الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أثر الثقافة الأجنبية في تطور المقال الأدبي:
أخذ تيار الثقافة الأجنبية يشتد على مر الأيام، تعني بها المجالات المتخصصة، وتنقل منها على اختلاف لغاتها قطوف من العلم والأدب بفنون المتباينة، وقد كانت المقتطف منذ نشأتها مجالًا لنقل العلوم الغربية الحديثة، وإيجاد المصطلحات التي تسد عوز اللغة إما بالترجمة أو التعريب، وتقريب تلك العلوم في بساطة للقارئ العربي، وفيها قال العقاد:"إن المقتطف كان حاجة ذلك العصر من الإصلاح في الكتابة والثقافة"، أما الكتابة؛ فلأن لغة العلم محدودة واضحة يقينية، لا تصطنع الخيال ولا اللغة الفضفاضة، ولا تلجأ إلى العواطف وإنما همها الحقيقة، وأما الثقافة ففيما كانت تنشره من المباحث العلمية ما يثري عقل القارئ ويطلعه على تقدم العقل الإنساني، ومدى ما وصلت إليه المدنية الحديثة من تذليل قوى الطبيعة وتسخيرها للإنسان، وقد أفاد الكتاب في الغرب من ثقافتهم العلمية في فن القصة وفن المقالة المسرحية.
وواصلت المقتطف سيرتها في تبسيط العلم، وإن كانت قد جنحت بعد مدة للخوص قليلًا في الأدب والاجتماع، ففيها مثلًا تولت ماري زيادة منذ سنة 1933 تقدم في كل عدد دراسة عن شخصية أدبية غربية في باب "شخصية الشهر": أما الهلال فكانت منذ نشأتها أكثر عناية بالأدب، وكان بها باب ثابت اسمه "مجلة المجلات" تعطي فيه خلاصة وافية مما يكتب في المجلات الأجنبية، وتفسح صدورها لكثير من الكتاب المحدثين.
بيد أن أولى المجلات التي كانت بحق معبرًا للثقافة الأدبية الأجنبية، وكانت الميدان الأول الذي اشتهرت فيه الأقلام الجديدة التي تزعمت النهضة الأدبية فيما يعد فهي مجلة "البيان" لعبد الرحمن البرقوقي "ظهر العدد الأول منها في 24 من أغسطس سنة 1911"، كانت البيان أول من فطن إلى الروح الجديدة التي تتطلبها المة العربية في الأدب، الروح التي تجمع بين الثقافتين العربية والغربية، كتب فيها العقاد وشكري والمازني وطه حسين والرافعي وهيكل، وهم بعد في خطواتهم الأولى
نحو الزعامة الأدبية، ويقول البرقوقي في أول سنتها الثانية بعد بين أبواب المجلة، وأهمية النقل والتعريب عن اللغات الأجنبية:"لأننا أمة من الأمم تستمد من التاريخ الإنساني لتعمر مكانها من هذا التاريخ".
ولم تكن البيان سهلة الهضم، وإنما كانت مجلة الخاصة من المثقفين الذين "هم خلاصة الأمة، وإن أكثرهم من ذوي الإحساس الشريف"، وأما العامة فكان يرى صاحب البيان أنهم "همج هامج، وهم نشر لا نظام له".
اهتمت البيان بالتراجم والسير فكنت ترى في العدد الواحد سيرة من الشرق وسيرة من الغرب، ومقالًا من الشرق ومقالًا من الغرب، وترجمت كتبًا كاملة نشرتها تباعًا، مثل: حضارة العرب لجوستاف لوبون، والأبطال لكارليل، والواجب لجول سيمون، وكتاب "التربية الطبيعية، أو إميل القرن الثامن عشر لروسو وقام بترجمته المازني، وترجم العقاد فصلا من كتاب "الحب والزواج"
لدافيد هيوم، كما ترجم الفصل الخامس من كتاب "الأكاذيب المقررة في المدنية الحاضرة" لماكس نوردو تحت عنوان "أكاذيب الزواج"، كما كان من المترجمين بها: عباس حافظ، ومحمد السباعي، وعلي أدهم، وعبد الرحمن صدقي، وترجموا بعض المقالات لمارك توين الأمريكي تصور نماذج من الحياة الأمريكية المليئة بالمضحكات، والمقتطفات من كتاب "حديث المائدة" للكاتب الأمريكي "وندل هولمز".
ونشرت بها مقالات مترجمة لهازلت، وبيكون، وإمرسون، وجونسون، وكانت تنشر بجانب هذا فصولًا عربية مختارة للجاحظ والصابي والهمذاني وابن سينا، ونجد في بعض أعدادها عبد الرحمن شكري يكتب مقالًا بعنوان "الفاكهة في شعر العرب" درس فيه الفكاهة الخيالية واللفظية مفيدًا من قراءته الغزيرة في اللغة الإنجليزية وما ترجم إليها، ونرى الرافعي يتكلم عن "الجنسية العربية في القرآن الكريم"، ورأى أن الإعجاز لا يكون خالدًا وتامًا إلا إذا قامت به معان زمنية تكون من طبيعة الحياة حتى تستمر مع الحياة، وأن أكبر معجزة للقرآن هي ما فيه
من صفة الجنسية العربية التي جعل الأمم أحجارًا في بنائها، والدهر على تقادمه كأنه أحد بناتها".
ونرى طه حسين قبل أن يسافر إلى باريس في طلب العلم يكتب مقالًا بعنوان "النقد" يتحدث فيه عن حقيقته وأثره في الأمم، وشروطه، ومضار الغلو فيه، والمازني يكتب مقالات بعنوان "مقالات في الأدب" ضمنها أبحاثا جادة في كيف يكتب الكاتب، وينظم الشاعر، وما سر الفصاحة، وأساس البلاغة، وما الأسلوب والتخيل معتمدًا في أفكاره على ينابيع الثقافة الغربية، ويكتب العقاد مذكرات "إبليس"، وهي مجموعة من الرسائل الانتقادية الضافية تناولت الأخلاق والاجتماع والأدب بأسلوب خيالي، تصور فيه إبليس يمشي في شوارع القاهرة يكيد للناس على اختلاف أنواعهم ويوقعهم في حبائله".
وهكذا ابتدأت الأقلام الشابة تنمو على صفحات "البيان"، وتشتد، وتحدد اتجاهها الذي صار سمة لكل منها فيما بعد، ومن الطريف أن الخلاف دب بين كتابها في أليق الأساليب الأدبية، فترى هيكل يعيب مجلة "البيان" وكتابها حين يصطنعون فخامة التراكيب، ويعدلون عن مذاهب السهولة إلى جفوة الأعراب وخشونة اهل البادية، ويرد عليه المازني قائلًا:"إن كان ظني صادقًا، وكان قد غاب ذلك عنك، فاعلم، وأنت المجرب العارف، والعوان لا تعلم الخمرة أن ما تدعوننا إليه لا يقدمنا خطوة، وإن كان يؤخرنا عشرًا؛ لأن من الناس العالم والجاهل، والكاتب لا يستطع أن يولج المعنى أفهامهم على السواء مهما تبذل في أساليبه، وتسفل في تراكيبه".
ويناصر لطفي السيد هيكل، وينضم البرقوقي والرافعي للمازني، وقد أجمعوا على أن اللغة يجب ألا تقف جامدة، بل يجب أن تمد بأساليب القوة، وتعريب المصطلحات الحديثة، كما يجب أن تتخفف من فخامتها.
ومن المجلات التي عنيت بالثقافة الأجنبية بعامة والأدبية منها بخاصة "السفور"، وقد ظهر العدد الأول منها في 21 من مايو 1915، وفيها كتب طه حسين، وهيكل، ومصطفى عبد الرزاق، وأحمد ضيف، وأحمد زكي أبو شادي،
وعلي محمود طه، وأحمد حسن الزيات، وأحمد زكي، ومحمد فريد أبو حديد وعشرات غيرهم، وقد عنيت بتقديم أفكار واضحة عن الأدب الأجنبي في لغاته المتباينة، وعن أشهر أعلامه، فنجد مثلًا دراسات "إميل فاجيه" لأحمد ضيف، وشرح طريقة "تين" للكاتب ع. أ. س، و"سانت بيف" لحامد الصعيدي، "ومكسيم جوركي" لمحمد علي ثروت و"جيته" لإبراهيم حقي، و "جورج إليوت" لمحمد علي ثروت، و"أصل الشعر" لحسن محمود.
وتقدم نماذج من الأدب الأجنبي في المقالة والشعر والقصة، ففي المقالة نرى: الشك لفرنسيس باكون، ومن حديث المائدة لهازلت، والشخصية لجون ستيوارت مل وغيرها.
وفي الشغر نماذج متعددة مثل: "البلبل الغرد" لشيلي، و"البيت" لطاغور، و"البحيرة" للآمرتين، و"غضب الله" لهريك، و"المأثور الضاحك" لهنت.
وكانت السفور في عنفوان ازدهارها إبان الحرب العالمية الأولى، وكانت مجالًا فسيحًا لكتاب المقالة الأدبية والأقصوصة والشعر الحديث، والذي يهمنا هنا المقال الأدبي فقد تنوعت أغراضه على صفحات السفور، ولكنها احتجبت بعد أن ظهرت مجلة السياسة الأسبوعية سنة 1926.
وشهدت حقبة ما بين الحربين العالميتين نشاطًا عظيمًا في نشر الثقافة الأجنبية، بعد أن زالت الحماية، وتخلصت مصر من رقابة المستشار الإنجليزي "دانلوب"، الذيكان همه في وزارة المعارف تخريج موظفين لا مثقفين، ومحاولة قتل الطموح في أبناء الشعب، وقد تكلمنا عن مساوئه بإسهاب في كتابنا "في الأدب الحديث الجزء الثاني"، وما إن زالت تلك الغمة، ونعمت مصر بشيء من الحرية في ظل الدستور حتى انطلق الأدب عملاقًا، وشهدت اللغة العربية خصوبة وغزارة في الأدب لم تشهدها في كل تاريخها.
تعددت الأحزاب السياسية، وكان لكل حزب صحافته وكتابه وتصدر الأدباء الذين تمرسوا بالكتابة قبل ذلك ميدان الصحافة، وكان بجانب الصحفية اليومية.
صحيفة أخرى أسبوعية للأدب والعلوم والفنون، واتسمت هذه الفترة بالنزوع إلى الحرية في تطرف أحيانًا، واعتدال أحيانًا أخرى، فسلامة موسى يدعو إلى الحرية المطلقة بدعوى أن النفع من الحرية أكثر من الضرر الذي ينتج منها وينجم عنها "هلال يناير 1928"، وإبراهيم المصري يدعو إلى حرية الفنان بدون قيود قائلًا: "إن الفنان هو المخلوق الوحيد الذي يستطيع أن يكون حرًا، وأن يحقق في شخصه مثل الحرية الأعلى -هو دون سواء من الناس الرجل الذي يمكنه من غير احتفال أو أسف أو حسرة أن يلقي عن كاهله عبء التقاليد
…
وهو يعلم أنه إذا خضع لشخصية المصلح فسيطر فيه المفكر على الفنان، أو العقل على الغريزة، فيركم للخيالات الفكرية لا للحقائق النفسية، إن الفنان يهبط إلى قراءة اللذة كي يحس بأقصى الألم، "البلاغ الأسبوعي 4 من فبراير 1927".
ويقول العقاد: "ليس للفنان أن يعتسف، ولا أن يدعو ملكته إلى غير ما ترضاه، وتنساق إليه بمحض الحرية وعفو السليقة، وليس له هو أن يخط للحرية الفنية حدودها، أو يشق لها طريقها؛ لأنها حرية مطلقة لا فرق عندها بين طغيان صاحبها وطغيان عدوها، ولا محاباة عندها في استجابة أمر تراد عليه "الرسالة في من أغسطس 1927".
ومن المجلات التي اتجهت وجهة غربية خالصة، نابذة كل قديمها مهما كان شأنه، غير ناظرة إلى الوراء وسمت نفسها جريدة السلام والبناء، مجلة "الفجر" وكانت من دعاة "المصرية" الإقليمية، وآثرت ألا تترجم عن الفرنسية أو الإنجليزية، بل أخذت تترجم عن الروسية، ومن المجلات التي نزعت تلك النزعة المتطرفة "المجلة الجديدة لسلامة موسى" نوفمبر 1929، اهتمت بالعلوم، وآمنت إيمانًا مطلقًا بالغرب وبكل ما هو غربي، وبالتبعية للحضارة الغربية، وعملت جهدها على الحط من شأن الأدب العربي، متهمة العرب وعقليتهم بالقصور والعقم، ودعت غير وانية إلى القومية الفرعونية، ويقول صاحبها في افتتاحية العدد الأول: "نزعتها بالطبع نزعة محررها الذي عرفه القراء في السنوات الماضية، فنحن نقصد
إلى التجديد في الثقافة، والتقرب من الغرب، والإيمان بحضارة أوروبا، ومنع العوائق التي تعوق انتشارها في بلادنا؛ لأننا نعتقد أن فلاحنا وخير الأمة وتقدمها كل ذلك منوط بالاتجاه نحو أوروبا دون آسيا"، وفي الإشارة إلى آسيات غمزة معروفة، فهي تشير إلى جزيرة العرب مهد الإسلام، ومنبع الحضارة العربية، ومهبط الوحي والقرآن.
وكان من قبل كما ذكرنا في كتابنا "الأدب الحديث" قد دعا إلى إلغاء الإعراب والتصغير، وجموع التكسير "هلال يوليو 1926"، وحمل حملة شعواء على اللغة الفصحى، وناصر اللغة العامية، واصطناع الحروف اللاتينية، وقطع ما بيننا وبين ماضينا من صلات ودفن ذكرياتنا وتراثنا، والخروج على كل تقاليدنا، ويقول:"شرط النهضة أن تكون اجتماعية واقتصادية وأدبية، فلا يجب أن نرمي إلى تغيير نظامنا الحكومي فحسب، بل تغيير نظام العائلة، واعتبارات الطبقات الاجتماعية، وكذلك نظام الإنتاج الاقتصادي، حتى الأسلوب الكتابي يجب تغييره، وسبيل ذلك إجاد نظام لزواج مدني يعاقب فيه من يتزوج بأكثر من امرأة واحدة، ويمنع الطلاق إلا بحكم محكمة، ويجيز زواج الأفراد، ولو اختلفوا دينًا""هلال نوفمبر 1922".
وحاولت هذه المجلة البرهنة على أن معظم ألفاظ الحضارة في اللغة العربية يرجع إلى أصل لاتيني أو يوناني لتثبت أن العرب كانوا، وما زالوا عالة على العقلية الغربية، وكانت تعتقد أن ثقافتنا القديمة مبنية على الوهم والأدب، وأن الثقافة الحديثة يجب أن تبنى على العلم.
ومن دعاة التطرف وأخذ الثقافة الغربية بدون تحفظ، وتحقير الثقافة العربية والعقلية الآسوية إسماعيل مظهر صاحب مجلة العصور "1927"، وهو يعزو تلك النهضة العلمية والأدبية بمصر لا إلى حملة نابليون، ولا إلى بعثات محمد علي ومدارسه، ولا إلى جمال الدين الأفغاني الذي يزعم أنه كان ذا أثر سلبي صرف، وأنه لا يذكر في التاريخ إلا أنه أداة للرجعية، ولا إلى ثورة عرابي، ولا ثورة
1919، وإنما تلك النهضة ترجع في رأيه أولًا وقبل كل شيء إلى المجالات العلمية والأدبية:"المجلات وحدها هي التي أخذت بيدنا، وأفسحت أمامنا سبيل الخوض في عباب الأسلوب اليقيني الحديث، وهي التي قادت دقة الفكر في مصر، وهو يجتاز الأسلوب الغربي العميق لتكييف النهضة على صورة بددت سحب الحياة القديمة بما فيها من ظلمات الفكر المجرد لتكشف لنا عن شمس الأسلوب اليقيني"، أما كيف وجدت هذه المجلات، ومن الذين حرروها، وكيف تعلموا وأين، وكيف تهيأت له عوامل النهضة، فذلك أمر لم يخطر له على بال "المقتطف فبراير 1926".
ويقول إسماعيل مظهر في مستهل العدد من مجلة العصور مفندًا مزاعم من يقول إن الأدب قد تجدد: "إن هذا التجديد لا يتجاوز الاعتقاد في أن أساليب الكتابة قد تنوعت، وأن العربية قد غزتها أساليب جديدة تختلف اقترابًا وابتعادًا عن انتحاء أساليب القدماء على مقتضى المنازع التي ينزع إليها الكتاب"، وأنكر أن يكون مجرد تجديد العبارات تجديدًا في الأدب، إلا بأن يكون المقصود أن تبدل الظواهر دليل على تغيير العناصر، إنما يصبح التجديد تجديدًا حقيقيًا بأن يخلق نهضة جيدة إذا قام على مدرسة تنبذ مدرسة القدماء: قوة سبك، وحسن أسلوب، ورصانة، من حيث اللغة والإنشاء، وتتخذ الطرق العلمية في البحث الأدبي قاعدة لما تدعي أنه تجديد في الأدب".
وكان بها باب ثابت لتراجم العظماء وهم -طبعًا- أعلام الفكر والأدب بأوروبا دون سواهم من أمثال: لا مارك، وشوبنهور، وكانت، ورينان، وكارل ماركس، وأهم نظرياته الفلسفية والاقتصادية، كما كان بها باب "ثمار الفكر الغربي"، وفيه تلخص بعض المؤلفات الغربية.
ومن المجلات التي استلهمت الثقافة الغربية، واعتمدت عليها في معظم مادتها "الجديد" لمحمد حسن المرصفي "1928"، وفيها كتب طه حسين والعقاد والمازني والزيات وهيكل، ولكنها على الرغم من لونها الغربي لم تتهجم على الأديان، ولم تسفه العقلية العربية.
وكانت هناك مجلات محافظة من أمثال عكاظ "1913-1931"، وكانت غايتها "إحياء اللغة العربية"، وتخليص اللسان مما يرتضخ فيه من المعجمة التي كادت تكتسح لغتنا، والدخيل الذي يهددها بالزوال في كل آن.
كتب فيها المنفلوطي، ومحمد صادق عنبر، والرافعي، وفيها تهجم المازني على حافظ إبراهيم، واتهمه بالسرقات الشعرية.
ومن هذه المجلات المحافظة "الزهراء لمحب الدين الخطيب 1924"، ويقول في العدد الأول منها: "إن الناطقين بالضاد لن تثبت لهم نهضة إلا على دعامتين إحداهما المرونة في اقتباس ما في حضارات الأمم الأجنبية من وسائل القوة، ونظم الإدارة وانصراف الفرد إلى التخصص بعمل يجد لتجويده، والثانية الاحتفاظ بتقاليدنا التاريخية، وأوضاعنا الوطنية، وسجايانا القومية، ولساننا الغني الأصيل.
ومن هذه المجلات المعرفة للإسلامبولي "1931-1934"، وكتب فيها مصفطى عبد الرزاق، ومحمد فريد وجدي، وأحمد شفيق، وحامد عبد القادر، وكانت تعمل على ربط البلاد الشرقية بعضها ببعض، ولكنها لم تغفل الثقافة الغربية، فكان بها باب ثابت عنوانه "في الأدب الغربي".
أما النوع الثالث من المجالات فهو الذي جمع بين الثقافتين، وسار في حركة التجديد باعتدال، وعلى رأس هذا النوع السياسة الأسبوعية "13 مارس 1926"، يحررها هيكل، ويكتب فيها طائفة من المثقفين ثقافة غربية.
عنيت السياسة الأسبوعية بالأدب الغربي: أعلامه، ومذاهبه، وألوانه وفنون ففيها دراسات عن الأدب الروسي، ورجالاته، وفي مقدمتهم ليون تولستوي، وأنطون تشيكوف وتورجنيف وجوركي، ويكتب هيكل عن أناتول فرانس، وأوجست كونت، وشيلي، وجيته، ونرى فيها أبحاثًا عن: إسكندر دوماس، وحياة فولتير، وجان جاك روسو، وأمرسون، وبوب، وهايني، وملتون، وإيبسون، وهازلت، وأوسكار وأيلد وكيبلنج، وتعريف بالأدب الألماني، وبالأدب الهندي، والمذهب الرمزي في الشعر.
كما نقلت عشرات القصص القصيرة والقصائد الغربية إلى الأدب العربي، ومع هذا فكان هيكل على الرغم من نزعته ونزعة صحيفته نحو التجديد يسير باتزان، ويرى أنه: "إذا لم يكن من الممكن مقاومة الحضارة الغربية في غزوها الشرق، فواجب العمل أن يكون هذا الغزو وما يتركه من آثار منبهًا لقوى الحضارة الثابتة الأصول في الشرق كي تنشط من جديد ليستعيد الشرق قوة الحياة، ويجد في المزيد منها، وعندي أن استعارة حضارة بحذافيرها لننقل إلى أمة ذات حضارة تختلف عنها وهم باطل، ذلك أن حضارة أي أمة من الأمم يجب أن تتفق مع طبيعتها ومع تاريخها، ومع قوانين الوراثة فيها.
وظهر البلاغ الأسبوعي "26 من نوفمبر 1926"، وأشرف عليه العقاد، وكان ينافس السياسة الأسبوعية، ويمثل أكثر ما يمثل الثقافة الإنجليزية، والغربية، ويقول عبد القادر حمزة في مستهل السنة الرابعة منه إن البلاغ الأسبوعي:"ظل ينقل إلى مصر خلاصة الحركة العلمية والأدبية والفنية الدائرة في الغرب، ويهدي إلى تراثنا ما تنتجه أقلام الكتاب وعقول المفكرين في أوروبا وأمريكا، فكان بهذا مرآة للمدنية الغربية الحديثة، ولكنه كان وهو يؤدي هذه المهمة يحرص على القومية المصرية أكبر الحرص، ويجمع إلى منتجات الأفكار الغربية، ثمار العقول المصرية أو يسعى لأن يكون صلة بين الماضي والحاضر، وقد تجد في عدد واحد منه وليكن العدد الخامس: صورًا أخلاقية لتوم براي، وأشهر علماء العصر "توماس أديسون"، والضعفاء والأقوياء للسير فرانسيس غالتون، والآراء والمعتقدات لجستاف لوبون في ساعات بين الكتب التي كان يحررها العقاد. إلخ.
ومن المجلات التي ارتفعت بالمقالة الأدبية إلى ذروتها، وكانت ذات أثر بالغ في نهضتنا الأدبية المعاصرة مجلة الرسالة لأحمد حسن الزيات "15 من يناير سنة 1923"، وقد أصدرها بعد تردد طويل، ويقول في مستهل العدد الأول منها معللًا هذا التردد، موضحًا منهجها، محددًا هدفها: "ما سلط علينا هذا التردد إلا نذر تشاع وأمثال تروى، وكلها تصورالصحافة الأدبية في مصر سبيلًا ضلت صواها، وكثرت صرعاها، فلم يوف أحد منها على الغاية، والعلة أن السياسة طغت على
الفن الرفيع، والأزمة مكنت للأدب الرخيص، والأمة من خداع الباطل في لبس من الأمر، لا تميز ما تأخذ مما تدع".
وذكر هدفها بأنها "تقاوم طغيان السياسة بصقل الطبع، وبهرج الأدب بتثقيف الذوق، وحيرة الأمة بتوضيح الطريق"، وأمان وسيلتها ومنهجها، فربط القديم بالحديث، ووصل الشرق بالغرب.
وقد استطاعت الرسالة في مدى سنوات معدودة أن تتبوأ مكانة سامية في العالم العربي كله، وتشرق على صفحاتها أقلام كبار الكتاب في شتى أقطار العروبة، فكانت من أقوى العوامل لهذا الامتزاج الفكري، والذوق الأدبي، وربط المشاعر على أهداف متقاربة، وقد أولت قضايا العروبة والإسلام عناية فائقة، وكانت لها أعداد ممتازة في عيد الهجرة تحتفل بالمقالات الضافية التي تعرض الإسلام عرضًا جديدًا، وتدفع عن حوزته، وترد الضالين عن هداه إلى الصواب.
ولم تغفل الثقافة الغربية، فكثر فيها الشعر المترجم، والقصص المنقول عن أدب الغرب إلى أن صدرت أختها "الرواية" فتفرعت لهذا النوع واستقلت به، كما كان بها باب ثابت للعلوم والفنون.
وسنخص صاحبها بدراسة لأدبه إن شاء الله، حيث كان صاحب مدرسة قلمية، له أتباعه ومقلدوه، وكان أميل إلى المحافظة منه إلى التجديد.
ثم ظهرت "الثقافة" في "3 من يناير 1939"، لأحمد أمين رئيس لجنة التأليف والترجمة والنشر، وقد جاء في كلمته التي افتتح بها العدد الأول تحت عنوان لماذا تصدر المجلة: "في الشرق كنوز لا يفنيها الإنفاق، من أدب أو علم عربي وفارسي وهندي وغيرها جار عليه الزمن فدفن بعضها فهي في حاجة إلى أيدي عاملة، وعقول راجحة، ونفوس قوية تضع الخطط المحكمة للعثور عليها، واستخراجها من مكامنها.
وفي الغرب علم زاخر وأدب وافر حالت بيننا وبينه حوائل، فهو مكتوب بلغة غير لغتنا، ويتأثر ببيئة اجتماعية غير بيئتنا، ويعرض لمشاكل قد تختلف في
ظواهرها عن مظاهرنا، ومع هذا فنحن مرتبطون بهذا العلم الغربي والأدب الغربي، والمدينة طوعًا أو كرهًا تدفعنا في تيارها دفعًا، وتؤثر في حياتنا أثرًا بليغًا، شعرنا أم لم نشعر وشئنا أم لم نشأ".
"أصبح الشرق مرتبطًا بالغرب ارتباطًا وثيقًا في كل مرفق من مرافق الحياة: في الحركات السياسية، في الحركة العلمية والأدبية والفنية، في المادة والعقل، في كل شيء، ومن الخير للشرق أن يقف على هذه الحركات فيتصرف فيها عن خبرة، ويحكم فيها من علم، ويسايرها أو يعارضها عن درس، فذلك أصح لحكمه، وأوفق لغرضه، وأليق بإنسانيته".
"هذه الكنوز الشرقية التي وصفنا، وهذه الثروة الغربية التي ذكرنا، لا يقوم بحقها، بل لا يؤدي عشر معشارها كل المجلات العربية على اختلاف أنواعها ومناهجها وإقليمها، وهي -إلى الآن- لا تزال محتاجة إلى مئات المجلات بجانبها تعالج هذه الثروات من نواحيها المختلفة، وبكفاياتها المتعددة".
وقد قامت المجلة برسالتها، وآزرها أعضاء لجنة التأليف والترجمة والنشر، وكثير من كتاب العرب في مختلف بلادهم، وكانت تعني بالثقافة العربية بجانب عنايتها بالثقافة الغربية، وإن كانت أميل إلى التجديد منها إلى المحافظة.
وفي نوفمبر 1945 صدرت مجلة الكتاب لعادل الغضبان عن "دار المعارف"، وكانت شهرية تصدر في صورة كتاب كما كان شأن المقتطف والهلال، وكانت عربية السمات، مع عناية بالثقافة الغربية.
لقد تحدثنا عن هذه المجلات؛ لأن على صفحاتها تألقت المقالة الأدبية بأنواعها المختلفة، وكتابها المتباينين؛ ولأنها كانت وصلة بين الغرب والشرق، فلا تفتأ توالي الترجمة والنقل من الفكر إلى اللغة العربية، ومن فنون الأدب المختلفة إلى أدبنا ولغتنا.
وقد اشتدت في تلك الحقبة تيارات الترجمة من شتى اللغات؛ لأننا كنا في تعطش فكري وثقافي لورود مناهل الثقافة الغربية لشعورنا بتفوق الغربي المادي،
وسلطان حضارته، وفي ذلك يقول طه حسين:"ليس أمر الترجمة أمر حب أو بغض، وإنما الحاجة الاجتماعية والعقلية هي التي تدعو إلى الترجمة الآن، كما كانت تدعو إليها في العصور القديمة والوسطى، وبمقدار شعور الأمة لهذه الحاجة الاجتماعية يكون حظها من الترجمة عن الأمم الأخرى".
عنيت معظم المجلات بالترجمة عن اللغات الأجنبية، حتى لتعد هذه الفترة عصر الترجمة والتعريب، ولما كان المقال بطبيعته أطول من القصيدة والفكرة والطرفة، كانت الترجمة منه قليلة، ومع ذلك وجدنا في "البيان" بعض مقالات مترجمة لمارك توين الأمريكي وغيره كما أشرنا إلى ذلك آنفًا، ورأينا في البلاغ الأسبوعي:"آلام النوابغ" لإميل فوستر، و"زعيم مصلح" لإيفان ترجنيف، و "خواطر بسكال"، و"مثل:"قطر الورود"، و"دكان المزين"، و"الراهن الخجول"، و"ليلة أرق"، و"أمومة الرجل"، و"العزلة" و"الفلسفة"، و"الشيطان"، و"سحر الشرق"، وقد قام بترجمة معظم هذه الموضوعات عباس حافظ، وكان ذا قلم بليغ مشرق، وديباجة رصينة قوية.
كما نقل عن الكاتب النرويجي "جوناس لاي" مقالته "فلسفة كتكوت" بعد أن عرف بالكتاب تعريفًا موجزًا، ونقل عن الكاتب البولندي غلادستون رايمونت مقالته "الشفق"، وهي وصف بليغ لحياة حصان مسكين، وقد عرف بالكتاب بأنه أبدع من وصف حياة الريف والفلاحين فقد "عاش دهرًا بينهم، وأقام زمنًا فيهم، وهو البولوني الذي نال جائزة نوبل في الأدب سنة 1924 بمناسبة كتابه البديع "الفلاحون".
وكان لمثل هذه المقالات ولا ريب أثرها في توجيه كتاب المقال لدينا إلى الحياة من حولهم بكل ما فيها من نقائض وطرائف، وعمقت نظرهم إلى جوهر الأشياء التي تحيط بهم، ولفتت أنظارهم إلى بهجة الحياة وزنتها، فانطلقوا يصورون حياتهم المعاصرة، فنجد مقالات عن: شيخ طريقة، العمدة، ابن البلد، الوهم، العزلة، الكبريت، الحرية، صندوق الكتاكيت، الوطواط.
وقد ظفرت القصة القصيرة بنصيب كبير من العناية، وخصصت لها كل مجلة أدبية مكانًا معينًا، وكانت بعض المجلات تتحرى الدقة في اختيار القصص
التي تترجم إلى العربية، فتنقل منها السامي الهدف، ولم تكن الترجمة وقفًا على لغة بعينها، ولكن المترجمين نقلوا من شتى اللغات وقد أصدر الزيات الرواية "في أول فبراير 1973" خاصة بالقصة المترجمة والموضوعة، ونشر طه حسين في الهلال مجموعة من القصص المترجمة عن الفرنسية، وقال في التقدمة لها:"إن قصده من ترجمتها إلى البحث العلمي والأدبي أقرب منه إلى التسلية والتلهية، وأنه سيقدم هذه الفصول صورًا موجزة، ولكنها صادقة لبعض الكتاب الفرنسيين وفنونهم في الكتابة، وما ينهجون من طوائف مختلفة في القصص والتحليل ودروس الأخلاق والعادات، وعواطف الناس ومشاعرهم وتصوير ضروب الحياة المختلفة المتباينة -إلى هذه قصدت واتخت القصص الفرنسي وسيلة إلى ما قصدت إليه؛ لأنه أشد فنون الكتابة الفرنسية شيوعًا، وأكثرها انتشارًا، وأصدقها تصويرًا لحياة الفرنسيين".
ومن هذه القصص التي نقلها: "الملوك في المنفى"، و"سافو" لألفونس دوديه، و "الآنسة سوزان" و"السوس الأحمر" لأناتول فرانس.
بيد أن بعض المترجمين لم يتحروا الدقة في اختيار القصص التي يتعرضون لترجمتها، ولم يراعوا طبيعة الجمهور الذي يقرأ لهم، والمرحلة الدقيقة -مرحلة الانتقال التي يجتازها، فجاء كثير من قصصهم داعرًا خليعًا، يصور الحياة الأوروبية في مباذلها وانهيارها، وبخاصة تلك الحياة التي سادت بعد الحرب العالمية الأولى حيث فقدت أوروبا في خلالها كثيرًا من رشدها، وكفرت بكثيبر من القيم والمثل العليا، وأقبلت على ضرورة اللذة والعربدة، وحيث تنكر الناس بعضهم لبعض، وقد أعطتهم الحرب المثل الصاروخ على الوحشية والقطيعة، وانهيار الأخلاق، وكان لذلك تأثير على نفوس القراء ولا سيما الأغراض منهم، ولم تسلم حتى المجلات الراقية نفسها من تسرب بعض هذا اللون من القصص الخليعة إلى صفحاتها.
ومن أهم الموضوعات التي كان لها تأثير في الأدب بعامة وفي أدب المقال بخاصة تلك المقالات التي تعرضت لدراسة الآداب الأجنبية المختلفة والتعرف على مواطن القوة بها، فأخذ الكتاب يتعقبون بالبحث الظواهر والمذاهب الأدبية والنقدية، وأمهات كتب الأدب، ومشاهير أدباء العالم في أوروبا وأمريكا وآسيا.
ابتدأت هذه الدراسة مبكرة في المقتطف والهلال ولكن كان ذلك على قلة، فلما جاءت السياسة الأسبوعية روجت لها واهتمت بها وجذبت الأنظار، والعقول إلى هذه الدراسات جذبًا شديدًا.
ومن ذلك مثلًا نظرية "تين" المشهورة في الأدب وأنه خاضع لتأثير البيئة والجنس والزمن، ومناقشة هذه النظرية في أكثر من مقال، ومن آرائه: أنه لا يصلح للأدب القصصي غير الذات الشاذة.
ومن هذه الدراسات الحديث المستفيض عن الأدب اليوناني القديم وخصائصه وهي البساطة والإيجاز والصدق والجمال، ويقول في ذلك حنا خباز:"كان الإغريق يتدفقون بالعواطف، ولكنهم كانوا يكتبونها، ويحكمون عقولهم، ولم يسع شعراؤهم إلى خلق عالم جديد من مجاهل الخيال، ولم يتكلفوا وصف شعور لا يحسونه، ولم يكن جمال أدبهم ألفاظ أو استعارات، بل جمال بناء فني يجعل الطبيعة تتكلم".
ويكتب هيكل عن أناتول فرانس ومذهبه في الشك والاشتراكية، وعن أوجست كومت ومذهبه الواقعي، وتنشر السياسة الأسبوعية مقالات، عن الأدب الهندي، والأدب الألماني، ونزعة الأدب الإنجليزي في العصر الحاضر، وعن المذهب الرمزي في الشعر، وعن القصص الروسي، وتكتب العصور عن الرومانسية نشأتها وتطورها في ألمانيا ثم في إنجلترا، ثم في فرنسا مع ذكر أعلامها من الشعراء والكتاب الذين حملوا لواءها "العدد نوفمبر 1928"، وتكتب العصور كذلك عن "تين" وطريقته في النقد، وكتابه "الذكاء"، وتفيض في بحث نظريته عن الجنس والبيئة والزمن، وكيف تؤثر في الأدب.
وتكتب المقتطف عن "مسائل الفن والجمال في العصر الحديث"، وإبراز الحقائق التي تسدد خطا الحركة الأدبية، وتحرجها من أزمة التردد بين الغايات والاتجاهات الفنية المتباينة، كأن تقرر أن الغبطة بالجمال لا تضاد عاطفة المنفعة والحاجة والرغبة، كما لا تتعارض مع الحقيقة، وأن القوة والدقة والإبداع والإيقاع
والنظام عناصر لا بد من توافرها في الشعر، وأن الجمال هو مزج القوة بالضعف، وجعلهما شيئًا يعبر جميعه عن الإرادة الأشد والأكثر عذوبة.
ولا يسعنا أن نتتبع كل هذه الدراسات عن الآداب الأجنبية في مختلف المجالات، وإنما الذي يعنينا أن معظم الباحثين كانوا يعقدون موازنات قيمة بين الآداب الغربية والأدب العربي في فنونه المختلفة، ويحاولون التعرف على أوجه القوة والضعف، وقد كان لذلك أثره الواضح في أدبنا كما سنبينه إن شاء الله.
وكان من الطبيعي وقد اشتد تيار الثقافة الغربية كما رأينا، وجدت مقاييس جديدة للأدب أن يحدث خلاف بين المجددين والمحافظين لا حول مفردات اللغة، ولكن حول الأساليب، وصور البيان، فلكل عصر حضارته ومزاج أهله الخاص بهم، ولكل شعب بيئته التي يستمد منها صوره وخيالاته، ولذلك يجب أن تعبر اللغة عن مقتضيات العصر وحضارته ومزاج أهله، فإذا كان العرب في صحرائهم قد قالوا قديمًا: أثلح الله صدره، وسقيا له، وذهبت ريحهم، وأخذ زمام الأمر بيده، وحدا بي إلى كذا فإن هذه التعبيرات إنما كانت من وحي البيئة البدوية، وعلينا أن نمثل بيئتنا في أدبنا ونستوحيها في صورنا وخيالاتنا، واستعاراتنا وكتاباتنا.
وقد أشفق كثير من المحافظين على ثقافتنا العربية من ذلك الغزو الفكري الغربي، فقال محب الدين الخطيب "الفتح في 9 يناير 1930" تحت عنوان الاستعمار الفكري في الشرق:"إن موقفنا الفكري والثقافي دقيق جدًّا، ومن أكبر المصائب على الشرق العربي أن تكون فيه القيادة ضعيفة إلى حد لا يكون لها صوت مسموع في تعيين الطريق التي يجب أن نسير فيها، وألا يكون لها رأي متبع فيما ينبغي أخذه، وما ينبغي مقاطعته من بضائع الفكر الغربي، وألا تكون لها تشكيلات منظمة لوضع الغذاء الفكري بين أيدي الجماهير حتى ينفذوا به عن مد أعينهم إلى ما يأتينا به الغرب من دسم مشوب بالسم".
ولما كانت السيطرة على حرية الناس مستحيلة، فإن من الضروري أن يكون لنا من المثقفين بالمعارف على اختلاف صنوفها رجال أيقاظ، ينصرف كل فريق منهم
إلى مراقبة ضرب من ضروب المعارف في الغرب، وأثر من آثار الفكر في لغاته، فيعرف مرامية، وينقل في الصحف والمجلات ما يجدر نقله إلى لغتنا.
أما أن ننقل الضار والنافع، والغث والسمين، وما لا فائدة منه لنا، وما يوجهنا وجهات خاطئة في تفكيرنا وعقائدها وأخلاقنا، فذلك ما يجب أن نعمل على منعه، محاربته، لقد اشتدت حمى الترجمة فيما بين الحربين العالميتين حتى جنت على الأدب العربي من المسخ والتشويه، وفي ذلك يقول الزيات: إن أدبنا اليوم يجهل اللغة العربية، ويعلم اللغة الأوروبية، ويقرأ الأدب الأجنبي، ويغفل الأدب العربي، صار الأدب المصري الحديث كالمجتمع المصري الحديث يقوم على موت الشخصية، وفناء الذات، ونسيان التاريخ، ونكران الأصل، فهو يستلهم المطابع الأوروبية، ويخضع قريحته للقرائح الأوروبية، ويعقد لسانه بالألسنة الموهوبة فيها، فيحكي ما نقول في لعثمة نكراء من أثر العقدة، وهو لو وضع عن كاهله نير الامتياز، وفهم هذه الكلمات المخربة على المجاز، فأخذ عن طبعه، وترجم عن طبيعته لفجأ الغرب بأدب قدسي الإلهام، سحري الأنغام، شرقي الروح، مصري الطابع، يحل أهله من أدب العالم ما أحل أدب الهند إقبال وطاغور "الرسالة 28 مايو 1934".
وليس معنى ذلك التخلي عن الترجمة، ولكن لا بد من الاختيار المفيد الدقيق لما يترجم، على أن يضطلع بها ذوو الأقلام القوية التي تستطيع أن تثري اللغة والأدب بهذا النقل، وتطعم الأدب بأنواع الفنون الغربية، وتصله بتيار الأفكار الحديثة الجيدة.
ولقد ذكرنا آنفًا ما قاله بعض المتطرفين المتحمسين للآداب الأجنبية، والذين يريدون أن يقطعوا صلتنا بماضينا جملة من أمثال "سلامة موسى، وإسماعيل مظهر، ومحرر الفجر"، لقد كان ثمة إجماع من الفريقين: المحافظين والمجددين على الترجمة، ولكن العابثين أساءوا إلى المثقفين بنقلهم نفايات الثقافة الغربية، وبخاصة القصص الرخيصة التي نشأت فيما بعد الحرب العالمية الأولى، قصص الجنس والشهوة والجريمة، ونقلت هذه القصص بأسلوب ركيك فيه كثير من التبذل
العامي، والساقط الحوشي، فأساء إلى أساليب الشباب حتى كادت تستعجم، وكان من الظلم أن يسمى هذا النوع أدبًا".
ولم يقتصر الصراع بين المحافظين والمجددين على نوع الترجمة وما يجب أن يترجم، ولكن ثمة قضايا كثيرة أثيرت وصارت موضع جدل طويل مثل حرية الفكر، وإلى أي حد يجب أن يكون الكاتب حرًا فيما يتناول من موضوعات، وقد ظهرت في تلك الحقبة عدة أبحاث تتسم بالجرأة مثل "حالة المرأة في التقاليد الإسلامية وتطوراتها" لمنصور فهمي 1931، و"الإسلام وأصول الحكم" لعلي عبد الرازق، وكتاب "في الشعر الجاهلي" لطه حسين.
وأثير موضوع العلم والدين والخلاف بينهما فيقول الدكتور هيكل: "الدين يقرر المثل العليا وقواعد الإيمان التي يجب أن تأخذ الناس بها في حياتهم، والعلم يقرر الواقع في حياة الوجود، ويترسم تطور الحياة في سبيل سيرها نحو ما يظنه الكمال، والكمال الذي يدعو إليه الدين كمال ثابت، أما الكمال الذي يدعو إليه العلم فكمال ظني".
أما الدكتور طه حسين "فرأى أن العلم شيء آخر، ومنفعة العلم والدين أن يتحقق بينهما هذا الانفصال، حتى لا يعدو أحدهما على الآخر، وحتى لا ينشأ من هذا العدوان في الشرق الإسلامي مثل ما نشأ في الغرب المسيحي، وأن الدين حين يثبت وجود الله، ونبوة الأنبياء يثبت أمرين لم يستطع العلم إلى الآن أن يثبتهما، فالعلم لم يصل بعد إلى ثبات وجود الله، ولم يصل بعد إلى إثبات نبوة الأنبياء، وإذا فبين العلم والدين خصومة في هذين الأمرين، ثم إن العلم لا ينفيهما، أو هو لا يعرض لنفيهما أو إثباتهما، وإنما ينصرف انصرافًا تامًا إلى ما يمكن أن يتناوله بالبحث والتخصص.
هذا أمر والأمر الثاني أن الكتب السماوية لم تقف عند إثبات وجود الله ونبوة الأنبياء، وإنما عرضت لمسائل أخرى يعرض لها العلم بحكم وجوده، ولا يستطيع أن ينصرف عنها، وهنا يظهر تناقض صريح بين هذه الكتب السماوية، وما وصل إليه العلم من النظريات والقوانين.
وأمر ثالث وهو أعظم من هذين الأمرين خطرًا، وأبعد منهما في تحقيق الخلاف أثرًا، ذلك أن العلم لم يقف عند هذا اللون من ألوان الخلاف، وإنما طمع في أن يخضع الدين لبحثه ونقده وتحليله، وهو لا يحفل الآن بأن التوراة تناقضه أو لا تناقضه، وإنما يزعم أنه له الحق في أن يضع الدين نفسه موضع البحث والتحليل، إذا فالدين في نظر العلم ظاهرة كغيره من الظواهر الاجتماعية، لم ينزل من السماء، ولا هبط في الوحي، وإنما خرج من الأرض كما خرجت الجماعة نفسها، إن الدين في ناحية والعلم في ناحية أخرى، وأن ليس إلى التقائهما سبيل، ومن زعم للناس غير هذا فهو إما خادع أو مخدوع، والحق أن المخدوعين كثيرون، وهؤلاء المخدوعون هم الذين يحاولون دائمًا التوفيق بين العلم والدين "السياسة الأسبوعية 17 من يوليو 1928".
ويقول الشيخ مصطفى عبد الرازق: "إن الاتجاه العلمي الأخير هو انتصار للدين، ولسنا من القائلين بأن العلم كان يومًا من الأيام يناهض الدين، هذا من جهة، ومن الناحية الأخرى لم يحض الدين على منابذة العلم، بل على العكس إن الإسلام يدعو إلى حرية البحث وصراحة التفكير والتسامح، العلم اليوم يسلم بوجود ما ليس قائمًا أمام الحس، وذهب عصر البديهيات، وتغير وضع القواعد العلمية، وأصبح عصرنا عصر يقين واعتقاد بالقوة الكافية، وقد أستطيع القول بأن العلم في الأيام المقبلة، سيخطو نحو الدين خطوات جريئة لا يبعد أن تثبت إمكان وقوع المعجزة "الهلال يونيو 1931".
ونستطيع أن نجمل أثر الثقافة بألوانها المختلفة في المقال الأدبي بخاصة في الأمور الآتية:
1-
لم يعد المقال الأدبي لدى هؤلاء الكتاب الذين يحترمون أنفسهم، ويحترمون
قراءهم مجرد موضوع إنشائي خلو من الدراسات الواعية، وإنما صار موضوعًا يفيد من العلم في شتى نواحيه، وصار من شروط الأديب الأصيل أن يقف على آداب لغته هو وقوفًا صحيحًا، وأن يحيط بعلوم عصره وفلسفته وآدابه في اللغات المختلفة، إذ لم يعد الأدب وقفًا على الموضوعات الوجدانية أو الوصفية، وإنما شمل كل شيء في الحياة، وكلما كان الكاتب أكثر إحاطة بعلوم عصره، وأغزر ثقافة كان أدنى إلى
بلوغ ما في الحياة والوجود من حق وجميل، وإلى تبليغه للناس في صورة أقرب إلى الكمال ما دام قد أوتي الموهبة التعبيرية، ممن أوتي مثل مواهبه ولم يؤت مثل علمه.
2-
تطور المقال الأدبي من ناحية الفكرة وسلامتها وغزارتها ودقتها وترتيبها، وكلما دقت الفكرة دقت العبارة، ورأينا الأفكار والمعاني ترفع العبارة رفعًا إلى الصورة التي قدرها المعنى وتقدرها الفكرة، وإذا تمزقت الفكرة عن طريق التوليد أو التوسع أو التحليل تمزقت العبارة تبعًا لها، وما دام العلم صار من أهم الروافد التي يستقي منها الأديب في معالجة موضوعاته، كان الميل إلى الواقعية واضحًا، وبعد الأدباء تدريجيًا عن الأدب الحالم، والخيال المجنح الذي يطير على أجنحة من التجديد.
أخذ الأدب الجديد يعالج كل مشاكل الحياة والموت والزواج والأسرة ورغائب النفوس، وقضايا المجتمع، وصار يتزود من العلم والتجارب والملاحظة، ولم يعد يكتفي بالفكرة الفجة والعبارة الجوفاء.
ويقول هيكل في كتابه عن ثورة الأدب: "الأدب من الفلسفة ومن العلم كالزهرة الجميلة، وكالثمرة الناضجة، وكالخضرة النضرة من الشجرة الضخمة شجرة الفلسفة، ومن الجذور التي نبتت عليها هذه الشجرة والتي هي بمثابة العلم من الفلسفة، فلكي تكون حديقة الأدب جميلة، ولكي يكشف الأديب للناس عما في الحياة من حق وجميل، وليؤدي الرسالة العظيمة الملقاة على أدباء العصور جميعًا يجب أن يتغذى ما استطاع من ورد "الفلسفة ومن ورد العلم، ولذا كان العرب يقولون: إن الأدب هو الأخذ من كل فن بطرف".
وانتشار الثقافة وعمقها بين الأدباء والكتاب، يحد من الإغراق المحسنات، ويؤدي بطبيعة الحال إلى دقة التعبير، واتزان العاطفة؛ لأن قوام الأدب صدق العاطفة، ووحي القلب، ولكن الأدب ليس محض شعور، وإنما هو عقل كذلك، فالأديب يحس ويفكر، والتوازن بين إحساسه وفكره لا بد منه.
وقد دعا بعضهم إلى القضاء دفعة واحدة على أدب الألفاظ حتى لا تمسخ الحقائق، ولا تقع في التعميم والمبالغة السقيمة التي تصف ضوء الشمعة، وكأنه ضوء الشمس الباهرة.
3-
لقد خلت العبارة لدى الكثيرين من الحشو والتكرار، والمعاظلة، وتخلصت من آفة المحسنات المكلفة، وإذا كان أسلوب الجاحظ في إيراد الجمل الكثيرة المترادفة على المعنى الواحد قد أفاد في بدء النهضة، وأغرم به عدد من الأدباء، فإن طبيعة الحياة ومقتضيات العصر ونوع الثقافة لم تعد كلها تستسيغ الإطالة والحشو والاستطراد والترادف والتكرار.
4-
خلت المقالة غالبًا من المقدمات التي لا فائدة منها والتي تستهلك جهد الكاتب والقارئ معًا.
5-
تنوعت الموضوعات التي تعالجها المقالة الأدبية، ولم يعد الأديب يعيش في برجه العاجي، وإنما صار الأدب للحياة لدى معظم الكتاب، فنرى على صفحات السفور: الأمة والرجاء، روح الاستقلال، حرية الفرد، حقوق الشباب، آمال الناشئين، غلاء المهور، مآثمنا، قتيل الجوع ومظالم الطبقات، وكلها بقلم الدكتور منصور فهمي في مستهل حياته الفكرية والأدبية، ونجد هيكل يكتب عن: حاجتنا إلى التجديد، الروح الرجعية، الشبيبة والمستقبل، الاشتراكية تخطو إلى الأمام، ويكتب عبد الحميد حمدي صاحب السفور عن: قيمة الألقاب، حظنا من الحياة، تعليم البنت الطب، ونرى مقالات متنوعة لمختلف الكتاب مثل: حياتنا الاجتماعية والدين، معلمو الديمقراطية، ضعف الإرادة، مسألة الحجاب، أين السعادة، جنة الحياة، المرأة المصرية، الزواج، فوضى الطلاق، نهضة المرأة المسلمة، رأي في السفور، الأسرة، الحرب والحضارة.
ونرى في السياسة الأسبوعية وهي من المجلات التي حملت راية التجديد مقالات عن: البرقع، العمامة، تقديس الواجب، بدعة الموالد، الفلاح والمرابون، هجرة الريف إلى المدن، الشرق والكرامة، صرخة الجيل الجديد، بيوتنا المصرية خليط من عصور شتى للمازني، في القرية، في مولد الحسين، شيخ طريقة، على المعاش، الجارة اللعينة، العمدة، عاطفة، الأبوة.
وسنفرد دراسة خاصة لهذا النوع من المقالات الأدبية إن شاء الله، والله ولي التوفيق.
تم بحمد الله