الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مقالاته الأدبية:
على الرغم من أن كتابة المنفلوطي في الاجتماعيات والدين، والرثاء تتسم بالرشاقة والأناقة، وفيها كثير من قوة العاطفة حتى تكاد أن تلحق بالكتابة الأدبية إلا أن ثمة موضوعات كانت من قبل وقفًا على الشعر؛ لأن فيها مجالًا للخيال والعاطفية قد طرقها المنفلوطي، وارتفع فيه بأسلوبه عما ألقناه منه؛ ولأنها بعيدة عن معالجة شئون المجتمع، بل هي قطع وصفية قالها إشباعًا لحاسته الأدبية، واستجابة لمشاعره المرهفة مثل حديثه عن: الضمير، والجمال، والرحمة، والغد، والشعر.. إلخ، وإن لم يخل حديثه فيها عن موعظة سامعيه وقارئيه أداء لرسالته التي عاهد نفسه عليها.
ففي مقاله "الغد" يدور حول فكرة احتجاب الغد وما فيه من خير وشر عن أنظارنا وعقولنا، لكنه يوردها في صور متعددة:"الغد شبح يتراءى للناظر من مكان بعيد، فربما كان ملكًا رحيمًا، وربما كان شيطانًا رجيمًا، بل ربما كان سحابه سوداء إذا هبت عليها ريح بادرة حللت أجزاءها، وبعثرت ذراتها، فأصبحت كأنما هي عدم من الأعدام التي لم يسبق لها وجود".
"الغد بحر خضم زاخر يعب عبابه وتصطخب أمواجه، فما يدريك إن كان يحمل في جوفه الدر والجوهر، أو الموت الأحمر، الغد صدر مملوء بالأسرار الغزار تحوم حوله البصائر وتتسقطه العقول، وتستدرجه الأنظار، فلا يبوح بسر من أسراره إلا إذا جاءت الصخرة بالماء الزلال".
"كأني بالغد وهو كامن في مكمنه، ورابض في مجشمه، متلفع بفضل إزاره ينظر إلى آمالنا وأمانينا نظرات الهزء والسخرية، ويبتسم ابتسامات الاستخفاف والازدراء، يقول في نفسه: لو علم هذا الجامع أنه يجمع للوارث، وهذا الباني أنه يبني للخراب، وهذا الولد أنه يلد للموت، ما جمع الجامع، ولا بنى الباني، ولا ولد الوالد".
ثم يتكلم عن قدرة الإنسان على تذليل قوى الطبيعة في شتى مجالاتها في السماء والأرض والبحر، والنفس الإنسانية وذخائلها "حتى كاد يسمع حديث النفس، ودبيب المنى، واخترق بذكائه كل حجاب، وفتح كل باب، ولكنه سقط أمام باب الغد عاجزًا مقهورًا لا يجرؤ على فتحه، بل لا يجسر على قرعه؛ لأنه باب الله، والله لا يطلع على غيبه أحدًا".
ولكن لو علم الإنسان علم الغيب، وأطلع على ما يضمره الغد، أتراه يستريح ويسعد؟ يقول المنفلوطي في ختام مقالته: "لا
…
لا، صن سرك في صدرك، وأبق لثامك على وجهك، ولا تحدثنا حديثًا واحدًا عن آمالنا وأمانينا، حتى لا تفجعفا في أرواحنا ونفوسنا، فإنما نحن أحياء بالآمال، وإن كانت باطلة، وسعداء بالأماني، وإن كانت كاذبة.
وليست حياة المرء إلا أمانيا
…
إذا هي ضاعت فالحياة على الأثر
وليس في هذا المقال فكرة فلسفية عميقة يوحي بها الحديث عن الغد، وإنما هي صور متباينة لمعنى واحد، ومع ذلك تبلغ في طلاوتها وسمو عبارتها ما بلغته عبارة "شوقي" في حديثه عن العد بكتابه "أسواق الذهب"1.
ولعل طبيعة الموضوع وقف دون تحليقه في مجالات الخيال، مع أن ثمة منافذ للخيال في موضوع الغد، وحالت تبعًا لذلك دون سمو عبارته.
ولستمع إليه في موضوع وصفي خالص، وهو "مناجاة القمر" حيث يقول في مستهله:
"أيها الكوكب المطن من علياء سماته، أأنت عروس حسناء تشرف من نافذة قصرها، وهذه النجوم المبعثرة حواليك قلائد من جمان؟ أم ملك عظيم جالس فوق عرشه، وهذه النيرات حور وولدان؟ أم فص من ماس يتلألأ وهذا الأفق المحيط بك خاتم من الأنوار؟ أم مرآة صافية، وهذه الهالة الدائرة بك إطار؟ أم عين ثرة ثجاجة؟ وهذه الأشعة جداول تتدفق؟ أو تنور مسجور، وهذه الكواكب شرر يتألق".
وهو في هذه الاستهلال لمناجاته يعمد إلى العبارة الموشاة بالسجع والألفاظ المنتقاة، وبالخيال التفسيري المعتمد على التشبيه، وإن جاء خيالًا حسيًا وتشابيه من المنظورات.
ونراه بعد ذلك يربط بين نفسه وبين القمر، ويعقد موازنة لحاليهما من حيث الوحدة، والظهور في الظلمة، والأنس بالليل ووحشته ثم يقول:"يراني الرائي فيحسبني سعيدًا؛ لأنه يغتر بابتسامة في ثغري، وطلاقة في وجهي ولو كشفت له عن نفسيي، ورأى ما تنطوي عليه من الهموم والأحزان لبكى لي بكاء الحزين إثر الحزين، ويراك الرائي فيحسبك مغتبطًا مسرورًا؛ لأنه يغتر بجمال وجهك، ولمعان جبينك، وصفاء أديمك، ولو كشف عن عالمك لرآه عالمًا خرابًا وكونًا يبابا"، وفي هذه الموازنة لغة رومانسية جميلة، صيغت في عبارة سامية، زادها السجع غير المتكلف رونقًا.
1 انظر ما تقدم عند الكلام عن شوقي في هذا الكتاب.
ثم ينهى المناجاة بالفكرة المطروقة من قديم في الأدب العربي حيث يجمع القمر بين المحبين، وأن الحبيب الغائب يتطلع إلى القمر كما يتطلع حبيبه، فهو الوصلة بينهما كل منهما يناجيه عساء يجعل النجوى، ويبلغ الشكوى، وهو يرى في صورة القمر ومرآته صورة حبيبه النائي، ليزداد شوقًا إليه ووجدًا عليه.
وفي موضوع "الرحمة"، وهو موضوع يتناسب مع رقة المنفلوطي ودقة حسه، وعميق عاطفته، وحدبه على الضعفاء والمساكين يستهله المنفلوطي بقوله:"سأكون هذه المرة شاعرًا بلا قافية ولا بحر؛ لأني أريد أن أخاطب القلب وجهًا لوجه، ولا سبيل إلى ذلك إلا سبيل الشعر".
وهو هنا لا يعالج موضوع ارحمة معالجة اجتماعية منطقية مدعومة بالأدلة، والأحوادث والكوارث ليرفق بها قلوب الهانئين على الضعفاء والمنكوبين، ولكنه يلجأ إلى الخطابة والموعظة المشحونة بالعاطفة.
"أيها الرجل السعيد: كن رحيمًا، أشعر قلبك الرحمة، ليكن قلبك الرحمة، بعينها".
"ستقول: إني غير سعيد؛ لأن بين جنبي قلبًا يلم به من الهم ما يلم بغيره من القلوب، أجل! فليكن كذلك، ولكن أطعم الجائع، وأكس العاري، وعز المحزون، وفرح كربة المكروب، يكن لك من هذا المجموع البائس خير عزاء يعزيك عن همومك وأحزانك، ولا تعجب أن يأتيك النور من سواد الحلك، فالبدر لا يطلع إلا إذا شق رداء الليل، والفجر لا يدرج إلا من بعد الظلام".
وهو يدعو من رزقوا السعادة، أو الذين يظنون أنفسهم سعداء أن يبكوا لمناظر البؤرس والفاقة:"وليتك تبكي كلما وقع نظرك على محزون أو مفقود، فتبتسم سرورًا ببكائك، واغتباطك بدموعك؛ لأن الدموع التي تنحدر على خديك في مثل هذا الموقف إنما هي سطور من نور، تسجل لك في تلك الصحيفة البيضاء، أنك إنسان".
ويستدل بما تقوم به الطبيعة حيال الإنسان رأفة به ورحمة: "إن السماء تبكي بدموع الغمام، ويخفق قلبها بلمعان البرق، وتصرخ بهدير الرعد، وإن الأرض تئن
بحفيف الريح، وتضج بأمواج البحر، وما بكاء السماء، ولا أنين الأرض إلا رحمة بالإنسان، ونحن أبناء الطبيعة، فلنجارها في بكائها وأنينها".
ويروح المنفلوطي يعدد هؤلاء الذين يجب على الإنسان أن يرحمهم: الأرملة التي مات عنها زوجها، ولم يترك لها غير صبية صغار، ودموغ غزار، والمرأة الساقطة، لا تزين لها خلالها، ولا تشتر منها عرضها علها تعجز أن تجد مساومًا يساومها فيه، فتعود به سالمًا إلى كسر بيتها.
والزوجة، والولد، والجاهل والحيوان، والطير "لا تحبسها في أقفاصها، ودعها تهيم في فضائها حيث تشاء، وتقع حيث يطيب لها التغيير والتنقير".
لقد كان المنفلوطي في مقال "الرحمة" شاعرًا حقًا، بلا وزن ولا قافية، يفيض قلبه بالرحمة والعطف، حتى شمل عطفه ورحمته الحيوان الأعجم، والطير الأخرس العاجز.
ولكن أيهما أبلغ أثرًا في النفس: تلك الطريقة الأدبية المعتمدة على العاطفة، والخطاب المباشر، والموعظة والعبارة الأنيقة، والجمل المتساوية ذات الجرس المتزن التي يقول إنها شعر بلا وزن ولا قافية، وأن الشعر في رأيه أسرع نفاذًا إلى القلب من سواه: "إن البذور تلقي في الأرض فلا تنبت إلا إذا حرث الحارث تربتها، وجعل عاليها سافلها، كذلك القلب لا تبلغ منه العظة إلا إذا داخلته وتخللت أجزاءه، وبلغت سويداءه، ولا محراث للقلب غير الشعر.
أم المعالجة الموضوعية المعتمدة على الأدلة والبراهين، المدعومة بالحوادث المصورة تصويرًا يهيج العاطفة ويستدر الدموع، ويحض على ما فعل الخير:
أعتقد أن الطريقة الثانية تكون أبلغ أثرًا، وأجدى نفعًا، على الرغم من جمال عبارة الأولى وعذوبة ألفاظها، وغزارة عاطفتها.
ومهما يكن من أمر المنفلوطي في مقالة "الرحمة" إنسان ذو قلب رحيم يفكر في غيره قبل أن يفكر في نفسه، ويحاول جهده أن يخفف من لوعة المكروب، وحزن المنكوب، وهو في ذلك متأثر بطبيعته وجبلته وما فطر عليه وبالدين
الإسلامي وتعاليمه السمحة التي تشربت بها روحه، وبنزعته الرومانسية، والإصلاحية.
وفي مقالته "الضمير" لا يبين لنا ما الضمير، وكيف ينشأ، ويتربى حتى يكون ذلك الحارس اليقظ الذي يرد الإنسان عن سبيل الغواية إذا ما هممت نفسه الأمارة بالسوء أن ترتكب إثمًا في حق الله، أو حق المجتمع أو حق سواه من الناس، والذي يحثه على فعل الخير وإنما نراه يتكلم عن "الخلق"، وهو يفرق بين التخلق والخلق ويقول: "أكثر الذين نسميهم فاضلين متخلقين بخلق الفضيلة لا فاضلون؛ لأنهم إنما يلبسون هذا الثوب مصانعة للناس، أو خوفًا منهم، أو طمعًا فيهم، فإن ارتقوا قليلًا عن ذلك لبسوه طمعًا في الجنة التي أعدها الله للمحسنين، أو خوفًا من النار التي أعدها الله للمسيئين.
أما الذي يفعل الحسنة؛ لأنها حسنة أو يتقي السيئة؛ لأنها سيئة فذلك من لا تعرف له وجودًا، أو تعرف له مكانًا.
إنه هنا سيئ الظن بأكثر اللناس فهم ليسوا فضلاء في رأيه، وهذا إسراف في الحكم، وطعن عنيف للمجتمع الذي يعيش فيه، والفكرة التي ساقها بأن بعض الناس فاضل؛ لأنه يرغب في الجنة ويخاف النار، ولا يفعل الحسنة لذاتها، ولا يتجنب السيئة لذاتها، فكرة دخيلة على الفكر الإسلامي يروج لها هؤلاء الذين لا يرون الدين والعقيدة لهما أثر في الأخلاق وتربيتها، وهو من المطاعن التي وجههها بعض أعداء الإسلام للقرأن الكريم والدين الإسلامي، ويقولون: يجب على الإنسان أن يكون خيرًا من نفسه، ومن نبع ضميرهِ، بعيدًا عن الشيء من نفسه، ومن نبع ضميره، وفاتهم أن الضمير هو ما قر في النفس منذ الصغر بالتربية والعرف والعادات، والنموذج الذي يراه المرء ويحتذيه، وقد تكون هذه التربية وتلك العادات والتقاليد منافية للفضيلة المطلقة التي يقرها العقل السليم، فلا يكون ثمة ذلك الضمير الذي ينشده رجال الأخلاق، وفاتهم أن الفضيلة بنت العادة كما يقول أرسطو، وأن جمهرة الناس ليسوا مفكرين وفلاسفة، وأن الغرائز الإنسانية الفطرية تتحكم في تصرفاته مهما قيل عنها، ومن هذه الغرائز الخوف من العقاب، والطمع
في الثواب، وأن الغاية التي يرمى إليها الدين بالترغيب والترهيب هي إيجاد المجتمع الفاضل، وأن السلطان الذي يمثل تلك القوة العليا التي تملك الثواب والعقاب، سلطان عظيم لو تغلغل في النفس وتشربت مبادئه السامية.
ويعالج المنفلوطي بعد ذلك "الخلق" بطريقة شعرية، فيقول: "الخلق هو الدمعة التي تترك فوق عين الرحيم كلما وقع نظره على منظر من مناظر البؤس، أو من مشهد من مشاهد الشقاء، هو القلق الذي يساور قلب الكريم، ويحول بين جفنيه والاغتماض كلما ذكر أنه رد سائلًا محتاجًا، أو أساء إلى ضعيف مسكين.
هو الحمرة التي تلبس وجه الحيي خجلًا من الطارق المنتاب الذي لا يستطيع مد يد المعونة إليه، هو اللجلجة التي تعتري لسان الشريف حينما تحدثه نفسه بأكذوبة، ربما دفعته إليها ضرورة من ضرورات الحياة، هو الشر الذي ينبعث من عيني الغيور حيثما تمتد يد من الأيدي إلى العبث بعرضه أو كرامته.
هو الصرخة التي يصرخها الأبي في وجه من يحاول مساومته على خيانة وطنه أو ممالأة عدوه".
ومن الموضوعات التي كنا نترقب أن يعالجها معالجة أدبية أو اجتماعية "الحرية"، ولكنه سلك فيها مسلكًا عجيبًا، وكأني به يدعو إلى الحرية المطلقة تلك التي لا يقيدها شرع أو عرف أو قانون، بل يرى أن الحيوان قد فهم الحرية أكثر من الإنسان فيقول: من أصعب المسائل التي يحار العقل البشري في حلها، أن يكون الحيوان الأعجم أوسع ميدانًا في الحرية من الحيوان الناطق، فهل كان نطقه شؤمًا علي وعلى سعادته؟ وهل يحمل به أن يتمنى الخرس والبله ليكون سعيدًا بحريته كما كان سعيدًا بها قبل أن يصبح ناطقًا مدركًا.
يحلق الطير في الجو، ويسبح السمك في البحر، ويهيم الوحش في الأودية والجبال، ويعيش الإنسان رهن المحبسين، محبس نفسه، ومحبس حكومته من المهد إلى اللحد.
صنع الإنسان القوي للإنسان الضعيف سلاسل وأغللًا وسماها تارة ناموسًا، وأخرى قانونًا ليظلمه باسم العدل، ويسلب منه جوهر حريته باسم الناموس والنظام.
لو عرف الإنسان قيمة حريته المسلوبة منه، وأدرك حقيقة ما يحيط بجسمه وعقله من القيود لانتحر كما ينتحر البلبل إذا حبسه الصياد في القفص، وكان ذلك خيرًا له من الحياة لا يرى فيها شعاعًا من أشعة الحرية، ولا تخلص إليه نسمة من نسماتها.
لا سبيل إلى السعادة في الحياة إلا إذا عاش الإنسان فيها حرًا مطلقًا، لا يسيطر على جسمه وعقله، ونفسه ووجدانه وفكره مسيطر إلا أدب النفس".
هل حقًا تعد تلك المسألة من أصعب المسائل التي يحار العقل البشري في حلها، أن يكون الحيوان الأعجم أوسع ميدانًا من الحرية من الحيوان الناطق؟
وما وجه الصعوبة في هذا الإدراك، وهي بديهة من البديهات، فالحيوان لا عقل له بقيده، وإنما يسير في حياته بوحي غريزته، لا هم له إلا أن يحافظ على حياته، ولو على حساب غيره من الحيوان، في حين أن الإنسان له عقل يهديه وينير له الطريق، هو اجتماعي بطبعه، لا يعيش في عزلة عن سواء فلا يعيش الناس حياة الحيوان يأكل القوي الضعيف، وإنما تنظم علاقاتهم النواميس الشرعية، والقوانين والعرف، تلك التي لا تعجب المنفلوطي ويريد أن يتحرر منها.
لست أدري من أين أتته هذه الفكرة! أغلب الظن أنها من وحي قراءته الغربية، والدعوة إلى الرجوع إلى الطبيعة والحياة الفطرية.
ولا نريد أن نلم بكل الموضوعات الأدبية التي طرقها المنفلوطي، فحسبنا ما ذكرناه منها، على أنه يكون في أحسن حالاته الأدبية في موضوعين، الموضوع الحزين، والرسائل، وقد مر بنا بعض تلك الموضوعات الحزينة في رثاثه لولده، وفي رثائة للشيخ علي يوسف، حيث بلغت عاطفته مداها، وارتفعت عبارته بما يتناسب مع تلك العاطفة.
وهاك مثالًا آخر على تلك المواطن الحزينة التي يجيدها المنفلوطي عاطفة، ومبني ألا وهو "غرفة الأحزان"، وإن استهل الموضوع بما يتناقض مع ما عرف به من انتقائه لأصدقائه، ومن تمسكه بأهداب الفضيلة حيث يقول: "كان لي صديق أحبه لفضله وأدبه أكثر ما أحبه لصلاحه ودينه، فكان يروقني منظره، ويؤنسني
محضره، ولا أبالي بعد ذلك بشيء من نسكه وعبادته، أو فلسفته واستهتاره؛ لأنني ما فكرت قط أن أتلقى عنه علوم الشريعة، أو دروس الأخلاق".
وهذا تصريح عجيب من المنفلوطي في عدم احتفائه، ومبالاته بما عليه الصديق من خلق ولو كان غير قويم، وأعجب من ذلك التعليل الذي أورده في أنه لم يفكر في أن يتلقى عنه علوم الشريعة أو دروس الأخلاق، ومن قال إن الرجل الفاضل أستاذ في الشريعة أو علم الأخلاق؟! وقد يكون أستاذًَا لهما وليس فاضلًا في خلقه، ولا حافظًا لدينه!!، إنه يعترف بأن صديقه هذا له فلسفته الخاصة في الحياة وأنه مستهتر، فكيف رضي به المنفلوطي الذي طالما وعظ وحث على مكارم الأخلاق صديقًا، بل كيف أحبه؟
على كل ليس هذا هو بيت القصيد في حديثنا عن غرفة الأحزان، ومناظر الشقاء والبؤس، حين يتردى الإنسان في مهواة اليأس أو الفاقة، أو العجز، أو تكربه الأحداث، وتنتابه النوائب، ولا يملك لها دفعًا.
لقد افتقد هذا الصديق الذي أحبه ردحًا طويلًا من الزمن حتى اعتقد أنه لن يجد إليه بعد ذلك سبلًا، ويقول المنفلوطي: "هنالك ذرفت من الوجد دموعًا لا يذرفها إلا من قل نصيبه من الأصدقاء، وأقفر ربعه من الأوفياء، وأصبح غرضًا من أغراض الأيام، لا تخطئه سهامها، ولا تغبه آلامها.
واعتقد أن هذا موقف مفتعل من المنفلوطي، فقد تناهى إليه من جيران صديقه هذا أنه ترك بيته من عهد بعيد، وأنهم لا يعرفون مصيره، وأنه وقف بين اليأس والرخاء برهة من الزمن يغالب أولهما ثانيهما حتى غلبه، فأيقن أنه قد فقد الرجل، "وهناك ذرفت
…
إلخ"، والإنسان لا يبكي هكذا لمجرد الاستنتاج دون أن يكون منظر الميت أمامه يهيجه أو على الأقل يتحقق من وفاته، ولا سيما وقد طال الزمن على لقائهما.
ثم عثر على صديقه هذا بعد حين بطريق الصدفة، فيقول في شيء من التهويل والمبالغة: "بينا أنا عائد إلى منزلي في ليلة من ليالي السراء، إذ دفعني الجهل بالطريق في هذا الظلال المدلهم إلى زقاق موحش مهجور يخيل للناظر إليه
في مثل تلك الساعة التي مرت فيها أنه مسكن الجان، أو مأوى الغيلان فشعرت كأني أخوض بحرًا أسود، يزخر بين جبلين شامخين، وكأن أمواجه تقبل وتدبر، وترتفع وتنخفض، فما توسطت لجته حتى سمعت في منزله من تلك المنازل المهجورة أنه تتردد في جوف الليل، إلخ ولا شك أن في هذا الوصف لزقاق في القاهرة مبالغة وتهويل، فأي أمواج رآها في ذلك الزقاق تلك التي تقبل وتدبر، وترتفع وتنخفض؟ وأي لجة توسطها؟، ومهما يكن الظلام شديدًا حالكًا بالقاهرة، فلن يكون بهذه الصفة.
وأخيرًا نصل إلى المقطع الحزين الذي برع في مثله، لقد طرق باب هذا المنزل ففتحت له فتاة لا تتجاوز العاشرة من عمرها:"فتأملتها على ضوء المصباح الضئيل الذي كان في يدها، فإذا هي في ثيابها الممزقة كالبدر وراء الغيوم المتقطعة، وقلت لها: هل عندكم مريض؟ فزفرت زفرة كاد ينقطع لها نياط قلبها وقالت: أدرك أبي أيها الرجل، فهو يعالج سكرات الموت، ثم مشت أمامي، فتبعتها حتى وصلت إلى غرفة ذات باب قصير مسنم، فدخلتها، فخيل إلي أني قد انتقلت من عالم الأحياء إلى عالم الأموات، وأن الغرفة قبر، والمريض ميت، فدنوت منه حتى صرت بجانبه، فإذا قفص من العظم يتردد فيه النفس تردد الهواء في البرج الخشبي، فوضعت يدي على جبينه، ففتح عينيه"، وأطال النظر في وجهي، ثم فتح شفتيه قليلًا قليلًا، وقال بصوت خافت: "الحمد لله فقد وجدت صديقي، فشعرت كأن قلبي يتمشى في صدري جزعًا وهلعًا، وعلمت أنني قد عثرت بضالتي التي كنت أنشدها، وكنت أتمنى ألا أعثر بها وهي في طريق الفناء، وعلى باب القضاء، وألا يجدد لي مرآها حزنًا كان في قلبي كمينًا، وبين أضالعي دفينًا
…
إلخ".
ثم قص الرجل قصته، وكيف وصل إلى هذا الحال من الضعف والهزال، فقد خدع فتاة ذات مال وجمال، ومناها بالزواج، ثم خاس في عهده، وتركها وهي حامل، فكتبت إليه بعد عشر سنين، وقد غادرت قصر أبيها بجنينها وأوشكت على الموت تطلب إليه أن يرعى فتاته، فجاءها وهي تلفظ أنفاسها في هذه الحجرة التي يموت فيها الآن، فأقسم ألا يبرحها حتى يقضي نحبه.
وقد أبدع المنفلوطي في وصف المأساة على عادته، واستخدام أروع أساليبه في إظهار الفجيعة مستعينًا بالتشبيه تارة، والسجع القليل أخرى، والألفاظ الموجبة، وتصوير جو البؤس والإملاق، والحزن والكآبة، والمرض والموت، واختار لقصته هذه اسمًا موحيًا بمضمونها وهو "غرفة الأحزان"، وقد تابع حديثه حتى وسد صديقه القبر بذلك الأسلوب الحزين، الذي برع فيه وارتفع به إلى الأسلوب الأدبي بخصائصه الفنية.
ولا نريد أن نتعرض لكل الموضوعات ذات الطابع الحزين، فهي كثيرة في النظرات، وهي سمة خمن سمات أدبة بعامة لرهافة في حسه، وعمق في عاطفته، وميل فطري إلى الحزن والتأثر بالنكبات "قد عاهدت الله قبل اليوم ألا أرى محزونًا حتى أقف أمامه، وقفة المساعد إن استطعت، أو الباكي إن عجزت".
وكان بطبعه عطوفًا على البائسين يرق لحالهم، ويرثي لبلواهم، وقد ذكر لنا أنه كا مغرمًا بالأدب الحزين الباكي: "كأني كنت أرى الدموع مظهر الرحمة في نفوس الباكين، فلما أحببت الرحمة أحببت الدموع لحبها، وقد سبق لنا الاستشهاد بتلك الكلمة، التي بين فيها أنه وجد بينه وبين أولئك البائسين شبهًا قويًا، فكأنما كان يبكي على نفسه، ولما تغير شأنه، وابتسمت له الدنيا، لم ينس ما لاقاه فيها من بؤس، أيام أن طلقت أمه، وتزوجت غير أبيه، وأيام أن كان يعيش في حجرة متواضعة، يعاني شظف العيش، وعنت الذين يحولون بينه وبين كتبه الأدبية، ويذيقونه الاضطهاد والعسف، حتى فر بنفسه منهم، ثم تخطف الموت فلذات أكباده الواحد تلو الآخر فزاده حزنًا على حزن.
وفوق كل ذلك تأثره بقراءته الرومانسية الغربية، والحزن سمة من سمات الرومانسية الفرنسية بخاصه، حتى عرف بداء العصر وقد وضحنا ذلك آنفًا، وقد وافق الأدب الرومانسي طبعه ومزاجه، ولهذا ترجم منه قصصه، وحذا حذوه في قصصه المؤلفة وفي مقالاته القصصية، وهو أدب مشحون بالعاطفة، والمنفلوطي كان سريع العبرة، شديد الحساسية، غزير العاطفة.
فلا نعجب بعد كل هذا إذا رأينا المنفلوطي يجيد في الموضوعات الحزينة، ويكون في أحسن حالاته الأدبية حين يتعرض لها، لولا بعض ما لا بسها من تهويل ومبالغة، ولعل ذلك من أثر اندفاعه في عاطفته إلى مداها، على أن هذا قد يغتفر في المقال الأدبي إذا لم يكن فيه إحالة أو تعسف.
هذا وكان مجتمعه الذي يعيش فيه يعاني أوصايا كثيرة خلقية واجتماعية، ورثها من عهود الاستعمار التركي والإنجليزي، ومن سوء تصرف الأسرة الحاكمة وحاشيتها، وعانى منها سواد الشعب الأمرين، والمنفلوطي كان يمت بأوثق الصلات إلى سواد الشعب هذا ويدرك ما يقاسيه، وما ينتابه من علل، فحاول جهد أن يشخص أدواءه، ويصف له دواءه على طريقته، وكثيرًا ما تلاقي وهو يشخص الداء بتلك الصور والمواقف البائسة الحزينة، فهاجت شجونه، واستدرت دمعه، وكان يحاول أن يبرزها مجسمة، في شيء من المبالغة حتى ينفذ بها إلى القلوب، فتنتفع بدوائه، وتستمع لندائه.