّوَاضُعِ وَالتَّكَبُّرِ:
اعْلَمْ أَنَّ التَّكَبُّرَ يَظْهَرُ فِي شَمَائِلِ الرَّجُلِ كَصَعَرٍ فِي وَجْهِهِ وَنَظَرِهِ شَزْرًا وَإِطْرَاقِهِ رَأْسَهُ وَجُلُوسِهِ مُتَرَبِّعًا أَوْ مُتَّكِئًا، وَفِي أَقْوَالِهِ حَتَّى فِي صَوْتِهِ وَنَغَمَتِهِ وَصِيغَتِهِ فِي الْإِيرَادِ، وَيَظْهَرُ فِي مِشْيَتِهِ وَتَبَخْتُرِهِ وَقِيَامِهِ وَجُلُوسِهِ وَحَرَكَاتِهِ وَسَكَنَاتِهِ. فَمِنَ الْمُتَكَبِّرِينَ مَنْ يَجْمَعُ ذَلِكَ كُلَّهُ، وَمِنْهُمْ
مَنْ يَتَكَبَّرُ فِي بَعْضٍ وَيَتَوَاضَعُ فِي بَعْضٍ، فَمِنْهَا التَّكَبُّرُ بِأَنْ يُحِبَّ قِيَامَ النَّاسِ لَهُ أَوْ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَمِنْهَا أَنْ لَا يَمْشِيَ إِلَّا وَمَعَهُ غَيْرُهُ يَمْشِي خَلْفَهُ، وَمِنْهَا أَنْ لَا يَزُورَ غَيْرَهُ وَإِنْ كَانَ يَحْصُلُ مِنْ زِيَارَتِهِ خَيْرٌ لِغَيْرِهِ فِي الدِّينِ، وَهُوَ ضِدُّ التَّوَاضُعِ، وَمِنْهَا أَنْ يَسْتَنْكِفَ مِنْ جُلُوسِ غَيْرِهِ بِالْقُرْبِ مِنْهُ إِلَّا أَنْ يَجْلِسَ بَيْنَ يَدَيْهِ وَالتَّوَاضُعُ خِلَافُهُ، وَمِنْهَا أَنْ لَا يَتَعَاطَى بِيَدِهِ شُغْلًا فِي بَيْتِهِ وَالتَّوَاضُعُ خِلَافُهُ.
رُوِيَ أَنَّ «عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ» أَتَاهُ لَيْلَةً ضَيْفٌ وَكَانَ يَكْتُبُ فَكَادَ السِّرَاجُ يُطْفَأُ، فَقَالَ الضَّيْفُ: أَقُومُ إِلَى الْمِصْبَاحِ فَأُصْلِحُهُ؟ فَقَالَ: لَيْسَ مِنْ كَرَمِ الرَّجُلِ أَنْ يَسْتَخْدِمَ ضَيْفَهُ، قَالَ: أَفَأُنَبِّهُ الْغُلَامَ؟ فَقَالَ: هِيَ أَوَّلُ نَوْمَةٍ نَامَهَا، فَقَامَ وَمَلَأَ الْمِصْبَاحَ زَيْتًا، فَقَالَ الضَّيْفُ: قُمْتَ أَنْتَ بِنَفْسِكَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ؟ فَقَالَ: ذَهَبْتُ وَأَنَا عمر، وَرَجَعْتُ وَأَنَا عمر مَا نَقَصَ مِنِّي شَيْءٌ، وَخَيْرُ النَّاسِ مَنْ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ مُتَوَاضِعًا.
وَمِنْهَا أَنْ لَا يَأْخُذَ مَتَاعَهُ وَيَحْمِلَهُ إِلَى بَيْتِهِ، وَهُوَ خِلَافُ عَادَةِ الْمُتَوَاضِعِينَ، كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَفْعَلُ ذَلِكَ، وَقَالَ «علي» :«لَا يُنْقِصُ الرَّجُلَ الْكَامِلَ مِنْ كَمَالِهِ مَا حَمَلَ مِنْ شَيْءٍ إِلَى عِيَالِهِ» ، وَمِنْهَا اللِّبَاسُ إِذْ يَظْهَرُ بِهِ التَّكَبُّرُ وَالتَّوَاضُعُ، وَعَلَامَةُ الْمُتَكَبِّرِ فِيهِ حِرْصُهُ عَلَى التَّزَيُّنِ لِلنَّاسِ لِلشُّهْرَةِ وَالْمَخِيلَةِ، وَأَمَّا طَلَبُ التَّجَمُّلِ لِذَاتِهِ فِي غَيْرِ سَرَفٍ وَلَا مَخِيلَةٍ فَلَيْسَ مِنَ الْكِبْرِ، وَالْمَحْبُوبُ الْوَسَطُ مِنَ اللِّبَاسِ الَّذِي لَا يُوجِبُ شُهْرَةً بِالْجَوْدَةِ، وَلَا بِالرَّدَاءَةِ، وَقَدْ قَالَ صلى الله عليه وسلم:«كُلُوا وَاشْرَبُوا وَالْبَسُوا وَتَصَدَّقُوا فِي غَيْرِ سَرَفٍ، وَلَا مَخِيلَةٍ، إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ أَنْ يَرَى أَثَرَ نِعْمَتِهِ عَلَى عَبْدِهِ» ، وَمِنْهَا أَنْ يَتَوَاضَعَ بِالِاحْتِمَالِ إِذَا سُبَّ وَأُوذِيَ وَأُخِذَ حَقُّهُ، فَذَلِكَ هُوَ الْأَصْلُ.
وَبِالْجُمْلَةِ فَمَجَامِعُ حُسْنِ الْأَخْلَاقِ وَالتَّوَاضُعِ سِيرَةُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِيهِ: فَيَنْبَغِي أَنْ يُقْتَدَى بِهِ، وَمِنْهُ يَنْبَغِي أَنْ يُتَعَلَّمَ.
وَقَدْ قَالَ «ابن أبي سلمة» : قُلْتُ لِأَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ: مَا تَرَى فِيمَا أَحْدَثَ النَّاسُ مِنَ الْمَلْبَسِ وَالْمَشْرَبِ وَالْمَرْكَبِ وَالْمَطْعَمِ؟ فَقَالَ: يَا ابْنَ أَخِي كُلْ لِلَّهِ، وَاشْرَبْ لِلَّهِ، وَالْبَسْ لِلَّهِ، وَكُلُّ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ دَخَلَهُ زَهْوٌ أَوْ مُبَاهَاةٌ أَوْ رِيَاءٌ أَوْ سُمْعَةٌ فَهُوَ مَعْصِيَةٌ وَسَرَفٌ، وَعَالِجْ فِي بَيْتِكَ مِنَ الْخِدْمَةِ مَا كَانَ يُعَالِجُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي بَيْتِهِ: كَانَ يَحْلِبُ الشَّاةَ، وَيَخْصِفُ النَّعْلَ، وَيُرَقِّعُ الثَّوْبَ، وَيَأْكُلُ مَعَ خَادِمِهِ، وَيَشْتَرِي الشَّيْءَ مِنَ السُّوقِ، وَلَا يَمْنَعُهُ الْحَيَاءُ أَنْ يُعَلِّقَهُ بِيَدِهِ، يُصَافِحُ الْغَنِيَّ وَالْفَقِيرَ، وَيُسَلِّمُ مُبْتَدِئًا عَلَى كُلِّ مَنِ اسْتَقْبَلَهُ مِنْ صَغِيرٍ أَوْ كَبِيرٍ، يُجِيبُ إِذَا دُعِيَ، وَلَا يُحَقِّرُ مَا دُعِيَ إِلَيْهِ، لَيِّنُ الْخُلُقِ، جَمِيلُ الْمُعَاشَرَةِ، طَلِيقُ الْوَجْهِ، شَدِيدٌ فِي غَيْرِ عُنْفٍ، مُتَوَاضِعٌ فِي