الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مستهل شعبان من هذه السنة. ودفن بسفح المقطّم، وأوصى أن تكتب عند رأسه دو بيت نظمه في مرضه، وهو يقول:
أصبحت بقعر حفرة مرتهنا
…
لا أملك من دنياي إلا كفنا
يا من وسعت عباده رحمته
…
من بعض عبادك المسيئين أنا
ثم دخلت سنة خمسين وستمائة
فيها قويت شوكة البحرية واستفحلوا وزاد شرهم، وعلا ذكرهم واجتمعت كلمتهم، وكان كبيرهم ومقدمهم الأمير فارس الدين أقطاي الجمدار (1) الصالحي، وكان كلما دعت حاجة (2) لأحد من البحرية أو قصد زيادة، دخل على الأمير فارس الدين وسأله في ذلك، والأمير فارس الدين يدخل بنفسه الى الأمير عز الدين [أيبك](3) يأخذ له ما طلبه.
وفيها طلب الأمير فارس الدين (91 أ) لنفسه ثغر الاسكندرية، فأعطيه، وكتب له به منشورا. واستطالوا (4) البحرية على الأمير عز الدين وتوثبوا عليه (5) وثوب الأسود على الضأن.
وفيها كان مبتدأ ملك الترك ومبدأ أحوالهم، فأقول وبالله التوفيق: إن الله تعالى أخلاهم من بلادهم الشاسعة وأقطارهم الواسعة، وساقهم الى مملكة الديار المصرية بحكمته وقاد إليهم أمرها بأرمّته بأسباب مشتملة على حكم لا تدرك العقول أغوارها، ولا تبلغ الخواطر أسرارها، ومن المستضعفين منهم بتورثهم ممالك الإسلام. وذبّهم عن حوزة أهل بيته عليه السلام، تصديقا لأخباره وتحقيقا لآثاره، المنتقاة المدونة عن الثقات، أنه لا تزال فئة تقاتل عن هذا الدين ظاهره الى يوم القيامة. ولما انتهى ملك الديار المصرية بعد الدولة العبيديّة، الى الذرّية الأيوبية كما ذكرناه مساقا وأوردناه اتساقا، فلما شاء الله عز وجل بانقراضها، وقضى بانتقاضها، وسبق في علمه أنّ صلاح الناس في توليه أولي النجدة
(1) الجمدار: هو الذي يلبس السلطان أو الأمير ثيابه. وأصل الكلمة فارسية مركبة من لفظين «جاما» ومعناه الثوب والثاني «دار» ومعناه ممسك فيكون ممسك الثوب. انظر صبح الأعشى 5/ 459.
(2)
عند ابن العميد: فصار كل من طلب شيئا من الأموال والإقطاعات أخذه، أنظر في:
B .E .O،T .XV،P .164.
(3)
الزيادة للإيضاح.
(4)
كذا في الأصل والصواب: واستطال.
(5)
وتوثبوا على المملكة عند ابن العميد في المصدر السابق.
والبأس، وأنّ الأتراك أوفر الناس عقلا وحزما، وإن في هدايتهم الى الإيمان صلاحا عاما وخاصا، فشاءت قدرته أن ينقل طائفة منهم من أطلالها، بل من ضلالها ليشيد بها أركان دينه القويم. فاتفق من تقدير ظهور التتار واستيلاؤهم (1) على البلاد المشرقية والشمالية وتعديهم على الأتراك (91 ب) القفجاقية، فأوقعوا بهم، وسبوا ذراريهم، وبيعوا في الأسواق، وجلبهم التجار الى الآفاق، فسيق منهم الى الديار المصرية، والبلاد الشامية في أواخر الدولة الأيوبية، جموع من الشبان، وأواسط الفتيان، فاشتروهم (2) ملوك بني أيوب بأنفس الأثمان، واتخذوهم عدة في النوائب لما فيهم من الشجاعة والإقدام، ورمي السهام، ودربتهم برياضة الخيول، فصيروا منهم الأمراء الأكابر ومقدمي العساكر. وأول من اهتم بتحصيلهم الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب وأخوه الملك العادل أبو بكر، ثم أولاده الكامل والأشرف والمعظم. فلما أفضت المملكة الى الملك الصالح نجم الدين أيوب ولد الكامل، استكثر منهم وبذل المجهود في تحصيلهم، وبذل فيهم الأموال العظيمة، واعتمد عليهم لما جرب من حربهم ونصحهم وثباتهم، فتكمل عنده منهم العدة الوافرة. فلما انقضت أيامه وقضى نحبه فأساء ولده معهم التدبير وبذل لسانه في مذمتهم والتوعد بإزالة نعمتهم، فحملهم ما رأوه من نقص رأيه على ما ذكرناه من أخباره، فكان كالباحث عن حتفه بظلفه والجادع (3) مارن (4) أنفه بكفه، ولم يسمع قول القائل:[السريع]
لا تنبش الشّر فتبلى به
…
فقلّ من يسلم من نبشه
إذا طغى الكبش بشحم الكلى
…
أدرج رأس الكبش في كرشه
(92 أ) ولعله لو أنصفهم لم تمتد أيدي النوائب اليه، لكن المقدور جرى بتلك الأمور، وأنشدوا في المعنى:[الطويل]
إذا لم يكن عون من الله للفتى
…
فأكثر ما يجني عليه اجتهاده
ثم أنهم أقاموا الأمير عز الدين أيبك التركماني الجاشنكير الصالحي، وصيروا اليه حكم
(1) كذا في الأصل والصواب واستيلائهم.
(2)
كذا في الأصل والصواب فاشتراهم.
(3)
الجدع هو القطع البائن من الأنف والأذن والشفة واليد ونحوها. أنظر لسان العرب 8/ 41 مادة «جدع» .
(4)
المارن: ما لان من الأنف. المصدر السابق 13/ 404 مادة «مرن» .
الأتابكية، فكان أول متملك من الطائفة التركية بالديار المصرية على ما سنذكره مبينا إن شاء الله تعالى. وهانا ذاكر ما جرى من الأسباب الموجبة لمجيء هؤلاء الأجلاب فأقول: إن هذه الطائفة التركية قوم سكناهم بالبلاد الشمالية، لا يتخذون جدارا ولا يستوطنون دارا، بل ينتقلون في أراضيهم من المشتا للمصيف، وهم قبائل متعددة، فمن قبائلهم: قبيلة «طقصبا» (1) و «يبتا» ، و «برجي» (2)«أغلي» ، و «البرلي» (3)، و «قنغر أغلي» (4) و «انجغلي» (5)، و «دروت» و «قلابا أغلي» ، و «جرتان» (6) و «قرابر كلي» (7)، و «لتن» (8). ولم يزالوا مستقرين بأماكنهم الى أن اتفق خروج التتار كما ذكرناه. إتفق أنّ شخصا من قبيلة «دروت» خرج متصيدا فصادفه شخص من قبيلة «طقصبا» كان بينهما منافسة، فأخذه أسيرا ثم قتله وأبطئ خبره عن أبيه، فأرسل شخصا ليكشف خبره، فعاد إليهم بالخبر، فجمع أبوه قبيلته وسار اليه فلما بلغه [الخبر](9) جمع أيضا أهله وقبيلته وتأهب لقتاله، فالتقت (10) الفئتان، فكانت الكسرة على قبيلة «طقصبا» فأرسل القاتل الى (92 ب)«دوشي خان» ابن جنكيز خان مستصرخا ومستعديا، فشكا اليه ما حلّ به وبقومه من قبيلة «دروت» القفجاقية، وأعلمه أنّه إن قصدهم لم يجد من دونهم مانعا، فأرسل «دوشي خان» شخصا من ثقاته ليتجسس له الأخبار، فتوجه القاصد الى منازلهم وحللهم وعاد الى دوشي خان فسأله عما رأى، فقال له: رأيت كلابا مكبة على الية (11) متى طردتهم عنها تمكنت منها، فسار اليهم في عساكره وأوقع بهم أشد الإيقاع وأتى على أكثرهم قتلا وسبيا (12)، وكان هذا السبب الحقير محركا لهذا التأثير. فلما سبتهم عساكر التتار باعوهم للتجار، فجلبوهم الى الأمصار، فهذا مبدأ إحضارهم.
(1) طغصبا، في عبر ابن خلدون 5/ 372.
(2)
برج أغلا في المصدر السابق.
(3)
البولي في المصدر السابق.
(4)
قنغر أعلى في المصدر السابق.
(5)
أوغلي في المصدر السابق.
(6)
جرشان في المصدر السابق.
(7)
قد كابر كلي في المصدر السابق.
(8)
كنن، في المصدر السابق.
(9)
الزيادة للإيضاح.
(10)
في الأصل: فالتقا.
(11)
على فريستهم، في عبر ابن خلدون 5/ 372.
(12)
قارن الشبه في الإيراد مع ما جاء في كتاب العبر لابن خلدون 5/ 372.
ذكر إنفراد الأمير عز الدين أيبك بالمملكة وجلوسه على تخت الملك.
قد تقدم ذكر سلطنة الملك الأشرف موسى، وان الامراء البحرية قدّموا الأمير عز الدين وجعلوه أتابك العساكر، ودام الحال على ذلك الى هذه السنة، فامتدت أطماع ملوك الشام الى قصد الديار المصرية، ثم تبع ذلك الارجاف (1) بما تواتر من حركة التتار ودخول هولاكو بلد العراق (2). وكان الملك الأشرف مهتدم الجانب لصغر سنه فاجتمعت الأمراء واتفق الأمراء على استقلال الأمير عز الدين [أيبك](3) بالملك وجلوسه على انفرادها، فتسلطن وسمي بالملك المعز، وانفرد بأمورها وقام بتدبيرها وأزيل عن الأشرف اسمها (4). ولما استقل الملك المعز شرع في تحصيل (93 أ) الأموال واستخدام الرجال، فاستوزر شرف الدين هبة الله بن صاعد الفائزي، فقدر أموالا على التجار وذوي العقار، ورتب مكوسا وضمانات وسماها حقوقا ومعاملات (5) واستقرت وتزايدت.
وفيها أمّر الملك المعز أيبك جماعة من مماليكه.
وفيها وصل من بغداد الى الديار المصرية، الشيخ نجم الدين البادرائي رسولا (6) من عند الخليفة المستعصم ليصلح ما بين الملك الناصر [يوسف](7) صاحب الشام وبين الملك المعز صاحب مصر، فتقرر الصلح وترتب (8).
وفيها وصلت ابنة السلطان علاء الدين كيقباذ ابن كيخسرو، صاحب الروم الى دمشق مخطوبة من الملك الناصر فبنى بها ودخل عليها (9).
(1) الأرجاف: هو خوض القوم بالاخبار السيئة والفتن. لسان العرب 9/ 113 مادة «رجف» .
(2)
انظر ما يشبه ذلك في مرآة الزمان 8/ 787 والنجوم الزاهرة 7/ 25 ويتوسع أكثر في السلوك ج 1 ق 2، ص 383.
(3)
الزيادة للايضاح.
(4)
في السلوك ج 1 ق 2، ص 384 ما يشبه ذلك، أما في المختصر في أخبار البشر 3/ 190 فإنه ورد مثل هذا الخبر في سياق سنة 652 هـ عقب مقتل الأمير اقطاي. وأنظر ما يشبه ذلك في النجوم الزاهرة 7/ 12.
(5)
سماها الحقوق السلطانية والمعاملات الديوانية، في السلوك ج 1 ق 2، ص 384.
(6)
أنظر خبر هذه السفارة في السلوك، ص 384 ومرآة الزمان 8/ 789، وابن العميد في:
B .E .O،T .XV،P .164
والمختصر 3/ 186، والنجوم الزاهرة 7/ 25، ومن الملاحظ أن كافة هذه المصادر ذكرت خبر تلك السفارة في سنة 651 هـ.
(7)
الزيادة للايضاح.
(8)
يذكر ابن العميد أنه تقرر في هذا الصلح أن يأخذ الملك المعز من بلاد الملك الناصر القدس الشريف وبلاده وغزة وبلادها وجميع البلاد الساحلية الى حدود نابلس وأن يطلق المعز كل من آسره من الملوك والامراء الذين أسرهم في معركة الكراع: أنظر في:
B .E .O،T .XV،P .164
وأيضا ما يشبه ذلك في السلوك ج 1 ق 2، ص 385 - 386، المختصر 3/ 186، النجوم الزاهرة 7/ 10.
(9)
ذكرت أغلب المصادر خبر وصول بنت السلطان علاء الدين الى دمشق وزواجها من الملك الناصر يوسف في سياق احداث سنة =