المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌صهاريج اللؤلؤ للبكري: - نشأة النثر الحديث وتطوره

[عمر الدسوقي]

فهرس الكتاب

- ‌المقدمات

- ‌مقدمة

- ‌المحتويات:

- ‌تمهيد:

- ‌البعث

- ‌مدخل

- ‌رفاعة الطهطاوي

- ‌في العراق والشام

- ‌السيد محمود الألوس أبو الثناء

- ‌نصايف اليازجي

- ‌بطرس البستاني:

- ‌أثر الصحافة في تطور الأسلوب:

- ‌الوقائع المصرية:

- ‌مدرسة جمال الدين الأفغاني، وأدب المقالة:

- ‌محمد عبده:

- ‌أديب إسحق

- ‌إبراهيم اللقاني:

- ‌عبد الله نديم:

- ‌أدباء الشام:

- ‌إبراهيم اليازجي:

- ‌نجيب حداد:

- ‌تنوع المقالة:

- ‌أدب الرسائل:

- ‌عبد الله فكري:

- ‌محمد عبده:

- ‌حمزة فتح الله:

- ‌عبد الكريم سلمان:

- ‌أحمد مفتاح:

- ‌عبد العزيز جاويش:

- ‌حفني ناصف:

- ‌إبراهيم اليازجي:

- ‌الكتب الأدبية:

- ‌أسواق الذهب لأحمد شوقي:

- ‌حديث عيسى بن هشام للمويلحي:

- ‌ليالى سطيح لحافظ إبراهيم:

- ‌صهاريج اللؤلؤ للبكري:

- ‌تطور المقال الأدبي

- ‌مدخل

- ‌مصطفى لطفي المنفلوطي

- ‌مدخل

- ‌الاشتراكية عند المنفلوطي:

- ‌اللغة العربية عند المنفلوطي:

- ‌المراثي عند المنفلوطي:

- ‌مقالاته الأدبية:

- ‌رسائله:

- ‌البيان في رأي المنفلوطي:

- ‌أسلوب المنفلوطي:

- ‌منزلة المنفلوطي في موكب الأدب العربي:

- ‌أثر الثقافة الأجنبية في تطور المقال الأدبي:

الفصل: ‌صهاريج اللؤلؤ للبكري:

‌صهاريج اللؤلؤ للبكري:

وتوفيق البكري من هؤلاء الذين واتتهم الفرصة ليجددوا في الكتابة، ولكن حالت بينهم وبين التجديد عوائق، فالبكري كان نقيب الأشراف، ورئيس المشيخة البكرية، ومشيخة المشايخ الصوفية، وقد تلقى التعليم المدني وعرف اللغات الأجنبية، ثم شاء له طموحه وما كان يعد نفسه له أن يدرس علوم الأزهر، وينال إجازته، وقد حرص على التزود من ذخائر الأدب العربي وحفظ الكثير منها، إذ كان محبًا للأدب ولو عابه، ويقول عن نفسه:"أما العلم فقد اختصصت منه بعلم الأدب، والاختصاص سر النجاح؛ لأن العلم يعطيك من نفسه بقدر ما تعطيه من نفسك".

وإذا درسنا مؤلفات البكري وقفنا على نوع الدراسة التي كونت عقله، وأثرت في أسلوبه، فمن هذه المؤلفات:"أراجيز العرب" جمع فيه مختارات من هذه الأراجيز وشرحها شرحًا وافيًا، ومن المعروف أن أصحاب الأراجيز كالعجاج وابنه رؤبة، ومن على شاكلتهما كان لهم ولع بالغريب حتى صارت

منبعًا لعلماء اللغة، ومرجعًا للأدباء والشعراء.

ومن مؤلفاته كذلك "فحول البلاغة"، وهو مختارات من شعر العصر العباسي الأول، شرحها وعلق عليها فلا عجب إذا رأينا البكري -وكان على حظ كبير من الذكاء- يجنح إلى القديم، وكأنه كان يطمح أن يكون في كتابته كابن العميد أو الصاحب بن عباد، أو أبي بكر الصولي، ومن على شاكلتهم من كبار كتاب العصر العباسي.

ولقد حشد البكري كل طاقته الفنية في كتابه صهاريج اللؤلؤ، ولكنه كان فيه شديد التزمت، والتمسك بتقاليد العرب، قد جاء هذا من جهتين: من جهة حسبه ودينه، وكان يعتز بهما كل الاعتزاز على حد قوله:

وإني من البيت الذي تعلمينه

أقام عمود الدين لما تأوَّدا

وأول هذا الأمر نحن أساته

وآخره حتى يكون كما بدا

ص: 154

وقد أهله هذا الحسب ليتولى هذه المناصب الدينية الكبيرة، فكان من المتوقع أن يكف من غرب بيانه، فلا يدعه يجري على سجيته، وإنما يراعى طبيعة منصبه وحسبه ودينه، والجهة الثانية كثرة محفوظة من التراث العربي القديم، ومع أن البكري كانت له طبيعة الفنان، وكان على حظ من الثقافة الحديثة، وشاهد أوروبا مرارًا، ووقف على حضارتها كما ينبئنا كتابه هذا الذي ندرسه، إلا أننا نحس بأنه كأن في صراع عنيف بين حاسته الفنانة، وبين حنينه إلى القديم.

وصهاريج اللؤلؤ هو ذلك الكتاب الذي أودعه السيد توفيق البكري ما قاله من شعر ونثر أدبي، وتكلف فيه تكلفًا شديدًا، وحرص على أن يباهي فيه بمحفوظه من التراث العربي القديم، ولا سيما الأمثال، والحكم والإشارات التاريخية، والحكايات والنوادر وأن يباهي فيه بإطلاعه الغزير على غريب اللغة على نمط ما كان يفعل كتاب المقامات، ولكن الفارق بينه وبينهم أن البكري كان يحاول في اختيار موضوعاته أن يمثل عصره وآراءه وحضارته، وأنه لم يكن يحكي قصة تنقصها الحبكة الفنية، وإنما كان يكتب مقالة مسجوعة في موضوع أقرب إلى الشعر منه إلى النثر، وأنه كان يوفق في بعض أجزائه حتى ليحلق من سموات الخيال البديع، ويقدم باقة من الشعر المنثور.

وكان من الممكن ألا يجني الأدب القديم على البكري، لو أنه تخفف من تزمته، وأفاد مما قرأ ووعي من غير أن يفقد شخصيته، ومن غير أن يتكلف التوعر والفخامة، واقتناص الأمثال الشاردة والألفاظ الغريبة، حتى يكاد يستغلق على القارئ، ولقد عني بشرح الكتاب، وجاء الشرح أكبر من الأصل حجمًا، ولا تكاد كلمة منه تمر بدون شرح أو تعليق؛ لأنها في الواقع محتاجة إلى الشرح والتعليق، وقبل أن أمضي في ذكر موضوعات الكتاب، ودراسة نثره أسوق هنا مثلًا واحدًا ظاهرًا يدلنا على أنه يسوق الأمثال بعضها وراء بعض لا؛ لأنها ضرورية لتوضيح المعنى، ولكن ليظهر بها وفرة محمولة، وغزارة مادته، كما كان يفعل بعض أصحاب المقامات، استمع إليه يتكلم عن مولود فيقول:

ص: 155

"وكأني به وقد شدا يلعب بالكرة، كما يلعب الصبي بالكرة"، وإذا هو "أجود من حاتم"، و"أبأى من حنيف الحناتم"، و"أحزم من سنان"، و"أعدل من الميزان"، و"أحمى من مجير الظعن"، و"أعقل من ابن تقن"، و"أحيا من كعاب" و"أحلم من فرخ عقاب"، و"أجمل من ذي العمامة"، و"آثر من كعب بن مامة"، و"أجسر من قاتل عقبة"، و"أحكم من هرم بن قطبة"، و"أبطش من دوسر"، و"أجرأ من قسور".

فهل ثمة إنسان، اجتمعت له كل هذه المزايا، وبلغ الدرجة العليا في هذه الصفات جميعها، اللهم لا، وبخاصة غذا كان هذا الموصوف مولودًا لم يعرف من الدنيا شيئًا، وإنما ساق البكري كل هذه الأمثال وحشدها حشدًا تباهيًا وتعالمًا، أو للإفادة على طريقة أصحاب المقامات.

ومن الغريب أنك إذا وازنت بين نثر البكري وشعره، وجدته لا يعمد في شعره إلى الغريب إلا في النادر على حين يغص نثره بهذا الغريب، ولعه وجد أن الشعر لا يحتمل مثل هذه الألفاظ الوعرة المطمورة في ثنايا المعاجم، وأنه مقيد بالوزن والقافية، أما النثر فأمامه متسع لأن يغير ويبدل ويضع الكلمة التي يريدها، وقد يعينه هذا الغريب على طريقته التي آثرها في الكتابة، وهي طريقة السجع.

وعلى الرغم من أن البكري كانت لديه الموهبة الشعرية كما تدلنا القصائد القليلة التي تضمنها الكتاب، إلا أنه آثر النثر على الشعر، وكأنه كان يخشى أن ينسب إلى الشعراء، وفكان يقول بقدر، وإذا قال أوجز، وكأنه كان يخاف أن يغض الشعر من شأنه، وهو من هو في محتده ومنصبه وحسبه ونسبه، وليست الكتابة في رأيه كذلك، وبخاصة تلك التي تصاغ في قالب الرسائل بين الأكفاء، وليسمن المفروض أن يطلع عليها القراء إلا إذا وقفوا عليها صدفة، أو كما يقول الأستاذ العقاد:"أطلعهم عليها أديب من محترفي الصناعة يتولى هو تقديمها، وشرحها كما جرى في كتاب صهاريج اللؤلؤ".

ص: 156

وفي الحق أن في نثر البكري شعرًا لا ينقصه إلا الوزن، فكثير من الموضوعات التي طرقها لا تصلح إلا للشعر، وقد استطاع على الرغم من هذا التكلف والتزمت وإيثاره الغريب، وحشده للأمثال والحكم والإشارات التاريخية والعبارة المسجوعة أن يقبس من سموات الخيال الشعري قبسات مشعة، وأن يمثل عصره في فكرته لا في عبارته، وفي خياله لا في صياغته.

وإذا استعرضنا موضوعات الكتاب وجدنا أول موضوع هو وصف رحله إلى القسطنطينية عاصمة الخلافة، وفيها وصف للسفينة والبحر والليل والقطار والبسفور، ونساء الأتراك، ومتنزهات المدينة ومساجدها، وهي كلها من الموضوعات التي يصح أن يخوض فيها شاعر مرهف الحس ذو خيال، ولم يتعرض البكري لوصفها إلا؛ لأنه يملك هذه الحاسة الفنية، ويملك الخيال الذي يصور به مشاعره، ولكنه كما قلنا كان يؤثر النثر على الشعر حتى لا يغض من منزلته.

ولنستمع إليه في رحلته هذه يصف السفينة، والبحر:

"فجرى بنا الفلك في خضم عجاج، ملتطم الأمواج، أخضر الجلد، كأنه إفرند، بحر عباب، لا يقطعه الخليل بأوتاد وأسباب، تصطخب فيه النينان، وتضطرب الدعاميص والحيتان، وأخذت السفينة تشق اليم، شق الجلم، في ربح رخاء أو زعزع ونكباء، فهي تارة في طريق معبد وميث مطرد، وطورًا فوق حزن وقردد وصرح ممرد، فبينما هي تناب كالحباب، إذا هي تلحق بالرباب، وتحلق كالعقاب، فتحسبها تارة تحت القتام جيلًا تقشع عنه الغمام، وتخالها مرة عائمًا على شفا، قد غاب، إلا هامة أو كتفًا، والبحر آونة كالزجاج الندى، أو السيف الصدى يلوح كالصفيحة المدحوة، أو المرآة المجلوة، وحينما يضرب زخارة، ويموج مواره فكأنما سيرت الجبال وكأنما ترى قبابًا فوق أفيال، وكان قبورًا في اليم تحفر، وألوية عليه تنشر، وكأن العد بمخض عن زبد، وكان الدوي من جرجرة الآذى زئير الأسد وهزيم الرعد.

يكب الخلية ذات القلا

ع وقد كاد جؤجؤها ينحطم

ص: 157

فإذا كان الأصيل، وسرى النسيم العليل، رأيت البحر كأنه مبرد، أو درع مسرد، أو أنه ماوية، تنظر السماء فيها وجهها بكرة وعشية، وكأنما كسر فيه الحلى، أو مزج بالرحيق القطر بلى، وكأنما هو قلائد العقيان، أو زجاجة المصور يؤلف عليها الأصباغ والألوان

إلخ".

وتلحظ على هذه الفقرة المنتزعة من موضوعه الطويل في وصف رحلته إلى القسطنطينية أنه يكثر فيها من استخدام الكلمات غير المألوفة كالنيان جمع نون وهو الحوت، والدعاميص، والجلم وهو المقص، والقردد وهي الأرض الصلبة، ونلحظ ثانية ولعه بالتشابيه الكثيرة تتعاور على مشبه واحد، ونراه يوفق أحيانًا في هذه التشابيه، وأحيانًا يخونه بيانه، ومع هذا فنلمح بوضوح مزاج الشاعر وخياله، وإن كان كل خياله من الضرب التفسيري الذي يعتمد على التشبيه والاستعارة، وإذا نظرنا إلى مهمة التشبيه في الأدب وجدناه لا يقصد لذاته كما يوجد في كثير من كلام البكري، وإنما يوجد لنقل مشاعر الكاتب، وعاطفته إلى القارئ أو يوضح له حالة أو يبين حقيقة، فالتشبيه لا بد أن يكون مقرونًا بعاطفة، وإلا كان كالألوان التي توضع على لوحة الرسام من غير حساب، فتعمل على تشويهها بدلًا من تحسينها.

ونلاحظ كذلك أن البكري لا يكتب لعامة الناس، ولا للطبقة الوسطى من المثقفين، وإنما يكتب لخاصة الخاصة، ولا يشفع له قوله في مقدمة الكتاب:"وأنا أعلم أن من الأدباء اليوم من ينفر من الغريب، ولا ينفر من الدخيل، لاستيلاء العجمة على هذا الجيل، فلم يثنني ذلك عن أن أودع كلام الأعراب بهذا الكتاب".

ولنستمع إليه يصف الليل وهو على ظهر السفينة، وماذا عسى أن يرى الناظر بالليل، والبحر أمامه ساكن أسود، وستر الليل يحجب عنه الدنيا والسفينة ماضية في طريقها لا تخشى ضيرًا، ولا تلوي على شيء، ولا نسمع إلا جرجرتها وهدير الأمواج من حولها كأنها تتألم من وقع خطاها، ولكن البكري كان شاعرًا، والشاعر يرى ما لا يراه فيقول:

ص: 158

"وحتى إذا أخضل الليل، وأرخى الذيل، بدا الهلال كأنه خنجر من ضياء يشق الظلماء، أو قلادة، أو سوار غادة، أو سنان لواه الضراب، أو الليل فيل وهو ناب، أو عرجون قديم أو نون من خط ابن العديم، أو برثن ضيعم، أو مخلب قشعم، أو ما خرج من أنبوب في روض، أو ثمد في أسفل حوض، أو وشي مرقوم، أو دملج من فضة مفصوم، أو قلامة ظفر، أو صنار في شبك في بحر.

أيا ضوء الهلال لطفت جدًا

كأنك في فم الدنيا ابتسام

يحبب لي سناك العشق حتى

يصاحبني وأصحبه الغرام

ثم إذا غاب الهلال، وتوارى في الحجال، ألفيت الكون من السواد في لبوس حديد أو لباس حداد، وكأن الماء سماء، وكأن السماء ماء، وكأن النجوم در يموج في بحر، أو ثقوب في قبة الديجور يلوح منها النور أو سكاك دلاص، أو فلق رصاص، أو عيون جراد، أو جمر من رماد، أو الماء صفائح فضة بيضاء سمرت بمسامير صغار من نضار، فلا تفتأ السفينة تكابد الويل من البحر والليل، حتى يلوح من الأفق الضياء".

وهنا نحن نرى أنه شبه الهلال بكل ما يخطر على البال، وما لا يخطر على البال من التشابيه، وأنه تكلف في ذلك تكلف شديدًا ومع كثرة هذه التشابيه، فهو لم يتعد شكل الهلال، ولا نحس بعاطفة ولا روح في تشابيهه، ولم ينظر إلى الهلال، وهو يطل على الدنيا الغافية من عليائه ويطلع على ما فيها من متناقضات، أي أنه لم يندمج في الطبيعة، ويشخصها ويغوص إلى الأعماق ويستكنه سرها، وإنما وقف عند حد الشكل فلم نفد من تشبيه على تعدده جديدًا، وكذلك الأمر في وصف النجوم الحالية الساطعة في دجنة الليل، ربما كان في هذه التشابيه طرافة، ولكنها بعيدة كل البعد عن وظيفة التشبيه كما يجب أن يكون.

ص: 159

ولندع وصف هذه الرحلة التي أخذت من الكتاب ما يقرب من خمسين صفحة مع شرحها، ولتنتقل إلى موضوع آخر من موضوعاته النثرية، وهو موضوع "العزلة" جاء في رسالة كتبها إلى صديق، وفي هذا الموضوع تتجلى نزعات إنسانية صادقة لدى البكري، ولفتات اشتراكية حادة لم تكن تنتظر من مثله، ولا من جيله وعصره.

يقول البكري:

"كتاب إلى السيد أيده الله، وكلأه ورعاه، وأن حل بقري السواد وريف البلاد، بعيد عن المدينة وما فيها من الشينة والزينة، في عزلة عن الناس بين سقبى وغراس، سليم الجسم من السقم والنفس من الألم، وأحميه من الأنام كالحمية من الطعام شفاء من كل داء، وخليق بمن ارتطم في المزدحم، أن يصاب ببعض الأوصاب".

وبعد أن وصف الريف المصري وصفًا جميلًا حقًا دل على دقة ملاحظة، ومحبة لما فيه من طبيعة وحيوان، وإن كان كعادته يكثر من التشابيه التي لا تزيدنا علمًا بالمشبه -يصف لنا كيف يقضي وقته في القراءة، ومن هذه النبذة نعرف مزاجه الفكري، ومن أين استمد ثروته الأدبية حيث يقول:

"وصحبي في هذه العزلة نفر من صياب الأقوام، ولباب الأنام، فمنهم أبو تمام، والحارث بن همام، وعروة بن الورد، وطرفة بن العبد، وكثيرًا ما ينشدنا أحمد بن سليمان باقعة معرة النعمان:

ذريني وكتبي والرياض ووحدتي

أظل كوحشي بإحدى الأمالس

يسوف أزهار الربيع تعلة

ويأمن في البيداء شر المجالس

وإن شئنا حدثنا ثعلب عن قطرب

أو ارتجل ابن المعتز وارتجز

وإن شئنا حدثنا أفلاطون ونادمنا ابن زيدون، وعالجنا بقراط، ووعظنا سقراط".

فهو كما نرى مغرم بأصحاب البديع أمثال أبي تمام وابن المعتز، مغرم بالصعاليك أمثال عروة بن الورد، وقد أصدر عنهم كتابًا، مغرم بالغريب يرويه ثعلب عن قطرب.

ص: 160

ويصف البكري الحالة الاجتماعية لعهده وصفًا دقيقًا، فيبدأ بالحاكم: "أما الحاكم فأكثر ما لقيت امرؤ إن أونس تكبر وإن أوحش تكدر، وإن قصد تخلف، وإن ترك تكلف، إمع لا يضر ولا ينفع، فيه جوفاء تردد ما يلقي عليها من النغم إن لا فلا أو نعم فنعم، ألقاب وأكاليل كل شخص في مرسح التمثيل، فإن طرحت الألقاب ونزعت هانيك الثياب، ألفيت تحتها العجب العجاب.

أبا الأسماء والألقاب فيكم

ينال المجد والشرف اليفاع

لا عدةو ولا عدد وملك أقامه الله بلا رجال، كما رفع السماء بغير عمد.

ويقضي الأمر حين تغيب تيم

ولا يستأذنون وهم شهود

إلى تيه وخيلاء وعنجهية وكبرياء، كأنه جاء برأس خاقان أو أدال دولة بني مروان

إلخ".

وهذا إلى حد كبير وصف صادق للرؤساء والوزراء والحكام في عهد توفيق البكري؛ لأن الإنجليز كانوا هم الحكام الحقيقيين والمصريون دمي تحرك من وراء ستار، ولقد أدى إخفاق الثورة العرابية إلى فقدان المصريين الثقة بأنفسهم، وخضع كبراؤهم لأوامر المحتل الغاصب الذي نازع أمير البلاد سلطانه في شخص ممثله اللورد كرومر، كان هؤلاء يظهرون لمواطنيهم الصلف والكبرياء، تعويضًا عن الذلة والضراعة التي يظهرونها أمام المحتلين وعمديهم، حتى أتى مصطفى كامل وزأر زأرته وصال صولته، وبرهن على أن هذا المحتل أدنى من أن يهابه الوطني الحر الجريء.

ويقول البكري عن أبناء الطبقة الثرية بمصر والمتنفذين فيها لعهده: وأما أبناء السامة، فإن أحدهم غادة ينقصها الحجاب ينظر في مرآة ولا ينظر في كتاب، إنما هو لباس على غير ناس، كما تضع الباعة مبهرج الثياب على الأخشاب.

ص: 161

رماد تخلف عن نار وحوض شرب أوله ولم يبق منه غير أكدار، آباء وأحساب، وحال كشجر الشلجم أحسهن ما فيه ما كان تحت التراب، ترى الفتيان كالنحل وما يدرج ما الدخل

إلى رطانة بالعجمة بين الإعراب "أبرد من استعمال النحو في الحساب، ولو كان ذا حيلة لتحول"، "وهل عند رسم دارس من معول".

وقح تواصوا بترك البر بينهم

تقول: ذا شرهم بل ذاك بل هذا

ميسر يلعب، ومال يسلب، وخدن يخدع، وكلب يتبع، وعطر ينفخ وفرس يضبح.

أبا جعفر ليس فضل الفتى

إذا راح في فضل إعجابه

ولا في فراهة برذونه

ولا في نظافة أثوابه

أيها الرجل، وكلكم ذلك الرجل: إن المال وسيلة لا غاية، فإن أصبت منه الكفاية، فقد بلغت النهاية.

ذكر الفتى عمره الثاني وحاجته

وما فاته وفضول العيش إشغال

ليس لك من عيشك إلا ما أكلت فأفنيت، ولبست فأبليت، ولو أفرغ ذنوب في كوب لما أخذ إلا ملأه، ولا وسع إلا كفأه.

عجبت للمالك القنطار من ذهب

يبغي الزيادة والقيراط كافيه

وكثرة المال ساقت للغنى أشرًا

كالذيل يعثر عند المشي ضافيه

ولقد كان هذا بحق حال أبناء العلية، كما يسمون أنفسهم هؤلاء الذين ورثوا المال عن آبائهم، ولم يعرفوا في جمعه عناء ولا رهقًا، ولم يأبهوا للمجد يشيدونه أو للفخر يحرزونه، وإنما كانوا متعطلين بالوراثة، لا هم لهم إلا التطري والزينة وعقولهم هواء، وأفئدتهم خاوية إلا من الشر، وكانوا ضعاف القومية يتبرأون من لغتهم الأصلية، ويرطنون رطانة أعجمية كأنهم غير مصريين، ولكنهم والحق يقال كانوا عاجزين عن الإفصاح وعن العمل، ولم يكن في مقدورهم أن

ص: 162

يفيدوا من حالهم، يجتمعون للفساد، ويفترقون على ميعاد، لا تعرف أيهم أسوأ نفسًا، وأبلد حسنًا، حياتهم فراؤغ يقتلونها في الميسر، وفي سلب أموال الفلاحين الكادحين، وقد ظلوا كذلك إلى أن قضت الثورة على تعطلهم وأعادتهم إلى حظيرة مكانهم الطبيعي في المجتمع يكدحون مع الكادحين، ويكسبون العيش بعرق الجبين.

ولقد أدرك البكري بحق وظيفة المال وأنه وسيلة لا غاية، فإذا نال المرء منه الكفاية فذلك حسبه، أما هؤلاء الذين يدخل لهم في اليوم الواحد الآلاف، فيزيدهم المال طغيانًا، ويستعبدون بها لشعب، ويسخرونه للسيطرة والفساد.

ولهذا سنت الثورة الضرائب التصاعدية، وحدث من طغيان الدخول، ولست أدري من أين أتى البكري هذه النزعة: أهي نزعته الدينية، وقد فطن إلى تعاليم الدين الصحيحة، فهو يدعو بلسان رجل الدين، أم أفادها من إطلاعه على أحوال بعض الأمم الغربية، وإن لم تكن الاشتراكية على عهده قد خطت تلك الخطوات الواسعة في الحد من تضخم الثروات؟ أم هو الإدراك السليم؟ على أية حال لقد كان البكري ثائرًا على أوضاع مصر الشاذة مع أنه من أبناء الخاصة الذين شبوا في أحضان النعيم، ولكنه كان ذا نظرة ثاقبة وفكر رشيد وقلب رحيم.

ولعل ميول الاشتراكية هذه هي التي نفرت منه عباسًا، فنظرته إلى الحكام وإلى أبناء الخاصة، وآراؤه الاشتراكية مما كرهه لعباس، وهو الذي اشتهر بحبه لجمع المال، وبعدواته للنظم الديمقراطية.

وثمة شيء آخر كان على أشده في تلك الأيام، ذلك التنافس الشديد بين أبناء الذوات من الأتراك وأبناء السادة من المصريين، ولعل البكري أراد أن يغمز الأتراك غمزة قوية ويصورهم هذه الصور الزرية لشدة تعسفهم، ومباهاتهم الجوفاء، بيد أن نزعته الاشتراكية تظهر في عطفه على العامة حين يقول:

"وأما العامة -أيدك الله- فهو عظم على وضم، وصيد في غير حرم، سيد مأمور، والإخشيد في يد كافور، ويتيم غني في يد وصي.

ص: 163

وغيظ على الأيام كالنار في الحشا

ولكنه غيظ الأسير على القد

وأرى رجالًا لا تحوط رعية

فعلام تؤخذ جزية ومكوس

ظلموا الرعية واستجازوا كبدها

وعدوا مصالحها وهم أجراؤها

فبينما ترى قصورًا وثراء، وحبورًا وسراء، وعربات تترى يعدو أمامها السليك والشنفرى، ويقودها داحس والغبراء على بساط الغبراء، وخراج قرية أو قريتين، يذهب في لهو ليلة أو ليلتين، نجد أرملة صناعًا وأيتامًا جياعًا وشيخًا يعمل وهو في أرذل العمر، يقعده العجز والفقر، أو عذراء كادت تدفع عرضها للاحتياج، أو مريضًا عاجزًا عن العلاج، وبينما ترى وذاحًا في جيدها عقد كأنه فرود حضار "الكواكب"، وفي أخمصها نعل من نضار، ترى بائسة في عنقها عقد من دموع، وفي بيتها فقر وجوع، حال تطرف العيون وتثير الشجون".

رحماك! إن عزلة بين كرم وأعناب، ودواة وكتاب، لهي الجماعية والأنس للنفس، وإن اجتماعًا بكبير يبغض ويزار، أو رئيس لا يجد نفسه في الليل ولا تجده في النهار، أو عدو ليس من صداقته بد، أو حقود ذله أظهر منه الود، أو حسود قلق، كالذبابة يضحك ويحترق، أو جاهل متعالم، أو متفصح وهو باقل أو صغير به كبر أو خدين فيه عذر لهو وايم الله الوحشة والوحدة".

ولقد رأينا عاطفة البكري القوية نحو الفقراء، وكيف صور بؤسهم وفاقتهم وظلم الطبقة الحاكمة وذوي الثراء لهم.

لقد كانت هذه آراء متقدمة على زمانه ولا سيما في مصر حيث يسود الإقطاع بظاهر الاستعمار، وإذا كان جمال الدين قد نبه المصريين إلى المطالبة بالشورى، فإنه لم يعن العناية الكافية بالإصلاح الاجتماعي على الرغم من صيحته المدوية للمصريين بأنهم نشأوا في الاستعباد، وربوا في حجر الاستبداد، وعلى الرغم من تحريضه لهم على الثورة إلا أن غايته كانت سياسية.

وإن كان بعض تلاميذه قد تأثر بدعوته إلى الإصلاح الاجتماعي مثل عبد الله نديم، ولكن آراءه لم تبلغ في جرأتها وتقدمها نحو المساواة الحقيقية بين

ص: 164

طبقات الأمة مثل آراء توفيق البكري، وإن لم يكن لها الصدى الذي تستحقه؛ لأن الأسلوب الذي صيغت فيه يعلو على مستوى أبناء الخاصة وجمهور العامة.

ابتدأ البكري حديثه عن العامة بتقريره أنهم أصحاب السلطان الحقيقي، وأنهم أشبه بسيد مأمور والإخشيد في يد كافور، فالإخشيد هو الملك الشرعي، وكافور هو الملك الفعلي، وأنهم أشبه بيتيم غني في يد وصي يستبيح ماله وينهب حقوقه، ويصور الغيظ الذي يضطرم في نفوس العامة، ولكنه أشبه بغيظ الأسير المغلوب على أمره لا يستطيع إلا أن يغتاظ من غير قدرة على تحطيم قيده، ثم يبدى رأيًا جريئًا تنادي به الشعوب الحية اليوم، إذا كان حكام المة لا يولونها عناية، أو رعاية فعلًا يدفع الناس الجزية والضرائب؟ إنه تمرد على الظلم وحث على الإصلاح، ثم يقتبس بيت أبي العلاء الذي يقرر فيه أن الحكام هم أجراء لدى الأمة، ومع ذلك يظلمونها، وهذا أعجب العجب.

ويعقد موازنة بين هذه الفئة القليلة التي تملك كل شيء في مصر، وتبعثر على موائد الفساد ما جمع هؤلاء المساكين في حمارة القيظ وصبارة الشتاء، وبين هؤلاء الذين يبيتون على الطوى، وأبناؤهم يتضاغون من المسغبة والفاقة، ويتضورون من الجوع والعرى ويتلوون من السقام والأوصاب، وله في غير هذا الموضوع بيتان صور فيهما العلاقة بين الحاكم والمحكوم في مصر.

حمق الألى يحكمون الناس يضحكني

وسوء فعلهم في الناس يبكيني

ما الذئب قد عاث بين الضأن أفتك من

هذي الولاة بهاتيك المساكين

إنه صور الآفات الاجتماعية التي كانت تفتك بهذه الأمة المسكينة، وهي الفقر والجهل والمرض، وعرض في إيجاز أدبي مشكلة التشرد والبؤس، ووازن بين الطبقة الفقيرة الكادحة في سبيل العيش، والفاجرة التي تتحلى بالدر وتنتعل الذهب.

ولا يسعنا أن ندرس كل نثر البكري وبحسبنا أن نذكر الموضوعات التي طرقها، فهو بجانب وصفه لرحلته، ورسالته التي آثر فيها العزلة نجده قد تكلم

ص: 165

عن نابليون ووقف وقفة شاعر ناثر على قبره، وتكلم عن مواقفه وفتوحاته، وغزواته وانتصاراته، ثم تكلم عنه بعد زوال ملكه واعتقاله في جزيرة سانت هيلانة، وقد وفق في هذه القطعة لولا تزمته.

وله كذلك قطعة في رثاء صديق بيد أننا لا نتعرف على صديقه هذا ونميز سماته ونعرف اسمه وصنعته، وكأني بهذه القطعة تصلح لكل صديق له، وقد بالغ مبالغات في وصفه حتى جعله واحد الدنيا علمًا وعرفانًا، وفضلًا وإحسانًا إلى غير ذلك من الأوصاف التي لا أظن أنها جمعت في شخص حي إلا أن يكون من مخيلة البكري، واستطرد في هذه القطعة إلى وصف الدنيا على طريقة الزهاد والمتصوفة متأثرًا بخطب الإمام على في ذمها والشكوى منها، ولكن وقفته على القبور وهو يودع هذا الصديق إلى جدثه يدل على إحساس شاعر، فقد ضمت بين رجامها ملوكًا كانوا وكانوا، وكم فيها من حسناء بضة كأنها سبيكة فضة "صليجة فضة" أصابها الهزال كما يصيب الهلال، وإذا بها في القبر كأنها مصباح راهب في قبة مظلمة، أو كنز راغب في مهجورة معتمة، وإذا بجسم كان يخشى عليه الهزال أصبح، وهو بال، وخذ كان يصان عن القبلة، تعيث فيه الأرضة والنملة، وتغور كأنها أقاح أو حبب في راح تنثر في البوغاء وتخلط بالحصباء

إلخ.

ومن طرائفه وصفه لمرقص في أحد قصور فيينا كان قد دعي إليه وسمى المرقص، أو "DANCE" الفنزج، وابتدأ بوصف ليالي الشتاء في فيينا، ثم وصف دور هذا القصر وما فيه من أثاث ورياش وأوان، وتماثيل وتصاوير ووصف المرآة والأنوار والأضواء والخرد الحسان، وما عليهن من الوشي والأكسية والحلي، ووصف الموسيقى والمرقص والسماط، والشراب وقواريره، وكيف انتهى الحفل في طلعة الفجر، ووصف الفقجر وطلوع النهار وصفًا دقيقًا رائعًا، ولولا ما شاب هذه القطعة من تلك الكلمات المعجمية لكانت من أبرع ما قيل في الوصف في نثرنا الحديث، وهي إن دلت على شيء، فإنها تدل على حسن مرهف، وخيال محلق، ومعرفة بأسرار اللغة ودقائقها، مما جعله أحيانًا يأتي بأوصاف قديمة لا تتناسب مع الموصوف خذ مثلًا قوله يصف الحسان، وهن قادمات إلى هذا الحفل الراقص:

"وثم الخرد الحسان كاللؤلؤ والعقيان، من كل عطبول رفلة، أو أسحلانة ربلة، صدور كالإغريض، أو صدور البزاة البيض، وساعد كأنها شماريخ من

ص: 166

ماس، أو مرمر نحته فدياس، وعيون كأن بين أهدابها رام من بني ثعل أو أسد بين طرفاء وأسل، أو أنها نرجس عطشان أو سيوف تقتل وهي في الأجفان. وقد امتزج فيها الفتر بالحور، فهي سكرى ولا مدام، ووسنى ولا منام، وفم كأنه أقحوانة لم تتصوح، ووردة لم تتفتح، يضحك عن جمان، ويتنفس عن ربحان وينطق عن ألحان وخدود كنار أخدود، أو تفاح أو ماء وراح، أو الشفق في الصباح، ورد يفتحه النظر، ويشعشعه الخفر".

ونراه قد وفق في بعض أوصافه وأخفق في بعضها، ولنذكر بعض ما أخفق، فأي فتاة تحب أن يوصف صدرها بأنه كطلع النخل أو صدر الصقر، وبأن عيونها كرام من بني ثعل أو أسد بين طرفاء وأسل، تلك أوصاف قديمة منتزعة من بيئة متبدية صحراوية لا تتناسب مع موصوفه، وقد جرت على شباة قلمه من محفوظه حتى غلبت شاعريته وأزرت بها، بينما نراه يوفق في كثير، والمووضع كله جديد حقا في الأدب العربي.

ومن نثره الذي كان يجب أن يقوله شعرًا، ووصفه لغاية "بولونيا" بجوار باريس، وهو في وصفه يستخدم كذلك الأوصاف القديمة أحيانًا والجديدة أحيانًا، ولكنه في عمومه يغص بخطراته الشعرية، ولو أطلق لنفسه العنان، ولم يتزمت ذلك التزمت ويلتزم ما التزمه من إيثاره الغريب على المألوف لأتى من خير ما كتب في النثر الحديث، فقد ألم فيه بوصف باريس، والغاية وما بها من مياه وأشجار وأزهار، وبصفها حين جن الليل، وحين ألقى عليها القمر رداءه الفضي، ويصفها في إشراق الصباح، ويتكلم عن حديقة الحيوان، وما فيها من أسود وفيلة، وظباء وحمر وحش وحيات ونوق في أرض الفرنجة، وتراه أحيانًا ينفذ بخياله فيخترق الحجب، ويحلق في سموات الشعر، وإذا بأسلوبه يجذبه إلى أدنى فيعوقه عن التحليق.

ذلك هو البكري جنى عليه محفوظة حتى كاد يطمس شخصيته، ويميت شاعريته، كما جنى عليه تزمته واعتزازه بمنصبه وحسبه ونسبه، مع أنه شاعر وناثر، لقد كان طرازًا مستخلفًا من الماضي، وإن عاش في الحاضر وحاول تصويره، فجمع بين القديم والجديد، وإن غلبه القديم على أمره.

ص: 167