الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الاشتراكية عند المنفلوطي:
على أن أهم موضوع حظى من المنفلوطي بعنايته، وحشد له كل عواطفه وحماسته، وإخلاصه ودينه هو موضوع الفاقة والبؤس والفقر تلك التي كان يتردى فيها سواد الشعب، وقد قرب في معالجته لهذا الداء المستفحل إلى حد الاشتراكية، وإن لم يدركها تمام الإدراك، ولا بد للتمهيد لهذا الموضوع حتى نعرف الأسباب التي دفعت المنفلوطي دفعًا في هذه الطريق.
ابتدأ المنفلوطي يدبج مقالاته في المؤيد منذ أواخر سنة 1907 أي بعد حادثة دنشواي بقليل، تلك الحادثة الفظيعة التي دلت بوحشيتها على مبلغ ما وصل إليه الاستعمار الإنجليزي من سيطرة وجبروت انتهك فيها حرمات الإنسانية علانية.
وقد بلغ رد الفعل في نفوس المصريين ذروته، وانتفضت مصر انتفاضة جريئة بقياة مصطفى كامل، ورجال الحزب الوطني على الاستعمار ورجاله حتى ترضت إنجلترا الشعور العالمي بعامة، والمصري بخاصة بإخراج "كرومر" الداهية من مصر.
كان الاحتلال قد جثم على صدور المصريين رفع قرن تسللت خلاله في أول الأمر مظاهر العزة من النفوس إلى أن ظهر رجال الحزب الوطني، وعلى رأسهم مصطفى كامل في الأفق، وحاولوا أن يعيدوا للمصريين الثقة بأنفسهم، ويحاربوا الاستعمار حربًا قوية ليهزوا مكانته بمصر.
وكان الاستعمار قد اصطنع كثيرًا ممنا باعوا ضمائرهم في سبيل المال والجاه، وتكونت منهم مع الأسرة الحاكمة ورجالها المقربين، وأقربائها طبقة السادة أو الإقطاعيين أصحاب المزارع الواسعة، الذين كانوا يتحكمون في رقاب الملايين من الفلاحين، ويسومونهم الخسف وسوء العذاب، ويمتصون دماءهم، ويستغلون قواهم استغلالًا فاحشًا، ويتركونهم في حالة مزرية من الفقر والجهل والمرض.
لقد كان التفاوت بينا هذه الفئة القليلة الثرية، وبين سواد الشعب في كل مظاهر الحياة، فلا بدع إذا أحسن الأدباء ذوو الضمائر الحية والعاطفة القوية بعظم مأساة هذا الشعب، وحاولوا جهدهم أن يصوروا آلامة المبرحة التي طال عليها الأمد قرونًا طويلة، ما استطاعوا إلى ذلك سبيلًا.
وكان المنفلوطي من أبناء الطبقة المتوسطة لا يعد بأي حال من الأثرياء بل كان أدنى إلى الفقر منه إلى الغنى، عاش في الريف وخالط الناس، وعرف أوصالهم الاجتماعية، وكان جياش العاطفة سريع العبرة، ينفذ إلى سويداء قلبه بكاء المحزونين، ونداء المكروبين، ولنستمع إليه بصور لنا نفسه وما حفزه على الإكثار من وصف مناظر البؤس، والشقاء حتى في مطالعاته بل تجاربه حيث يقول:
"ولا أدري ما الذي كان يعجبني في مطالعاتي من شعر الهموم والأحزان، ومواقف البؤس والشقاء، وقصص المحزونين والمنكوبين خاصة، كأنما كنت أرى الدموع مظهر الرحمة في نفوس الباكين، فلما أحببت الرحمة أحببت الدموع لحبها، أو كأنما كنت أرى أن الحياة موطن البؤس والشقاء، ومستقر الآلام والأحزان، وأن الباكين هم أصدق الناس حديثًا عنها وتصويرًا لها، فلما أحببت الصدق أحببت البكاء لأجله، أو كأنما كنت أرى أن بين حياتي وحياة أولئك البائسين المنكوبين شبهًا قريبًا، وسببًا متصلًا، فأنست بهم، وطربت بنواحهم طرب المحب بنوح الحمائم وبكاء الغمائم، أو كأنما كنت في حاجة إلى بعض قطرات من الدمع أتفرج بها مما أنا فيه، فما بكى الباكون، وبكيت لبكائهم وجدت في مدامعهم شفاء نفس وسكون لوعتي، أو كأنما أرى أن جمال العالم كان في الشعر، وأن الشعر، هو ما تفجر من صدوع الأفئدة الكليمة فجرى من عيون الباكين من مدامعهم، وصعد من صدورهم مع زفراتهم".
وهكذا وجدت حالات البؤس والشقاء، وما كان أكثرهما في مصر حينذاك -تجاوبًا شديدًا في نفس المنفلوطي وصدى إيجابيًا في عاطفته، فإذا أضفنا إلى ذلك شدة إعجابه بالأدب الرومانسي المترجم ذي الطابع الحزين، وذي العاطفة الحادة، تأثره به وترجمته له، لا تعجب إذا كان من أهم سمات أدب املنفلوطي هي تلك المسحة الحزينة، والعاطفة الباكية.
ولم يكن من المنتظر في تلك الحقبة أن تتجه الحكومة -وهي خاضعة لدولة استعمارية رأسمالية- وجهة اشتراكية، أو ديمقراطية صحيحة، وبخاصة وعباس الثاني على عرش مصر، وهو من هو في شراهته وحبه للمال، وإغارته على أموال الأوقاف، والاستكثار من عرض الدنيا على حساب الألوف المؤلفة من أبناء الشعب، لقد كان الأغنياء يزدادون كل يوم غنى، بينما يزداد الفقراء كل يوم فقرًا، ولم يكن يملك أصحاب الأقلام في تلك الآونة إلا أن ينادوا ضمائر الأثرياء، وذوي الجاه علها تستيقظ من سباتها العميق، وتفيق من سكرات الترف والنعمة، فتلتفت إلى المنكوبين والمحرومين والكادحين في الأرض، وتمد الأيدي بالإحسان.
لقد كانت هناك نفوس خيرة ولا شك تجود شيء من المال، أو توقف بعض أرضها على الخيرات، ولكن ذلك لم يكن يبل غلة أو ينقع ظمأ أو يسد رمقًا أويعالج مشكلة مزمنة، بل لقد كان الإحسان فوضى يذهب إلى غير وجهته، ويناله من لا يستحقه، ولنستمع إلى المنفلوطي يصور بيانه العذب هذه الفوضى في زمنه فيقول:
"الإحسان شيء جميل، وأجمل منه أن يحل محله، ويصيب موضعه، الإحسان في مصر كثير، ووصوله إلى مستحقه وصاحب الحاجة إليه قليل فلو أضاف المحسن إلى إحسانه إصابة الموضع فيها لما سمع سامع في ظلمة الليل شكاة، وأنه محزون، ليس الإحسان هو العطاء كما يظن عامة الناس، فالعطاء قد يكون نفاقًا ورياء، وقد يكون أحبولة ينصبها المعطي لاصطياد النفوس، وامتلاك الأعناق، وقد يكون رأس مال يتجر فيه صاحبه ليبذل قليلًا ويريح كثيرًا".
ثم يقول: "مثل الإحسان في مصر كمثل السحاب الذي يقول فيه أبو العلاء.
ولو أن السحاب همى بعقل
…
لما أروى مع النخل التقادا
الإحسان في مصر أن يدخل صاحب المال ضريحًا من أضرحة المقبورين فيضع في صندوق النذر قبضة من الذهب أو الفضة، ربما يتناولها من هو أرغد منه عيشًا وأنعم بالًا، أو يهدي ما يسميه نذرًا من نعم وشاء إلى دفين في قبره، قد شله عن أكل اللحم ذلك الدود الذي يأكل لحمه، والسوس الذي ينخر عظمه، وما أهدى شاته وبقرته -لو يعلم- إلا إلى وزارة الأوقاف، وكان خيرًا له أن يهديها إلى جاره الفقير الذي يبيت ليلة طاويًا يتشهى ظلفًا يمسك رمقه أو عرقوبًا يطفي لوعته.
وأعظم ما يتقرب به محسن إلى الله، ويحسب أنه بلغ من البر والمعروف غايتهما أنينفق بضعة آلاف من الدنانير في بناء مسجد للصلاة في بلد مملوء بالمساجد، حافل بالمعابد، وفي البلد كثير من البائسين وذوي الحاجات، ينشدون مواطن الصلات لا أماكن الصلوات".
ثم أخذ المنفلوطي يعدد تلك المواطن الخاطئة التي يضع فيها المحسن إحسانه كإنشاء سبيل يشرب منه المارة، وليس بينهم وبين ماء النهر إلا بضع خطوات أو"يقف الضياغ الواسعة من الأرض لتنفق غلتها على أقوام من ذوي البطالة والجهالة نظير انقطاعهم لتلاوة الأبيات، وترديد الصلوات، وقراءة الأحزاب والأوراد، وهو يحسب أنه أحسن إليهم، ولو عرف موضع الإحسان لأحسن إليهم بقطع ذلك الإحسان عنهم علهم يتعلمون صناعة، أو مهنة يرتزقون منها رزقًا شريفًا".
ويحمل المنفلوطي بكل ما أوتي من قوة على أدعياء التصوف، مشايخ الطرق "ولو أنصفوهم -كما يقول- لسموهم قطاع الطرق، ولا فرق بين الفريقين إلا أن هؤلاء يتسلحون بالبنادق والعصي، وأولئك يتسلحون بالسبح والمساويك، ثم يسقطون على المنازل سقوط الجراد على المزارع، فلا يتركون صادحًا ولا باغمًا ولا خفًا ولا حافرًا، ولا شيئًا مما تنبت الأرض من بقلها وقثائها وفومها وعدسها، وبصلها إلا أتوا عليه".
ونراه ينكر أشد الإنكار إعطاء الدراهم للمتسولين ويقول: "ولم أر مالًا أضيع، ولا عملا أخيب، ولا إحسانًا أسوأ من الإحسان إلى هؤلاء المتسولين"، ويبين خطر تشجيعهم بمنطق حاد وقوة أداء.
وقدم المنفلوطي في آخر مقاله مقترحات لتنظيم الإحسان، وذلك بإنشاء مجتمع يسمى "مجتمع الإحسان" يتألف من سراة الأمة ووجوهها وأصحاب الرأي فيها، وتكون مهمته -كما استخلصها من مقاله- لا تتعدى مهمة "بيت المال" في الدولة الإسلامية، في رعايته للفقراء وذوي الحاجات يجمع كل ما يجود به المحسنون، ويوزع بالعدل على المستحقين، أو كما تفعل "هيئة معونة الشتاء"، وإن تعداها لإنشاء الملاجئ والمستشفيات، وغير ذلك.
وهذه إحدى الصور التي كانت شائعة لدى المسلمين في عصورهم الذهبية، ورحم الله عمر بن عبد العزيز حيث جبيت الزكاة في عهده، وبحثوا عمن يستحقها، فلم يجدوا أحدًا، ولو أن المنفلوطي دعا إلى أن يؤخذ المسلمون بالشدة
ويجبروا على أداء الزكاة -تلك التي حاربهم عليها أبو بكر رضي الله عنه لاستقامت الأمور بعض الشيء في مصر.
لقد وهت عروة الدين، وطغت الحياة المادية على النفوس -إلا من رحم ربك- وعطلت الزكاة، وبطل حكم الشرع، ولا يفكر الحاكم في إعادته، وقد جهد الاستعمار في توسيع الشقة بين طبقات الشعب ليوجد حالة من التذمر والسخط، حتى يلجأ الناس إليه مستجيرين من ظالمهم، ولم تكن الأفكار الاشتراكية الحديثة قد ظهرت بعد في مصر، ولو عرفها بعض المثقفين لما كان لمعرفتهم قيمة.
ولكن الذي لا ريب فيه أن المنفلوطي كان يشعر شعورًا حادًا بهذا البؤس الاجتماعي، وإن الصورة التي عرضها لفوضى الإحسان في مصر، لتدل على كثير، تدل على أن هذا الشعب فيه خيرون، ولكن فيه كذلك جشعون وجاهلون، وقد سلك الخيرون طرقًا خاطئة لبذل خيرهم، وربما كان ضرر إحسانهم أكثر من نفعه، على أن المسألة ليست مسألة إحسان كما سنوضح فيما بعد حين نفرغ من تلك الصورة التي قدمها المنفلوطي مظهرًا لمظاهر البؤس والفاقة بمصر.
تأثر المنفلوطي في منهجه هذا بآراء من سبقه من الكتاب والمصلحين في هذا الميدان، وبخاصة مدرسة جمال الدين الأفغاني، ومحمد عبده، وكان من أشد رجالها حماسة في هذا الميدان عبد الله النديم، وأديب إسحاق كل على طريقته في الأداء، وحظه من الثقافة.
كان المنفلوطي ذا نزعة اشتراكية، ولكنه لم يعرف كيف يوضحها كما نفهمها اليوم، أو كما قررها الإسلام كاملة1، ولننظر إلى بعض تلك الصور البيئية التي عرضها المنفلوطي، ففي مقاله "قتلة الجوع" يقول: "قرأت في بعض الصحف منذ أيام أن رجال الشرطة عثروا بجثة امرأة في جبل المقطم قتيلة، أو منتحرة حتى حضر الطبيب ففحص عن أمرها، وقرر أنها ماتت جوعًا.
1 انظر بحثنا عن الاشتراكية والإسلام من مطبوعات جامعة القاهرة -وانظر كذلك: اشتراكية الإسلام للدكتور مصطفى السباعي.
تلك أول مرة سمعت فيها بمثل هذه الميتة الشنعاء بمصر، وهذا أول يوم سجلت فيه يد الدهر في جريدة مصائبنا، ورزايانا هذا الشعار الجديد.
ألم يلتق بها أحد من طريقها فيرى صفرة وجهها، وترقرق مدامعها وذبول جسمها، فيعلم أنها جائعة فيرحمها؟ ألم يكن لها جار يسمع أنينها في جوف الليل، ويرى غدوها ورواحها حائرة ملتاعة في طلب القوت فيكفيها أمره؟ أأقفرت البلاد من الخبز والقوت، فلا يوجد بين أفراد الأمة جميعها من أصحاب قصورها إلى سكان أكواخها رجل واحد يملك رغيفًا واحدًا زائدًا عن حاجته فيتصدق".
ويصف بعد ذلك العلة: تلك أن الأمة التي ألفت ألا تبذل معروفها إلا في مواقف المفاخرة والمكاثرة، والتي لا تفهم من معنى الإحسان إلا أنه الغل الثقيل الذي يوضع في رقاب الفقراء لاستعبادهم واسترقاقهم، لا يمكن أن ينشأ فيهم محسن يحمل بين جنبيه قلبًا رحيمًا.
"لقد كان في استطاعة تلك المرأة المسكينة أن تسرق رغيفًا تتبلغ به، أو درهمًا تبتاع به رغيفًا فلم تفعل، وكان في استطاعتها أن تعرض عرضها في تلك السوق التي يعرض فيها الفتيات الجائعات أعراضهن فلم تفعل؛ لأنها امرأة شريفة تفضل أن تموت بحسرتها، على أن تعيش بعارها، فما أعظم جريمة الأمة التي لا يموت فيها جوعًا غير شرفائها وأعفائها!! ".
وبجانب هذه الصورة للمرأة التي ماتت جوعًا في أرض ينبت ترابها الذهب، ويفيض فيها ماء النيل بالخير العميم، يضع صورة أخرى للوجهاء وذوي الثراء بمصر، وكيف يأكلون حتى يشبعوا، وكيف لا يحسنون -إن أحسنوا- إلا طمعًا في نظرة أمير أو لفتة وزير، أو زورة مدير، ولا سيما إذا كان هذا الثرى جاهلًا لا يمكن أن يكون له مطمح في المجد الصحيح، إذ ليس يصاحب علم فيفاخر به ولا صاحب قلم يخدم به المجتمع الإنساني، ولم يبق أمامه غير هذا المجد الكاذب، وهو مجد القربى من الحكام والعمال، ولا سبيل إلى ذلك ببذل ما يستطيع من الأموال، وهو ببذله هذا المال ينشد الدنيا لا الآخرة، فإذا نفد ماله
أو أصابته كارثة تجهم وجه الدور، وسدت دونه الأبواب، وذهبت وجاهته سدى، ولن يثاب على ما قدم من إحسان؛ لأنه لم يقصد به وجه الله.
ولقد كان المنفلوطي متحمسًا وهو يوازن بين "الكوخ والقصر"، وفي تلك المقالة يقول: "أنا لا أغبط الغنى إلا في موطن واحد من مواطنه إن رأيته يشبع الجائع، ويواسي الفقير، ويعود بالفضل من ماله على اليتيم الذي سلبه الدهر أياه، والأرملة التي فجعها القدر في عائلها، ويمسح بيده دمعة البائس والمحزون، ثم أرثى له بعد ذلك في جميع مواطنه الأخرى.
أرثى له إن رأيته يتربص وقوع الضائقة بالفقير ليدخل عليها مدخل الشيطان من قلب الإنسان، فيمتص الثمالة الباقية له من ماله ليسد في وجهه الأمل" -ثم يروح يعدد مواطن كثيرة لهذا الغني الكنز، الذي استلت من قلبه الرحمة يرثي له فيها.
وفي مقالة "الغني والفقير" يقول: "مررت ليلة أمس برجل بائس فرأيته واضعًا يده على بطنه كأنما يشكو ألمًا فرثيت لحاله، وسألته: ما باله؟ فشكا إلي الجوع، ففثأته عنه ببعض ما قدرت عليه، ثم تركته وذهبت إلى زيارة صديق لي من أرباب الثراء والنعمة، فأدهشني أني رأيته وضاعًا يده على بطنه وأنه يشكو من الألم ما يشكو ذلك البائس الفقير، فسألته عما به؟ فشكا إلى البطنة، فقلت: يا للعجب! لو أعطى ذلك الغني ذلك الفقير ما فضل عن حاجته من الطعام ما شكا واحد منهما سقمًا ولا ألما".
وكأني به كان ينظر إلى الحديث الشريف حيث جاء فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى رجلًا مترفًا متخمًا، قد امتد بطنه أمامه من ترفه وجشعه، فأشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى بطن هذا الرجل، وقال له:"لو كان هذا في غير هذا المكان لكان خيرًا لك".
وكأني به كذلك قد نظر إلى قوله صلى الله عليه وسلم: "من كان عنده فضل زاد فليعد به على من لا زاد له، ومن كان عنده فضل ظهر فليعد به على من لا ظهر له"، وقوله صلى الله عليه وسلم:"ما آمن بي من بات شبعان وجاره جائع إلى جانبه وهو يعلم".
ومن يقرأ نظرات المنفلوطي يخيل إليه أنه في هم مقيم يلازمه في غدوه ورواحه، وليله ونهاره من هذه الآفة المستحكمة، آفة البؤس التي يعاني منها سواد الشعب، فتأكل قوته، وتذيب حيويته، وتصم أثرياءه وأرباب الحكم فيه بوصمة العار.
وإذا كان المنفلوطي فيها سلف من حديث عن الفاقة والثراء قد عبر عما في ذات نفسه مباشرة، فإنه في حديث "أبي الشمقمق" يبين وجهة نظر الفقراء فيما يدور حولهم في دنيا أهملهم فيها أثرياؤها وأولو الأمر فيها، إن في هذا الحديث قد تقمص شخصية بائس فقير يفصح عن إحساسه مدى آلامه.
ففي مجلس جمع بعض ذوي المال "ما بين تاجر يعجب بصفقته الرابحة وزارع يفخر بقلة ما أعطي وكثرة ما أخذِ، وآخر يعلل نفسه بكثرة الغلات وارتفاع الأسعار
…
"، وكلهم يشيد بهذا العهد الأخير عهد العدل والإنصاف، عهد الحرية والمساواة، عهد الرقي والعمران.
كل هذا وأبو الشمقمق جالس ناحية يجتر طرفه، ويهز رأسه، ويصعد أنفاسه، ويمضغ أضراسه، ويئن من أعماق قلبه أنينا خفيفًا يكاد يسمع فيه السامع فيقول الشاعر:
فيالك بحرًا لم أجد فيه مشربًا
…
على أن غيري واجد فيه مسبحًا
فلما انفض المجلس انتحى المنفلوطي بصاحبه أبي الشمقمق ناحية، وجرى بينهما هذا الحديث.
- ألا يعجبك يا أبا الشمقمق حديث النهضة الحديثة التي نهضتها الأمة المصرية في عهدها الأخير، وأنت فرد من أفرادها، وجزء من جسمها، فنهوضها نهوضك، وسقوطها سقوطك- فأنت الأمة والأمة أنت.
- إن كنت تريد أنني فرد متكرر كثير الأشباه والأمثال في العوز والفاقة، وواحد لا سند لي ولا عضد، ودائر في مدارج الطرق، ومعابد السبل، فقد أصبت وأحسنت، وإن كنت تريد مني غير ذلك فأنا لا أفهم إلا كذلك.
- حسبك أن ترى تقدم الأمة المصرية في ثروتها وعمرانها، وبذخها وترفها، وكثرة ناطقها وصامتها فتسعد بسعادتها وتهنأ بهنائها.
- إن لم تبين لي سهمي من هذه السعادة، ونصبي من ذلك الارتقاء، فلا أصدق سعادة، ولا أتصور ارتقاء، وما دمت أرى أن لي هوية مستقلة عن هوية سواي من السعداء، ويدا تقصر عما تتناوله أيديهم، وبطنًا لا يمتلئ بما تمتلئ به بطونهم، وما دمت لا أدري واحدًا بينهم يلبس معي ردائي الممزق، وقميصي الممزق، ويقاسمني همي، ويشاطرني فقري، فهيهات أن أسعد بسعادتهم وأسر بسرورهم، وهيهات أن أفهم معنى قولك: أنت الأمة والمة أنت.
- إن الغيث إذا نزل يسقى الخصيب والجديب، والنجد والوهد، وينتظم من الأرض الميت والحي.
- كل سماء فيها الغيث إلاس ماء مصر فإني أراه:
كبدر أضاء الأرض شرقًا ومغربًا
…
وموضع رحل منه أسود مظلم
مالي وللروض الذي لا أستنشق ريحه وريحانه، والقصر الذي لا أدخله مالكًا ولا زائرًا
…
، وبعد فما هو الارتقاء الذي تزعمه، وتزعم أنه يعنيني ويشملني؟ هل ترقت غرائز الإحسان في نفوس المحسنين؟ وهل خفقت قلوب الأغنياء رحمة بالفقراء؟
- نعم: أما ترى الأموال التي يتبرع بها الأغنياء للجمعيات الخيرية، والتي ينفقها المحسنون على بناء المدارس والمكاتب والمستشفيات؟
- إن هذه التي تسميها مكارم، ولا يسميها أصحابها إلا مغارم، ألجأهم إليها التملق للكبراء، وحب التقرب من الرؤساء، والطمع في الزخرف الباطل والجاه الكاذب.
مالي وللمدارس والمستشفيات، وأنا جوعان خبز لا جوعان علم، ولا مرض عندي إلا مرض الفاقة
…
إلخ.
وإن دل هذا الحديث على شيء، فإنما يدل على فوضى الإحسان بمصر، وعلى أن المحسنين لا يبذلون المال إلا رياء وكرها، أو تقربًا من ذوي السلطة، وإن مشكلة الفقر حادة وعنيفة تكاد تخرج الفقير عن القيم الحقة، ونجعله غير مكترث بما يدور حوله من نهضة ما دامت هذه النهضة لا تلتفت إليه، ولا تعني به، ولا تحل مشكلته، إنه يبين مدى الألم والحياة السلبية التي يعيشها سواد الأمة وهم الفقراء بدون أن يسهموا في تقدمها؛ لأنهم قوى معطلة، عطلها الجوع والحرمان، ولم يعد يعنيهم من مظاهر الرقي حلوهم شيء.
ولقد تخيل المنفلوطي المدينة السعيدة، ولكنها ليست كمدينة أفلاطون كما رسمها في الجمهورية، ولا الفارابي في المدينة الفاضلة، ولا السير "توماس مور" في الأتيوبيا، بل إن مدينة المنفلوطي مدينة كان يرى أنها لا تتحقق إلا في المريخ، لا يزال أهلها على الفطرة، يعبدون الله بوحي من عقولهم لا عن رسالة بلغت إليهم، وقد التقى بأحد رجالها في منامه، ورأى فيه من السماحة الطبيعية، والخلق الكريم، وقد أنس به، وطلب إليه بعد أن عرف نقاء فطرته وسلامة طويته أن يزيره المدينة، قال: "فرأيت شوارعها فسيحة منتظمة، ومنازلها متفرقة غير متلاصقة، وقد أحاطت بكل منزل منها حديقة زاهرة، ورأيت سكانها مكبين على أعمالهم، مجدين في شئونهم، صغارًا وكبارًا، رجالًا ونساء، ما فيهم فقير يتسول، ولا متبطل يتثائب ويتململ، وأغرب ما استهوى نظري أنني لم أر في تلك المدينة ذلك التفاوت الذي أعرفه في مدائننا بين الناس في منازلهم ومراكبهم ومطاعمهم ومشاربهم، وهيآتهم وأزيائهم، كما جميع سكانها سواسية في حالة المعيشة، ودرجة الثروة، فسألت الشيخ:
- ألا يوجد فيكم غني وفقير، وسيد ومسود؟
- لا يا سيدي. حسب الرجل منا بيت يؤيه، ومزرعة تقيته، ودابة تحمل أثقاله، ثم لا تهان له بعد هذا فيما سوى ذلك، لهذا لا يوجد فينا سيد ومسود؛ لأنه لا يوجد فينا غني وفقير.
- لا بد أن يكون فيكم العاجز عن العمل، والمتعطل الكسلان.
- أما الكسلان فلا وجود له بيننا؛ لأنه يعلم أنه لا نرحمه، ولا نغفر له زلته في احتقار نعمة العقل والقسوة بتعطيله عن العمل، وأما العاجز فنحدب عليه، ونحسن إليه، ولا نرى لأنفسنا في ذلك فضلًا؛ لأننا إنما نمنحه جزءًا من القوة التي منحنا الله إياها لنعبده بها، ولا نرى وجوه العبادة أفضل من مواساة العاجزين ورحمة البائسين".
- أليس لكم حاكم يتولى أمركم.
- لنا حكم لا حاكم، وهو رجل قد وثقنا به وبفهمه واستقامته، فاخترناه لفصل الخصومات إن عرض لنا من ذلك عارض.
- أليس له جند وأعوان يؤيدونه، ويتولون تنفيذ أحكامه.
-نعم! كلنا جنده وكلنا أعوانه على كل من يختلف عليه، أو يتمرد على حكمه، فقد وثقنا به وبعدله، وحسبنا ذلك وكفى.
وقال المنفلوطي في نهاية رؤياه هذه: "تلك هي مدينة السعادة التي يعيش أهلها سعداء، لا يشكون هما؛ لأنهم قانعون، ولا يمسكون في أنفسهم حقدًا؛ لأنهم متساوون، ولا يستشعرون خوفًا؛ لأنهم آمنون".
هل تخيل المنفلوطي هذه المدينة كما وصفها تخيلًا، أو أنه تأثر بما قرأه عن المدن الغربية في نظامها وحسن تنسيقها، وفسيح شوارعها وحدائق منازلها، وعما اتصف به الأوربيون من الجد والانكباب على العمل، وبما قرأه من سيرة سلفنا الصالح، وتعاليم ديننا الحنيف من أن الإنس سواسية كأسنان المشط: سواسية في الحقوق والواجبات، لا سواسية في الثروة فالله سبحانه قد فضل بعض الناس على بعض في الرزق، ولقد اضطر المجتمع الشيوعي الذي نادى بالمساواة المطلقة في أول عهد الشيوعية أن يعدل عن المناداة بهذه المساواة في المأكل والملبس والمسكن والإنفاق؛ لأنها غير طبيعية؛ لأن الناس متفاوتون في مواهبهم وقدراتهم وذكائهم وعملهم، واجتهادهم فميز الأذكياء عن غيرهم.
ولعل المنفلوطي نظر إلى المجتمع الإسلامي في عهد أمير المؤمنين عمر بن الخطاب، أو عهد عمر بن عبد العزيز، وقد جبيت الزكاة في إحدى السنوات في عهده، فلم يجد من يستحقها: ومهما يكن من أمر، فلقد أشار إلى التفاوت الطبقي بمصر الذي يميز بعض الناس عن بعض في مأكلهم وملبسهم ومسكنهم، ذلك التفاوت الذي أدى إليه الإقطاع الزراعي المقيت في سالف الأيام حتى قضت عليه ثورة يوليو 1952، والذي جعل من الناس سادة وعبيدًا.
وعلى كل فالمنفلوطي كان قوي العاطفة، شديد الإحساس بآفة الفقر، وسفح قلبه دموعًا حارة على ما يعانيه البائسون ولكنه وقد وصف الداء، حام حول الدواء الناجع الذي يقضي باستئصال الآفة من أعماقها ولم يصل إليه، فالمسألة ليست مسألة إحسان وأريحية وجود يتقدم بها الأغنياء للفقراء، إن شاءوا أعطوا، وإن شاءوا منعوا، ولكنها مسألة حق معلوم للسائل والمحروم، فرضها الله في كتابه، وفرضتها الإنسانية الصحيحة الطاهرة، وحارب أبو بكر من امتنع عن أداء هذا الحق، إنها اشتراكية سمحة كان يحلم بها في منامه، ولم يدر أن الزمن ستدور دورته، وأن الثورة ستأتي فتنصف المظلوم من الظالم وتحاول إذابة الفروق بين الطبقات قدر المستطاع، وتوفر الغذاء للفقراء، وتديل دولة الطغاة، وتحقق قدرًا كبيرًا من المساواة.