الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
هَذَا سَائِرَ التَّقْدِيرَاتِ حَتَّى فِي الذَّرْعِ الَّذِي يَتَعَاطَاهُ الْبَزَّازُ فَإِنَّهُ إِذَا اشْتَرَى أَرْسَلَ الثَّوْبَ فِي وَقْتِ الذَّرْعِ وَلَمْ يَمُدَّهُ مَدًّا، وَإِذْ بَاعَهُ مَدَّهُ فِي الذَّرْعِ لِيُظْهِرَ تَفَاوُتًا فِي الْقَدْرِ، فَكُلُّ ذَلِكَ مِنَ التَّطْفِيفِ الْمُعَرِّضِ صَاحِبَهُ لِلْوَيْلِ.
الرَّابِعُ: أَنْ يَصْدُقَ فِي سِعْرِ الْوَقْتِ وَلَا يُخْفِيَ مِنْهُ شَيْئًا فَقَدْ نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ تَلَقِّي الرُّكْبَانِ وَنَهَى عَنِ النَّجْشِ ; أَمَّا تَلَقِّي الرُّكْبَانِ فَهُوَ أَنْ يَسْتَقْبِلَ الرُّفْقَةَ وَيَتَلَقَّى الْمَتَاعَ وَيَكْذِبَ فِي سِعْرِ الْبَلَدِ فَقَدْ قَالَ صلى الله عليه وسلم: لَا تَتَلَقَّوُا الرُّكْبَانَ وَمَنْ تَلَقَّاهَا فَصَاحِبُ السِّلْعَةِ بِالْخِيَارِ بَعْدَ أَنْ يَقْدَمَ السُّوقَ.
وَنَهَى أَيْضًا أَنْ يَبِيعَ حَاضِرٌ لِبَادٍ وَهُوَ أَنْ يَقْدَمَ الْبَدَوِيُّ الْبَلَدَ وَمَعَهُ قُوتٌ يُرِيدُ أَنْ يَتَسَارَعَ إِلَى بَيْعِهِ فَيَقُولَ لَهُ الْحَضَرِيُّ: " اتْرُكْهُ عِنْدِي حَتَّى أُغَالِيَ فِي ثَمَنِهِ وَأَنْتَظِرَ ارْتِفَاعَ سِعْرِهِ ".
وَنَهَى أَيْضًا عَنِ النَّجْشِ وَهُوَ أَنْ يَتَقَدَّمَ إِلَى الْبَائِعِ بَيْنَ يَدَيِ الرَّاغِبِ الْمُشْتَرِي وَيَطْلُبَ السِّلْعَةَ بِزِيَادَةٍ وَهُوَ لَا يُرِيدُهَا وَإِنَّمَا يُرِيدُ تَحْرِيكَ رَغْبَةِ الْمُشْتَرِي فِيهَا.
فَهَذِهِ الْمَنَاهِي تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُلَبِّسَ عَلَى الْبَائِعِ وَالْمُشْتَرِي فِي سِعْرِ الْوَقْتِ وَيَكْتُمَ مِنْهُ أَمْرًا لَوْ عَلِمَهُ لَمَا أَقْدَمَ عَلَى الْعَقْدِ، فَفِعْلُ هَذَا مِنَ الْغِشِّ الْحَرَامِ الْمُضَادِّ لِلنُّصْحِ الْوَاجِبِ، وَمِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَغْتَنِمَ فُرْصَةً وَيَنْتَهِزَ غَفْلَةَ صَاحِبِ الْمَتَاعِ وَيُخْفِيَ مِنَ الْبَائِعِ غَلَاءَ السِّعْرِ أَوْ مِنَ الْمُشْتَرِي تَرَاجُعَ الْأَسْعَارِ، فَإِنْ فَعَلَ ذَلِكَ كَانَ ظَالِمًا تَارِكًا لِلْعَدْلِ وَالنُّصْحِ لِلْمُسْلِمِينَ.
وَمَهْمَا بَاعَ مُرَابَحَةً بِأَنْ يَقُولَ: بِعْتُ بِمَا قَامَ عَلَيَّ أَوْ بِمَا اشْتَرَيْتُهُ فَعَلَيْهِ أَنْ يَصْدُقَ، ثُمَّ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُخْبِرَ بِمَا حَدَثَ بَعْدَ الْعَقْدِ مِنْ عَيْبٍ أَوْ نُقْصَانٍ.
الْإِحْسَانُ فِي الْمُعَامَلَةِ:
قَدْ أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ جَمِيعًا، وَالْعَدْلُ سَبَبُ النَّجَاةِ فَقَطْ وَهُوَ يَجْرِي مِنَ التِّجَارَةِ مَجْرَى سَلَامَةِ رَأْسِ الْمَالِ، وَالْإِحْسَانُ سَبَبُ الْفَوْزِ وَنَيْلِ السَّعَادَةِ وَهُوَ يَجْرِي مِنَ التِّجَارَةِ مَجْرَى الرِّبْحِ، وَلَا يُعَدُّ مِنَ الْعُقَلَاءِ مَنْ قَنَعَ فِي مُعَامَلَاتِ الدُّنْيَا بِرَأْسِ مَالِهِ فَكَذَا فِي مُعَامَلَاتِ الْآخِرَةِ.
وَلَا يَنْبَغِي لِلْمُتَدَيِّنِ أَنْ يَقْتَصِرَ عَلَى الْعَدْلِ وَاجْتِنَابِ الظُّلْمِ وَيَدَعَ أَبْوَابَ الْإِحْسَانِ وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: (وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ)[الْقَصَصِ: 77] وَقَالَ عز وجل: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ)[النَّحْلِ: 90] وَقَالَ سُبْحَانَهُ: (إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ)[الْأَعْرَافِ: 56]
وَيَنَالُ الْمُعَامِلُ رُتْبَةَ الْإِحْسَانِ بِوَاحِدٍ مِنْ سِتَّةِ أُمُورٍ:
الْأَوَّلُ: فِي الْمُغَابَنَةِ فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَغِبْنَ صَاحِبَهُ بِمَا لَا يَتَغَابَنُ بِهِ فِي الْعَادَةِ، فَأَمَّا أَصْلُ الْمُغَابَنَةِ فَمَأْذُونٌ فِيهِ لِأَنَّ الْبَيْعَ لِلرِّبْحِ وَلَا يُمْكِنُ ذَلِكَ إِلَّا بِغَبْنٍ وَلَكِنْ يُرَاعَى فِيهِ التَّقْرِيبُ، وَمَنْ قَنِعَ بِرِبْحٍ قَلِيلٍ كَثُرَتْ مُعَامَلَاتُهُ وَاسْتَفَادَ مِنْ تَكَرُّرِهَا رِبْحًا كَثِيرًا وَبِهِ تَظْهَرُ الْبَرَكَةُ.
الثَّانِي: فِي احْتِمَالِ الْغَبْنِ، وَالْمُشْتَرِي إِنِ اشْتَرَى طَعَامًا مِنْ ضَعِيفٍ أَوْ شَيْئًا مِنْ فَقِيرٍ فَلَا بَأْسَ أَنْ يَحْتَمِلَ الْغَبْنَ وَيَتَسَاهَلَ وَيَكُونَ بِهِ مُحْسِنًا وَدَاخِلًا فِي قَوْلِهِ عليه السلام: رَحِمَ اللَّهُ سَهْلَ
الْبَيْعِ وَسَهْلَ الشِّرَاءِ، وَأَمَّا احْتِمَالُ الْغَبْنِ مِنَ الْغَنِيِّ فَلَيْسَ مَحْمُودًا بَلْ هُوَ تَضْيِيعُ مَالٍ مِنْ غَيْرِ أَجْرٍ وَلَا حَمْدٍ، وَكَانَ كَثِيرٌ مِنَ السَّلَفِ يَسْتَقْصُونَ فِي الشِّرَاءِ وَيَهَبُونَ مِنْ ذَلِكَ الْجَزِيلَ مِنَ الْمَالِ، فَقِيلَ لِبَعْضِهِمْ فِي ذَلِكَ فَقَالَ: إِنَّ الْوَاهِبَ يُعْطِي فَضْلَهُ، وَإِنَّ الْمَغْبُونَ يَغِبْنُ عَقْلَهُ.
الثَّالِثُ: فِي اسْتِيفَاءِ الثَّمَنِ وَسَائِرِ الدُّيُونِ وَالْإِحْسَانِ فِيهِ مَرَّةً بِالْمُسَامَحَةِ وَحَطِّ الْبَعْضِ وَمَرَّةً بِالْإِمْهَالِ وَالتَّأْخِيرِ وَمَرَّةً بِالْمُسَاهَلَةِ فِي طَلَبِ جَوْدَةِ النَّقْدِ، وَكُلُّ ذَلِكَ مَنْدُوبٌ إِلَيْهِ وَمَحْثُوثٌ عَلَيْهِ، وَفِي الْخَبَرِ: مَنْ أَقْرَضَ دِينَارًا إِلَى أَجَلٍ فَلَهُ بِكُلِّ يَوْمٍ صَدَقَةٌ إِلَى أَجَلِهِ، فَإِذَا حَلَّ الْأَجَلُ فَأَنْظَرَهُ بَعْدَهُ فَلَهُ بِكُلِّ يَوْمٍ مِثْلُ ذَلِكَ الدَّيْنِ صَدَقَةً، وَنَظَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِلَى رَجُلٍ يُلَازِمُ رَجُلًا بَدَيْنٍ فَأَوْمَأَ إِلَى صَاحِبِ الدَّيْنِ بِيَدِهِ أَيْ: ضَعِ الشَّطْرَ فَفَعَلَ، فَقَالَ لِلْمَدْيُونِ: قُمْ فَأَعْطِهِ.
الرَّابِعُ: فِي تَوْفِيَةِ الدَّيْنِ، وَمِنَ الْإِحْسَانِ فِيهِ حُسْنُ الْقَضَاءِ وَذَلِكَ بِأَنْ يَمْشِيَ إِلَى صَاحِبِ الْحَقِّ وَلَا يُكَلِّفَهُ أَنْ يَمْشِيَ إِلَيْهِ يَتَقَاضَاهُ فَقَدْ قَالَ صلى الله عليه وسلم: خَيْرُكُمْ أَحْسَنُكُمْ قَضَاءً، وَمَهْمَا قَدَرَ عَلَى قَضَاءِ الدَّيْنِ فَلْيُبَادِرْ إِلَيْهِ وَلَوْ قَبْلَ وَقْتِهِ، وَإِنْ عَجَزَ فَلْيَنْوِ قَضَاءَهُ مَهْمَا قَدِرَ، وَمَهْمَا كَلَّمَهُ مُسْتَحِقُّ الْحَقِّ بِكَلَامٍ خَشِنٍ فَلْيَتَحَمَّلْهُ وَلْيُقَابِلْهُ بِاللُّطْفِ اقْتِدَاءً بِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَمَّا رَدَّدَ عَلَيْهِ كَلَامَهُ صَاحِبُ الدَّيْنِ فَهَمَّ بِهِ أَصْحَابُهُ فَقَالَ: دَعُوهُ فَإِنَّ لِصَاحِبِ الْحَقِّ مَقَالًا، وَمِنَ الْإِحْسَانِ أَنْ يَمِيلَ الْحَكَمُ إِلَى مَنْ عَلَيْهِ الدَّيْنُ لِعُسْرِهِ.
الْخَامِسُ: أَنْ يُقِيلَ مَنْ يَسْتَقِيلُهُ فَإِنَّهُ لَا يَسْتَقِيلُ إِلَّا مُتَنَدِّمٌ مُسْتَضِرٌّ بِالْبَيْعِ، وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَرْضَى لِنَفْسِهِ أَنْ يَكُونَ سَبَبَ اسْتِضْرَارِ أَخِيهِ، وَفِي الْخَبَرِ مَنْ أَقَالَ نَادِمًا صَفْقَتَهُ أَقَالَ اللَّهُ عَثْرَتَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ.
السَّادِسُ: أَنْ يَقْصِدَ فِي مُعَامَلَتِهِ جَمَاعَةً مِنَ الْفُقَرَاءِ بِالنَّسِيئَةِ وَهُوَ فِي الْحَالِ عَازِمٌ عَلَى أَنْ لَا يُطَالِبَهُمْ إِنْ لَمْ يَظْهَرْ لَهُمْ مَيْسَرَةٌ، وَكَانَ مِنَ السَّلَفِ مَنْ يَقُولُ لِفَقِيرٍ:«خُذْ مَا تُرِيدُ فَإِنْ يُسِّرَ لَكَ فَاقْضِ وَإِلَّا فَأَنْتَ فِي حِلٍّ مِنْهُ وَسَعَةٍ» .
فَهَذِهِ طُرُقُ تِجَارَاتِ السَّلَفِ.
وَبِالْجُمْلَةِ فَالتِّجَارَةُ مَحَكُّ الرِّجَالِ وَبِهَا يُمْتَحَنُ دِينُ الرَّجُلِ وَوَرَعُهُ.