الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أسلوب المنفلوطي:
يقول المنفلوطي في مقدمة النظرات: "يسألني كثير من الناس كما يسألون غيري من الكتاب: كيف أكتب رسائلي؟ كأنما يريدون أن يعرفوا الطريق التي أسكلها إليها فيسلكوها معي، وخيرًا لهم ألا يفعلوا، فإني لا أحب لهم ولا لأحد من الشادين في الأدب أن يكونوا مقيدين في الكتابة بطريقتي، أو طريقة أحد من الكتاب غيري، وليعلموا -إن كانوا يعتقدون لي شيئًا من الفضل في هذا الأمر- أني ما استطعت أن أكتب لهم تلك الرسائل بهذا الأسلوب الذي يزعمون أنهم يعرفون لي الفضل فيه، إلا؛ لأني استطعت أن أتفلت من قيود التمثل والاحتذاء، وما نفعني من ذلك شيء ما نفعني ضعف ذاكرتي والتواؤها عن أن تمسك إلا قليلًا من المقروءات التي كانت تمر بي".
ويقرر المنفلوطي في هذه الفقرة أنه على الرغم من قراءته الكثيرة، فلم يحاول أن يحاكي كاتبًا بذاته، وأنه استطاع أن يتفلت من قيود التمثل والاحتذاء على حد قوله:"فلقد كنت أقرأ من منثور القول ومنظومه ما شاء الله أن أقرأ، ثم لا ألبث أن أنساه، فلا يبقى منه في ذاكرتي إلا جمال آثاره وروعة حسنه ورنة الطرب به، وما أذكر أني نظرت في شيء من ذلك لأحشو به حافظتي، أو أستعين به على تهذيب بياني".
وكأني به يعيب على هؤلاء الذين يقلدون الأقدمين في أساليبهم، وبخاصة كتاب المقامات والذين أولعوا بالسجع، والحق أن المنفلوطي استطاع أن يسلك طريقًا جديدة في التعبير الأدبي متحاشيًا قدر المستطاع تقليد سواه، وعلى الرغم من ضعف ذاكرته كما يزعم، وأنها لم تحتفظ بكثير من التعبيرات القديمة، وأنه لم يقرأ ليحشو حافظته بهذه التعبيرات حتى يستعين بها على تهذيب بيانه، فسنرى بعد قليل أن مقدارا كبيرًا من هذه المحفوظات قد جرى إلى قلمه من غير إرادة منه.
كان المنفلوطي يميل إلى الترسل، ولكنه ليس كترسل ابن خلدون، بل ذلك الترسل الأدنى الذي لا يعمد فيه إلى السجع إلا نادرًا، وبدون تكلف، ويعمد في معظم الأحيان إلى الازدواج، ومراعاة النغم والانسجام بين فواصل الجمل، وحسن انتقاء الألفاظ، متجنبًا منها الحوشى والغريب قدر المستطاع، وإن استخدم بعضه أحيانًا على سبيل بعث الكلمة وإحيائها.
ولقد عرفنا فيما مضى كيف ظل السجع متلكئًا حتى العقد الأول من القرن العشرين، ولم يكن من اليسير على أي كاتب أن يتخلص منه تخلصًا كاملًا، ولا سيما في الموضوعات الأدبية التي يختص بها، وليس السجع في مثل هذه الموضوعات بمستنكر أو مستكره، والمنفلوطي وإن مال إلى الترسل والازدواج في معظم مقالاته إلا أن ثمة موضوعات كان انفعاله فيها شديدًا، واهتمامه بها عظيمًا، فغلب عليها السجع كموضوع سقوط عبد الحميد سلطان تركيًا ذي الحول والطول والجبروت، والذي كتبه تحت عنوان "دورة الفلك"، ويقول في مستهله مخاطبًا قصر "يلدز" الذي كان مقر خليفة المسلمين بالآستانة:
"أيها القصر:
أين الكوكب الزاهر الذي كان ينتقل في أبراجك؟ أين النسر الطائر الذي كان يحلق في أجوائك؟ أين الملك القادر الذي كان يسطع شمسًا في صباحك وبدرًا في مسائك؟
أين الأعلام والبنود تخفق في شرفاتك؟ والقواد والجنود تخطر في عرصاتك؟ أين الشفاه التي كانت تلثم ترابك، أو الأفواه التي كانت تقبل أعتابك؟ والرءوس التي كانت تطرق لهيبتك؟ والقلوب التي كانت تخفق لروعتك؟
أين الصوت الذي كان يجلجل فيقرع أذن الجوزاء؟، ويهدر فتلتفت عيون السماء؟ أين الفلك الذي كان يدور بالسعد والنحس، والنعيم والبؤس، والرفع والخفض والإبرام والنقض؟
أين كانت أسوارك وأبوابك، وحراسك وحجابك؟، كيف عجزت أن تمتنع على القضاء، وتصدر عن نفسك عادية البلاء:
ولم أر مثل القصر إذ ريع سريه
…
وإذا ذعرت أطلاؤه وجآذره
تحمل عنه ساكنوه وهتكت
…
على عجل أستاره وستائره"
وقد مرت فقرات عديدة مسجوعة من المقالات الأدبية، والعاطفية وبخاصة الحزينة كرثاثه، ورثاثه للشيخ علي يوسف.
وكان ذلك السجع غير المتكلف يزيد الكلام رونقًا، وقد مر بنا فيما مضى دفاع شوقي عن هذا النوع من السجع الذي يحل محل القافية في الشعر حيث قال: "السجع شعر العربية الثاني، وقواف مرنة ريضة خصت بها الفصحى، يستريح إليها الشاعر المطبوع، ويرسل فيها الكاتب المتفنن خياله، ويسلو بها أحيانًا عما فاته من القدرة على صياغة الشعر، وكل موضوع للشعر الرصين محل للسجع، وكل قرار لموسيقاه قرار كذلك للسجع، فإنما يوضع السجع النابغ فيما يصلح مواضع للشعر الرصين، من حكمة تخترع، أو مثل يضرب، أو وصف يساق، وربما وشيت بها لطول من رسائل الأدب الخالص، ورصعت به القصار من
فقر البيان المحض وقد ظلم العربية رجال قبحوا السجع وعدوه عيبًا فيها، وخلطوا الجمل المنفرد بالقبيح المرذول منه يوضع عنونًا لكتاب، أو دلالة على باب، أو حشوا في رسائل السياسة، أو ثرثرة في المقالات العلمية، فيا نشء العربية إن لغتكم لسرية، مثرية، ولن يضيرها عائب ينكر حلاوة الفواصل في القرآن الكريم، ولا سجع الحمام في الحديث الشريف، ولا كل مأثور خالد من كلام السلف الصالح".
وفي هذا الكلام يقرر شوقي أن هذا اللون من النثر يحل محل الشعر في موضوعه وفي موسيقاه، فيستخدم في الحكمة، والمثل والوصف والرسائل الأدبية الطويلة والقصيرة، وإذا كان قد تكلفه بعض الناس، واستخدموه في المقالة السياسية والعلمية والاجتماعية، فإنهم لم يفرقوا بين النثر الأدبي وسواه، واستشهد على ذلك بحلاوة الفواصل في القرآن الكريم، والحديث الشريف مبرهنًا على أن السجع قد يكون مصدر جمال ولا شك إذا تناولته يد صناع، وقلم بارع.
ونرى المازني يدافع عن المحسنات البديعية، ويعلل لها حيث يقول:"ربما أن العاطفة تحتاج إلى لغة حارة تعبر عنها، فقد استخدمت المحسنات ولكن هذه المحسنات صارت مرذولة بالصنعة والتكلف، أما عند شعراء الطبع فتأتي عفوًا، وتكاد لا تحس، فهي جميلة الوقع، ومعبرة تعبيرًا صادقًا عن العاطفة".
في حين نرى الزيات يدافع عن السجع والازدواج، "وهو اتحاد الفواصل في النغم دون الحروف"، ويفرق بين السجع والازدواج وبقية المحسنات، فالازدواج على إطلاقه والسجع على تقييده، يؤلفان الموسيقية في الأسلوب البليغ منذ كان للعرب ذوق أو للعربية أدب، فليست الحال فيها هي الحال في سائر الأنواع البديعية التي نشأت في الحضارة، وتمت بالترف، وسمجت بالتكلف، فالذين ينكرون على من يحسنون التأليف بين الأصوات، والمزاوجة بين الكلمات، والمجانسة بين الفواصل إنما ينكرون جمال البلاغة، وجميل البلغاء في دهر العربية كله".
وقد وضع عبد القاهر الجرجاني مقياسًا أدبيًا للحالات التي يحسن فيها السجع والتجنيس حيث يقول: "وعلى الجملة فإنك لا تجد تجنيسًا مقبولًا، ولا
سجعًا حسنًا حتى يكون المعنى هو الذي طلبه واستدعاه وساقه نحوه، وحتى تجده لا يبتغي به بدلًا، ولا تجد عنه حولًا".
فالسجع في رأي الجرجاني يأتي حسنًا حين يتطلبه المعنى، ولا شك أن المعاني الشعرية، والمواقف العاطفية تتطلب لغة خاصة، ومن هنا جاء استعمال السجع لينوب عن القافية في الشعر، ونحن بهذا لا ندافع عن سجع المنفلوطي، فالسجع والازدواج بل التعبيرات المجازية على اختلاف أنواعها لا تتجاوز السدس في أدبه، كما أحصاها السيد محمد أبو الأنوار في رسالته عن المنفلوطي، والسمة العامة في أسلوبه هي الترسل الأدبي، ولكن أردنا أن نبين ما للأسلوب الأدبي من سمات يتميز بها عن سواه، وأن السجع المطبوع، والازدواج على إطلاقه مما يزيد الكلام بهاء وطلاوة، ويرتفع بالعبارة، ويجلي عاطفة الكاتب.
وكان المنفلوطي في مقالاته ذا عاطفة جياشة على تفاوت في قوة تلك العاطفة باختلاف الموضوعات.
وكان يلجأ إلى الخيال التفسيري المعتمد على المجازات من تشبيه واستعارة، ولكنه كان يخطئ أحيانًا في فهم وظيفة التشبيه إذ لا يراد لذاته كما يقول عبد الرحمن شكري، "وإنما يراد لشرح عاطفة، أو توضيح حالة، أو بيان حقيقية"، فالتشبيه وسيلة أثر المشبه في نسه أو الإيحاء بهذا الأثر، فإذا لم يقترن بالعاطفة أو لم يكن وسيلة لنقلها، فلا فائدة منه ولا جدوى فيه".
من هذه التشبيهات التي لم تؤد الغاية منها قوله: "وطار طائر الليل من مكمنه، وما نشر الظلام أجنحته السوداء في الأفق حتى وجدتنى أحير من دمعة وجد في مقلة عاشق يدفعها الحب ويضيعها الحياء"، إنه هنا يتكلم عن إنسان يعيش في هذا العالم المليء بالشرور والمتناقضات، وفجأة وجد نفسه في مدينة السعادة فأخذته الحيرة، فهل استطاع هذا التشبيه بالدمعة في مقلة العاشق أن يصور حيرته، ويكشف عن إحساسه، لا أظن، إنه يستخدم تلك الصيغ القديمة والمهارة اللغوية من غير أن يراعى المقام، ومن غير أن يحمل التشبيه عاطفة أو يبين حقيقة.
ومن ذلك تلك الصور العديدة التي خلعها على القمر في موضوعه مناجاة القمر حيث يقول له: أأنت عروس حسناء تشرق من نافذة قصرها، وهذه النجوم المبعثرة حواليك قلائد من جمان؟ أم ملك عظيم جالس فوق عرشه، وهذه النيرات حور وولدان؟ أم فص من ماس يتلألأ وهذا الأفق المحيط بك خاتم من الأنوار؟ أم مرآة صافية وهذه الهالة الدائرة بك إطار؟ أم عين ثرة ثجاجة، وهذه الأشعة جداول تتدافق؟ أم تنور مسجور، وهذه الكواكب شرر يتألق؟
ليس في هذا التشبيه أي صدق في الإحساس، بل فيه تناقض، فبينا هو عين ثرة، والأشعة جداول، إذا هو تنور مسجور والكواكب شرر، والفرق بين التشبيهين شاسع، فالمفروض أن التشبيه يحمل لنا شعور الكاتب وهو يرى القمر، فآونة يرى القمر عروسًا والنجوم حولها قلائد من جمان، وآونة هو ملك عظيم وهذه النيرات حور وولدان، وآونة فص من ماس، فهو تارة أنثى وتارة ذكرًا وأخرى جمادًا، إنه ينظر إلى الشكل الخارجي، ومع ذلك لم يوفق في التشبيه وتبيان الحقيقة، فضلًا من إظهار العاطفة.
ومن هذه المجازات الفاسدة قوله في الشعرة البيضاء: "رأيت الشعرة البيضاء في مفرقي فارتعت لمرآها كأنما خيل إلى أنها سيف جرده القضاء على رأسي، أو علم أبيض يحمله رسول جاء من عالم الغيب ينذرني باقتراب الأجل".
والنذير لا يحمل علمًا أبيض.
وقوله: "وبينا أقلب أوراقي ليلة أمس إذ عثرت بها في سفط صغير، قد اصفر لونه لتقادم العهد عليه، كما يصفر الكفن حول الجثة البالية"، فأي تشبيه؟! وأي علاقة بين الكفن وبين السفط!! وهل رأى الكفن حول الجثة البالية، وأي تفزز يوحيه مثل هذا التعبير!!
وقوله: "وأن الغناء العربي كان قريبًا إلى القلوب، وأنه كان منها بمنزلة الأصابع من الأوتار فإذا لمسها رنت رنين الثكلى والمرزوءة في واحدها، وأن الوجدان العربي وجدان رائق شفاف تأخذ منه مختلف الأنغام فوق ما تأخذ الكهرباء من الأجسام" أي تميته وتصعقه، وليس هذا ما يريده ولا شكن، ولكنه أراد
أن يجدد في التشبيه فوقع في هذا الخطأ الفاحش، وأراد أن يصور طرب العربي للغناء فلم يجد إلا نواح الثكلى والمرزوءة في واحدها.
وأحيانًا يجني عليه محفوظة، ذلك الذي أنكر أنه عنى به أو حاوله في قراءاته المختلفة، والذي قلنا: إنه تسرب إلى تعبيراته من غير إرادة منه فيفسد التشبيه، ويحول بينه وبين أداء وظيفته، وذلك كقوله:
"إن منظر الشاكي ونغمة ثنائه وحمده أوقع من العود في هزجه ورمله، وأعذب من نغمات معبد في الثقيل الأول"، ولا يعرف الهزج والرمل من القواء إلا الأقلون عددًا، وما العلاقة بين نغمة الشاكي، ونغمات معبد في الثقيل الأول، وهو نفسه لا يعرف الثقيل الأول، إنه ترديد لما قاله الأقدمون حين كانوا يعرفون معبدًا، ويقدرون فنه، ويعرفون أنواع غنائه، وقد أخذه من قول البحتري:
هزج الصهيل كأن في نبراته
…
نغمات معبد في الثقيل الأول
ومن ذلك المحفوظ قوله: "كنت أحسبه إنسانًا فإذا هو سيد عملس "أي سريع".
وقوله: "لو كشف لك عن نفسه.... لوددت أن لو تيسر لك أن تبتاع أقدام السليك بجيمع ما تملك يدك، ففررت من وجهه فرارًا لا من وجه الأسد" إنه يعيش في العصر الجاهلي أيام كان السليك بن السلكة مشهورًا بالعدو السريع، ويعيش في الصحراء أو الغابات حيث الأسود والحيوان الضاري، إنه مجاز لا يلائم مقتضيات العصر وتصوراته، وقد جاءه من محفوظه القديم.
ومن ذلك قوله: "اللهم إنا نعلم أنا لموت غاية كل حي، وأن مقاديرك التي تجري بها بين عبادك ليست سهامًا طائشة، ولا نياقًا عشواء"، فقد يكون التشبيه بالسهام مقبولًا على الرغم من أننا في عصر لا نستخدم فيه السهام، ولكن ما هذه النوق العشواء في القاهرة وفي هذا القرن؟؟
ومن ذلك قوله: "سلام عليك أيها الشباب، سلام على دوحتك الفينانة الغناء التي كنا نمرح في ظلالها مرح الظباء العفر في رملتها الوعثاء"، وهي صورة
بدوية معرفة في البداوة، وليست مما يراه الناس بمصر، وإنما هي مأخوذة من بطون الكتب لا من وحي الرؤية أو التجربة.
وقوله: "أحق ما تقول، وأنت الرجل السعيد بحظه المغتبط بعيشه: قصر غمدان، وخورنق النعمان وحور وولدان، وظل ظليل ونسيم عليل، وخزائن تموج بالذهب موج التنور باللهب"، فماذا يعرف قراؤه عن قصر غمدان أو الخورنق حتى يقدروا ما عليه صاحبه من النعمة؟ وهو يعيش بالقاهرة وفيها من القصور ما يزري بهذين القصرين عشرات المرات، ولكنه المحفوظ من الأدب القديم.
وكان المنفلوطي كثيرًا ما يستخدم المألوف الشائع من المجازات حتى المتداول على ألسنة العامة، وقد يصوغه صياغة جديدة، ولكنه لا يزال هناك كقوله مثلًا:"فأولى به أن يفر منها فرار السليم من الأجرب"، وقوله:"تهافت الذباب على الشراب"، وقوله:"تصارع الكلاب حول الجيف الملقاة".
وأحيانًا تأتي من محفوظه من الأدب القديم لقوله: "كفراخ القطا" وقوله: "البرد الذي كان يعبث بها عابث النكباء بالعود"، وقوله:"أدار رحى الحرب" إلى غير ذلك من التعبيرات المبثوثة في بطون الكتب القديمة، ومع ذلك فهناك صور جميلة وردت في ثنايا مقالاته، وهي ليست بالقليلة بل إنها تربى على تلك الصور المتداولة، أو التي جانبه فيها التوفيق، أو التي جاءت نتيجة الحفظ، وهي أكثر من أن تعد، ولنضرب على ذلك مثلًا أو مثلين كقوله مخاطبًا الشعرة البيضاء:"ما رأيت بياضًا أشبه بالسواد من بياضك، ولا نورًا أقرب إلى الظلمة من نورك".
وقوله مخاطبًا الشعرة البيضاء كذلك: "إن كان هذا مصيرك "أي الانتشار ونشر البياض في السواد"، فسيكون شأنك شأن ذلك السائح الأبيض الذي ينزل بأمة الزنج مستكشفًا، فيصبح مستعمرًا، ويدخل أرضها سلمًا، ويفارقها حربًا".
وقوله: "فكان يسكن إلى ذلك الوعد سكون الجرح الذرب تحت الماء البارد".
وقوله: "إن للثروة طغيانًا كطغيان الشراب".
وقوله: "كان مصطفى كامل سراجًا كبير الشعلة، وكل سراج تكبر شعلته يفرغ زيته وشيكا، وتحترق ذبالته فينطفئ نوره، كان مصطفى كامل نشيطًا سريع الحركة، فقطع جسر الحياة في لحظة واحدة".
وقوله -محاولًا التجديد في الصورة- عن الشيخ محمد عبده والشيخ علي يوسف: "وكانت منزلتهما من الأحياء منزلة الأم من مصابيح الكهرباء، تشتعل المصابيح بتيارها، وتضيء بأسرارها، فإذا فرغت مادتها وانقضى أجلها عم الظلام واشتد الحلك، والمصابيح كما هي جسم بلا روح، ولفظ بلا معنى".
ومن خصائص أسلوبه التي نلمحها بين آن وآخر إيراد الجمل المترادفة على المعنى الواحد في إسهاب، فيقول مثلًا:"المدى الشاسع"، والشأو البعيد"، ويقول: "والأدب جاثم في مكمنه هامد لميبعث من مرقده"، ويقول: "أين الباقي الذي يزعمون، والخلف الذي يذكرون"، ويقول: "أما الثاني فسر مذاع، وحديث مشاع"، ويقول: "أين البلابل التي كانت تنتقل بين أشجارها فتطرب بالأغاريد، وتستهوى بالأناشيد"، إلى عشرات الأمثلة التي نراها في مقالاته،
ولعل هذه الظاهرة أتت له من قراءته للجاحظ بصفة خاصة.
ونراه أحيانًا كثيرًا يكلف بالمقابلة كقوله: "إن كان يتمنى أن العيون التي رأته بالأمس وهو وضيع تراه اليوم وهو رفيع"، وقوله:"إنها شاركته في شدته فجيب أن تشاركه في رخائه، واحتملته والدهر مدبر عنه فيجب أن يحتملها والدهر مقبل، وأقرضته الصبر على عشرته، فيجب أن يوفيها الصبر على عشرتها".
وكقوله: "لا يجد المرء لذة الطعام إلا إذا ذكر الجوع، ولا لذة الماء إلا إذا ذكر الظمأ، ولا لذة السعادة إلا إذا تمثل أمام عينيه عهد الشقاء، فما أحوجه إذا انتقل من عذاب الفقر إلى نعيم الغنى -إلى أصدقاء عهده الأول، وعشرائه ليجلس ويتحدث عن ماضيه، فيشعر بلذة الانتقال من حال إلى حال".
ونراه أحيانًا يرد الجمل على نفسها كقوله: "وأحسب أنها إذا كانت إذا خلت بنفسها أو خلا لها وجه السماء".
وقوله: "لا تبالي أسقطت على الموت أم سقط الموت عليها".
وقوله: "بين جمال الأنوار، وأنوار الجمال، ويقلب طرفه بين حسن الزهرات، وحسن الفتيات، لا يعلم أتشبه القامات الغصون، أم الغصون القامات".
وقوله: "لم ينفع الرجل دفاعه عن نفسه، ولا دفاع ابنته عنه".
وقوله: "لا تسمع شيئًا مما يقولون، ولا يعنيهم أن يسمعوا شيئًا مما تقول".
وقوله: "وأخدعه عن نفسي، ويخدعني عن نفسه".
وقوله: "لا يلوي على أحد ولا يلوي عليه أحد".
إلى غير ذلك من الأمثلة العديدة التي تلفت النظر في أسلوبه.
هذه بعض خصائص أسلوبه من ناحية الصياغة، وهو أسلوب في الغالب مشحون بالعاطفة، وليس فيه عمق الفكرة، ولا الخيال المجنح، ولا الخيال الابتكاري، وإنما يعمد إلى ألوان المجاز، فيه سجع أحيانًا، ولكنه ليس كسجع القدماء، بل هو سجع رقيق غير متكلف إلا في النادر، وفيه ازدواج مطبوع، وفواصل ترتاح النفس لها لتلاؤمها الموسيقي.
أفاد من دراسة الأدب القديم في تربية ذوقه، ولكنه تجنب المتوعر منه حتى لقد كان يرى أن المتأدب في العصر الحديث لا يحتاج إلى الشعر الجاهلي، ولا شعر الحماسة والحرب ووصف الإبل، فذلك في رأيه آخر ما يحتاج إليه المتأدب في هذا العصر.
وينعي على هؤلاء الذين يتجنبون في مختاراتهم للطلاب أبواب الغزل، ووصف الطبيعة، وعواطف النفس الإنسانية، وتصوير حالاتها ووجداناتها في الخير والشر، والعرف والنكر، كأنما يحسبون أن كل بيت غزل بيت ريبة، وكل وصف خمر حانة شراب، وما سمعنا من قبل، ولا نحسب أن سيسمع السامعون من بعد أن متأدبًا أفسده ديوان غزل، أو أغراه بالشراب وصف خمر".
وإذا كنا قد رأينا في بعض ما كتب مسحة من القديم الذي حاول جهده ألا يطغى على أسلوبه، فقد كان ذلك على سبيل البعث والإحياء، وكم كان عصره في أشد الحاجة إلى مثل هذا البعث والإحياء، للتعابير الأنيقة، ومع أن المنفلوطي استعان بالقديم أحيانًا إلا أنه ألبسه ثوبًا جديدًا قشيبًا، وخلع عليه من روحه وعاطفته وفنه، وشخصيته، فألبسه حياة جديدة، ولقد أخذ عليه بعض النقاد هذا التمسح بالقديم -مع أنه قليل جدًا في كتاباته- وإنما يرد في عبارة هنا، وعبارة هناك ومنهم مارون عبود في كتابه "جدد وقدماء".
وأغلب الظن أن هؤلاء الذين عابوه لاستعانته بالقديم، وتسرب بعض الصيغ القديمة إلى أدبه، من أمثال مارون عبود، وسلامة موسى، لا يرضيهم الأسلوب العربي المتين، ذلك الأسلوب الذي يعتقد مارون عبود، أنه جنى على عقولنا -نحن العرب- أكثر مما فعلته الأحذية الحديدة ببنان الصبية.
هل يريدون قالبًا غير عربي أو لا يتقيد بشروط الصحة اللغوية، ومقاييس الفصاحة؟ هل يريدون أن يؤدي المعنى بأي لفظ تهيأ للكاتب، ولو كان مبتذلًا سخيفًا؟ وأي فرق إذا بين الأدب وسواه؟
ويبالغ مارون عبود حين يقول: "لقد فتشت آثار المنفلوطي كلها فما عثرت بتعبير شخص لهذا النابغة، فهل بين الناطقين بالضاد من يدلني على واحد". وهذا لعمري غاية التجني على المنفلوطي الذي صنع من تلك الألفاظ العربية الموروثة عبارات سهلة عذبة في الأناقة والطرافة، خالية من شوائب العجمة والابتذال والتكلف، غنية بموسيقاها ورخامة جرسها.
لقد فتح المنفلوطي بأسلوبه هذا فتحًا جديدًا في النثر الحديث، حيث لم يلجأ إلى أسلوب المقامات ذي السجع المتكلف المصنوع، ولم يغرق في المحسنات البديعية التي كانت تقصد لذاتها، ويتكلف الكتاب في سبيلها ما يتكلفون، وقد يجنون على المعنى في سبيل اقتناصها، ولم يلجأ غلى ذلك الأسلوب الصحفي الذي يحمل كثيرًا من التعبيرات الأعجمية المترجمة، ولا يتحرى فيه كاتبه صحة اللغة، ولا أناقة العبارة، ولم يكتب باللغة العامية التي دعا إليها كثيرون في عصره من المستعمرين وأذنابهم.
وقد أخذوا عليه إسرافه في العاطفة، وبخاصة الحزينة منها إلى حد التهالك والرخاوة، فيقول المازني في الديوان:"وقد أسلفنا أن وصف أسلوبه بالنعومة أقرب إلى الصواب، ولكنه ليس كل الصواب؛ لأنه متجاوز ذلك ذاهب إلى أدنى منه وليس أدنى منه ذلك إلا الأنوثة، وهي أحط وأضر ما يصيب الأديب، ولكنها مع الأسف تجوز على فريق من الناس يلتذونها ويسيغونها، ويعجبون بها، ويبلغ من استحسانهم إياها أن يشجعوه، ويغروه بالكد في إبراز ما ليس أقتل منه للرجولة".
ثم يقول: "بأن المرء وظيفته أن يغالب قوي الطبيعة؛ لأن الأصل في الحياة الصراع.... إن هذه الحقيقة قد فطن إليها الأقدمون السذج، ولكن المنفلوطي المسكين ليس له من عمل في الدنيا إلا البكاء على الأشقياء، كأنما خلق الرجل أضعف من الدودة الجوالة في جوف الثرى".
ويقول العقاد: "وربما كان أدب المنفلوطي أصدق الأمثلة، وأقربها إلى توضيح الفرق بين ليونة الطبع، وإن شئت فقل دماثته، وبين صدق الإحساس، وسرعة العطف على الآلام والأشجان، فإن كثيرًا من الناس يخيل إليهم أن الطبع الذي يصفونه بالمدماثة والرقة، هو أصدق الطبائع حسًا، وأسرعها إلى العطف على مصائب النفوس، والإصاخة إلى شكاية البائسين والمحزونين، وليس أخطأ من هذا الخطأ في فهم حقيقة العطف الصحيح الذي إنما ينفجر من سعة الإحساس وغزارة العواطف ويقظة القلب، لا من تلك الدماثة التي لا تفتأ باكية شاكية، أو من تلك الرقة التي تشفق أن تذوب من الهباء".
ويرى العقاد كذلك "أن أبطال المنفلوطي الذين بكاهم، ورثي لحالهم بلغواالغاية من البؤس، وهم ذلك النوع الذي يبكي له الرحماء والقساة على السواء، وأن المنفلوطي ما كان يبكي لأقل من هؤلاء، بل يبكي للمصائب الجسيمة التي يبصرها الأعمى والأصم على السواء".
أما وصف أسلوب المنفلوطي بالنعومة والأنوثة فهذا تحامل بين، ومن يقرأ أدب المنفلوطي وعنده شيء من الذوق الأدبي لا يمكن أن يقر للمازني بهذا الحكم الجائر، إن طبيعة الموضوعات التي كان يعالجها كانت توحي له بهذه العاطفة،
وتستثير شجونه؛ لأنه رجل رقيق الحس، مرهف المشاعر، وأعتقد أنه كان صادق العاطفة، يريد الإصلاح ويحاول أن يلين القلوب القاسية على المنكوبين والمحرومين، ومن وقعوا فريسة الانحرافات الاجتماعية والخلقية، يريد أن يؤثر في سامعه وقارئه، ويظهر مبلغ ما وصل إليه نفسه من حزن وكمد على هؤلاء المساكين، عل الناس يستجيبون لتلك العاطفية فيصلحون من شئونهم، ويتداركون أخطاءهم أو يضربون على أيدي العابثين اللاهين.
لقد نصب الرجل نفسه مصلحًا اجتماعيًا وواعظًا، وكان يريد أن يصور في بشاعة بالغة تلك المصائب التي كان يغص بها المجتمع، حتى يحس الناس بها، فليس بصحيح كما يقول العقاد أنه لم يكن يبكي إلا للمصائب الفادحة التي يبصرها الأعمى والأصم على السواء، ولكنه كان يعالج أبلغها أثرًا، وأشدها إيلامًا، وأجرأها على الدين والفضيلة، حتى يلفت أنظار مواطنيه إلى ما يغض به مجتمعهم من آفات وأوصاب، وهم راضون عنها غافلون عن آثارها.
إن الطعن في عاطفة الرجل ليس له ما يسوغه، بديل أن قراءه كانوا معجبين به، وأن كلماته نزلت من قلوبهم المنزلة التي أرادها، وأنه إنما كان ينمي فيهم الشعور النبيل، ويبعدهم عن السلبية المقيتة، ويحملهم على الاستجابة لندائه، وقد اعترف العقاد بشيء من هذا حين قال:"لكننا نقدر المنفلوطي ولا نريد أن نبخسه حقه، وننكر عليه أثره، فلا بد أن نقول: إن النفوس التي يعهدها ويعطف عليها أكثر عددًا، وأحوج إلى هذا التثقيف من النفوس التي لا عهد له بها، ولا صلة عطف بينه وبينها، وإن نظرته إلى الأخلاق والشعور أقمن أن تفيده قراءه، وتحظى لديهم من كل نظرة سواها، ولعلها -لولا ما نأخذه عليه من الليونة والرخاوة في أكثر كتاباته- أصلح زاد لهم من غذاء الفكر والعاطفة، بل كانوا في حاجة إلى منفلوطي يظهر لهم لو لم يظهر هذا المنفلوطي الذي عرفوه وأقبلوا عليه".
لم يكن الرجل سلبيًا في بكائه، ولكنه كان يتهم على كل القوى الفاسدة في عصره، تهجم على الأغنياء والأمراء الذين أرهقوا الشعب وسلبوه حريته وماله، تهجم على بعض رجال الدين الذين نافقوا في دينهم، وجعلوه سلعة يتجرون بها
فيقول على الأولين: "ثم ما زال الناس يعبثون بعنوان الشرف، ويتوسعون في معناه حتى نظموا في سلكه الجبابرة الذين يسمونهم أمراء، والظلمة الذين يسمونهم ملوكًا، والسفاحين الذين يسمونهم قوادًا، واللصوص الذين يسمونهم أغنياء"، أيقال عن مثل هذا الكلام إن فيه رخاوة وتأنثًا، لقد واجه كل تلك القوى الجبارة بنعوت ترزي بها وتحط من شأنها، وتسيء إليها، وتؤلب الناس عليها، وتشككهم في منزلتهم.
وقال عن المنفاقين في الدين: "لولا خداع العناوين ما سميت صالحًا تقيًا كل من حرك سجته، وأطال لحيته، ووسع جبته وكور عمامته، ولقد تعلم أن وراء هذا العنوان كتابًا أسود الصفحات كثير السقطات".
فأي قوة وراء هذه العبارة، وأي نفس تحاول الإصلاح، ولا تبالي بمن تعادي؟!
لقد عللنا آنفًا لتلك الظاهرة في أدب المنفلوطي، ونضيف هنا أنه كان معبرًا عن شعور جمهرة الناس بالحزن والأسى، كان الاحتلال جاثمًا، والحريات مكبوتة، والبلد يستغلها نفر قليل، يمتصون دماء الشعب، ويرهقونه إرهاقًا عنيفًا، والمدنية الغربية تزحف بمفاسدها، فاصطدمت مثاليته الأخلاقية والدينية بوافعه المليء بالمآسي، وكان الناس في حاجة إلى من يعبر عن مشاعرهم هذه، ويصف لهم في مبالغة وعطف ما يعانونه من حرمان وكبت، وما يستشري في مجتمعهم من مفاسد، ولذلك أحبوا منه هذه النغمة وشجعوه عليها، واستكثروا منها.
وذكرنا كذلك تأثيره بالرومانسية الفرنسية التي غلب عليها الحزن حتى سمي بداء العصر، وليس المهم عندنا هو البكاء والاستبكاء، وإنما المهم في رأينا هو العاطفة الصادقة التي كانت تكمن وراءه.
ربما أخطأ المنفلوطي أحيانًا في علاجه لبعض المآسي التي تعرض لها، واكتفى بالبكاء على أبطاله، دون أن يصف لهم طريق العلاج الصحيح، ويحثهم على المقاومة كما فعل في مقالته "الزهرة الذابلة"، ربما كان الرجل لفرط حساسيته ولمثاليته قد فقد الثقة في كثير من الناس، ونظر إلى الدنيا بمنظار أسود، وتخيل أن وراء المظاهر الخادعة نفوسًا تغص بالشر، فكثر تشاؤمه، وزاده ألمًا على ألمه.
والحق أن الرجل لم يكن متعمقًا في الدراسات الاجتماعية، ولم يلجأ إلى المعالجة العلمية، وإنما لجأ إلى ما سماه "حديث القلب" مكمن العاطفة، والغاية عنده هي التأثير في سامعه أو قارئه، وقد وصل في ذلك إلى ما يريد في معظم ما دبج من مقالات، لم يكن يخاطب الخاصة، وإنما كان يخاطب جمهرة المثقفين، ولم يكن يحفل بآراء الخاصة في أدابه حتى لا يشككوه في رأيه، وطريقته، ونفوسهم في الغالب منطوية على أغراض شخصية أقلها حسد المنفلوطي على المنزلة التي احتلها بين جمهرة القراء، أو تشيعه السياسي لحزب معين أو زعيم بذاته، ونحن نعلم أنه كان وفيًا لسعد زغلول، وأن بعض خصوم سعد تهجموا على المنفلوطي لإخلاصه المفرط لذلك الزعيم مثل محمد الههياوي وغيره.
وإن من الخطأ الفاضح أن يحكم على آدب أديب بمقاييس عصر آخر، وكان الواجب على هؤلاء الذين جرحوا أدب المنفلوطي أن يتصوروا عصره وما كانت عليه الكتابة في عهده، من ناحية الأسلوب ومن ناحية المعنى، وكيف كان معاصروه، ومن أمثال محمد المويلحي في "حديث عيسى بن هشام"، وتوفيق البكري في "صهاريج اللؤلؤ"، وحافظ إبراهيم في "ليالي سطيح" لا يزالون يتعلقون بأذيال الماضي، وبالعبارة المتكلفة المسجوعة، وبضروب البديع المختلفة، وإظهار البراعة اللفظية، والغزارة اللغوية، وأن المنفلوطي قد نفض عنه ذلك كله، وهو إن نظر إلى الأدب القديم فإنه قد تخلص من ربقته، وأتى بأسلوب جديد فيه سلاسة وعذوبة، يعبر عن مقتضيات عصره، وعما يختلج في نفسه من مشاعر بصدق وصراحة، مع شيء من المبالغة يقتضيها المقام، وأن ذلك الأسلوب كان فتحًا جديدًا في النثر العربي.