الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
إبراهيم اللقاني:
ومن الكتاب الذين لمعوا في تلك الآونة -أخريات عهد إسماعيل، وأوائل عهد توفيق- وكان ثمرة لتوجيهات جمال الدين: إبراهيم اللقاني، وقد أتيحت له الفرصة ليكتب في الوقائع حين كان يحررها محمد عبده، وأن يرأس تحرير "مرآة الشرق" التي أنشأها سليم عنحورى، وصدر العدد الأول منها 24 من فبراير سنة 1879، ثم ما لبث أن أعياه المرض عن مواصلة تحريرها، فذهب إلى دمشق، وتخلى عنها للقاني فكانت هذه الصحيفة كتيبة في صفوف المعارضة التي قوضت عرش إسماعيل، وعجلت برحيله عن مصر، وكان في محررها جرأة استمدها، من روح جمال الدين، ومن شدة الحرص على مصلحة الوطن، ومن الاضطراب الذي طغى على الحياة في أخريات عهد إسماعيل، وكان اللقاني يعزو الفساد الذي منيت به مصر إلى "أخلاق الأمراء"، وولاة الأمور وجهلهم بواجباتهم، وسوء تدبيرهم واختلال إرادتهم، وقال عنهم إنهم:"لا يعرفون شرعًا، ولا يرضون قانونًا، ولا يسمعون رأيًا، ولا يقبلون نصحًا، بل تعدوا الحدود، وانتهكوا المحارم، وثلموا الأعراض، وحاربوا العدل، وقاوموا الإنصاف، فطغوا وبغوا، ونهبوا وسلبوا، وفتكوا وهتكوا، حبا في أغراضهم، وكرامة لشهواتهم".
كان اللقاني يحرر المقال الرئيسي في "مرآة الشرق" بأسلوب يختلف في طبيعته عن كثير من الأساليب الصحفية المعاصرة، ظهر أسلوب قوي لا يستمد قوته من فخامة الألفاظ ورنينها، ولا من الحلى اللفظية والزخارف والتشابيه، وإنما من عمق الفهم، والقدرة على التحليل، وربط الأسباب بالمسببات، والتمكن من جمع الحقائق القريبة والبعيدة، وعرضها بأسلوب واضح مقنع، فبينه وبين الشيخ محمد عبده كثير من وجوه الشبه في هذه الناحية.
ومن أمثلة كتابته المقال الذي كتبه تحت عنوان "البخت والاتفاق"، وفيه يقول: "إن البخت والاتفاق محالان، فكل ما يحدث في العالم لا بد له من علة متأصلة حقيقة، وإن مبدع الكون قد جعل في الطبائع والنفوس قوى راسخة ثابتة تتحرك نحو الفعل ليترتب عليها الأثر الذي وضعت لأجله، فتقاوم كل ما يعارضها في سيرها، وتدفع ما يمنعها عن نيله، سواء كان طبيعيًا أو إراديًا.
والقواسر التي يظهر أنها تعارض تلك القوى الراسخة المقدسة، وتمنعها من الوصول إلى الغاية التي لا تقيدها، ولا تزيدها إلا قوة وتأييدًا، إن هي إلا كقواسر
الشتاء تأتي على النبت والأشجار، فتنزع ورقها وتذهب بنضارتها وهي في الواقع تزيدها قوة، وتبعث فيها دوافع النمو، حتى إذا جاء الربيع أبرزت ما أعدته فيها تلك القواسر من قوى النمو، وانجلت بالحلل الخضر مكللة بتيجان الزهور، مرصعة بجواهر الثمار، فلا يصح بعد هذا أن تستفزك حوادث الأيام اضطرابًا أو استغرابًا، أو أن تحسبها من قبيل البخت أو الاتفاق".
وبعد أن تحدث عن الصدام بين القوانين: الطبيعية المتأصلة، والمعارضة القاصرة قال عن أثر هذا الصدام: "وهذا سر ما نراه في هذه الأيام من الفتنة، والحوادث العظيمة الناشئة عن حركة الخواطر في البلاد الواقعة تحت رق الاستعباد، فلا يحسب الناظر إليها المتهيب منها، إنها ناتجة من فساد الأخلاق ورداءة الطباع، وسفالة النفوس، مستدلًا على ذلك بما يرتكبه أهلها من المنكرات كالقتل والاغتيال والأسر بالاحتيال، كلا، وإنما هي نتيجة استبداد الأمراء، وعسف الرؤساء وظلم الزعماء، فإن هذه القواسر تنصب على قوة الحرية
الكامنة في صدور الأفراد فيحصل لها الضغط، فتندفع من بعده، فتخرج بشدة اندفاعها عن مركزها الطبيعي، وتقضي بصاحبها إلى الإفراط، وبناء عليه فما
القتل وما الأسر وما الفتنة، وما الثورات إلا نتائج الاستبداد المترتبة عليه لزومًا
ووجوبًا".
بمثل هذا المنطق الهادئ، والتحليل العميق ظهر اللقاني في جل ما تناوله من موضوعات، وهو أسلوب واضح مقنع قوي، ولكن تنقصه مقومات الأسلوب الأدبي، وتكاد تختفي فيه العاطفة في حين تتألق الفكرة، وبمثل هذا الأسلوب اتضحت سمات المقالة الصحفية أو الاجتماعية، وتميزتا عن المقالة الأدبية، وسنعرف فيما بعد خصائص كل منها.