الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
إبراهيم اليازجي:
وللشيخ إبراهيم اليازجي يعتذر لصديق، "بم يعتذر إليك من لا يرى لنفسه عذرًا، وكيف يستتر من عتبك من لا يستطيع لذنبه سترًا، بل كفاني من التعب تعنيف نفسي على ما ألقيت عليها من تبعه تقصيري، وما حلت به من التفريط بينها وبين معاذيري، والله يعلم ما كان تقصيري شيئًا أردته، ولا كان تفريطي أمرًا قصدته، ولكنها الأيام إن صاحبتها لم تصحب، وإن عاتبتها لم تعتب، فلقد عبرت بي هذه البرهة كلها، وأنا بين شواغل لا يشغلها عني شاغل، وبلابل قد اختلط حابلها بالنابل، فنازعتها هذه النهزة اليسيرة أجد فيها صلة التذكرة، إلى أن يمن الله بصلة الحبل، واجتماع الشمل، وأستنزل أحرفا من خطك يكتحل بها الناظر ويأنس إليها الخاطر متوقعًا بعد ذلك أن أبقى بين يدي مودتك مذكورًا، وألا يكون عجزي لديك شيئًا منظورًا، وأن تجري بي على عادة حلمك، إلى أن يجمع الله الشتيتين، ويغني العين عن الأثر بالعين إن شاء لله تعالى".
ونلحظ -على الرغم مما عرف عن الشيخ إبراهيم من عنايته برسائله، وأنه كان من المهتمين بالأدب، كثير الكتابة في الصحف، بل كانت له صحيفة يحررها -أنه في رسائله بعامة، وما هذه الرسالة إلا نموذج له، يتكلف بعض العبارات، ويطيل الجملة حتى بالسجعة، ويأتي بجمل غامضة كقوله في آخر رسالته، ويغني العين عن الأثر بالعين جريًا وراء الجناس التام.
أما أديب فكان كعادته مشبوب العاطفة في كل ما يكتب متمكنًا من اللغة، يحسن تصريف الكلام، وعلى الرغم من تكلفه السجع في رسائله، فإن خياله وعاطفته يخففان من وقعه، فيأتي غير ثقيل أو مسترذل كقوله من رسالة كتبها إلى الأمير عبد القادر الجزائري:
"كتابنا أيد الله الأمير الأعز، ونحن عصبة تذكر: ليس منا من لم يرحم صغيرنا، ويأمر بالمعروف، وينه عن المنكر.
رأينا ما ألم بهذه الأقطار من الأضرار، ناشئة عن تحالف القلوب، وتنافر الأفكار حتى صار الود مداجاة والحب عدوانًا، فقلنا يا قوم: لا تنافسوا ولا تحاسدوا ولا تباغضوا، ولا تدابروا وكونوا عباد الله إخوانًا، ورأينا بوادر البلاء وطلائع الشقاء، فخفنا المصاب الأعظم ينقلب به الخير إلى الضير، والمغنم إلى المغرم، ويزول بهاء الأمة، ثم تغضب الأرض التي سقاها السلف الكرام بالدم فنهضنا نروم حفظ الباقيات الصالحات بوسائل السلم، والسلم أسلم، وذكرنا خيركم المدافع عن عشيرته ما لم يأثم.
ورأينا فقيرنا يتعثر بأذيال ناقته، وعظيمنا لا يأمن على راحته، أو على ما في راحته، ومثل ذلك سائر إخوان الوطن الذي ولدنا فيه، أو نزلنا بساحته، فنزعت أنفسنا إلى إعانتهم، ومن كان في حاجة إلى أخيه كان الله في حاجته.
ورأينا فضل الأمير على طور تحلي الحكمة، وتوقظ الراقد، وتنبه الغافل من هاته الأمة، فتكشف عنها كل ملمة، فعلمنا أن لا بد من مساعدته في هذه المهمة، فرفعنا إليه الصحيفة التي هي لسان حالنا لتنوب لديه عن لسان مقالنا، أمل الحصول على القبول شأن الأمير في معاملة من أمة، ورجاء، ورود الجواب بما يراه في أمر هذه الخدمة، في تشريفنا بذلك رأيه العالي مسددًا، وأمره الكريم مؤيدًا إن شاء الله".
وهذه الرسالة تكاد تكون في غرض عام، لا رسالة إخوانية؛ لأنه يرفع الصحيفة إليه، ذاكرًا الحوافز التي دعته إلى إصدار الصحيفة، وهي وجود الخلافات بين أفراد الأمة، ووجود الفوارق بين الطبقات، وعدم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر -إلى غير ذلك من الأمور التي جاءت في رسالته، ونرى أنه يكثر من حل الآيات القرآنية على طريقة ضياء الدين بن الأثير، فتزيد من رونق كلامه، ورأيناه يسجع أحيانًا ويزاوج أحيانًا، مع ظهور عاطفته قوية؛ لأنه يتحدث في موضوع وطني، وكان أديب كما عرفنا يشتعل حماسة في كل ما يمس الوطن، أو يتصل بشئونه.
ومن رسائله الإخوانية ما كتبه لعبد السلام المويلحي حين انقطعت عنه رسائله:
"لولا دلالة القلب على صفاء الوفاء، وهداية النفس إلى بقاء الإخاء لغالبت الشوق في استطلاع أخبارك منك، ووقفت عن شكوى هجرك إليك مخافة إملالك بما أنت غني عنه، وكراهة إعناتك بما أنت زاهد فيه، ولكني عهدت بين جنبيك قلبًا لا يحوله تغير الأحوال ولا يبدله كرور الأيام والأحوال، فأنا مخاطبه بما يمليه الشوق على رضيت أم غضبت، وسكت أم أجبت.
أي قلب من نحب ونكرم، ونجل ونعظم، لقد اتصلنا منك بأسباب المودة، واعتقلنا منك بأهداب الصداقة، فهل أنت ذاكر معاهدنا بذات الوفاء ليالي هجرنا الرقاد إليك، وقصرنا الوداد إليك، أو رضيناك من الدنيا نصيبًا، واخترناك من العالمين حبيبًا، وكيف لا؟ وقد لازمك الصفاء وصافاك الوفاء، فصفوت على
كدورة الأيام، ووفيت على خيانة الأنام، فإن عدلت وما عدلت فعلى الدنيا السلام".
وفي هذه الرسالة متانة وعلى الرغم من أنها مسجوعة، وفيها جناس متعمد في بعض فقرها، إلا أنها تذكرنا برسائل الكتاب في القرنين الثالث والرابع.
هذا ولو رحنا نتبع كتاب الرسائل في مصر والشام في أخريات القرن التاسع عشر، وجدنا أكثريتهم تصطنع في الرسائل ذلك الأسلوب المحتفى به، الذي تختار كلماته بدقة، ويتضمن ألوانًا من الخيال التفسيري، وبعض البديع وبخاصة الجناس، وكثير منهم كان يؤثر السجع، فإن لم يتيسر فالمزاوجة.
ولا شك أن ذلك الأسلوب زاد اللغة قوة، ودفعها إلى الأمام، فلم تنتكس وتعود إلى عصور الضعف، وهو مقبول في النثر الأدبي، وما من أديب في تلك الفترة إلا كان له جولات في ميدان المراسلة، بيد أن أسلوب الرسائل أخذ يخف منه السجع تدريجيًا منذ أوائل القرن العشرين، وإن حافظ على قوة ديباجته، وحسن صياغته.
هذا وقد ظهرت عدة كتب في تلك الفترة آثر أصحابها أن يكتبوها بالأسلوب المسجوع، المحلى بأنواع الزخارف والبديع على اختلاف بينهم في مقدارها، وتعد من الكتب الأدبية الجديرة بالدراسة؛ لأنها تمثل طورًا من أطوار النثر الأدبي، ومن ذلك حديث عيسى بن هشام للمويلحي الذي ساقه على طريقة المقامة، وأسواق الذهب لشوقي أمير الشعراء، وليالي سطيح لحافظ إبراهيم، وصهاريج اللؤلؤ للبكري.