الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أثر الصحافة في تطور الأسلوب:
الوقائع المصرية:
ظلت "الوقائع المصرية" الصحيفة الوحيدة في الميدان ردحًا من الزمن، وقد كانت تحرر بالتركية أولًا، ثم بالعربية والتركية، ثم غلبت عليها العربية، وكانت على الرغم من صبغتها الرسمية تأتي ببعض طرائف الأدب، وأقاصيص من ألف ليلة وليلة، ولكنها في أخريات عهد محمد علي ظهرت بالتركية والعربية معًا، ثم احتجت في عهد عباس، وسعيد إلى أن كانت سنة 1875 حيث نهضت من كبوتها، وأخذت تعمل على ترويج الثقافة بشتى أنواعها في عهدها الجديد، والذي يعنينا من "الوقائع" أولى الصحف العربية هو الأسلوب الذي كانت تحرر به المقالات، وتصاغ فيه الأخبار سواء كانت داخلية أو خارجية، سياسية أو اجتماعية.
لقد ظل الأسلوب المسجوع مسيطرًا على أقلام الكتاب أمدًا غير يسير، فمنذ ظهور العدد الأول منها أخذ الأدباء يحيونها بمقامات، أو مقالات مسجوعة، وهاكم مثلًا عبد الله فكري -وكان له دور في نهضة النثر سنأتي عليه بعد قليل- يرسل تحية أدبية، فينشئ من أجل ذلك مقامه يقول فيها: "ولا مرية في أن صحف الأخبار، هي الحافلة بهذه المزايا الطائلة، باستخراج فوائد الفرائد من خبايا الزوائد، فهي جهينة الأخبار، وخزينة ذخائر الأفكار، وصيقل الأذهان، ومرآة حوادث الزمان، وهي الجليس الذي تعجب نوادره، والأنيس الذي يطرب
حديثه من يسامره
…
إلخ، ويحييها كذلك صالح مجدي تلميذ رفاعة بقوله: "من المعلوم أن راحة الأرواح تتنسم بها الأرواح، وتترنم بها في المساء والصباح، وتضيء كأنها مشكاة في مصباح1، وهي مطالعة الأخبار الدالة على الآثار المصرية، وعن أحوال التمدن المنشور العلم بلسان بفضل ألف قلم
…
إلخ".
أما الخبر الذي يصف حادثًا داخليًا، فقد كان مسجوعًا غالبًا لأمد طويل، مثال ذلك ما جاء في العدد الرابع سنة 1865:"إن أناسًا من اللئام، سفلة الأنام، ارتضوا بالخزي وارتكاب الآثام، فاستبدلوا الاشتغال بأنواع الكسب الحلال بالاشتغال بالحرام والعار، والدوران في القرى والأمصار، وكلما صادفوا أناسًا على فطرتهم وحسن نياتهم، تحيلوا على اصطيادهم بتحيلاتهم، وعملوا طرق الخديعة، والختل في سلب أموالهم بعد سلب عقولهم، بإحدى المغيبات المشهورة بين الناس بالتاتورة، فيضعونها في شيء من المأكولات، ويطعمونها أصحاب العقول الناقصة بدون شعور، وبعد الحصول على ما معهم يفرون".
وعلى هذا المنوال كان يصاغ الخبر الخارجي المترجم سواء كان سياسيًا، أو غير سياسي، ولم يكن يخلو من الكلمات الأعجمية الكثيرة، ولكنه أخذ يتخلص من السجع تدريجيًا حتى توارى بعد عام تقريبًا، وإن ظلت الكلمات الدخيلة تأتي على أقلام الكتاب إلى أن تولى تحريرها الشيخ محمد عبده سنة 1880، فخلصها من هذه الآفة، وجعل السيادة للفصحى، فساعد بذلك على تثبيت الكلمات المترجمة في الأذهان، وإشاعتها بين المثقفين.
وكانت الوقائع تتحرك أول الأمر من نشر القصص والحكايات، وتعيبها بأنها "خرافيات قصص لا تفصح إلا عن عي بأقل وعي ناقل، مما يمجه السمع، ويأباه الطبع، من أساليب ملفقة، وأكاذيب منمقة".
1 يضطرهم السجع إلى ترديد عبارات محفوظة خالية من الفكرة، والعاطفة.
الجوائب:
ولكنها رأت "الجوائب" تعني بهذا النوع فقلدتها، وأخذت تنشر أقصوصات رمزية، أو ذات مغزى جاء معظمها مسجوعًا مترجمًا.
ومن الألوان الأدبية التي زوجتها الوقائع، واحتفت بها تلك المقالات والخطب التي كانت تلقى في الحفلات المدرسية والحفلات العامة، ويدبجها من عرفوا بالأدب في ذياك الوقت، وقد كانت كلها على أسلوب المقامة وطريقها.
أما المقالات العلمية الخالصة، فقد اهتمت بها اهتمامًا زائدًا من مثل "حجر الفتيلة" لرفاعه، "والهيضة" للطبيب محمد الشافعي، وله مقال آخر عن "التبغ ومضاره"، وكانت هذه المقالات تختلف في أسلوبها قوة، وضعفًا تبعًا لتمكن الكاتب من اللغة، ولكن الظاهرة الغالبة عليها هي محاولتها التخلص من السجع والزخرف لغلبة الحقائق العلمية، واهتمام الكاتب بإيراد المعنى كاملًا.
ومما كان له أثر في ترويج الثقافة، وتوسيع الأفكار وإثرائها مما نضج على الأقلام والألسنة فيما بعد، وأمدها بكثير من المعلومات القيمة، نشر الكتب المفيدة مسلسلة سواء كانت أدبية أو علمية، ولا يخفى ما كان لهذا العمل من خدمة للغة، ونشرت الوقائع كذلك أخبار الرحلات والكشوف، والسياحات فوصلت المثقفين بالعالم الخارجي، وأثرت معلوماتهم، وأطلعتهم على ألوان من الحياة لا عهد لهم بها.
ولقد كان لكل هذا أثره المباشر، أو غير المباشر في تغير نظرة الأدباء إلى الحياة، فتغير أسلوب تفكيرهم، وتغيرت تبعًا لذلك طريقة كتابتهم، فتحررت الصحافة اليومية من ذلك الأسلوب المكبل بتلك القيود الثقيلة التي كانت ترزح تحتها الكتابة سواء كانت صحفية، أو غير صحفية.
ولقد كان لصدور "الجوائب" لأحمد فارس الشدياق في سنة 1861 أثر في هذا الانطلاق والتحرر؛ لأن الجوائب اصطنعت الأسلوب المرسل في الأخبار الصحفية، والمقالات، واتسعت آفاق النثر إتساعًا كبيرًا نظرًا لثقافة الشدياق
العميقة التي أفادها من قراءاته الكثيرة بلغات مختلفة، ولتمكنه من اللغة العربية وحذفه لأصولها، ونظرًا لكثرة تجاربه ولكثرة أسفاره، واختلاطه بمجتمعات متباينة من شرقية وغربية، وكان يغشى هذه المجتمعات، ويدرسها دراسة واعية، ناقدًا مساوئها مشيدًا بمحاسنها، وقد كتب كذلك عن هذه الأسفار عدة كتب منها:"الساق على الساق فيما هو الفارياق"، الذي قص فيه تاريخ حياته من مشاهداته، وكانت تحلو له الموازنة بين خصائص الشعوب، ومنها "كشف المخبا عن أحوال أوروبا"، "والواسطة في أخبار مالطة"، وكان الشدياق شغوفًا بتدوين هذه المشاهدات، وقد أورثته ثقافته وتجاربه تحررًا في الفكر، وسعة في الأفق، فدرجت "الجوائب" على كتابة الأخبار بالأسلوب الخالي من السجع، مع عناية باللغة، واجتهاد في وضع الكلمات العربية المقابلة للكلمات الأجنبية، ومن تلك الكلمات التي وضعتها الجوائب، ولا زلنا نستخدمها حتى اليوم المؤتمر والبريد، والباخرة، والحافلة، والأزمة المالية، والمنطاد، والسلك البرقي "تلجراف"، وعشرات غيرها.
ولنضرب مثلًا على ذلك الأسلوب الصحفي الذي سارت عليه الصحافة منذ ذلك الحين وصار لها قدرة: "إن رفض الباب العالى لإرادة أوروبا قد جعل المسألة الشرقية في صورة جديدة، وإن الديوان الإمبراطوري قد اتخذ من هذه المسألة من أول الأمر مسألة أوربية لا يمكن حلها إلا باتفاق عام مع الدول الكبار، فكل اعتبار شخصي أو منفرد وقع لدى الدول موقع الإنكار، فآلت الصعوبة إلى الدولة التركية بأن تحكم على رعية السلطان بالعدل، والإنسانية كيلًا تعرض أوروبا لمشاكل دائمة
…
إلخ".
وقد اهتم الشدياق بالمقال الذي كان يكتبه في صدر الجوائب منذ السنة التاسعة من حياتها، وكان هذا المقال كذلك متحررا من السجع، والزخارف والخيالات إذا تعرض لأمور سياسية أو اجتماعية، أما إذا تعرض لأمور أدبية أو عاطفية، فإن الشدياق كان ينهج نهجًا آخر، فيحتفى بأسلوبه احتفاء بالغًا، ويأتي أحيانًا مسجوعًا، مثال ذلك قوله من مقال بعنوان الوطني المزيف: "من الناس من يبالغ في مدح وطنه، ويحن إليه حنينه، فيصف مروجه ورياضه، ومروجه
وحياضه ووهاده وجباله، وتلاعه وتلاله، وربوعه ودياره، ونباته وأشجاره، ويقوله وثماره، ودوحه وأطياره، وطيب هوائه ولذة، ويزعم أنه فصوله كالربيع حسنًا، وأن جميع أفكاره تتدفق بركة ويمنًا، وأن شهرًا فيه خيرًا من ألف عام في غيره.
هي البلاد التي تغزلت بها الشعراء فقال فيها فلان أبياتًا، وقال فيها فلان قصيدة غرام، وأسمع ما قيل في جداولها ونواعيرها، ويلابلها وعصافيرها، وخمائلها وأزاهيرها، وصروحها وقصورها، ومصانعها ودورها وظبائها ومراتعها.
فإن قلت: كيف جارك الأدنى؟ لعله كان عونًا وخدنا؟ قال: ويلي! إنه شر جار، وهو على البلاد عار وشنار، فكيف جاره الذي يليه؟ عسى أنه ممن تواليه وتصافه؟، وقال: ويلي إنه شر من أخيه، فكيف أهل الحارة طرًا؟ قال: ويلي إنهم كانوا كلهم علي شرًا، ولم أجد منهم إلا ضرًا فكيف أهل البلد أجمعين؟ قال: ويلي، ما منهم أمين معين، فما كأنهم خلقوا من ماء وطين، فإن قلت له: ولكن كيف اشتملت بلادكم على تلك المحاسن، وأهلها على هذه المساوئ الشوائن؟ قال: إن أهلها الأولين كانوا من الخيرين فحرثوها، وزرعوها وعمروها وأمرعوها، ثم فسد الزمان فجاءت خلفاؤهم فاسدة، لكن بقيت هذه المحاسن فيها فائدة.
ولكن ما معنى فسد الزمان، وهو لم يكن صالحًا قط منذ خلق الإنسان؟
ولو كنت من الصالحين لما رأيت في غيرك خلقًا يشين، فإنما ينظر في عيوب الناس من كان أسوأ منهم حالًا.
ومن يك ذا فم مر مريض
…
يجد مرا به الماء الزلالا
كذلك قال الشاعر الحكيم، فما أنت في طعنك على بني جنسك إلا مليم، وإن امرءًا يحسب جميع أهل بلاده دونه لجدير بأن يشيعوا مفتونه، ويذيعوا جنونه، ويجتنبوا محضره، ويتنكبوا منظره فيا للعجب ممن يمدح وطنه ليرجع المدح إلى نفسه مع ذم قومه، وجنسه".
ومع اصطناع الشدياق السجع في مثل هذه المقالة الأدبية، إلا أنه أكسبها قوة وتشويقًا بحسن عرضه، وطريف سخريته، ومتانة حجته، وهكذا نجد الكتاب منذ عهد رفاعة والشدياق قد أخذوا يفرقون بين الأسلوب الصحفي الذي يكتب للعامة ولجمهور القراء، وبين الأسلوب الأدبي الذي يكتب للخاصة، وقد وفينا الشدياق حقه من البحث في "الأدب الحديث"، وكانت الجوائب مسرحًا لحملات صحفية جادة على التمسك بالأسلوب المسجوع في الصحافة خبرها، ومقالتها من ذلك ما نشره سليم نوفل في عدد 23 من أغسطس سنة 1871 منتصرًا لأسلوب الشدياق المرسل، وناعيًا على هؤلاء الذين لا يزالون يتمسكون بأهداب القديم، ويتمسحون بأعتاب المقامات:"قد تقرر عند بعض الفصحاء من نصارى الشام، أن القافية هي ركن الفصاحة، ومحورها وغايتها حتى ذهب أحدهم إلى أن الكلام إذا كان من الفراغ، والسفسطة بحيث يستقبح النطق به لغير طفل لم يغره أكثر من أن تعلق على أطرافه، ولو تلصيقًا بالغراء أذناب متماثلة حتى ينقلب في الحال إلى ضرب من المعجزة، مثال ذلك أن يتفلسف طفل، أو مريض بالحمى فيقول في وصف كلام من تلفيقه له وزن وقافية: "وقد بزغت شمس وجه كلامي على ميزان ثرياه بين عذارى بنات الأفكار، وطلعت بدور جواهر أبياته المرصعة بمذهب غريب بناتها
…
"، وما شابه ذلك من الكلام المعطل، فإذا أراد أن يطبخه فصيحًا لم يزد على أن ينفض عليه ذرة من بديع السجع، فينقلب للحال من جوامع الكلم بإذن القافية وقوتها".
وإذا كان الشدياق ومن تابعه قد حاولوا تخليص المقال الصحفي من السجع والتكلف، والجري وراء القافية والزخارف، وحرروا الكتابة الصحفية من هذه القيود، فليس معنى هذا أن هذا الأسلوب قد اختفى، بل إننا نرى الشدياق نفسه في غير المقالات الأدبية التي كان يعتني بأسلوبها، ويرتفع قلمه فيها قد كتب بعض المقامات، ونشرها في الجوائب.
ولكن مما لا ريب فيه أن أسلوبه الصحفي كان قدوة، وهو الأسلوب الذي سارت عليه الصحافة اليومية عشرات السنين إلى أن اختفت المقالة الصحفية، وحل محلها الخبر في السنوات الأخيرة.