الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
البيان في رأي المنفلوطي:
قبل أن نصدر حكمنا على أسلوب المنفلوطي ومنزلته في عالم النثر، يجدر بنا أن نبين رأيه الذي ارتضاه لنفسه في كتابته، وحاول أن يحمل الناس عليه في الأسلوب الكتابي، يقول:
"جهل البيان قوم فظنوا أنه الاستكثار من غريب اللغة، ونادر الأساليب، فأغصوا به صدور كتبهم، وحشوها في حلوقها حشوا يقبض أودجها، ويحبس أنفساها، فإذا قدر لك أن تقرأها، وكنت ممن وهبهم الله صدرًا رحبًا، وفؤادًا جلدًا، وجنانا يحتمل ما حمل عليه من آفات الدهر وأرزائه، قرأت متنًا مشوشًا من متون اللغة، أو كتابًا مضطربًا من كتب المترادفات".
وجهله آخرون فظنوا أنه الهذر في القول، والتبسط في الحديث، واقعًا ذلك من حال الكلام ومقتضاه حيث وقع، فلا يزالون يجترون بالكلمة اجترار الناقة بجرتها، ويتمطقون بها تمطق الشفاه بريقتها حتى تسف وتبتذل، وحتى ما تكاد تسيغها الحلوق، ولا تطرف عليها العيون، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعًا".
فالبيان في رأيه ليس بالتشدق بالكلمات المعجمية، على طريقة كتاب المقامات منذ عهد الحريري حتى مطلع القرن العشرين، وليس كذلك بالتبذل بالكلمات السوقية التي لاكتها الألسنة، والأقلام حتى أسفت كالعملة الحائلة اللون ويقول:"ليس البيان إلا الإبانة عن المعنى القائم في النفس وتصويره في نظر القارئ، أو مسمع السامع صحيحًا لا يتجاوزه، ولا يقصر عنه، فإن علقت به آفة من تينك الآفتين فهو العي والحصر".
والبيان في رأيه كذلك: "هو النظم والنسق والانسجام، والاطراد والرونق، واستقامة الغرض، وتطبيق المفصل، والأخذ بمجامع الألباب، وامتلاك أزمة الأهواء".
ويشترط للكتاب الحق أن يكون صادقًا مع نفسه: "فذلك ما تراه في رسائل النظرات منتثرًا ههنا وههنا، وقد شعر به قلبي، ففاض به قلبي من حيث لا أكذب الناس عن نفسي، ولا أكذب نفسي عنها".
ويقول: "ولا تحيا كتابة كاتب سيعلم الناس من أمره بعد قليل أنه يكذبهم عن نفسه، وعن نفوسهم، وأنه يستبكي ولا يبكي، ويسترحم ولا يرحم".
وهو ممن يؤمنون بأن البيان صفة في الطبع، أي أن الأديب يجب أن يكون مطبوعًا، فتصدر عنه كلماته "عفوًا بلا تكلف ولا تعمل، صدور النور عن الشمس، والصدى عن الصوت، والأزيج عن الزهر، وشعاع لامع يشرق في نفس الأديب إشراق المصباح في زجاجته، وينبوع ثرار، يتفجر في صدره، ثم يفيض على أسلات قلمه".
وليست المسألة عنده مسألة علم بقواعد اللغة، ومعرفة بمتنها، وحفظ لآثارها، بل إن البيان "أمر وراء العلم، واللغة، والمحفوظات والمقروءات والقواعد والحدود، ولو أن امرءًا من كائن لكان أربع الكتاب، وأشعر الشعراء أغزرهم مادة في العلم، أو أعلمهم بقواعد اللغة، أو أجمعهم لمتونها".
وليس معنى ذلك أن يكون المرء جاهلًا باللغة: قواعدها وأصولها ومتنها، "فالعلم والمحفوظات والمقروءات والمادة اللغوية، والقواعد النحوية إنما هي أعوان الكاتب على الكتابة ووسائله إليها، فالجاهل لا يكتب شيئًا؛ لأنه لا يعرف شيئًا، ومن لا يضطلع بأساليب العربية أو مناحيها في منظومها ومنثورها سرت العجمة إلى لسانه، أو غلبته العامية على أمره، ومن قل محفوظه من المادة اللغوية قصرت يده عن تناول ما يرد تناوله من المعاني، ومن جهل قانون اللغة أغمض الأغراض وأبهمها، أو شوه الألفاظ وهجنها.
"ولكنها ليست هي جوهر الفصاحة ولا حقيقة البيان، فأكثر القائمين عليها، لا يكتبون ولا ينظمون، فإن فعلوا كان غاية إحسان المحسن منهم أن يكون كصانع التماثيل الذي يصب في قالبه تمثالًا سويًا، متناسب الأعضاء، مستوي الخلق، إلا أنه لا روح فيه ولا جمال له؛ لأنه ينقصهم بعد ذلك كله أمر هو سر البيان ولبه، وهو: الذوق النفسي، والفطرة السليمة، وأنى لهم ذلك؟ ".
ويقسم المنفلوطي الكتاب ثلاثة أنواع فيقول: "ولقد قرأت ما شئت من منثور العرب ومنظومها في حاضرها وماضيها قراءة المتثبت المستبصر، فرأيت أن الأحاديث ثلاثة: حديث اللسان، وحديث العقل، وحديث القلب.
ويقصد بحديث اللسان ذلك الكلام المنمق المزخرف، أو تلك الكلمات الجامدة الجافة لا يعني منها صاحبها سوى صورتها اللفظية، فإن كان لغويًا تقعر وتشدق، وتكلف وأغرب، حتى يأتيك بشيء خير ما يصنعه به الوصف أنه متن مشوش من متون اللغة لا فصول له ولا أبواب، وإن كان بديعًا جنس ورصع، وقابل ووشع، وزاوج وافتن بالكلمة مهملة كلها أو معجمة كلها، ثم لا يبالي بعد ذلك باستقامة المعنى في ذاته، ولا بمقدار ماله من أثر في نفس السامع"، وهذا النوع في رأيه هو أدنى الأنواع الثلاثة، وهو صنعة لا قيمة لها، وأما النوع الثاني أي حديث العقل، "فهو تلك المعاني التي ينحتها الناحتون من أذهانهم نحتًا ويقتطعونها اقتطاعًا، ويذهبون فيها مذهب المعاياة والتحدي والتعمق والإغراب، ويسمونها تارة تخيلًا، وأخرى غلوا، وأخرى حسن تعليل"، وضرب على ذلك عدة أمثلة تدل على الإحالة والغلو وفساد المعنى، وعلى أنها ليست مما يصدر عن الذوق السليم، والطبع المستقيم، وإنما هو تكلف مرذول ومعنى غريب.
أما النوع الثالث وهو حديث القلب، فهو "ذلك المنثور أو المنظوم الذي تسمعه، فتشعر أن صاحبه قد جلس إلى جانبك ليتحدث إليك كما يتحدث الجليس إلى جليسه، أو ليصور لك ما لا تعرف من مشاهد الكون، أو سرائر القلب، أو ليفضي إليك بغرض من أغراض نفسه، أو ليفض عنك كربة من نفسك، من حيث لا يكون للصناعة اللفظية ولا للفلسفة الذهنية دخل في هذا أو ذاك".
وهذا النوع الأخير هو الذي آثره المنفلوطي، وأطراه وحث عليه.
ويبين لنا أنه كان يقيد نفسه بمقدمة يوردها بين يدي موضوعه، ولا براهين على الصورة المنطقية المعروفة، ولا يلتزم استعمال الكلمات الفنية التزامًا مطردًا.
ولم يكن يكتب حقيقة غير مشوبة بخيال، ولا خيالًا غير مرتكز على حقيقة؛ لأني كنت أعلم أن الحقيقة المجردة عن الخيال لا تأخذ من نفس السامع مأخذًا، ولا تترك في قلبه أثرًا.
وكان كاتبًا ملتزمًا "أكتب للناس لا لأعجبهم، بل لأنفعهم، ولا لأسمع منهم: أنت أحسنت، بل لأجد في نفوسهم أثرًا مما كتبت".
وقد بين أنه لا يكتب للخاصة فلا أفرح برضاهم، ولا أجزع لسخطهم"، وإنما يكتب للعامة ولا سيما الذكي منهم الذي قد وهبه الله الفطرة السليمة وصفاء القلب وسلامة الوجدان، ما يعده لاستماع القول واتباع أحسنه".
ولم يكن المنفلوطي يفرق في الأهمية بين اللفظ والمعنى فهما ممتزجان في رأيه امتزاج الشمس بشعاعها، وليس للفظ كيان مستقل، فجماله من جمال معناه، بل يميل أحيانًا إلى تفصيل المعنى على اللفظ، ويرى أن اللفظ خادم المعنى، وأن المعاني هي جوهر الكلام ولبه، ومزاجه وقوامه "فما شغل الكاتب من همته بغيرها أزرى بها حتى تفلت من يده، فيفلت من يده كل شيء، ولا يضطرب اللفظ إلا؛ لأن معناه مضطرب في نفس صاحبه، ومحال أن يعجز الفاهم عن الأفهام، ولا المتأثر عن التأثير، والتعبير صدى لنفس الأديب، فإذا كانت مظلمة أو قبيحة انعكس ذلك في عمله؛ لأن النص لديه كالمرآة لا تكذب في نقل مرئياتها!
وهذا كلام غريب من أديب كانت شهرته معتمدة على براعة في أسلوبه وانتقاء ألفاظه وجودة صياغتها، ومعانيه ليست عميقة الغور نتيجة لدراسة واعية مستفيضة، وإنما مقالاتها في معظمها سطيحة المعاني، تأتي استجابة لوحي عاطفيته، أو قراءته في الصحف والمجلات.
وما الفرق إذا بين الحديث العادي والمقال الأدبي، أو الاجتماعي الذي يرمي صاحبه به إلى التأثير في النفوس، وليس بصحيح أنه يخاطب العامة بمقالاته، وإلا لاصطنع اللغة العامية التي يفهمونها.
أو ليس مما يؤثر في نفس السامع ذلك الأسلوب الطلي، والصياغة الجيدة، والسلاسة العذبة حتى تهتز نفسه، وتتأثر بما يقرأ أو تسمع، ألم يجعل المفلوطي المقياس الذي يقاس به العمل الأدبي هو مدى تأثيره في قارئه أو سماعه، ويقول: "إذا سمعت بيتًا من الشعر فأطربك أو أحزنك، أو أقنعك أو أرضاك أو هاجك
…
فاعلم أنه من بيوت المعاني، وإن مررت من بيت آخر فاستغلق عليك فهمه وثقل
عليك ظله فاعلم أنه لا معنى له، ولا حياة فيه، فإن وجدت صاحبه واقفًا بجانبه يحاول أن يوسوس لك أن وراء هذه الظلمة الحالكة المتكاثفة نورًا متوهجًا يكمن في طياتها، فكذبه، وفر بنفسك وأدبك وذوقك منه فرارًا لا عودة لك من بعده.
وهذا النص يؤكد أن المنفلوطي لم يفهم قضية اللفظ والمعنى على حقيقتها، فلو
كان المهم هو المعنى يؤدي بأي لفظ كان لراقه ذلك البيت المستغلق؛ لأن الاستغلاق جاءه من ناحية اللفظ لا من ناحية المعنى الذي هو نور متوهج يكمن في طيات تلك الظلمة الحالكة.
إنها كما قال توأمان، متناظرات، متساويان في الأهمية، ومع هذا نرى المنفلوطي يناقض نفسه في هذه القضية فيقول: يقول القائلون بمذهب التفريق بين اللفظ والمعنى عن مثل هذه القطعة:
ولما قضينا من منى كل حاجة
…
ومسح بالأركان من هو ماسح
وشدت على حدب المهارى رحالنا
…
ولم يعلم الغادي الذي هو رائح
أخذنا بأطراف الأحاديث بيننا
…
وسالت بأعناق المطي الأباطح
إنها جميلة الأسلوب، ولكنها تافهة المعنى، لا تشتمل على أكثر من الوصف والتصوير، كأنهم لا يعملون أن التصوير نفسه أجمل المعاني وأبدعها، بل هو رأس المعاني وسيدها، والغاية الأخيرة منها".
وفاته أن التصوير ليس هو المعنى، وإنما هو محاولة لتوضيح المعنى، ولا يمنع هنا أن يكون المعنى تافها، وإن صوره صورة جميلة بأسلوب عذب، ومن ثم راقت الأبيات، واستعذبتها الآذان على الرغم من تفاهة معناها.
وما بال المنفلوطي يحاول بنثره هذا أن يحشر نفسه في زمرة الشعراء، ويعد نثره هذا شعرًا بلا وزن ولا قافية، أليس ذلك فرض تقدير منه لأسلوبه وطلاوته وعذوبته، وما فيه من رنات موسيقية.
لقد ابتدأ المنفلوطي حياته الأدبية شاعرًا، ثم انصرف عنه إلى النثر حين وجد المزاحمة القوية من شعراء فحول، فاتخذ الكتابة قالبًا لصب أفكاره، موشاة بالخيال
والعاطفة، وظن أنه بذلك يقول شعرًا:"الكاتب الخيالي شاعر بلا قافية ولا بحر، وما القافية والبحر إلا ألوان وأصباغ، تعرض للكلام فيما يعرض له من شئونه، وأطواره التي لا علاقة بينها وبين جوهره وصبغته".
ثم يقول: "أما الشعر فأمر وراء الأنغام والأوزان، وما النظم بالإضافة إليه إلا كالحلى في جيد الغانية الحسناء، أو الوشي في ثوب الديباج المعلم، فكما أن الغانية لا يحزنها عطل جيدها، والديباج لا يزري به أنه غير معلم، كذلك الشعر لا يذهب بحسنه وروائه أنه غير منظوم ولا موزون.
"ولقد كتب الكاتبون في تعريف الشعر، وأمعنوا إمعانًا بعد به عن مكانه، وضل به عن قصده، وعندي أن أفضل تعريف له أنه تصوير ناطق؛ لأن قاعدة الشعر المطردة هي التأثير، وميزان جودته ما يترك في النفس من أثر، وسر ذلك التأثير أن الشاعر يتمكن ببراعة أسلوبه، وقوله خياله، ودقة مسلكه، وسعة حيلته من رفع ذلك الستار المسبل بيه وبين السامع، فيريه نفسه على حقيقتها حتى يكاد يلمسها ببنائه، فيصبح شريكه في حسه ووجدانه".
وهو يقرر هنا أن التأثير إنما يأتي عن طريق الأسلوب وقوة الخيال، لا عن طريق المعنى وحده الذي يدركه السامع أو القارئ، إذا كان الأمر وقفًا على التأثير وما يتركه في النفس، بدون نظر إلى النغم والموسيقى الشعرية لقلنا إن الخطابة كذلك تؤثر في النفس، والخطيب البارع يستطيع بقوة خياله، ودقة مسلكه، وسعة حيلته أن يرفع ذلك التسار المسبل بينه وبين السامع، ويملك عليه لبه، ويدفعه لعمل ما يريد، والأمثلة على ذلك عديدة في الأدبين العربي والغربي.
وكثير من الكتاب يصلون بكتابتهم إلى هذه الغاية، ومن ثم فلا فرق بين الألوان الأدبية ما دام التأثير هو الغاية، إن الوزن والنغم والموسيقى عناصر هامة في الشعر لدى كل الأمم وفي كل اللغات، وقد تجد في بعض القطع النثرية سمة أو أكثر من سمات الشعر، ويسمى ذلك شعرًا منثورًا، أو نثرًا شعريًا، ولكنه ليس الشعر على أية حال".
إن المنفلوطي في رأيه هذا غلا أكثر من هؤلاء الذين يصطنعون اليوم الشعر الحر، ففيه شيء من النغم والوزن على الأقل ممثلًا في "التفعيلة" لقد أراد المنفلوطي أن يحشر نفسه في زمرة الشعراء بعد أن خرج منهم، ويرضي نفسه أولًا.
ومع ذلك نراه يرجع عن هذه الفكرة حين قرر فيما بعد أن "الشعر نغمة موسيقية قبل كل شيء، ثم يأتي بعد ذلك جمال الوصف وحسن التصوير، وتمثيل الحقيقة، واكتناه أسرار الكون، وتحليل مشاعر النفس وأمثال ذلك من الأغراض والمقاصد، على أن تكون النغمة الموسيقية أساسها والروح السارية فيها، ليتحقق الفرق بين الشعر والفلسفة، فالفلسفة غذاء العقل برزانتها وهدوئها وحججها وبراهينها، والشعر غذاء النفس برناته ونغماته، وأهازيجه ونبراته".
ونفهم من هذا أنه ممن يؤثرون الشكل على المضمون، أو اللفظ على المعنى، وإن حاول من قبل أن يسوي بينهما، بل حاول أن يفضل المعنى على اللفظ، ثم نراه يقول:"إن القطع الأدبية الشعرية أو النثرية التي نصف أسلوبها بالجمال إنما نصف بذلك معانيها وأغراضها، وأن الذين يزعمون من الشعراء، أو الكتاب أن أساليبهم الغامضة الركيكة المضطربة تشمل على معان شريفة عالية كاذبون أو واهمون في زعمهم".
لقد اضطرب المنفلوطي في فكرته عن اللفظ والمعنى كما رأينا، ولم يستطع أن يرى القفضية كما يدافع عنها من يؤثرون المعنى على اللفظ، بل جنح إلى إيثار اللفظ على المعنى من غير أن يدري.