المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌المراثي عند المنفلوطي: - نشأة النثر الحديث وتطوره

[عمر الدسوقي]

فهرس الكتاب

- ‌المقدمات

- ‌مقدمة

- ‌المحتويات:

- ‌تمهيد:

- ‌البعث

- ‌مدخل

- ‌رفاعة الطهطاوي

- ‌في العراق والشام

- ‌السيد محمود الألوس أبو الثناء

- ‌نصايف اليازجي

- ‌بطرس البستاني:

- ‌أثر الصحافة في تطور الأسلوب:

- ‌الوقائع المصرية:

- ‌مدرسة جمال الدين الأفغاني، وأدب المقالة:

- ‌محمد عبده:

- ‌أديب إسحق

- ‌إبراهيم اللقاني:

- ‌عبد الله نديم:

- ‌أدباء الشام:

- ‌إبراهيم اليازجي:

- ‌نجيب حداد:

- ‌تنوع المقالة:

- ‌أدب الرسائل:

- ‌عبد الله فكري:

- ‌محمد عبده:

- ‌حمزة فتح الله:

- ‌عبد الكريم سلمان:

- ‌أحمد مفتاح:

- ‌عبد العزيز جاويش:

- ‌حفني ناصف:

- ‌إبراهيم اليازجي:

- ‌الكتب الأدبية:

- ‌أسواق الذهب لأحمد شوقي:

- ‌حديث عيسى بن هشام للمويلحي:

- ‌ليالى سطيح لحافظ إبراهيم:

- ‌صهاريج اللؤلؤ للبكري:

- ‌تطور المقال الأدبي

- ‌مدخل

- ‌مصطفى لطفي المنفلوطي

- ‌مدخل

- ‌الاشتراكية عند المنفلوطي:

- ‌اللغة العربية عند المنفلوطي:

- ‌المراثي عند المنفلوطي:

- ‌مقالاته الأدبية:

- ‌رسائله:

- ‌البيان في رأي المنفلوطي:

- ‌أسلوب المنفلوطي:

- ‌منزلة المنفلوطي في موكب الأدب العربي:

- ‌أثر الثقافة الأجنبية في تطور المقال الأدبي:

الفصل: ‌المراثي عند المنفلوطي:

‌المراثي عند المنفلوطي:

لم يكن المنفلوطي من محترفي الرثاء، وإنما كان رجلًا ذا عاطفة جياشة، وشعور صادق، فهو لم يرث إلا صديقًا أو حبيبًا أو عالمًا جليلًا له قدره ومنزلته، أما رثاء الصديق فيتمثل في رثاثه للشيخ علي يوسف صاحب المؤيد، وكان رثاؤه دمعة وفاء لذلك الذي قدر مواهبه، وفسح له في صحيفته، وفتح له باب الشهرة، وتشفع له في محنته لدى الخديوي، ورأى فيه المنفلوطي بعين المحب تلك المزايا والسجايا التي خفيت على كثير من الناس.

وكان في رثائة له من اللوعة وحرقة الحزن، وشدة العاطفة ما جعلت رثاءه ندبًا وبكاء فيقول في رثائة: "هكذا تقوم القيامة، وهكذا ينفخ في الصور، وهكذا تطوى السماء طي السجل للكتاب؟ أفيما بين يوم وليلة يصبح هذا الرجل الذي كان ملء الأفئدة والصدور، وملء الأسماع والأبصار، وملء الأرجاء والأجواء، جثة ضاوية نحيلة مدرجة في كفن، ملحدة في مهوى من باطن الأرض سحيق!!؟

"لقد كان هذا الرجل العزاء الباقي لنا عن كل ذاهب، والنجم المتلألئ الذي كنا نتنوره من حين إلى حين في هذه السماء المظلمة المدلهمة المقفرة من الكواكب والنجوم، والدوحة الخضراء التي كنا نلوذ بظلها من لفحات هذه الحياة وزفراتها، فنحن إن بكيناه فإنما نبكي الأمل الذاهب، والسعادة الراحلة، والحياة الطيبة، ومن هو أولى بالتفجيع والبكاء من سعادتنا وآمالنا؟؟؟!!.

ثم يروح يعدد من مواهب الشيخ علي يوسف، ومواقفه المشرقة، وحصافته السياسية، وكيف كان يعامل أصدقاءه وأعداءه وكيف كان كريمًا سخيًا مع من يعرف ومن لا يعرف ويقول:"وما رأيته في يوم من أيام حياته حاقدًا ولا واجدًا ولا منتقمًا ولا طالبًا بثأر، ولا ذائدًا عن نفسه إلا في الساعة التي يعلم فيها أن قد جد الجد، وأن قد أصبح عرضه وشرفه على خطر"، ويختم رثاءه بعد تلك الجولة في مزايا صديقه حين يبين عظم الفديحة فيه بمثل ما استهل به الرثاء من تلك العاطفة الحزينة الجياشة حيث يقول:"أيها الراحل الكريم: لقد كنت أرجو أن أجد بين جنبي بقية من الصبر أغالب بها هذا الحزن الذي أعالجه فيك حتى يبلى على مدى الأيام، كما يبلى الكفن لولا قدر أبعدني عن موطنك في آخر أيام حياتك، فحرمني جلسة أجلسها بجانب سريرك أسمع فيها آخر كلمة من كلماتك، وأرى آخر نظرة من نظراتك، وحال بيني وبين خطوة أخطوها تحت نعشك أجزيك فيها ببعض ما خطوت لي في حياتك من الخطوات الواسعات، ووقفة أقفها عند قبرك ساعة دفنك أذرف فيها على تربتك أو دمعة يذرفها الباكون عليك، فلئن بكيت موتك يومًا فسأبكي حرماني وداعك أيامًا طوالًا حتى يجمع الله بيني وبينك".

أما رثاؤه لأحبائه فيتمثل من رثائه لابنه "الدين الصغير"، وقد بلغت عاطفته فيه مداها، وكاد يفقد اتزان عقله، ويهتز إيمانه بالله لولا أن ذلك الإيمان قوي مكين سرعان ما عاد به إلى الله، فيستهل رثاءه بقوله:

ص: 199

"الآن نفضت يدي من تراب قبرك يا بني وعدت إلى منزلي كما يعود القائد المنكسر من ساحة الحرب، لا أملك إلا دمعة لا أستطيع إرسالها، وزفرة لا أستطيع تصعيدها.

ذلك؛ لأن الله الذي كتب لي في لوح مقاديره هذا الشقاء في أمرك فرزقني بل قبل أن أسأله إياك، ثم استلبنيك، قبل أن أستعفيه منك، قد أراد أن يتم قضاءه في، وأن يجرعني الكأس حتى ثمالتها، فحرمني حتى دمعة أرسلها أو زفرة أصعدها، حتى لا أجد في هذه ولا تلك ما أتفرج به بما أنا فيه، فله الحمد راضيًا وغاضبًا، وله الثناء منعمًا وسالبًا، وله مني ما يشاء من الرضا بقضائه، والصبر على بلائه".

ويروح المنفلوطي يذرف الدموع سخينة سخية على فقيده، ويتحسر على ما قدمه له من دواء مر لم يجده نفعًا، ولم ينقذه من العذاب والتعذيب، ويتذكر بموته موت ما سبق أن دفنه من أولاد، فيهيج الجرح الجديد الجراح القديمة، وكاد يبلغ من اليأس مداه، وقد عبر عن لوعته وشدة حزنه في عبارات تذوب أسى وشجى.

"ما أسمج وجه الحياة من بعده يا بني، وما أقبح صورة هذه الكائنات في نظري، وما أشد ظلمة البيت الذي أسكنه بعد فراقك إياه، فلقد كنت تطلع في أرجائه شمسًا مشرقة تضيء لي كل شيء فيه، أما اليوم فلا ترى عيني مما حولي أكثر مما ترى عينك الآن في ظلمات قبرك.

دفنتك اليوم يا بني، ودفنت أخاك من قبلك، ودفنت من قبلكما أخويكما، فأنا في كل يوم أستقبل زائرًا جديدًا وأودع ضيفًا راحلًا، فيالله لقلب قد لاقى فوق ما تلاقي القلوب، واحتمل فوق ما يحتمل من فوادح الخطوب.

لقد افتلذ كل منكم يا بني من كبدي فلذة، فأصبحت هذه الكبد الخرقاء مزقًا مبعثرة في زوايا القبور".

ثم يسأل سؤالًا يدل على عظم فجيعته، ونفاد صبره، وشدة لوعته، كاد به يتزعزع إيمانه فيقول: "لماذا ذهبتم يا بني بعد ما جئتم؟ ولماذا جئتم إن كنتم تعلمون أنكم لا تقيمون.

ص: 200

لولا مجيئكم ما أسفت خلو يدي منكم؛ لأنني ما تعودت أن تمتد عيني إلى ما ليس في يدي، ولو أنكم بقيتم بعدم ما جئتم ما تجرعت هذه الكأس المريرة في سبيلكم".

ولكن يلوذ بإيمانه ثانية، ويسألهم أن يتوسلوا إلى الله الذي ينعمون بجواره أن يلهم أباهم الصبر، وأن يأتي به إليهم فهو يتمنى الموت حتى يسعد بلقاء أحبائه في دار النعيم.

وأما رثاؤه للعلماء فيتمثل في رثائه لجورجي زيدان صاحب الهلال، يرثه رثاء العارف بفضله، المقدر لمواهبه وخدماته في سبيل العلم والأدب، رثاء الأديب للعالم الذي أبلى في ميدان الجهاد العلمي خير بلاء.

ورثاؤه لجرجي زيدان ليست فيه تلك العاطفة الحادة التي لاحظناها في رثاء علي يوسف، ولا تلك اللوعة والحرقة التي شاهدناها في رثاء ولده، وإنما تعداد لمناقب الرجل وإشادة بآثاره ومنزلته بين مواطنيه، وعميم فضله على العلم والأدب:"مات جورجي زيدان، فنحن نبكيه جميعًا، أما هو فيبتسم لبكائنا، ويرى في تفجعنا عليه، والتياعنا لفراقه منظرًا من أجمل المناظر وأبهاها؛ لأنه يعلم أن هذه الدموع التي نرسلها وراء نعشه، أو نمطرها فوق ضريحه إنما هي ألسنة ناطقة بحبه وإعظامه، والاعتراف بفضله والثناء على عمله".

كان بطلًا من أبطال الجد والعمل، والهمة والنشاط، يكتب أحسن المجالات، ويؤلف أفضل الكتب، وينشء أجمل الروايات ويناقش ويناضل، ويبحث وينقب

إلخ.

وراح المنفلوطي في رثائه هذا يرد على هؤلاء الذين ناصبوا جورجي زيدان العداء في حياته، فبعضهم رماه بالتطفل على المباحث الإسلامية، وأنه مسيحي لا يؤتمن على الإسلام، ولا أحسب أن أحدًا منهم كان يعتقد شيئًا مما يقول، ولكنهم كانوا يرون أن الدين سلعة تباع وتشترى، وأن سلعته ملك لهم، ووقف عليهم، ولا يجب أن تعرض في حانوت غير حانوتهم.

ورماه بعضهم بأنه سوري دخيل جاء يتجر بعلمه وأدبه في مصر "ووالله ما أدري كيف تتسع صدورهم للخمار الرومي، واللص الإيطالي، والفاجر الأرمني

ص: 201

أن يفتح كل منهم في كل موطئ قدم من مدنهم وقراهم حانًا يسلب فيه عقولهم، أو مقمرًا يسرق فيه أموالهم، أو مأخورًا يهتم فيه أعراضهم، فلا يطاردونه، ولا يحاربونه، ولا يسمونه دخيلًا ولا واغلا؟ ".

إنها مقالة مستأنية، ساق فيها الحجج الدامغة ليبرهن على علو مكانة جورجي زيدان، وسابغ فضله، وعظم أياديه على العلم والأدب والبحث، على الرغم من حقد الحاقدين، وحسد الحاسدين، وجهل الجاهلين.

ورثى المنفلوطي شبابه حين بلغ الأربعين، وكأنما أحس أنه يخطو إلى الموت سريعًا، وكان يتخوف هذا الموت؛ لأنه قادم على عالم مجهول لا يعلم فيه كيف يكون حظه، وكان شديد العاطفة في ذكرياته لشبابه الذي مضى على الرغم من أنه لم يتمتع فيه "بمتعة من المتع، ولا بلذة من الملاذ، ولا نلت في عهدك مأربًا من مآرب المجد والجاه، ولكني كنت أؤمل وأرجو، وبذلك الأمل كنت أعيش، وتحت ظلال ذلك الرجاء كنت أهنأ وأنعم".

والمنفلوطي على العموم سريع العبرة، شديد الإحساس، قوي العاطفة، وتجذبه المواقف الحزينة إليها جذبًا شديدًا ولنا وإلى هذه الظاهرة عودة عند الحديث عن أسلوبه وخصائصه.

ص: 202