الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
حديث عيسى بن هشام للمويلحي:
ولننتقل إلى كتاب آخر لعلم من أعلام البيان في تلك الحقبة التي انتهت بنهاية القرن التاسع عشر، وبضع سنوات من القرن العشرين، قبل أن ينطلق النثر الأدبي من عقاله، ويحلق في آفاق واسعة، غير رازح تحت أي قيد من القيود، إلا ما اقتضاه الفن والتجويد.
ذلك الكاتب هو محمد المويلحي، وكتابه هو حديث عيسى بن هشام، وقد أتيح للكاتب من عوامل الوراثة والثقافة، والتجربة ما جعل الأدب يترقب منه عملًا مجيدًا حقًا، فأبوه إبراهيم المويلحي من تلاميذ جمال الدين، وصاحب جريدة "مصباح الشرق" التي كانت حدثًا أدبيًا عظيمًا إبان ظهورها سواء بموضوعاتها الشائفة، أو بأسلوبها الأدبي المتين، وهي تمثل ما وصلت إليه الصحافة الأدبية في الجزء الأخير من القرن التاسع عشر من علو وسمو، وقدرة على النقد والتوجيه من غير تعرض لشخص الأديب وحرمانه، وإنما تتناول أدبًا تناولًا موضوعيًا بشيء كثير من الجرأة والحرية والبصيرة، ولإبراهيم المويلحي الكبير أثر غير منكور في تطور المقالة الصحفية والأدبية.
وإذا كان ابنه محمد لم يتح له من التعليم الرسمي غير ما تلقاه في المدرسة الابتدائية، فإن والده جلب له من الأساتذة في العربية، واللغات -شأن أبناء العلية في تلك الآونة- ما حبب إليه المعرفة، فصار يلتهم كل ما يقع تحت ناطريه من الكتب، وما كان أكثرها في بيت والده، ثم سافر مع والده إلى تركيا، ومكث بضع سنين أجاد فيها التركية، وقرأ ما ضمته بعض مكتباتها الشهيرة من كنور الثقافة العربية، وسافر معه إلى إيطاليا حين اختبر كاتم سر الخديوي إسماعيل بعد نفيه، وتعلم ثمة اللغة الإيطالية، مع إجادته للفرنسية، وإلمامه بالإنجليزية واللاتينية.
وإذا كان محمد المويلحي ممن يجمعون بين الثقافة العربية العميقة، والثقافة الغربية الحديثة، فلا يدع إذا جاء أدبه ممثلًا لامتزاج الثقافتين، وقد تجلى ذلك في حديث عيسى بن هشام الذي بدأ يكتبه منجمًا في جريدة "مصباح الشرق" منذ
17 من نوفمبر سنة 1898، والكتاب يجمع بين سمات الأدب العربي القديم، والأدب الغربي، فهو يجري على أسلوب المقامة في كثير من فقراته، في أسلوب قصصي، ويعالج موضوعات اجتماعية.
ليس حديث عيسى بن هشام قصة، إذ ليس فيه عقدة، وإنما هو لوحات مختلفة تبين بعض الفساد الذي دب إلى المجتمع، وبعض ما حدث من تغيير بمصر في مدى خمسين سنة منذ وفاة "الباشا" حتى بعثه، في نظمها القضائية، وحياتها الاجتماعية والسياسية، ولا يتقيد فيه محمد المويلحي بأسلوب المقامة من السجع القصير الفقرات، وإيراد مختلف المحسنات والتندر بالغريب كما كان يفعل الحريري، وإنما نراه يلجأ إلى هذا الأسلوب حين يتحدث هو متقمصًا شخصية عيسى بن هشام، وحين يصف منظرًا من المناظر، أما حين يسرد الحوادث، فيلجأ إلى الأسلوب المرسل، ويكاد يقرب من حديث الصحافة حيث لا تعمل ولا تكلف، بل يستخدم أحيانًا بعض الكلمات الدخيلة، وإن كان ذلك للضرورة أو للتندر.
قررته وزارة التربية والتعليم على طلبة المدارس عام 1927، وجاء بتقريرها عنه ما نصه:"وحديث عيسى بن هشام إذا دخل في المطالعة لطلبة المدارس الثانونية أفادهم أجل الفائدة من ناحية ما يأخذهم به من بلاغة الكلام، وسلامة القول، والصيغة الطريفة التي تناولت كثيرًا من الأسباب الدائرة بين الناس، وهو ما يعوز جميع الكتب التي وضعت في عصور متقدمة، إلى ما يفسح في ملكاتهم، ويطبعهم على دقة الملاحظة وقوة التعبير، وتدبير ألوان الاحتجاج لطرفي الموضوع الواحد".
لقد تبينت فيه الوزارة أنه بخلاف الكتب القديمة يعالج الحياة المعاصرة، وما طرأ عليها من تغيير في فترة من الزمن، وينتقد أوجه الفساد ويشير إلى النقص، ويتهكم بانحراف في الطبع والسلوك، ولقد دل على ما يتمتع به المويلحي من قوة ملاحظة، وشدة تغلغل في صميم الحياة، وبخاصة حياة الدواوين التي ترتبط ارتباطًا قويًا بمصالح الجماهير.
يتخيل المويلحي، "وهو نفسه عيسى بن هشام" أنه كان في المقابر ذات ليلة بغية العظة، والاعتبار فسمع قبرًا ينشق ويخرج منه رجل، فارتعد خوفًا، وهم بالهرب، ولكن الرجل المدرج في الأكفان يناديه، وينبئه بشخصيته وأنه فلان باشا
من قواد العسكرية أيام محمد علي وإبراهيم، وأنه يسكن في البيت الفلاني وعليه أن يذهب لإحضار ثيابه، في حوار طريف جذاب، ثم يورد ما أصاب هذا الباشا الذي ظهر في غير زمنه من كوارث ومحن وتجارب، ودهشة وعجب من كل ما لاقاه في مصر، ولنستمع إليه لنرى كيف ابتدأ الكتاب، قبل أن نورد موضوعاته، ونلم بملاحظاته وتهكماته، قال:
"حدثنا عيسى بن هشام -قال: رأيت في المنام كأني في صحراء الإمام أمشي بين القبور والرجام، في ليلة زهراء قمرية يستر بياضها نجوم الخضراء، فيكاد في سنا نوره ينظم الدر ثاقبه، ويرقب الذر راقبه، وكنت أحدث نفسي بين تلك القبور، وفوق هاتيك الصخور بغرور الإنسان وكبره، وشموخه بمجده وفخره، وإغراقه في دعواه وإسرافه في هواه، واستعظامه لنفسه، ونسيانه لرمسه، فقد شمخ المغرور بأنفه، حتى رام أن يثقب به الفلك استكبارًا لما جمع، واستعلاء بما ملك، فأرغمه الموت، فسد بذلك الأنف شقا في لحده بعد أن وارى تحت صفائحه صحائف غعزه ومجده.
وما زلت أسير وأتفكر، وأجول، وأتدبر حتى تذكرت في خطاي فوق رمال الصحراء، قول الشاعر الحكيم أبي العلاء:
خفف الوطأ ما أظن أديم ال
…
أرض إلا من هذه الأجساد
وقبيح بنا وإن قدم ال
…
عهد هوان الآباء والأجداد
سر إن اسطعت في الهواء رويدًا
…
اختيالًا على رفات العباد
فقرعت سن الندم، وخففت وطأ القدم، وإن في دهماء أولئك الأموات، وغمار تلك الرمم والرفات، لمباسم طالما حول العاشق قبلته لقبلتها، وباع عذوبة الكوثر بعذوبتها، قد امتزجت بغبار الغبراء، واختلطت ثناياها بالحصى والحصباء، وتذكرت أن تلك الخدود".
ويمضي المويلحي فيعدد محاسن النساء الجسمية، وكيف كانت، وكيف صارت بعد الموت، فيذكر العيون والشعر والنهود والشفاه وغيرها، إلى أن يقول:
"وبينما أن في هذه المواعظ والعبر، وتلك الخواطر والفكر، أتأمل في عجائب الحدثان، وأعجب من تقلب الأزمان مستغرقًا من بدائع المقدور مستهديًا
للبحث في أسرر البعث والنشور، إذ برجة عنيفة من خلفي كادت تقضي بحتفي، فالتفت التفاتة الخائف المذعور، فرأيت قبرًا قد انشق من تلك القبور، وقد خرج منه رجل طويل القامة، عظيم الهامة، عليه بهاء المهابة والجلالة، ورداء الشرف والنبالة، فصعقت من هول الوهل "الفزع" صعقة موسى يوم دك الجبل، ولما أفقت من غشيتي، وانتبهت من دهشتي أخذت أسرع في مشيتي، فسمعته يناديني، وأبصرته يدانيني، فوقفت امتثالًا لأمره، واتقاء لشره، ثم دار الحديث بيننا وجرى على نحو ما تسمع وترى بالتركية تارة والعربية أخرى.
الدفين: ما اسمك أيها الرجل، وما عملك، وما الذي جاء بك؟
فقلت لنفسي: حقًا إن الرجل لقريب العهد بسؤال الملكين، فهو يسأل على أسلوبهما، فاللهم أنقذني من الضيق، وأوسع لي في الطريق لأخلص من مناقشة الحسابه، وأكتفي شر العذاب، ثم التفت إليه وأجبته.
عيسى بن هيشام: اسمي عيسى بن هشام، وعملي صناعة الأقلام، وجئت هنا لأعتبر بزيارة المقابر، فهي عندي أوعظ من خطب المنابر.
الدفين -وأين دواتك يا معلم عيسى ودفترك.
عيسى بن هشام: أنا لست من كتاب الحساب والديوان، ولكني من كتاب الإنشاء والبيان.
الدفين: لا بأس بك، فاذهب أيها الكاتب المنشئ، فاطلب لي ثيابي وليأتوني بفرسي "دحمان".
عيسى بن هشام: وأين يا سيدي بيتكم فإني لا أعرفه؟
الدفين مشمئزًا: قل لي بالله من أي الأقطار أنت؟ فإنه يظهر لي أنك لست من أهل مصر، إذ ليس في القطر كله من أحد يجهل بيت أحمد باشا المنيكلي ناظر الجهادية المصرية.
عيسى بن هشام: أعلم أيها الباشا أنني رجل من صميم أهل مصر، ولم أجهل بيتك، إلا؛ لأن البيوت في مصر أصبحت لا تعرف بأسماء أصحابها بل بأسماء شوارعها وأزقتها، وأرقامها، فإذا تفضلت وأوضحت لي شارع بيتكم، وزقاقه
ورقمه انطلقت إليه وأتيتك بما تطلبه.
الباشا "مغضبًا": ما أراك أيها الكاتب إلا أن بعقلك دخلًا فمتى كان للبيوت أرقام تعرف بها وهل هي "إفادات أحكام"، أو"عساكر نظام"؟ والأولى أن تناولني رداءك أستتر به، وتصاحبني حتى أصل إلى بيتي".
فعلى عيسى بن هشام هذا وسارا معًا، ثم تذكر الباشا أنه لا بد لدخول القاهرة من معرفة كلمة سر الليل، وبين له عيسى بن هشام أنه لا داعي إلى هذا فقد وضح النهار، ولكن الباشا لم يصل إلى بيته أبدًا، فقد اعترضته من الأحداث ما جعلته يقضي ليله في مركز الشرطة، إذ كان يلوح بيده فظن مكاري أنه يدعوه، وراءهما طويلًا ثم طالبهما بالأجرة، وتعجب الباشا من قحته ومن صبر عيسى بن هشام معه فيقول:
- إني لأعجب من صبرك على هذا الفلاح السفيه، الذي استرسل معنا في سفاهته، ووقاحته فهلم فاضربه بالنيابة عني حتى تريحه من عيشه وتريحنا منه.
عيسى بن هشام: كيف يكون ذلك، وأين القانون، وأين الحكام؟
ولكن الباشا لا يفهم إلا شيئًا واحدًا، وهو أنه تركي ومن رجال الحكم، وأن الفلاح لا يصلح إلا بالضرب أو القتل، فإذا هم عيسى بن هشام أن يمنح الرجل بعض المال حتى يسكته، وينصرف قال له الباشا:
"لا تعط هذا الكلب النابح درهمًا واحدًا، وقد أمرتك أن تضربه، فإن لم تفعل، فأنا أتنزل إلى ضربه وتأديبه، والفلاح لا يصلح جلده إلا بجلده.
وفعلًا أخذ الباشا يضرب المكاري، وهو يستغيث بالشرطي وينادي "يا بوليس، يا بوليس"، وبعد أن فرغ من ضربه أخذ يستفسر عن البوليس هذا، وهل هو ولي جديد من أولياء الله الصالحين يستغيث به هذا المسكين.
فقال له عيسى بن هشام: نعم إن هذا "البوليس" هو ولي الأمر احتلت فيه القوة الحاكمة.
الباشا: لست أفقه هذا المعنى، فأوضح لي حقيقة البوليس، فأخبره عيسى أنه "القواس" الذي يعرفه، فسأل الباشا عنه حتى يناديه ليحضر، ويعاقب هذا الذي تطاول على المقام الرفيع، فيشير إليه عيسى بأنه هذا الرجل المشغول ببائع لفاكهة
والذي بيمينه عود قصب، وبشماله منديل مملوء بالخضر، مما أخذه من الباعة اغتصابًا، وجاء الشرطي وأبى إلا أن يأخذ الباشا إلى "القسم" ويجره إليه جرًا.
ودخل الباشا في تحقيقات لا تنتهي، وهنا يتعرض المويلحي لوصف رجال الإدارة والنيابة والمحامين والقضاة، وينتقد هذا النظام نقدًا مرًا ويسلق بقلمه الحاد هؤلاء الشبان الذين يلون أمور الناس، وهم على حظ كبير من التطري والتخنث والاهتمام بشئون لهوهم ومرحهم، والاستهتار بكل القيم الجميلة وبمصحلة الجمهور، ويبين تفشي الرشوة، وفساد الأخلاق وتحللها.
حبس الباشا دون أن يجد من يسمع شكاته، وزور عليه الاتهام بأنه ضرب أحد رجال الشرطة بجسمه؛ لأن الرجل كان قد أعياه التعب فوقع على أحد الجنود، وهو يمسح أرض القسم، فاتهمه هذا بأنه ضربه وهو يؤدي وظيفته الرسمية، وشهد الشهود فكان ضرب المكاري وضرب الجندي مما زج به في سجن الشرطة.
فإذا أحيل الباشا إلى النيابة، واضطر إلى أن يذهب إلى قلم "السوابق وتحقيق الشخصية"، يصف المويلحي ما يتعرض له الإنسان في هذه المصلحة من المهانة والامتهان، فإذا انتهى الباشا من هذه المحنة سأل صاحبه: أين نحن الآن، ومن هذا الغلام، وما هذا الزحام؟، فيجيبه بأنهم أمام النيابة، وهذا عضو النيابة، وهؤلاء أرباب الدعاوى، فيسأله من النيابة؟ فيفسرها له: بأن النيابة في هذا النظام الجديد هي سلطة قضائية مكلفة بإقامة الدعاوى الجنائية على المجرمين بالنيابة عن الهيئة الاجتماعية، فيسأل عن الهيئة الاجتماعية، ويعرف أنها مجموعة الأمة، وهناك يقول:
الباشا: ومن هذا الأمير العظيم الذي اتفقت الأمة عليه لينوب عنها.
عيسى بن هشام: ليس هذا الذي تراه بأمير ولا بعظيم من عظماء الأمة، وإنما هو أحد أبناء الفلاحين أرسله أبواه إلى المدارس فنال الشهادة، فاستحق النيابة فتولى في الأمة ولاية الدماء والأعراض والأموال.
الباشا: نعمت المنزلة عند الله الشهادة، وللشهيد في الجنة أعلى الدرجات، ولكن كيف نتصور عقولكم -وأظنكم فقدتموها- أن تجتمع الشهادة في سبيل الله والحياة فيا لدنيا لأحد الناس؟ والذي يفوق ذلك عجبًا، ويزيد العقل خيالًا أن يحكم الناس فلاح وينوب عن الأمة حراث.
فبين له عيسى بن هشام أن الشهادة ليست بشهادة الجهاد، بل هي ورقة يأخذها التلميذ في نهاية دروسه، ليثبت بها أنه تلقى العلوم وترع فيها، وقيمتها لمن يريد الحصول عليها ألف وخمسمائة فرنك في بعض الأحيان -وهذه غمزة اجتماعية تبين ما كان يحدث من شراء الشهادات.
ويدخل اثنان على النائب وهما من لداته يصفهما عيسى بن هشام وصفًا ساخرًا، فيقول: "وبينا نحن في هذا الحديث إذا بشابين رشيقين قد أقبلا يخطران في مشيتهما، والطيب ينتشر في الجو من أردانهما، وهما يصعران خديهما كبرًا
واختيالًا، ولا يلتفتان من حولهما تيهًا وإعجابًا، أحدهما يشق الهواء بعصاه،
والثاني تلعب بالنظارة يداه: فشخصت إليهما الأنظار، وتحولت الأبصار، والحاجب أمامهما يدفع الناس من طريقهما، حتى وصلا إلى باب النائب، فقام لهما عن مجلسه وأمر بأرباب القضايا أن ينصرفوا من حضرته، واشتغل الحاجب بسحبهم وجرهم وطردهم ونهرهم، واشتغل النائب بطي المحاضر، ورفع المحابر حتى خلا لصاحبيه من كل شغل وعمل.
ثم تبين أن الحديث الذي من أجله صرف المتقاضين وأهانهم، وانصرف عن واجبه بسببه حديثتافه يدور حول السهرات، ولعب القمار وصحبة النساء والسؤال عن فلان وفلان ماذا عملًا وماذا جرى لهما؟، فإذا سأل أحدهم أتعرفون لم انتحر فلان؟ كل بيدي رأيه في الأمر، وأخيرًا تبين أنه انتحر تقليدًا لأبيناء العلية من شبان باريس.
وهكذا يمضي المويلحي يغوص إلى أعماق المجتمع، يلحظ وينتقد ويلذع بكلماته هؤلاء الذين لا يراعون حقوق الوطن والمواطنين، وينحرفون عن جادة
الصواب، ويصور الشواذ من الناس تصويرًا بارعًا، ويقف أمام الأشياء العظيمة فيجيد نعتها، كل هذا مع روح مصرية خالصة في وطنيتها وصدقها ومرحها ودعابتها.
يتكلم مثلًا عن المحاماة في مصر، وكيف أنها صناعة شريفة يمارسها كثير من فضلاء القوم، ولكن قد دخل في الصناعة جماعة اتخذوا الخداع والاحتيال بضاعة للكسب، وهؤلاء بعينهم هم الذين عناهم علاء الدين الكندي بقوله:
ما وكلاء الحكم إن خاصموا
…
إلا شياطين أولو باس
قوم غدا شرهم فاضلا
…
عنهم فباعوه على الناس
وكان ذلك بسبب سمسار المحامي الذي أراد أن يستغل الباشا أسوأ استغلال لولا يقظة عيسى بن هشام.
ويصف ساحة المحكمة وقت التقاضي فيقول: ولما حل يوم الجلسة رافقت الباشا إلى المحكمة، فوجدنا في ساحتها أقوامًا ذوي وجوه مكفهرة، وألوان مصفرة، وأنفاس مقطوعة، وأكف مرفوعة، وشاهدنا باطلًا يذكر، وحقًا ينكر، وشاكيًا يتوعد وجانبًا يتودد، وشاهدًا يتردد، وجنديًا يتهدد، وحاجبًا يستبد، ومحاميًا يستعد، وأما تنوح وطفلًا يصيح، وفتاة تتلهف وشيخنا يتأفف، وسمعنا ألفاظًا متناقضة وأقوالًا متعارضة، ورأينا المحامين عن الخصمين يشحذ كل منهما لسانه ويقدح جنائه، استعدادًا للنزال في ميادين المقال، وتأهبا للدافع في مواقف النزاع
…
إلخ".
ثم يصف القضاء وتعدده فمحاكم شرعية، وأهلية، ومختلطة، ومجالس تأديبية وإدارية وعسكرية ومحاكم مخصوصة، فقال الباشا، ما هذا الخلط وما هذا الخبط؟ سبحان الله هل أصبح المصريون فرقًا وأحزابًا، وقبائل وأفخاذًا وأجناسًا مختلفة وفائت غير مؤتلفة وطوائف متبددة، حتى جعلوا لكل واحدة محاكم على حدة، ما عهدناهم كذلك في الأعصر الأول مع دولات الدول، وهل انطمست تلك الشريعة الغراء، واندرست بيوت الحكم والقضاء؟ اللهم لا كفران، ولعن الله الشيطان.
ويصف القاضي وضيق صدره وتبرمه من سماع المرافعة، أو الشرح لا لكثرة القضايا التي أمامه فحسب ولكن؛ لأنه مدعو إلى وليمة بعض رفاقه عند الظهر تمامًا، ونتيجة عدم استماعه حكم على الباشا بالسجن سنة ونصف؛ لأنه ضرب المكاري.
ويتهكم برجال الأزهر لبعدهم عن الكتابة في الصحف، فيقول: علماؤنا ومشايخنا- يغفر الله لهم هم أبعد الناس عن اختيار هذه الطريق، وممارسة هذه الصناعة، وهم يرون الاشتغال بها بدعة من البدع، ويعتبرونه فضولًا تنهى عنه الشريعة، وتداخلًا فيما لا يعني، فلا يأبهون بها، وربما اختلفوا في كراهة الإطلاع عليها أو إباحته، وقد مارس هذه الصناعة قوم آخرون غيرهم فيهم الفاضل وغير الفاضل، واتخذها بعضهم حرفة للتعيش بها، والتكفف على أية حال كانت، فلا تجد بينهم وبين أهل الحرف وباعة الأسواق فرقا في الغش والخداع والكذب، والنفاق والمكر والاحتيال للاستلاب والاغتيال.
عمروا موضع التصنع فيهم
…
ومكان الإخلاص منهم خراب
أما وطنيته فتتجلى في مواطن كثيرة، في حرصه البالغ على أن يؤدي كل إنسان عمله على الوجه الأكمل، في كراهيته للاستعمار وأذنابه، في حملته الشديدة على استغلال الأجانب لخيرات البلاد إلى غير ذلك من الموضوعات الوطنية الصادقة، خذ مثلًا قوله في الموازنة بين المصري والأجنبي في محاورة بين الباشا والمحامي:
المحامي: أيها الأمير لا تغبط المصري على نعمته، وتعال فابك من نقمته، فليس له في هذه الجنة من دار، يقر له فيها قرار، وكل ما تراه من هذا الجانب فهو ملك الأجانب.
الباشا: لله أبوك، كيف يختص الأجنبي دون الوطني بهذه الجنان الناضرة، ويستأثر دونه بهذه المساكن الفاخرة؟، ولعلك تلغز في قولك وتحاجي، وتعمي في تعبيرك وتداجي.
المحامي: لا تعمية ولا تحجية، بل هكذا قدر المصري لنفسه، وتبدل سعده بنحسه، واقتنع من دهره بالدون والطفيف، ورضى بالقسم الخسيس الضعيف، فبات محرومًا تحت ظل إهماله وخموله، وغدا بائسًا في نسيانه وذهوله، ومال زال الأجنبي يسعى يكد ويعمل ويجد، وينال ثم يطمع، ويسلب ثم يجمع، والمصري يبذر بجانبه ويسرف، ويبدد ويتلف، ويتحسر ثم يلهو، ويعجز
ثم يزهو، ويفتقر ثم يفتخر، فتساوى السيد والمسود، وتشابه الحاسد والمحسود، وتعادل الرفيع والمنيع، والوضيع، واشتركنا كلنا على السواء في منازل الشدة والبلاء، وأصبح نصيب القوي المكين مثل نصيب الضعيف المستكين، وكذلك تكون عاقبة من يلقي للأجنبي بيديه، ومن أعان ظالمًا سلط عليه.
ومن يجعل الضرغام بازا لصيده
…
تصيده الضرغام فيما تصيدا
لم يدع المويلحي شيئًا فيمصر إلا عرج عليه ووصفه مادحًا أو قادحًا.. أبناء الكبراء، وكبراء العصر الماضي، والمحامي الشرعي وفساده وكان رأيه في هذه الطائفة أيامهس في غاية السوء، وزارة الأوقاف وما فهيا من مآس ومفاجع، المحكمة الشرعية والطب والأطباء والإسكندرية، والأمراض المتفشية والفرق بين العامة والخاصة في طرق العلاج والقدرة عليه، ويقوم بعزلة أدبية أو سياحة فكرية مع الباشا، فيطلعك على جواهر محفوظه، وطرف نوادره، وزهد الناس بمصر في القراءة، ويظهر أنها ظاهرة قديمة منذ عصر المويلحي وربما لأبعد من هذا، ولا يفوته أن يتكلم عن الأزهر ويروي مناقشات العلماء وجدلهم في مشكلات لفظية والمحرم والحلال والبدعة، والضلال مما يرونه من مظاهر الحياة المعاصرة لهم، ويتهكم بهم تارة ويرثي لهم تارة أخرى، وينعي عليهم عيهم وبكاءة ألسنتهم، ويتناول الأعيان والتجارة ويصف أنماطهم وأحوالهم، ثم الموظفين، وأنواعهم، وعيونهم، وفسادهم.
ويتكلم عن أبناء الأسر الحاكمة، وبطالتهم وفراغهم العقلي والنفسي، واستغلال الأجانب والمرابين لهم أشد استغلال وأسوأه، ويتكلم عن مشاهد العرس فيمصر وما دخل فيها من البدع وتقليد الفرنجة، ويتكلم عن العمد والقرى، وعن العمدة في القاهرة وفي المطعم وفي المرقص وفي الرهن ولدى الأهرام وفي الملاهي، والمدينة الغربية ومساوئها.
لقد أعطى المويلحي صورة متكاملة للمجتمع في عصره، ومع روح نقدية بناءة، في أسلوب أدبي طريف يلجأ إلى السجع في الوصف الخالص وإلى الأسلوب المرسل في الحوادث والحوار، وهو كما ذكرنا مزيج للثقافتين العربية
والغربية فهو شبه قصة إذ ينقصها العقدة وترابط الأحداث، وإن كان شخص الباشا، وعيسى بن هشام يظهران في كل فصل من فصول الكتاب.
والكتاب كذلك بأسلوب يدل على فترة الانتقال التي كان يمر بها النثر في أخريات القرن التاسع عشر، فيجمع بني الترسل والسجع، لم يخلص لأحدهما: وإن كان السجع فيه مقبولًا ولا يلجأ إليه إلا في المواطن الأدبية التي تحتاج إلى خيال وبراعة.