الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
تطور المقال الأدبي
مدخل
…
تطور المقال الأدبي:
عرفنا فيما تقدم من هذا الكتاب أن كثيرين ممن كانوا يحاكون أسلوب المقامة في مستهل حياتهم الأدبية والكتابية ويؤثرون السجع، والزخارف البديعية على الترسل قد هجروا السجع، واتجهوا نحو الأسلوب المرسل في أخريات حياتهم، مواكبين بذلك التطور الفكري للأمة من أمثال: أديب إسحاق، ومحمد عبده، وعبد الله نديم، وحفني ناصف.
ولما قوي تيار الثقافة الغربية في فترة الاحتلال، وفرض المحتل لغته في مدارسنا يتلقى بها الطلبة جمع دروسهم ما عدا اللغة العربية، نشأ جيل يجيد الإنجليزية، ويقرأ آثار آدابها وأعلام الفكر فيها، كما أن الثقافة الفرنسية كان لها أنصارها والمعجبون بنتاجها الأدبي، ولم يعد هؤلاء المثقفون بالثقافة الحديثة يرضون ذلك الأسلوب المقيد بالسجع والزخارف، والوقوف عند حد الألفاظ، وإنما أرادوا أن يكون المقال غذاء للفكر والذوق معًا، وأن يخصب ذهن القارئ، ويوسع آفاقه، ويحفزه على التفكير.
وما إن خطا القرن العشرون في سنيه الأولى خطوات، حتى كاد يختفي هذا النثر المسجوع إلا عند فئة قليلة محافظة، وفي تلك الفترة اشتدت الحملة على اللغة العربية الفصحى، ودعا المستعمرون حملة الأقلام للكتابة باللغة العامية، وشايعهم بعض المثقفين ثقافة غربية محاولين تقليد الأمم الغربية التي هجرت اللاتينية إلى لهجاتها المحلية كالفرنسية، والإيطالية، والأسبانية، وبحجة أن اللغة العربية تقف بينهم وبين الانطلاق الفكري، والتعبير الصادق عن مشاعرهم، وقد حاول بعضهم أن يتخذ اللغة العامة أداء للتعبير مثل محمد عثمان جلال حين عرب بعض مسرحيات موليير وراسين، وخرافات لافونتين، ودعا مثل هذه الدعوة بعض الأدباء السوريين المسيحيين، بيد أن هذه الدعوة أخفقت؛ لأن المستعمر احتضنها وروج لها على نحو ما وضحناه في كتابنا "الأدب الحديث"،
ورأى الناس فيها خطرا على شخصيتهم وتراثهم العميق الشامخ، كما رأوها غير بريئة من الهوى؛ لأن المستعمر أراد أن ينسي الناس دينهم ولغة قرآنهم، وتنقطع الصلات بينهم وبين ماضيهم المجيد، فكان العاملان الديني والسياسي سببًا في الإقلاع عن هذه الفكرة المغرضة، وثمة سبب ثالث وهو أن الأدباء أنفسهم رأوا أن الفصحى ملك أيمانهم، وأنهم استطاعوا إلى حد ما أن يعبروا بها عن مقتضيات الحضارة والفكر الغربي وبخاصة في العلوم الإنسانية، وأنها ليست عائقًا عن مجاراة الثقافة الغربية، بل تزداد كل يوم قوة لمرونتها، وكثرة مفرداتها وقدرتها على النمو لما فيها من خصائص لا تنكر تساعدها على الازدهار.
ولما لم يكن في الإمكان الرجوع إلى الأسلوب القديم الموروث عن المقامة، ولا الالتجاء إلى العامية كان لزامًا أن يبحث الأدباء عن أسلوب آخر تظهر فيه شخصية الأديب، ولا يطفي عليه محفوظه القديم وتقليده له، ويرضي في الوقت نفسه الحاسة الفنية والأذواق الأدبية لدى القراء.
ولا يعنينا هنا تتبع الأسلوب الصحفي أو السياسي الذي يكتب على عجل ويقرأ لساعته، ويخاطب الجماهير، وإنما نبحث في الأسلوب الأدبي الذي يتميز بسمات فنية ذكرناها آنفًا في هذا الكتاب، وقد ظهر هذا الأسلوب الجيد بأناقته وطرافته لا على يد هؤلاء الذي تثقفوا ثقافة غربية واسعة، وإنما على يد شيخ أزهري أديب هو مصطفى لطفي المنفلوطي في مقالاته التي ابتدأ يكتبها للمؤيد منذ سنة 1907 تحت عنوان النظرات.