المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌المقدمات ‌ ‌مقدمة … بسم الله الرحمن الرحيم. مقدمة: عندما دعاني معهد الدراسات العربية لإلقاء هذه - نشأة النثر الحديث وتطوره

[عمر الدسوقي]

فهرس الكتاب

- ‌المقدمات

- ‌مقدمة

- ‌المحتويات:

- ‌تمهيد:

- ‌البعث

- ‌مدخل

- ‌رفاعة الطهطاوي

- ‌في العراق والشام

- ‌السيد محمود الألوس أبو الثناء

- ‌نصايف اليازجي

- ‌بطرس البستاني:

- ‌أثر الصحافة في تطور الأسلوب:

- ‌الوقائع المصرية:

- ‌مدرسة جمال الدين الأفغاني، وأدب المقالة:

- ‌محمد عبده:

- ‌أديب إسحق

- ‌إبراهيم اللقاني:

- ‌عبد الله نديم:

- ‌أدباء الشام:

- ‌إبراهيم اليازجي:

- ‌نجيب حداد:

- ‌تنوع المقالة:

- ‌أدب الرسائل:

- ‌عبد الله فكري:

- ‌محمد عبده:

- ‌حمزة فتح الله:

- ‌عبد الكريم سلمان:

- ‌أحمد مفتاح:

- ‌عبد العزيز جاويش:

- ‌حفني ناصف:

- ‌إبراهيم اليازجي:

- ‌الكتب الأدبية:

- ‌أسواق الذهب لأحمد شوقي:

- ‌حديث عيسى بن هشام للمويلحي:

- ‌ليالى سطيح لحافظ إبراهيم:

- ‌صهاريج اللؤلؤ للبكري:

- ‌تطور المقال الأدبي

- ‌مدخل

- ‌مصطفى لطفي المنفلوطي

- ‌مدخل

- ‌الاشتراكية عند المنفلوطي:

- ‌اللغة العربية عند المنفلوطي:

- ‌المراثي عند المنفلوطي:

- ‌مقالاته الأدبية:

- ‌رسائله:

- ‌البيان في رأي المنفلوطي:

- ‌أسلوب المنفلوطي:

- ‌منزلة المنفلوطي في موكب الأدب العربي:

- ‌أثر الثقافة الأجنبية في تطور المقال الأدبي:

الفصل: ‌ ‌المقدمات ‌ ‌مقدمة … بسم الله الرحمن الرحيم. مقدمة: عندما دعاني معهد الدراسات العربية لإلقاء هذه

‌المقدمات

‌مقدمة

بسم الله الرحمن الرحيم.

مقدمة:

عندما دعاني معهد الدراسات العربية لإلقاء هذه المحاضرات على "نشأة النثر الحديث وتطوره"، سرتني هذه الدعوة بقدر ما أهمتني، سرتني؛ لأن النثر الحديث لم يلق من جمهور الباحثين، والنقاد من العناية مثل تلك العناية البالغة التي لقيها الشعر، ورأيت في هذه الدعوة الكريمة فرصة لأضع لبنة متواضعة في هذه الدراسة

وأهمتني؛ لأن نثرنا الحديث قد تطور في مدى قرن ونصف تطورًا عظيمًا، وتعددت أغراضه وألوانه، واتسعت آفاقه وقوالبه، وتطورت معه اللغة العربية، وخرجت من جمودها السابق إلى مسايرة الحضارة الحديثة، والثقافات الوافدة، ولا سيما في العلوم الإنسانية، وظهر في ميادين النثر المختلفة، من مقالة وأقصوصة ورسائل، ومسرحيات وكتب عدد كبير من الأعلام الذين أثروا الأدب العربي بنتاجهم، وكانوا زينة عصرهم، ولكل طريقة في التفكير والتعبير، ومنابع الثقافة.

ولم يكن من اليسير أن تتناول هذه المحاضرت كل ألوان النثر من مقالة، ورسالة وكتاب وقصة ومسرحية، ولذلك آثرت أن أترك الحديث عن القصة والمسرحية في هذه المحاضرات، إذ قد ظهرت فيهما بعض الدراسات من الممكن أن تكون أساسًا لدراسات أوسع، ووجهت همي إلى دراسة فنون النثر الأخرى، ولا سيما المقالة والرسالة والكتاب.

وكان تتبع نشأة النثر الحديث، وكيف تخلص من أوضار الماضي، ونهضته من وهدة الركاكة، والغثاثة إلى أن اتضحت سماته، وأخذ يشق طريقه إلى القوة

ص: 3

والصحة والجمال الفني، كان تتبع هذه النشأة والتطور في مراحلهما الأولى أمرًا غير هين، ولكن من حسن حظى أن قد تتبعت هذه النشأة من قبل في كتابي "الأدب الحديث"، وحاولت في هذه المحاضرت أن أزيد الدراسة السابقة وضوحًا بإيراد النماذج ما استطعت إلى ذلك سبيلًا، وإن كان المقام حال بيني وبين التوسع في هذه النماذج، ودراستها بالقدر الذي كنت أرجو.

ووجدت بين يدي فيضا من الآثار النثرية الجديرة بالدرس، وعددًا كبيرًا من كبار الكتاب في الألوان التي آثرتها بالدراسة، ولا سيما وقد حاولت أن أتتبع هذه النشأة بمصر والعراق، والشام حتى أعطي صورة واضحة قدر المستطاع، ومدى ما أسهمت به البلاد العربية في هذه النهضة، وعلى الرغم من الإيجاز الشديد الذي أعتذر عنه، والذي اقتضته طبيعة هذه المحاضرات فقد وجدتني، وقد انتهت المحاضرات المخصصة لي في منتصف الطريق، ولا زال أمامي عدد من أعلام البيان العربي لهم منزلتهم الكبيرة في دنيا الأدب، ولن تكمل الدراسة، وتتم إلا بتتبع آثارهم والتعرف على اتجاهاتهم، وأساليبهم من أمثال: الرافعي والزيات والبشري، وهيكل والمارني وكرد علي والألوسي وغيرهم، وبخاصة والقرن العشرون قد شهد نهضة فارعة في النثر في شتى ميادينه، والبلاد العربية قد سارت شوطًا بعيدًا في طريق نضجها العقلي والأدبي، ولذلك أقدم هذه المحاضرات المركزة تمهيدًا لدراسة أخرى أرجو أن تتاح لي - بإذن الله تعالى- أقدم فيها أعلام البيان العربي في القرن العشرين، والله ولي التوفيق.

عمر الدسوقي.

ص: 4

‌المحتويات:

الصفحة الموضوع

3 المقدمة

5 المحتويات

7 تمهيد

26 البعث

29 رفاعة الطهطاوي

45 في العراق والشام

45 -

السيد محمود الألوسي أبو الثناء

47 -

ناصف اليازجي

50 -

البستاني

51 أثر الصحافة في تطور الأسلوب

51 -

الوقائع المصرية

52 -

الجوائب

57 مدرسة جمال الدين الأفغاني، وأدب المقالة

61 الشيخ محمد عبده

70 أديب إسحاق

82 إبراهيم اللقاني

84 عبد الله نديم

91 أدباء الشام

91 -

إبراهيم اليازجي

92 -

نجيب حداد

95 تنوع المقالة

ص: 5

الصفحة الموضوع

99 أدب الرسائل

99 -

عبد الله فكري

104 -

محمد عبده

106 -

حمزة فتح الله

107 -

عبد الكريم سلمان

107 -

أحمد مفتاح

110 -

عبد العزيز جاويش

113 -

حفني ناصف

118 -

إبراهيم اليازجي

121 الكتب الأدبية

123 أسواق الذهب لأمير الشعراء أحمد شوقي

131 حديث عيسى بن هشام للمويلجي

142 ليالي سطيح لشاعر النيل حافظ إبراهيم

154 صهاريج اللولؤ للبكري

168 تطور المقال الأدبي

170 المنفلوطي

180 -

الاشتراكية عند المنفلوطي

192 -

اللغة عن المنفلوطي

198 المراثي عند المنفلوطي

202 -

مقالاته الأدبية

213 -

رسائله

221 البيان في رأي المنفلوطي

227 أسلوب المنفلوطي

241 منزلة المنفلوطي في موكب الأدب العربي

247 أثر الثقافة الأجنبية في تطور المقال الأدبي

ص: 6

‌تمهيد:

كان لحملة نابليون على مصر -على الرغم من غرضها الاستعماري- أثر عميق في نهضتنا الحديثة، إذ هزت المصريين هزًا عميقًا، وأيقظتهم من سباتهم الطويل، وأطلعوا إبان مقام الفرنسيين بمصر على ألوان من الحياة وضروب من المخترعات، وأدوات حضارية، ونظم ثقافية لا عهد لهم بها، وأدركوا أن ثمة أمما أخرى تعيش وراء البحر قد حاولت جهدها تسخير قوى الطبيعة للإنسان، وانتهجت في الحياة نهجًا جديدًا يدعمه العلم والصناعة.

وقد وصف "عبد الرحمن الجبرتي" في تاريخه مبلغ الدهشة التي أبداها مثقفو المصريين من هذه المظاهر حين أتيح لهم الاطلاع عليها، كانت حملة نابليون مزودة بكل وسائل التفح والاستعمار، فصحبتها نخبة من العلماء في شتى فروع

المعرفة، وأسسوا المجمع العلمي، ومنهم من كشف أسرار اللغة الهيروغليفية عقب عثوره على حجر رشيد، وكان لديهم مطبعة عربية صغيرة.

كانت هذه الحملة أول اتصال وثيق بين مصر، وأوربا منذ عهد الحروب الصليبية، ومنذ ذلك الوقت بدأ هذا الاتصال يزداد على مر الأيام، إذ أتيح لمصر عقب خروج الجيوش الفرنسية منها أن تأخذ بأسباب النهضة عندما اختار المصريون محمد علي واليًا عليهم، وقد كان محمد علي طموحًا يعمل لنفسه قبل أن يعمل لمصر، وقد سخر كل شيء فيها لتحقيق آماله، وتشييد دولة قوية يحميها جيش منظم يسير على أحدث النظم الغربية، واتجه محمد علي نحو الغرب، وبخاصة فرنسا يستقدم الخبراء والعلماء، وأخذ يرسل البعثات

تباعًا إلى فرنسا ثم إلى الدول الغربية الأخرى، وينشئ المدارس الفنية لخدمة

الجيش، فأنشأ مدرسة الطب والهندسة والصيدلة وغيرها، كما أنشأ مطبعة بولاق التي عرفت فيما بعد باسم المطبعة

ص: 7

الأميرية، والتي كان لها أثر كبير في إحياء تراثنا القديم، وفي تزويد النهضة بالكتب الجديدة.

اعتمد محمد على في النهوض بالمدارس التي فتحها، وبخاصة العالية منها على أساتذة غربيين، ولم يكن الطريق ممهدًا أممامهم، إذا عهد إليهم بالتدريس لطلاب لا يعرفون لغتهم، واقتضى الأمر إقامة عدد من المسترجمين بين الطلبة وأساتذتهم كان معظمهم من المغاربة، والسوريين والأرمن من أمثال الأب "رفائيل راخور" و"يوسف فرعون" و"محمد عمر التونسي"، الذي وضع معجخمًا طبيًا بالفرنسية والعربية، ولقد كان عملهم هذا أول خطوة في تجديد شباب اللغة، وتزويدها بالمصطلحات الفنية، واضطروا إلى مراجعة معجمات اللغة، والكتب القديمة الفنية، كمفردات ابن البيطار وقانون ابن سينا في الطب، وإذا كانت قد غلبتهم الألفاط الأجنبية في كثير من الأحيان، فقد كان لهم الفضل في عقد أول صلة علمية بين الشرق والغرب.

ثم أخذ محمد علي يجني أول ثمار أتعابه، فعاد أعضاء البعثات تباعًا واعتمد عليهم في كثير من شئون النهضة، وقد بلغ من حرصه على معرفة ما أفادوه من بعثاتهم أن كان يحبسهم في القلعة عقب عودتهم، ولا يسمح لهم بتركها إلا إذا ألقوا أو ترجموا كتابًا في المادة التي تخصصوا فيها، ثم يدفع الكتاب إلى المطبعة.

ولما عاد رفاعة الطهطاوي بعد أن قضى خمس سنوات في فرنسا أشار على محمد علي بإنشاء مدرسة الألسن لتعليم اللغات المختلفة، وعهد إليه بإدارتها، وقد نشأ فيها جيل من المصريين زود اللغة العربية بكثير من ثمار الثقافة الغربية، حتى بلغ ما ترجمه رفاعة الطهطاوي، وتلاميذه أكثر من ألف كتاب.

كانت النهضة في عصر محمد علي علمية خالصة، إذ كان يرى أن حاجته إلى العلم أشد من حاجته إلى الأدب، ولذلك كان يوجهها الوجهة التي يريدها، كما أنه كان يؤثر التركية على العربية أول الأمر، ويؤثر الأتراك والألبان ومن على شاكلتهم لشغل منصاب الدولة، ولا سيما في الجيش، حتى الوقائع المصرية وهي

ص: 8

أول جريدة ظهرت بمصر كانت تصدر أول الأمر باللغة التركية، ولكن محمد علي لم يجد بدا من الاستعانة بالمصريين في الجيش، واختيارهم أعضاء في البعثات، وصدرت الوقائع في أخريات حياته بالتركية، والعربية معًا، وإن ظل الضغط على المصريين شديدًا في عهده وعهد عباس الأول، بل لقد بلغ من اضطهاد اللغة العربية في عهد عباس الأول أن من كان يتكلم بهما من طلبة المدارس الحربية توضع في فمه العقلة، التي توضع في فم الحمار حينما يقص، ويبقى كذلك نهارًا كاملًا عقوبة له على تحريك لسانه باللغة العربية في غير أوقات الدرس، ولم يشعر المصريون في عهد محمد علي بالحرية التي كانوا يتطلعون إليها، وتصبو لها نفوسهم، ولا شك أن اللغة ويتبعها الأدب لا يمكن أن تنهض في مثل هذا الجو، وفي ظل هذا الحاكم.

بيد أن هذا الضغط في كل شئون الحياة لم يمنع المصريين من الأخذ بأسباب النهضة والإفادة منها، فهؤلاء الطليعة الذين سافروا إلى بلاد الغرب، وعرفوا من نظم الحياة والحكم، واغترفوا من ينابيع الثقافة الغربية ما لم يتح لهم أن يروه في بلادهم، قد عادوا وهم يحملون في جوانحهم آمالًا كبيرة لمستقبل بلادهم من أمثال رفاعة الطهطاوي، وعلي مبارك، ومحمد علي البقلي وإسماعيل الفلكي، وعشرات سواهم.

كانت هذه الطليعة تتولى قيادة الحركة الفكرية في عهد إسماعيل الذي جاء عقب النكسة التي أصيبت بها النهضة إبان حكم عباس وسعيد، إذ كان عباس من المعوقين فعلًا للتقدم، فسرح الجيش وأغلق المدارس التي فتحها محمد علي، ولم يستثن إلا مدرسة الصيدلة، ونفى رفاعة الطهطاوي إلى السودان بحجة فتح مدرسة ابتدائية في الخرطوم، ولم يكن الحال في عهد سعيد أحسن منه في عهد عباس، اللهم إلا أنه كان عطوفًا على المصريين، ورأى أنهم مغبونون في بلادهم، ولكنه لم يقم بعمل إيجابي لرفع الضرر عنهم.

ولما جاء إسماعيل، وكان شديد الطموح -وهو ممن تعلموا في فرنسا- رأى الأخذ بكل وسائل النهضة الحديثة إلى حد الطفرة، وتولى شئون التعليم في عهده

ص: 9

على مبارك مستعينًا بأمثال رفاعة الطهطاوي، وكانت سياسة إسماعيل ترمي إلى التحرر من سيطرة الخليفة التركي بالآستانة، فطفق يعمل على توهين الصلات بينه وبين تركيا، وكلف عبد الله فكري تعريب دواوين الحكومية ونقل كل اللوائح التركية إلى العربية، فنهض بهذه المهمة على أكمل وجه.

أعيدت في عهد إسماعيل المدارس التي أغلقت في عهد عباس، وتوسع علي مبارك في فتح المدارس الثانوية، والعالية، والابتدائية، وفي عهده أنشئت دار العلوم لتكون حلقة وسطى بين التعليم الأزهري الذي أبى أن يساير النهضة، وبين المدارس المدنية الجديدة، ولتنهض باللغة العربية، كما أنشئت دار الكتب لتيسر سبل الإطلاع للراغبين في العلم والتأليف، وزاد الاهتمام بالترجمة، وانشترت الصحافة في عهد إسماعيل، وقد شجع كثيرًا من المسيحيين السوريين، واللبنانيين على الإقامة بمصر حينما لجأوا إليها هربًا بحريتهم، وعقيدتهم من جو التعصب الذميم الذي كان يختم على بلاد الشام، وأدى إلى مذابح سنة 1860، وقد أسهم هؤلاء في نهضة الصحافة، وأطلق إسماعيل لهم الحرية؛ ليتهجموا على تركيا ما شاء لهم التهجم لما عانوه على يد ولاتها من اضطهاد في ديارهم، وكان ذلك مما يروق لإسماعيل؛ لأنه كان يعمل على الانفصال عن تركيا، وقامت الصحافة بمهمة جليلة في نهضة اللغة والأدب، وطوعت العربية للفكر الحديث، والأغراض الجديدة كما سنرى فيما بعد إن شاء الله.

ووجد في عهد إسماعيل كذلك ميل شديد إلى إحياء تراثنا القديم، وتيسير الاطلاع عليه، فألفت لذلك الجمعيات المختلفة منها: جمعية المعارف التي انضم إليها نحو ستين وستمائة شخص من ذوي النفوذ، والثقافة بمصر، ومن الكتب القديمة التي نشرتها: أسد الغابة في معرفة الصحابة لابن الأثير في خمسة مجلدات، وتاج العروس، وتاريخ ابن الوردي، وشرح التنوير على سقط الزند، وديوان ابن خفاجة الأندلسي، وديوان ابن المعتز، والبيان والتبيين للجاحظ، ورسائل بديع الزمان الهمذاني، وغيرها من الكتب القيمة، وأنشأ رفاعة الطهطاوي

ص: 10

كذلك جمعية لنشر المخطوطات العربية القديمة منها تفسير الفخر الرازي، ومعاهد التنصيص، وخزانة الأدب، ومقامات الحريري وسواها.

وإذا كان الطابع العام للنهضة في عهد محمد علي علميًا، فقد سار إسماعيل على نهجه أول الأمر، بيد أن أن التحكم في الميول والمواهب، وتوجيهها قسرا إلى ما تصدف عنه ولا ترغب فيه أمر عسير، ولذلك ما لبثت هذه المواهب الأدبية التي نهلت من الثقافة الغربية أن حاولت الإفصاح عن نفسها، وعن ميولها، فابتدأت الترجمة عن الأدب الغربي إلى الأدب العربي تزداد وتتنوع، بل إن بعض بذور الأدب الحديث بدأت تنمو في هذه العهد، حين أخذ المصريون يشعرون بأنفسهم، ورسالتهم في نهضة بلادهم بعيدًا عن سيطرة الدولة.

ومن أوائل الذين عنوا بنقل بعض الآثار الأدبية إلى اللغة العربية رفاعة الطهطاوي من ذلك: كتاب الأب "فينلون" عن مغامرات "تليماك"، وقد ترجمه

رفاعة أيام أن كان منفيًا في السودان، ونشره عقب عودته إلى مصر باسم "مواقع الأفلاك في وقائع تليماك"، ويعد هذا الكتاب أول محاولة لنقل القصة

الغربية إلى العربية، بل نقل الأدب الأسطوري الخرافي اليوناني إلى الفكر العربي، وترجم كذلك رثاء "فولتير" للويس الرابع عشر، كما ألف أو ترجم كتاب "تعريب الأمثال في تأديب الأطفال"، وترجم نشيد المارسيليز، "ووضع عدة أناشيد شعرية تفيض حماسة ووطنية ينشدها الجنود، وكان هذا لونًا لا عهد للشعر العربي به من قبل.

وعني إسماعيل بالمسرح، فأنشأ "ألأوبرا"، واستقدم لها الفرق الأجنبية، وشجع المسرح العربي الذي أنشاه يعقوب بن صنوع الذي عرف فيما بعد باسم "أبي نضارة"، وأخذ هذا يترجم لمسرحه كثيرًا من الروايات الأجنبية، وكان إسماعيل يشهد مسرحه، ويغدق عليه الأموال ويسميه "موليير مصر" كما شجع المسرح الذي أنشأه سليم نقاش، وأديب إسحاق بالإسكندرية أولًا ثم بالقاهرة، وقد مثلت عليه كذلك مسرحيات غربية عديدة نقلت إلى العربية، فكان لهذا

أثره في الاتصال بالفكر الغربي، وألوان أدبه.

ص: 11

ومن الذين نشطوا في عالم الترجمة، وزودوا اللغة العربية ببعض الآثار الغربية محمد عثمان جلال، فنقل إلى العربية أمثال "لافوتين"، وسماها "العيون اليواقظ" كما ترجم بعض روايات "موليير" الهزلية:"الأربع روايات من نخب التياترات، ومنها رواية "ترتوف"، وسماها "الشيخ متلوف" ومنها "النساء العالمات"، وترجم كذلك بعض روايات "راسين"، وسماها "الروايات المفيدة في علم التراجيدة"، وترجم بجانب هذه المسرحيات قصة "بول وفرجيني" للكتاب الفرنسي "برناردين دي سان بيير" وسماها "الأماني والمنة في حديث قبول وورد جنة".

وأسهم كثير من السوريين الذين هاجروا إلى مصر في الترجمة، وكان من أشهرهم نجيب الحداد، وبشارة شديد وطانيوس عبده، وبهذا أخذ تيار الثقافة الغربية يشتد ويقوى، ويؤثر في الفكر العربي الحديث على مر الأيام.

وفي عهد إسماعيل كذلك وفد إلى مصر السيد جمال الدين الأفغاني، والتف حوله نخبة ممتازة من المفكرين المصريين، وكان جمال الدين الأفغاني قد طوف في البلاد الإسلامية عله يجد قطرًا يصلح أن يكون نواة يلتف حولها العالم الإسلامي، ويعيد للإسلام قوته ومجده، وقد رأى في مصر التربة الصالحة، وأخذ في أول أمره يدعو إلى الإصلاح الديني، ثم ما لبث أن رأى الأحوال السياسية في مصر تتجه اتجاهًا سيئًا نتيجة إسراف إسماعيل، واستدانته وتراكم الديون على مصر مما يسر للإنجليز والفرنسيين التدخل في شئونها، ولا سيما بعد أن باع أسهم مصر في قناة السويس لإنجلترا، وأنشئ صندوق الدين، ووضعت رقابة ثنائية أجنبية على الوزارة المصرية، وأخذ إسماعيل يرهق الفلاحين بالضرائب العديدة التي بلغت تسعة أنواع، مما جعل الفلاح يفر من أرضه هربًا من الضرائب، ومن السياط التي كان يتلقاها حين يعجز عن أداء ما عليه، وأخذ التجار كذلك يحتفظون بأموالهم دون أن يستغلوها خوفًا من الحكومة، وقد وصف البارودي تلك الحالة السيئية بقوله:

وأهمل الأرض جرا الظلم حارثها

وأمسك المال خوف العدم تاجره

ص: 12

كل هذه الأحوال دعت جمال الدين الأفغاني أن يشتغل بالسياسة، ويحاول أن يحد مخن ذلك الحكم المطلق الذي كان يمارسه إسماعيل، ويرهق به البلاد إرهاقًا شديدًا، ويدفعها إلى أحضان الاستعمار والنفوذ الأجنبي، ووجه مريديه وتلاميذه إلى المطالبة بالنظام الشوري في الحكم، وإلى الإصلاحات الاجتماعية الكثيرة، وإلى محاربة النفوذ الأجنبي، وكانت الصحافة ألسنة، ومنابر تجأر بآرائهم، فظهرت أقلام قوية فتية في تلك الحقبة في يد محمد عبده، وإبراهيم المويلحي وعبد الله نديم وأديب إسحاق، ويعقوب بن صنوع وغيرهم، واتجه النثر الحديث بذلك وجهات جديدة في الموضوع والصيانة، كما سنرى فيما بعد إن شاء الله.

انتهت أزمة إسماعيل والحملات الشيدية التي وجهت إليه، وشعور المصريين بحقهم في المشاركة في الحكم بتنازله عن العرش لابنه توفيق، وكان الشعب يؤمل فيه خيرًا؛ لأنه كان يحضر مجالس جمال الدين ويعده بالإصلاح إذا ولى العرش، ولكنه سرعان ما تنكر لوعوده، وأخرج جمال الدين من مصر، ووقع توفيق تحت تأثير الأجانب.

ثم حدثت الثورة العرابية، وقد ابتدأت بتذمر الضباط المصريين من سوء المعاملة التي يلاقونها في الجيش على يد الجراكسة، والأتراك الذين يستأثرون بالمناصب العليا، ويعاملونهم معاملة غير كريمة، ولكنها ما لبثت أن تطورت إلى مطالبة بالإصلاح الاجتماعي والسياسي، فنادوا بحق المصريين في الدستور والمجالس الشورية، والعيش الحر الكريم، عرف المصريون عن طريق اتصالهم بالحضارة الغربية منذ عصر محمد علي بعض هذه النظم الدستورية، ورأينا رفاعة الطهطاوي في كتابه "تخليص الإبريز" يعد موازنات بين الحكم المطلق الذي يراه في مصر، ويعانيه المصريون من كبت وحرمان، وبين ما يتمتع به الفرنسيون من مجالس نيابية تحاسب الوزراء على اعمالهم وتشرع، وتشرف على الجهاز الحكومي كله، وما يراه الشعب الفرنسي من حرية في القول والعمل، ونراه في أخريات حياته يحدثنا عن الوطن والوطنية، والمواطن الصالح والحرية، وغير ذلك من الكلمات الجديدة على مسامع المصريين بعد تلك القرون الطويلة من الحكم التركي، وعسف محمد علي،

ص: 13

كتب هذه الأبحاث في "المرشد الأمين"، ولما جاء جمال الدين أخذ يلح على هذه الكلمات، وصارت تدوي في آذان المصريين، فلا نعجب إذا حين نرى الحركة العرابية تنقلب إلى ثورة شعبية ترمي إلى الإصلاح الشامل، والتمرد على الظلم والطغيان، وهنا يجد لون جديد من النثر طال احتجابه منذ قرون عديدة، ألا وهو الخطابة التي تضاءل أمرها منذ العصر العباسي، وانحصرت في خطب الجمعة، وصارت تقليدا لخطب ابن نباتة الذي كان معاصرًا لسيف الدولة، ثم صارت ألفاظًا محفوظة لا روح فيها ولا حياة، فلما قامت الثورة العرابية اعتمدت في بث مبادئها، والدفاع عن قضيتها على الخطابة، وكان عرابي نفسه خطيبًا مفوها ذا تاثير قوي على الشعب حين يتكلم، كما كان عبد الله نديم خطيب الثورة المفوه الذي كان ينتقل من مكان إلى آخر مع زعماء الثورة، ويخطب بتدفق وغزارة، وحماسة أينما حلوا، يروج لهم ويشرح للشعب قضيته العادلة، وبذلك فتح الطريق أمام عهد خطابي زاهر بلغ أشده على يد مصطفى كامل في أخريات القرن التاسع عشر، وأوائل القرن العشرين، وشاركه في هذه النهضة كثير من رجال الحزب الوطني، وحزب الأمة وحزب الإصلاح الذي أسسه الشيخ علي يوسف، وشاهدت الجمعية العمومية خطباء مصاقع من أمثال سعد زغلول، وإسماعيل أباظة وعلي يوسف ومن على شاكلتهم.

انتهت الثورة العرابية بالاحتلال البريطاني، وكان كارثة عوقت ركب النهضة في شتى مناحي الحياة، وفرض الإنجليز في سنة 1889 لغتهم على المدارس المصرية تلقى بها كل الدروس ما عدا اللغة العربية، وقابل المصريون الاحتلال بوجوم شديد، ولكنهم ما لبثوا حتى أفاقوا من هول الصدمة، وعاد بعض المنفيين من زعماء الأمة، فيرجع محمد عبده وعبد الله نديم الذي يستأنف جهاده بإصدار صحيفة "الأستاذ" يندد فيها بالاحتلال البريطاني، ويستثير حمية المصريين للتخلص من وطأة الأجنبي، ويمهد الطريق لمصطفى كامل الذي يصدر صحيفة "اللواء"، ويوقدها نارًا مشهوبة الضرام في الداخل، والخارج على هذا الاحتلال البغيض، ومن قبله يصدر الشيخ علي يوسف "المؤيد" وتساندها الأقلام القوية، وينتشر

ص: 14

صيتها حتى يعم توزيعها في معظم البلاد الإسلامية، ويصدر حزب الأمة "الجريدة"، ويحررها لطفي السيد ويجند لها الأقلام المستنيرة.

وكان حزب الأمة متأثرًا بطريقة الشيخ محمد عبده في الإصلاح، حيث كان يبغي تهيئة الأمة عقليًا، ونفسيًا، واجتماعيًا للاستقلال، حتى إذا نالته استطاعت المحافظة عليه، ولم يكن تأثرا ثورة مصطفى كامل في مناوأته للإنجليز.

وكان من مساوئ الاحتلال إلغاء البعثات إلى الخارج، وسيطرة المستشار الإسكتلندي القسيس المتعصب "دانلوب" على شئون التعليم في مصر حقبة من الزمن، حاول فيها أن يقصر مهمته على تخريج موظفين محدودي الثقافة للعمل في الحكومة، تنقصهم سعة الأفق، وحرية التصرف، والقدرة على الابتكارن كما أنهم اهتموا بالتعليم الأولي دون التعليم العالي، وحاربوا اللغة العربية حربًا لا هوادة فيها، ودعوا مع لفيف من الأقلام المأجورة للغة العامية، وفطن المصريون إلى كل هذا، فأسس الحزب الوطني مدارس الشعب لتناهض مدارس الحكومة التي تسيطر عليها اللغة الإنجليزية، ودعا في سنة 1905 إلى تأسيس جامعة مصرية، ووجدت دعوته صدى في النفوس، وتم إنشاء الجامعة في سنة 1908، فكانت فتحًا جديدًا في عالم الثقافة والفكر واللغة، واستقدم لها عدد كبير من مشهوري المستشرقين من أمثال نالينو وجويدي الكبير وجويدي الصغير وغيرهم.

وكان من الطبيعي في عصر الاحتلال أن ينشأ جيل من المصريين يحذق الإنجليزية ويتأثر بالأدب الإنجليزي، وقد عرفنا أن اللغة الإنجليزية قد فرضت على مدارسنا، ودامت سيطرتها عشرين سنة حتى قررت الجمعية العمومية في سنة 1907 عودة اللغة العربية إلى المدارس، فتم ذلك على يد سعد زغلول سنة 1908، أخذ هذا الجيل الذي حذق الإنجليزية، ويقرأ فيها المذاهب الأدبية الأوروبية، وروافع الآداب العالمية يثور على أدبنا التقليدي، وينادي بنظريات جديدة في الأدب شعره ونثره، ولم تكن الثقافة الفرنسية على الرغم من قوة الاحتلال قد قل شأنها بمصر، بل كانت لها قوتها ممثلة في مدارسها وبعثاتها التبشيرية، ومحبي الثقافة الفرنسية

ص: 15

من المصريين الذين تعلموا في فرنسا، واشتدت تبعًا لكل هذا حركة النقل والترجمة من الآداب الغربية، كما اشتدت الثورة على الأدب التقليدي.

ثم جاءت الحماية وما صحبها من الأحكام العرفية بعد إعلان الحرب العالمية الأولى، فكممت الأفواه، وعطلت الأقلام، وتضاءلت الصحافة، وخفتت الأصوات، وتحمل المصريون كل ذلك بصبر بالغ، ما أرهقتهم به السلطة البريطانية إبان الحرب العالمية الأولى من مصادرة الأموال والماشية، والرجال لخدمة الحرب، حتى إذا وضعت الحرب أوزارها ظن المصريون أن الوطأة ستخفف، والحماية ستزول، ولكن مماطلة الإنجليز ونقضهم لعهودهم عرفتهم أن ذلك لن يتم إلا بثورة عاتية، فقامت ثورة 1919، وضحى المصريون فيها بالدم الغالي يبلل ثرى الوطن، وعرف زعماؤهم النفي والتشريد، وغصت السجون بالشباب الحر، وكانت هذه الثورة انفجارًا عنيفًا للكبت الشديد الذي عاناه المصريون، وبخاصة مدة الحرب، وانتهت هذه الثورة بتصريح 28 فبراير 1922، وبه نالت مصر بعض حريتها واستقلالها.

واعتمدت الثورة في انتشارها والدفاع عن مبادئها، وفضح أعمال المستعمر الغاصب، وقوته وطغيانه على الخطابة؛ لأنها توجه مباشرة إلى جماهير الشعب، كان الزعماء يخطبون وفي مقدمتهم سعد زغلول، وكان الشباب يخطبون في المدارس والأندية والمساجد، والكنائس، وكانت هذه الخطب مفعمة بالشعور الوطني الصادق، ترتفع أحيانًا إلى مستوى عال في عبارتها ومعانيها، وتهبط أحيانًا إلى مستوى الجماهير في لغتها، ولكنها على كل حال تقدمت بفن الخطابة تقدمًا عظيمًا ربما لم يشهد مثله الأدب العربي الحديث.

واعتمدت الثورة كذلك على المنشورات السياسية الحماية التي تكشف عن فظاعة الاستعمار، وعلى البيانات الرائعة التي كان يصدرها زعماء الأمة، تنشر أحيانًا في الصحف، فإذا صودرت الصحف، أو منعت من نشرها وزعت سرا.

ولما قبلت مصر تصريح 28 فبراير سنة 1922، وجاءت الحياة النيابية، وانقسمت الدولة أحزابًا، كل حزب له أنصاره وصحفه، ونوابه، ساعدت الحياة

ص: 16

النيابية على رواج الخطابة السياسية والاجتماعية، كما أن الصحافة الحزبية قد عملت على حشد الأقلام القوية لمناصرتها، وخلط الأدباء بين العمل السياسي والعمل الأدبي، وأنشئت المجلات الأدبية بجانب الصحف السياسية تعرض تراثنا القديم عرضًا جديدًا، وتزود الفكر العربي بكثير من ثمار الثقافة الغربية شعرًا أو نثرًا في صورة مقالات، أو أقاصيص أو سير وتراجم، أو أبحاث أدبية أو نظريات نقدية، على اختلاف الموضوعات التي تعالجها من اجتماعية وأدبية وفنية، واشتهرت السياسة الأسبوعية، والبلاغ الأسبوغي والجديد للمرصفي، ثم الرسالة والثقافة، ولم تعد مجلة الهلال التي صدرت قبل الحرب العالمية الأولى وحدها في الميدان.

وكان لهذه الصحافة الأدبية القوية أثرها المشكور في الترويج للأدب، والكشف عن كثير من المواهب الأدبية فيما بين الحربين العالميتين.

كما قويت حركة الترجمة من الآداب الغربية، واهتمت الصحافة اليومية بنشر الأقاصيص مسلسلة، أو غير مسلسلة، ولم تخل مجلة من قطع مترجمة، وعمد كبار الأدباء إلى ترجمة روائع الأدب الغربي مثل: باقة من حديقة أبيقور، والزئبقة الحمراء، وتاييس لأناقول فرانس، وهدية العشاق لطاغور وزاديج لفولتير، وفاوست وآلام فرتر لجيته، وروفائل للأمرتين، واشتهرت ترجمات المنفلوطي لبول وفرجيني "باسم الفضيلة"، وماجدولين والشاعر، ويترجم السباعي لتشارلز دكنز عشرات الأقصوصات عن الأدب الفرنسي والروسي والإنجليزي، وعمرت الترجمات المكتبة العربية من كل لون وكل موضوع، وبشتى الأساليب، فمنها السامية التي تتحرى الدقة ونصاعة الأسلوب، ومنها المسفة موضوعًا وعبارة، ومنها ما بين بين.

وفي أوائل عهد الاستقلال والتحرر من سيطرة المستشار الإنجليزي أنشئت الجامعة المصرية الحديثة في سنة 1926، وضمت إليها كثير من المعاهد العليا، واهتمت كلية الآداب بدراسة اللغات الحية والقديمة، وباللغة العربية واستقدمت المستشرقين في شتى فروع اللغة والأدب، فأفدنا منهم طرق البحث والمناهج

ص: 17

الصحيحة، وكان النتاج العلمي لهيئة التدريس في الجامعة شرطًا للترقية، فنهض البحث والتأليف على الطرق العلمية الصحيحة.

واشتد الإقبال على التعليم الجامعي على مدى الأيام، ولم تعد جامعة القاهرة وحدها كافية، فأنشئت جامعة الإسكندرية ثم جامعة عين شمس وأخيرًا جامعة أسيوط، ثم الجامعات الإقليمية.

وفي عهد الاستقلال كذلك زاد عدد البعثات كل عام في شتى الفنون والمعارف إلى مختلفة بلاد الغرب، ورجع هؤلاء إلى مصر مزودين بثمرات الثقافة الغربية، وساعدوا على نشرها في مؤلفاتهم، ومقالاتهم، ومحاضراتهم.

ومن كل ما تقدم نرى أن التيار الفكري الغربي أخذ ينمو، ويشتد منذ الاحتلال البريطاني، ولقد كان لهذا التيار ولا ريب أثره القوي في اللغة والأدب كما سنرى فيما بعد إن شاء الله.

ولكن بجانب هذا التيار الغربي كان التيار العربي القديم يقوى كذلك ويشتد، وكانت ترفده ينابيع كثيرة منها إحياء الكتب القيدمة وتحقيقها ونشرها، وقد عرفنا ما قامت به في عهد إسماعيل جمعية المعارف وجمعية رفاعة الطهطاوي، وفي سنة 1898 ألفت جمعية جديدة لنشر الكتب كان من أعضائها حسن عاصم، وأحمد تيمور وعلي بهجت، فنشرت كتاب الموجز في فقه الإمام الشافعي، وفتوح البلدان للبلاذري، والإحاطة في أخبار غرناطة، وغيرها.

وفي سنة 1900 تكونت هيئة أخرى برئاسة الشيخ محمد عبده لإحياء الكتب القديمة النافعة، وكان مما نشرته كتابا عبد القاهر الجرجاني: أسرار البلاغة، ودلائل الإعجاز، ونشرت كتاب المخصص لابن سيده في سبعة عشر مجلدًا، وابتدأت في طبع كتاب المدونة في فقه الإمام مالك.

ومن ذلك الوقت دأبت دور النشر المختلفة على إحياء الكتب القديمة، واهتمت بها دار الكتب أيما اهتمام، ومن الكتب التي طبعت في خلال الحرب

ص: 18

العالمية الأولى: صبح الأعشى، والخصائص لابن جني، وديوان ابن الدمينة، والمكافأة لابن البداية، والاعتصام للشاطبي، ومن دور النشر التي كان لها أثر واضح في حركة الإحياء: لجنة التأليف والترجمة والنشر التي أسست سنة 1914، ولا تزال تؤدي رسالتها حتى اليوم، وقد أخرجت حتى نهاية الحرب العالمية الثانية ما يربو على ثلاثمائة كتاب بين منشور ومؤلف ومترجم.

ومن الكتب التي أخرجتها دار الكتب: نهاية الأرب للنويري، ومالك الأبصار لابن فضل الله العمري، والأغاني للأصفهاني، والنجوم الزاهرة لابن تغر بردي ويدوان مهيار، وغير ذلك من نوادر المخطوطات النفيسة، وقد بلغ عدد الهيئات التي تعني بنشر الكتب في سنة 1948 أربعًا وعشرين هيئة، ودار نشر.

وانتشرت كذلك المطابع في شتى أنحاء القطر تيسر السبيل للمؤلفين والقراء، وقد بلغ عددها في أعقاب الحرب العالمية الثانية ألف مطبعة، ومما ساعد على قوة التيار العربي الجمعيات الأدبية والدينية، وقد ابتدأت الحركة الدينية في الظهور منذ عهد جمال الدين الأفغاني، وسار على نهجه محمد عبده، وتتلمذ عليه نخبة من رجال الإصلاح، كان من أكثرهم حماسة الشيخ رشيد الذي أنشأ مجلة "المنار" يعالج فيها المشكلات الدينية، ويعرض قضايا الدين عرضًا جديدًا خاليًا من شوائب الخرافات والخزعبلات، ويرجع به إلى بساطته الأولى، وقد اهتم رجال الأحزاب في مستهل القرن العشرين بالدين، وتثبيته في النفوس، وكانوا في أشد الحاجة إليه لمقاومة المستعمر، وغزواته الفكرية التي يريد أن يخدر بها الأمة حتى تولع بثقافته، ومن ثم تستنيم لحيله الاستعمارية، ولكنهم اختلفوا في المنهج والطريقة فبينما نرى لطفي السيد، ورجال حزب الأمة يحاولون التوفيق بين الحضارة الغربية والدين الإسلامي، نرى الحزب الوطني يدعو إلى التمسك بأصول الدين وأخلاقه نقيا قويًا، ورأى مصطفى كامل أن الدين أكبر حصن للوطنية، يعصم النفوس من الزلل والخيانة، وفي هذا يقول: "قد يظن بعض الناس أن الدين ينافي الوطنية، أو أن الدعوة إلى الدين ليست من الوطنية في شيء، ولكني أرى أن الدين والوطنية

ص: 19

توأمان وأن الرجل الذي يتمكن الدين من فؤاده يحب وطنه حبا صادقًا، ويفديه بروحه وما تملك يداه".

ودعا الرجال الحزب الوطني للاحتفال بالعيد الهجري لأول مرة، وأقيم الاحتفال في غرة المحرم سنة 1328-يناير 1910، وكانت صحيفة المؤيد تعد صحيفة العالم الإسلامي، تسعى جاهدة في الدفاع عن قضاياه، وتغذية الشعور الديني، وتنميته في نفوس الشباب.

وكان لثورة 1919 أثر في الالتفات إلى الدين، ويقظة المصريين إلى الدعوة الدينية بين الشباب الذين حاول المستعمرون جذبهم إلى مفاتن الحضارة الأوربية والثقافة الغربية، والبعد عن تعاليم الإسلام، فتألفت عدة جمعيات دينية غايتها رعاية الشباب، والحفاظ على عقيدته، وخلفه مثل الشبان المسلمين، والهداية الإسيلامية التي أسسها الشيخ محمد الخضر حسين، والتعارف الإسلامي، والإخوان المسلمين، كما أسهمت الصحافة الإسلامية في هذه المعركة، تعقد الصلات بين المسلمين، وتدحض مفتريات المتجنين على الدين من المستشرقين وأذنابهم، وتقوى العاطفة الدينية في نفوس الناشئين، وكان محب الدين الخطيب هو الموحي بهذه الجمعيات الدينية، وهو حامل لواء الصحافة الدينية، فأنشأ "الزهراء" ثم "الفتح".

كانت هذه الجمعيات، وهذه الصحافة الدينية رد فعل لموجة من الإلحاد سادت بعض المفكرين نتيجة انخداعهم بأعداء الدين من الغربيين، وقد قوى الشعور الديني على مر الأيام حتى اضطر هؤلاء إلى الرجوع إلى الدين إما مداراة أو إيمانًا، وأخذت المؤلفات الدينية على الطرق العلمية الحديثة تظهر تباعًا مثل: على هامش السيرة لطه حسين، والعبقريات للعقاد ومحمد والصديق وعمر لهيكل، وكثرت كذلك الكتب التي تحاول تبسيط أمور الإسلام، واهتمت الجهات الرسمية بالدين، فأصدر الأزهر مجلته ومجلة "لواء الإسلام"، التي يصدرها قسم الوعظ والإرشاد، كما اهتمت المجلات الأدبية الخالصة بقضايا الدين، وصارت

ص: 20

تصدر في رأس كل عام هجري عددًا ممتازًا يدور كله حول الدين الإسلامي، ونرى هذا واضحًا في الرسالة والثقافة، وصار عندنا بكل هذا أدب ديني سنتعرف على حقيقته فيما بعد إن شاء الله.

ولقد فطن كثير من المفكرين منذ عهد جمال الدين الأفغاني، ومحمد عبده إلى المشكلات الاجتماعية العديدة التي تخلفت في مصر منذ قرون طويلة، وكان من أهمها مشكلة الفقر والغنى، حيث يرون فريقًا من المصريين يحظى بثروة عريضة، وغنى فاحش ينفقون بإسراف وسعة، بينما سواد الأمة في فقر مدقع، فكثر الأطفال المشردون، والميل إلى الجريمة، والتسول على اختلاف فنونه، وقد خاض في هذه المشكلة عشرات الكتاب في الصحف والمجلات والكتب، كما قرنوا بين الفقر، والجهل الذي كان متفشيًا في غالبية الشعب، والذي أوقع الفلاحين فريسة للمرابين الأجانب نتيجة جهلهم بالحساب، حتى انتزعوا أملاكهم، وأذلوهم كما وقعوا فريسة للمخدرات والسموم والأمراض، ولم يكن الأدباء يملكون إبان العهد السائد إلا الصرخات المدوية في آذان من بيدهم المال، ومن بيدهم السلطان علهم يفيقون من غشيتهم فيولوا جمهرة الشعب البئيسة بعضًا من عنايتهم بأنفسهم، وقد كانت الاستجابة بطيئة، وفيها كثير من المباهاة، وظل الأمر كذلك لا يجد علاجا حاسمًا، ودواء ناجعًا حتى أتت ثورة يوليو 1952 فقصمت ظهر الإقطاع، وحاولت تضميد الجراح الدامية التي طال عليها الأمد.

وكان لمشكلة المرأة ونهضتها، وشعورها وتعليمها، وشغلها الوظائف، وخروجها إلى ميدان العمل نصيب غير منقوص من البحث والجدل، فمن مناصر لها كقاسم أمين صاحب الدعوة إلى السفور، ومن منكر عليها سفورها، ومن معتدل يحاول أن يحصنها أولا بالعلم والتهذيب، ويسلح الشباب بالخلق الكريم قبل أن تسفر المرأة وتزاول العمل.

وما لبثت المرأة بعد مدة حتى أخذت مكانتها في المجتمع، وفتحت لها أبواب الجامعة، وغشيت كل الكليات على مر الأيام، وأسهمت في النهضة الأدبية والفكرية.

ص: 21

هذه لمحة خاطفة عن العوامل التي أثرت في نثرنا الحديث، لم أشأ أن أبسطها بسطا، فقد فعلت ذلك في كتاب الأدب الحديث، وإنما أردت أن أمهد للكلام عن نشأة النثر وتطوره، وستأتي إشارات عند معالجة هذا الموضوع لا تفهم إلا إذا كانت قد مهد لها.

وقيل أن أدع هذا التمهيد أذكر كلمة موجزة عن النهضة في بلاد الشام، إذ كان لأدبائها نصيب غير مجحود في تطوير هذا النثر، وبخاصة الذين هاجروا إلى مصر، واشتغلوا بالصحافة أو بالأدب.

ونقصد ببلاد الشام ما كانت عليه قبل أن يمزقها الاستعمال الغربي عقب الحرب العالمية الأولى إلى تلك الأقسام: سورية، ولبنان، وفلسطين والأردن كانت تلك البلاد تحكم حكمًا مباشرًا من قبل الأتراك يرسلون إليها الولاة يتولون إدارة شئونها، وطلت كذلك إلى أن هزمت تركيا في الحرب العالمية الأولى، وكان حكم الأتراك من أسوأ أنواع الحكم، عرفوا كيف يغزون الشعوب بسيوفهم وجيوشهم، ولكنهم أخفقوا في سياستها وحكمها، ولم يعنوا أية عناية بإصلاح شئونها وتثقيفها، بل إن المدارس التي كانت قبل الاحتلال التركي بدمشق أغلقت بعد دخولهم.

وفي بلاد الشام نصارى كثيرون متعددو الوظائف، كما أن فيها نحلا كثيرة إسلامية وغير إسلامية، وقد أدى سوء الحكم التركي إلى التعصب الديني، ومناهضة هذه الطوائف بعضها لبعض، وكثيرا ما قامت المذابح الدامية بينهم، وكان أفظعها مذابح سنة 1860، وقد أدت هذه المذابح إلى تدخل الدول الغربية المسيحية لحماية الطوائف المنتسبة إليها دينيًا، واضطرت تركيا أن تخضع لهذا التدخل، وسلمت الأوقاف الدينية المسيحية لأهلها ينفقون من ربعها على نهضتهم، فأنشأوا المدارس العديدة والكليات، في حين بقي المسلمون متخلفين يعانون من ظلم الأتراك، وإهمالهم لشئونهم ما لا يتصوره العقل، يقسرون على تعلم اللغة التركية في المدارس الحكومية التي لم تتعد المرحلة الابتدائية، فإذا أبوا ذلك دخلوا إحدى المدارس العربية الخاصة على قلتها.

ص: 22

وفي سنة 1866 أنشئت ببيروت الكلية الأمريكية، ثم أخذت تتسع على مر الأيام حتى صارت جامعة بها فروع للطب والتجارة والآثار والآداب، ولها قسم إعدادي، وبها مرصد فلكي، وصارت قبلة كثير من طلاب العرب، وبخاصة بعد أن ازداد نفوذ الإنجليز في الشرق العربي بعد الحرب العالمية الأولى، وفي سنة 1874 نقلت الكلية اليسوعية إلى بيروت واهتمت بتعليم اللغات والآداب، وبها ثلاث شعب رئيسية: الحقوق والهندسة والطب، والتعليم فيها باللغة الفرنسية، وبها مكتبة من أنفس المكتبات العربية، وعنى اليسوعيون بنشر المخطوطات العربية القديمة، وبوضع المعاجم اللغوية.

وانتشرت المدارس الطائفية بلبنان كان أقدمها مدرسة "عينطورا" سنة 1834، ولا تزال مفتوحة حتى اليوم، وقد تعلم فيها كثير من زعماء النهضة اللبنانية، وأنشأ المعلم بطرس البستاني المدرسة الوطنية في سنة 1863، وتتابعت المدارس لكل طائفة مدرستها ونظمها، واهتم المسيحيون بتعليم البنت لما تؤديه الأم المثقفة لبنيها، وللوطن من أياد جليلة.

وإذا كان التعليم قد ارتقى بلبنان، والنهضة أخذت تزدهر فيه منذ الربع الثاني من القرن التاسع عشر، فإن دمشق وحلب ظلتا متخلفتين، ولم تنشأ بهما إلا المدارس التي أسسها بعض الغرباء.

كان طابع النهضة في بلاد الشام من أول الأمر أدبيًا بعكس ما رأيناه بمصر، وذلك لوجود الطوائف الدينية، والإرساليات التبشيرية ممازج بهم في لجج الجدل الديني، ودعا هذا إلى الاهتمام باللغة والأدب، وكان لاتصالهم بالثقافات الأجنبية في قوت مبكر أثره في حذق كثير منهم للغات الأجنبية، والإقبال على القراءة.

وسبق السوريون في بلادهم بإصدار الصحف السياسية، فصدرت مرآة الأحوال بحلب سنة 1855، وإن لم تعمر أكثر من عام واحد، ثم صدرت حديقة الأخبار ببيروت سنة 1858، وظلت تصدر حتى سنة 1909، ومن الصحفيين

ص: 23

الذين كان لهم شأن في نهضة النثر أحمد فارس الشدياق الذي أسس الجوائب بالآستانة سنة 1860، وقد طلعت على الناس بأسلوب جديد في الكتابة العربية كما سنرى فيما بعد، ومنهم أديب إسحاق الذي نشأ في دمشق، ثم تحول إلى بيروت وحرر جريدة التقدم، ثم هاجر إلى مصر في عهد إسماعيل، وسنخصه بالذكر فيما بعد إن شاء الله.

كان حكم الأتراك في بلاد الشام جائرًا في عمومه، وقد بلغ هذا الظلم غايته في عهد السلطان عبد الحميد الذي حكم من 1876-1909، جاء عبد الحميد عقب خلع مراد الذي مات منتحرًا بعد خلعه ببضعة أيام، فتجسمت المخاوف في نفس عبد الحميد، وانتصبت أمام ناظريه عملاقًا بشعًا مشرع البرائن يهدد حياته وسلطانه، وكان من الأسباب التي طوحت بمراد وعرشه معارضته في إنقاذ الدستور، أو القانون الأساسي كما كانوا يسمونه حينذاك، واشترطوا على خلفه عبد الحميد أن يخرج الدستور إلى نور الحياة، فجرت الانتخابات حتى في الولايات العربية التي كانت تحكم حكمًا مباشرًا، وأرسل كل منها مبعوثًا إلى مجلس المبعوثين، أو كما كان يسميه الأتراك "المبعوثان"، ولكنه اجتمع دوره واحدة، وعطل عبد الحميد الدستور ثلاثين عامًا، لم يفكر خلالها في إعادة الحياة إليه، بل حكم البلاد حكمًا مطلقًا رهيبًا، وعد كل من يطالب بالدستور، أو يشير إليه ولو تلميحًا خارجًا على القانون خائنًا للدولة متآمرًا على السلطان خليفة المسلمين، وأمير المؤمنين وظل الله في أرضه، وكان جزاؤه الاعتقال والتعذيب، والنفي والتشريد، ومصادرة أمواله، وتشتيت أسرته وإهدار حقوقه.

ومن الوسائل التي اتخذها حفاظًا على حياته -كما يزعم- فرضه رقابة صارمة على الصحافة والطباعة، حتى الإعلانات كانت تراقب، ولا بد لنشرها من موافقة الرقيب، أما الكتاب الذي سيطبع فكان يسير في إجراءات معقدة، ويتعرض للفحص عنه عدة مرات، ومرات تستغرق شهورًا وسنوات، والفاحسون يخافون الزلل ومختلف التأويلات، ويعيد الاحتمالات خوفًا على حياتهم من حاكم لا

ص: 24

يرحم، فلا عجب إذا رفضوا كل كتاب قيم يعالج موضوعًا هامًا يهدف إلى الإصلاح ورقي الأمة، فأغلقت نوافذ النور والمعرفة، وكمت الأفواه، وتحطمت الأقلام، وتعطلت العقول.

وأرسل عبد الحميد على الأقاليم العربية ولاة جبابرة من قواده العسكريين، فكانوا نماذج شيطانية في الاستبداد، والقهر يعاملون الناس كقطعان من السائمة في غلظة وجسارة، وكان إعدام الأشخاص من غير محاكمة، ولا سؤال من مألوف الأمور، ولم يكن يتم بناء على أمر الوالي، ويعقب الإعدام مصادرة الأموال، وكثيرًا ما كانت تلفق التهم التي تسبب الإعداد بغية مصادرة الأموال.

في مثل هذا الجو الخانق الذي يسوده الخوف، والكبت والتعصب الديني والمؤمرات كان يعيش أهل الشام، وكان النصارى منهم على الرغم من حماية الدول الغربية لهم يشعرون شعورًا حادًا بهذا الجو الموبوء، فلا بدع إذا آثروا الهجرة بحريتهم، ودينهم، وأرواحهم.

وكانت مصر من قديم موئل الأحرار، منذ غارات المغول على الشرق العربي، وقد فسحت لهؤلاء العرب المهاجرين بحريتهم من صدرها، فنزح منهم عدد كبير كان منهم لحسن الحظ عدد من المثقفين الذين أسهموا في نهضتها، وقد عرفنا أن إسماعيل كان يشجعهم على النيل من تركيا رغبة الانفصال عنها، فوجدوا في مصر حرية ورحابة صدر، واشتغل عدد منهم بالصحافة يومية وأسبوعية ونهضوا بها، وكان لهم في النثر أثر غير منكور، وسنتعرض لبعضهم عند حديثنا عن تطور النثر إن شاء الله.

ص: 25

‌البعث

‌مدخل

البعث:

بلغ النثر في أخريات العصر العثماني الغاية في الركة والضعف، فعباراته سقيمة تتهالك عيا وسخفًا، مقيدة بقيود ثقيلة من الحلى، والزخارف المصطنعة المتكلفة، لتخفي ما وراءها من معنى غث مرذول، وفكرة تافهة ضحلة، أخذها الكاتب -عادة- ممن سبقه، بيد أنه ساقها لعجزه عن الأداء الصحيح في ذلك الثوب المهلهل الرث، وكثيرًا ما تعوزه الكلمة الفصيحة، وتغلبه العامية، والكلمات التركية، والدخيلة، فيأتي كلامه أشبه بالرموز والأحاجي.

ومن تذوق طعم الآداب، وكان على حظ يسير من اللغة نسج على أسلوب المقامة في أخريات عصر المماليك، والتزم السجع في كل ما يصطنع من كتابه، بل منهم من كان يتلاعب بالألفاظ، ويأتي بالمقامات المحرقة والمصحفة مما لا يمت للأدب من قريب أو بعيد، وقد أورد "الجبرتي" أمثلة عديدة في كتابه "عجائب الآثار في التراجم والأخبار"، ومن ذلك المقامة التصحيفية للشيخ عبد الله الإدكاوي، وقد أهدى منها نسخة للشيخ عبد الله التلباني، فرد عليه بما نصه: "عبد الله عند الله وجيه، وحبه محتم مخيم بقلوبنا تعلو بنا سماته، سما به عمله عم له التواب الثواب، ولا حرمنا ولاء حرمنا الأبهج الأنهج

إلخ"، هذا العبث الذي لا طائل وراءه، والذي يدل على مبلغ ما وصلت إليه اللغة من الانحطاط.

وممن أثنى عليهم الجبرتي ثناء مستطابا، وعدهم من عمد الأدب في عصره مصطفى أسعد الدمياطي، وفيه يقول:"ما أفضل النبلاء وأنبل الفضلاء، بلبل دوحة الفصاحة وغريدها، من انحازت له بدائعها طريفها وتليدها"، وذكر نص مقامته التي أنشأها في مدح رضوان كتخذا عزبان، وحرى بنا أن نسوق بعض عباراتها في هذا المقام حتى ندرك إلى أي حد وصلت العبارة الأدبية قبيل النهضة، وكيف كان التخلص من هذا الركام الغريب، والقيود المرهقة شاقًا وعسيرًا.

ص: 26

قال مصطفى الدمياطي بعد أن بسمل، وحمدل، وحوقل: "حكى البديع بشير بن سعيد قال: حدثني الربيع بن رشيد قال: هاجت لي دواعي الأشواق العذرية، وعاجت بي لواعج الأتواق الفكرية، إلى ورود حمى مصر المعزية البديعة، ذات المشاهدات الحسنة والمعاهد الرفيعة، لأشرح بمتن حديثها الحسن صدري، أروح بحواشي نيلها الجاري روحي وسري، وأقتبس نور مصباح الطرف من ظرفائها، وأقتطف نور أرواح الظروف من لطفائها، وأستجلي عرائس بدائع معاني العلوم، على منصات الفكر محلاة بالمنثور والمنظوم، وأستمد من حماتها السادة أسرار العناية، وأسترشد بسراتها القادة أنوار الهداية

إلخ".

فأنت ترى في لجملة الأولى والثانية: الجناس غير التام بين هاجت وعاجت، وبي ولى، والأشواق والأنواق، ولماء جاء بكلمة أشرح ذكرته الحواشي، وهكذا نجد كلامًا متكلفًا مصنوعًا، لا يفضي إلى غاية ولا ينبئ عن فكرة سليمة، وإنما هو لإظهار البراعة في اقتناص السجعات، وإيراد المحسنات.

وقد غلب هذا النوع من الكلام على ألسنة مدعي الأدب في مصر والشام والعراق، وهي البلاد التي بقي فيها ذماء يسير من العلم، وذبالة ضئيلة من املعرفة والأدب، وإن كادت "العربية" فيها تلفظ أنفاسها لغلبة التركية عليها، ولتفشي الجهل، واستعجام الحكام، وتراكمت ظلمات الاستعمار فوق هذه البلاد جميعًا، ومن الذين اشتهروا بالأدب في دمشق قبل النهضة محمد خليل الدمشقي، وهناك نبذة من رسالة كتبها إلى صديق له بمصر: "أهدي السلام العاطر الذي هو كنفح الروض باكره السحاب الماطر، والتحايا المتأرجة النفحات الساطعة اللمحات، الشامخة الشميم، الناشئة من خالص صميم، وأبدي الشوق الكامن وأبثه، وأسوق ركب الغرام وأحثه، إلى الحضرة التي هي مهب نسائم العرفان والتحقيق، ومصب مزن الإتقان والتدقيق، ومطلع شمس الإفادة والتحرير، ومنبع مياه البلاغة والتقرير

إلخ".

وهي عبارات غنية عن التعليق، وإذا كان بها رائحة من قوة فهي تقليد واغتصاب لكلام من سبقه من الكتاب، ولكنك ترى فيها مع هذا الافعتال التكلف واضحًا، والمعنى ضحلًا سخيفًا.

ص: 27

وقد نرى بعض الكتاب يجاهدون مجاهدة مريرة في التخلص من السجع، وقيود البديع مثل عبد الرحمن الجبرتي، ولكنه لا يستطيع سواء في نثره المسجوع أو المرسل أن يرتفع بعبارته، وربما كانت عبارته المسجوعة أسلم وأقوم من عبارته المرسلة؛ لأنه يعتمد فيها محفوظه من المقامات وسواها، أما عبارته المرسلة فهي مزيج من العربية، والتركية والعامية في الغالب الأعم، وإن سلمت له بعض عبارات، ولكن سرعان ما يتعثر ويكبو.

من ذلك على سبيل المثال ذكره ما قام به علي بك الكبير من منشآت في هذه الديار حيث يقول: "ومن إنشائه أيضًا العمارة العظيمة التي أنشأها بشاطئ النيل ببولاق حيث دكك الحطب تحت ربع الخرنوب، وهي عبارة عن قيسارية عظيمة ببابين يسلك منها ما يجري إلى قبلي وبالعكس، وخانا عظيمًا يعلوه مساكن من الجهتين، وبخارجه حوانيت وشونة غلال حيث مجرى النيل، ومسجد متوسط، فحفروا أساس جميع هذه العمارة حتى بلغوا الماء، ثم بنوا لها خنازير مثل المنارات من الأحجار، والدبش، والمؤن، وغاصوا بها في ذلك الخندق حتى استقر على الأرض الصحيحة".

وأنت ترى كثرة الكلمات العامية والدخيلة في هذه العبارة على وجارتها، وتراه أحيانًا يجاهد في الإتيان بجمل سليمة التراكيب، فيخونه بيانه كقوله مبينًا نشأة مدرسة الهندسة في عهد محمد علي:

"لما رغب الباشا في إنشاء محل لمعرفة علم الحساب، والهندسة، والمساحة تعين المترجم رئيسًا ومعلمًا لمن يكون متعلمًا بذلك المكتب، وذلك أنه تداخل بتحيلاته لتعليم مماليك الباشا الكتابة، والحساب ونحو ذلك، ورتب له خروجًا وشهريًا، ونجب تحت يده المماليك في معرفة الحسابيات ونحوها، وأعجب الباشا ذلك، فذاكره وحسن له بأن يفرد مكانًا للتعليم، ويضم إلى مماليكه من يريد التعليم من أولاد الناس، فأمر بإنشاء ذلك المكتب، وأحضر له أشياء من آلات الهندسية والمساحة، والهيئة الفلكية من بلاد الإنجليز وغيرهم".

ص: 28

هذا مبلغ ما وصلت إليه اللغة، والكتابة في أخريات العصر العثماني، وأوائل العصر الحديث

تهافت في العبارة وركاكة في الأسلوب، واستعجام في الألفاظ، وعامية فاشية، وضحالة في المعاني، وقيود ثقيلة من السجع والمحسنات البديعية، وإذا وازنا بين حال الكتابة في تلك الآونة، وحالها اليوم بعد مضي ما يقرب من قرن ونصف، ورأينا عندنا نصرًا فنيًا تزدهي به العربية، ويباهي برونقه، وسعته، وعمق معانيه وغزارتها، وطلاوة عبارته ونقاوتها ما كان عليه النثر في عصر العربية الذهبي في القرن الثالث، والرابع من الهجرة، وجدنا أن الشوط الذي قطعته الكتابة منذ أوائل القرن التاسع عشر حتى اليوم لم يكن سهلًا هينًا، والتخلص من العقبات، والأوضار والأدواء لم يكن ميسرًا دائمًا، دع عنك ما أخذت به من أسباب الصحة والقوة والنمو، وهذا ما سنتتبعه في هذه الصفحات.

وجد بعض الأدباء في عصر محمد علي ممن نسجوا على منوال أسلافهم مثل الشيخ العطار، وحسن قويدر، والخشاب، والدرويش ومن على شاكلتهم وهؤلاء -وإن اختلفوا في مواهبهم الأدبية قوة وضعفًا- إلا أنهم ينتمون إلى عصر ما قبل النهضة، ولا تتميز كتاباتهم بكثير من الخصائص عما كان شائعًا في أخريات عصر العثمانيين، ولعل الشيخ حسن العطار من أحسنهم أسلوبًا، وأرقهم ذوقًا وأكثرهم سعة أفق وتجربة.

ص: 29

وقد أفاد من مقامه بباريس فائدة أجدت على الأمة العربية جمعاء، إذ عمل جاهدًا على نقل الثقافة الغربية إلى اللغة العربية منذ بدأ يجيد الفرنسية، وهو بعد طالب بباريس، ويبذل الجهود المضنية لتذليل اللغة العربية لمصطلحات العلم الحديث بعد أن أسن ماؤها قرونًا طويلة منذ عصر العباسيين، وينظر إلى ما حوله في المجتمع الفرنسي نظرة المصلح الناقد الذي لا تخلبه الحياة الغربية بخيرها وشرها، ولكن نظر من يريد نفع وطنه، واقتباس المقيد له والمتلائم مع عاداته ودينه وتقاليده، ومن يريد التعرف على أدواء وطنه، والطريق السوي لعلاجها حتى يمضي قدمًا في درج الحضارة والرقي.

ونراه وهو بباريس يعكف على كتابه مذكراته عن رحلته تلك التي سماها "تخليص الإبريز في تلخيص باريز".

وكان أستاذه العطار قد أشار عليه بتدوين هذه الرحلة، وتسجيل انطباعاته وآرائه في أثناء مقامه ثمة، ويشير رفاعة في مقدمة هذا الكتاب إلى رغبة أستاذه هذه فيقول:"إنه مولع بسماع عجائب الأخبار، والإطلاع على عجائب الآثار، وأن ينبه على ما يقع فيه هذه السفرة، وعلى ما يراه، وما يصادفه من الأمور الغريبة والأشياء العجيبة، وأن يقيده ليكون نافعًا في كشف القناع عن محيا هذه البقاع، التي يقال فيها: إنها عرائس الأقطار، وليبقى دليلًا يهتدى به إلى السفر إليها طلاب الأسفار، وخصوصًا وأنه من أول الزمن إلى الآن لم يظهر باللغة العربية على حسب ظني شيء في تاريخ مدينة باريس، كرسي مملكة الفرنسيس، ولا في تعريف أحوالها ولا أحوال أهلها"، والذي يهمنا نحن في هذا الكتاب عدة أمور: أولها موضوعه؛ لأنه جديد في اللغة العربية حيث تعرض لوصف السفر والبحر، والمواني المختلفة التي مر بها، ونظم الحياة في تلك الديار من مأكل وملبس ونوم ونزهة ودرس، ووصف المجتمع الفرنسي وعاداته الحسن منها والرديء، ووصف الحياة السياسية، وما يتمتع به أهل فرنسا من حرية في القول، والكتابة سواء في مجالسهم الخاصة أو في دار النيابة، وعلاقة الحاكم بالمحكومين، ووصف

ص: 30

مظاهر الحضارة من حفلات ودور تمثيل، ووسائل ركوب -إلى غير ذلك مما يعد وصفه جديدًا بحق، ولم يكن رفاعة مجرد وصاف، ولكنه لشدة حرصه على منفعة بني وطنه تراه يعلق تعليقات تدل على حصافة، وإيمان عميق بمبادئ، ومثل عليا لا يحيد عنها، وينقد ما يراه من تخلف في وطنه بصراحة بغية التنبيه والإفادة.

وثاني هذه الأمور التي تهمنا في هذا الكتاب الذي يعد باكورة في النثر الحديث، العقبات التي قابلها رفاعة في تذليل اللغة العربية لوصف الحضارة الحديثة الغربية، إذ وجد نفسه أمام فيض من الكلمات الأعجمية التي لا يجد ما يقابلها في العربية، فجهد في الوصول إلى كلمات عربية تؤدي معناها، فإن أعجزه ذلك عمد إلى التعريب، ونقل الكلمة الفرنسية إلى العربية بعد تطويعها وصقلها لتلائم اللسان العربي، وكان في ذلك يتأسى بمترجمي القرنين الثالث والرابع للهجرة عند نقلهم علوم اليونان والفرس، وهو لا يتحرج أحيانًا من استعمال الكلمة الدارجة، والكلمة التركية إذا رأى الحاجة ماسة إليها، وقد أسلف لنا

عذره في لمقدمة حيث "أراد سهلًا لا توعر فيه، يسلك طريق الإيجاز،

وارتكاب السهولة في التعبير حتى يمكن لكل الناس الورود على حياضه".

وقد ظلت هذه المشكلة قائمة ردحًا من الزمن، واصطدم بها عدد كبير من رواد الترجمة في خلال القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، ولم يكن ثمة اتفاق على ترجمة الكلمة الواحدة، وإنما يترجمها كل شخص حسب مجهوده وثقافته، إلى أن جاء مجمع اللغة العربية، وحاول أن يوحد هذه المصطلحات ولا سيما في العلوم، وإن كانت الآداب بخاصة والعلوم الإنسانية بعامة قد خطت في ذلك السبيل -قبل المجمع- خطوات واسعة، وصارت اللغة العربية قادرة

على التعبير عن أدق خلجات النفس الإنسانية منذ أوائل القرن العشرين كما سنرى فيما بعد.

ولكن رفاعة كان رائدًا من رواد هذه الطريق، ويعمل وحده في الميدان عملًا شاقًا، ولا ريب أن اللغة قد أفادت من مجهوده فائدة كبيرة، وبحسبنا أنه من أوائل الذين أوصلوها بالتيارالثقافي الغربي، وقبل أن نسوق الأمثلة التي تظهرنا على

ص: 31

الجهد، نذكر أن ثالث الأمور التي تعنينا في هذا الكتاب الأسلوب الذي كتبه به، وكيف حاول رفاعة في كثير من الأحيان أن يحطم قيود الماضي حتى ينهض بأداء المعاني الجديدة، ولا يقف الأسلوب عائقًا في سبيل تلك المعاني، وسنرى أن عبارته تعلو أحيانًا، وتسف أحيانًا تبعًا للموضوع الذي يتناوله، وأنه كان كمن يتحسس طريقه الشائك في ظلمة قائمة، ولقد آثر رفاعة في هذا الكتاب العناية بالمعنى على الاهتمام باللفظ، وتزويق العبارة، وكانت المعاني جديدة زودت اللغة العربية بأفكار لا عهد لها بها، وصارت اليوم من تراثنا.

ولنستمع إلى رفاعة كيف وصف المائدة الفرنسية حين نزل مرسيليا، ورأى أشياء ونظمًا لا عهد له بها، ووصف المائدة اليوم ليس مما يستعصى علينا، ولكن كل شيء كان أمام رفاعة جديدًا، وإذا رأينا في وصفه ما يثير الضحك، فلنرجع القهقري إلى تلك الحقبة لنعرف مدى ما وصلت إليه العربية من القدرة على التعبير، يقول رفاعة:

"ولم نشعر في أول يوم إلا وقد حضر لنا أمور غريبة في غالبها، وذلك أنهم أحضروا لنا عدة خدم فرنساوية، لا نعرف لغاتهم، ونحو مائة كرسي للجلوس عليها؛ لأن أهل هذه البلاد يستغربون جلوس الإنسان على نحو سجادة مفروشة على الأرض، فضلًا عن الجلوس بالأرض، ثم مدوا السفرة للفطور، ثم جاءوا بطبليات عالية، ثم رصوها من الصحون البيضاء الشبيهة بالعجمية، وجعلوا قدام كل صحن قدحًا من القزاز، وسكينًا وشوكة وملعقة، وفي كل طبلية نحو قزازتين من الماء وإناء فيه ملح، وآخر فيه فلفل، ثم رصوا حوالي الطبلية كراسي، لكل واحد كرسي، ثم جاءوا بالطبيح فوضعوا في كل طبلية صحنًا كبيرًا، أو صحنين ليغرف أحد أهل الطبلية ويقيم على الجميع، فيعطي لكل إنسان في صحنه شيئًا يقطعه بالسكين التي قدامه، ثم يوصله إلى فمه بالشوكة لا بيده، فلا يأكل إنسان بيده أصلًا، ولا بشوكة غيره أو سكينه أو يشرب من قدحه أبدًا".

ويمضي رفاعة في وصفه هذا، رأيت بعض الكلمات العامية، وتهافت الأسلوب، ومحاولته الشاقة في التعبير عن أشياء جديدة عليه كل الجدة.

ص: 32

وهو عند وصفه لملاهي باريس يقف حائرًا، حين يرى نفسه أمام أمور لا يعرفها، فمصر والشرق العربي كله لم يكن يعرف حتى تلك الآونة المسرح وردهات الرقص، والأوبرا وما شاكلها مما يغشاه الناس اليوم في أمسياتهم والتي صارت مألوفة لديهم، فيقول رفاعة:"اعلم أن هؤلاء الخلق حيث إنهم بعد أشغالهم المعتاذة المعاشية لا شغل لهم بأمور الطاعات، فإنهم يقضون حياتهم في الأمور الدنيوية واللهو واللعب، ويتفننون في ذلك تفننا، فمن مجالس الملاهي عندهم محال تسمى التياتر بكسر التاء المشددة، وسكون التاء الثانية، والسبكتاكل، وهي يلعب فيها تقليد سائر ما يقع، وفي الحقيقة أن هذه الألعاب هي جد في صورة هزل، فإن الإنسان يأخذ منها عبرًا عجيبة، وذلك؛ لأنه يرى فيها سائر الأعمال الصالحة والسيئة، ومدح الأولى وذم الثانية حتى إن الفرنساوية يقولون: إنها تؤدب أخلاق الإنسان وتهذبها، فهي وإن كانت مشتملة على المضحكات فكم فيها من المبكيات، ومن المكتوب على الستارة التي ترخي بعد فراغ اللعب باللغة اللاتينية وما معناه باللغة العربية، "وقد تصح العوائد باللعب" -ويستمر رفاعة في وصفه، ويشبه الممثلات بالعوالم في مصر ثم يقول: واللاعبون واللاعبات بمدينة باريس أرباب فضل عظيم وفصاحة، وربما كان لهؤلاء الناس كثير من التآليف الأدبية والأشعار، ولو سمعت ما يحفظ اللاعب من الأشعار، وما يبديه من التوريات في اللعب، وما يجاوب من التنكيت والتبكيت لتعجبت غاية العجب، ثم يعرج على وصف الملابس التي يقوم بها الممثلون طبقًا لأدوارهم، والشخصيات التي يمثلونها تاريخية، أو واقعية ووصف المناظر التي تناسب المسرحية، وينتهي من كل هذا إلى تلخيص مهمة المسرح عندهم فيقول: "وبالجملة فالتياتر عندهم كالمدرسة العامة يتعلم فيها العالم والجاهل"، ثم يتناول بعد ذلك وصف دار الأوبرا وما يقوم بها من تمثيل، وموسيقى وغير ذلك من دور اللهو العديدة التي شده لها وأثارت عجبه.

ولم يكن وصف أدوات الحضارة وحده هو الجديد الذي قدمه رفاعة للغة العربية، ولكن ما تعرف له من وصف الحياة السياسية، والقوانين السائدة والدستور

ص: 33

والحياة النيابية جعلته يقف أمام مصطلحات إدراية، وسياسية جديدة لم تعرفها العربية، وعلى معان جديدة طال عهد العرب بها حتى نسيت، فيترجم رفاعة القانون الفرنسي الأساسي، وينقل المادة الأولى منه على هذه الصورة:"كل واحد منهم مستأهل لأخذ أي منصب كان وأي رتبة كانت"، ويعلق عليها بقوله:"قوله في المادة الأولى سائر الفرنسيس مستوون قدام الشريعة معناه: سائر من يوجد في بلاد فرنسا من رفيع ووضيع لا يختلفون في إجراء الأحكام المذكورة في القانون، حتى إن الدعوة الشرعية تقام على الملك، وينفذ عليه الحكم كغيره، فانظر على هذه المادة الأولى، فإنها لها تسلط عظيم على إقامة العدل وإسعاف المظلوم، وإرضاء خاطر الفقير بأنه العظيم نظرًا لإجراء الأحكام، ولقد كادت هذه القضية أن تكون من جوامع الكلم عند الفرنساوية، وهي من الأدلة الواضحية على وصول العدل عندهم إلى درجة عالية، وتقدمهم في الآداب الحاضرة، وما يسمونه الحرية ويرغبون فيه هو عين ما يطلق عليه عندنا العدل والإنصاف، وذلك؛ لأن معنى الحرية هو إقامة التساوي في الأحكام، والقوانين بحيث لا يجوز الحاكم على إنسان، بل القوانين هي المحكمة، والمعتبرة".

إن رفاعة الطهطاوي يقدم لمواطنيه بمثل هذه التعليقات على القانون الفرنسي معاني جديدة للحياة الحرة، وكيف تكون العدالة، والمساواة، والحرية، وهي معان نسيها الناس طويلًا في عهود الظلمات، والعسف التركي والمملوكي، لقد كانت موجودة ولا شك في أوائل عهد الدولة الإسلامية وعصرها الذهبي، ولكنها طمرت وتناساها الناس من كثرة ما لاقوا من عنت، وإرهاق على يد المستعمرين، وكأني برفاعة وهو يسطر مثل هذه التعليقات ينظر إلى وطنه بعين الأسى حيث كان يلاقي الجور، والإجحاف على يد حكامه الجدد من أسرة محمد علي، وهذه الآراء الجريئة التي أيداها رفاعة الطهطاوي تدل على نزعته الفطرية إلى الحرية، وعلى حبه المكين لوطنه، ورؤيته ناعمًا متمتعًا بالعدالة، ولم يكن يتورع عن نقد الملك في شيء قام به، وفي هذا غمز لحاكم مصر المستبد، وتبيان للطريق السوي الذي يجب أن

ص: 34

يسلكه الحاكم مع رعاياه إن آثر السلامة، والإنصاف كقوله معلقًا على موقف الملك شارل العاشر لما قامت الثورة في باريس: "فلما اشتد الأمر وعلم الملك بذلك وهو خارج، أمر يجعل المدينة محاصرة حكمًا، وجعل قائد العسكر

أميرا من أعداء الفرنساوية، مشهورًا عندهم بالخيانة لمذهب الحرية، مع أن هذا خلاف الكياسة، والسياسة والرياسة، فقد دلهم هذا على أن الملك ليس جليل الرأي، فإنه لو كان كذلك لأظهر أمارات العفو والسماح، فإن عفو الملك أبقى لملك، ولما ولى على عساكره إلا جماعة أحبابًا له وللرعية، غير مبغوضين ولا أعداء، مع أن استصلاح العدو أحزم من استهلاكه، ويحسن قول بعضهم.

عليك بالحلم وبالحياء

والرفق بالمذنب والإغضاء

إن لم تقل عثرة من يقال

يوشك أن يصيبك الجهال

وبمثل هذه الروح الشفافة الخيرة، والعقلية المتفتحة الناضجة راح رفاعة يصف مظاهر الحضارة، والثقاقة في فرنسا ويحلل ويوازن ويعلل، فيتكلم عن أسباب تقدم فرنسا وتخلف مصر، وعن العلوم والفنون والفرق بينهما، وعن العلوم التي يحذقها الغرب ولا نظير لها عندنا، ويتكلم عن اللغة الفرنسية والفرق بينها، وبين العربية من سهولة الأولى وصعوبة الثانية كما كانت تدرس في عهده، بل

نراه ينتقد في صرامة تدريس العلوم بمصر على عهده فيقول عن سهولة اللغة

الفرنسية، وتيسيرها الإفادة من العلوم: "فإذا شرع الإنسان في مطالعة كتاب في

أي علم كان تفرغ لفهم مسائل هذا العلم، وقواعده من غير محاكة الألفاظ، فيصرف سائر همته في البحث عن موضوع العلم وعن مجرد المنطوق والمفهوم،

وعن سائر ما يمكن إنتاجه منها، وأما غير ذلك فهو ضياع، مثلا إذا أراد

الإنسان أن يطالع علم الحساب، فإنه يفهم منه ما يخص الأعداد من غير أن

ينظر إلى إعراب العبارات، وإجراء ما اشتملت عليه من الاستعارات، والاعتراض

بأن العبارة كانت قابلة التجنيس وقد خلت عنه، وأن المصنف قدم كذا ولو أخره كان أولى وأنه عبر بالفاء

ص: 35

في محل الواو والعكس أحسن ونحو ذلك

"، وهذا في الحق كان طريقه عجيبة في تعليم الحساب لا تمت إليه بصلة، بل تعوق المتعلم وتصرف جهده إلى التمحك في العبارات وعلك الألفاظ، وضياع الجهد والوقت، وتفوت عليه فرصة تعلم الحساب، والعربية بريئة من كل هذا، ولكنها الطريقة العقيمة في التعليم التي سادت في عهود التخلف والظلمات".

وإذا نظرنا إلى هذه الباكورة في النثر الحديث وجدنا رفاعة فيما عدا المقدمة قد ترسل فيها، ولم يتقيد بالمنهج الكتابي الذي كان سائدًا في عصره، ولعل طبيعة الموضوع هي التي فرضت عليه هذا النهج، وسنرى أن الاهتمام بالمعاني ومعالجة الموضوعات الحديثة فيما بعد قد اضطر كثيرًا من الكتاب إلى البعد عن السجع والمحسنات، أما المقدمة فقد احتفى بها الكاتب وسجع فيها، وقد ظلت المقدمات والتقريظات، والرسائل الخاصة ردحًا طويلًا من الزمن حتى بعد عهد رفاعة تصطنع الأسلوب المسجوع، وسنعود إلى ذلك فيما بعد إن شاء الله.

والذي يعنينا هنا أن الكتابة النثرية كان لها منذ ذلك الوقت أسلوبان: أسلوب الترسل، وأسلوب السجع وظل الكتاب يراوحون بينهما أمدا غير يسير، حتى أخريات القرن التاسع عشر حين تغلب الترسل على السجع.

مضى عصر محمد علي، ولم يظهر من رجال هذه الطليعة التي تثقفت ثقافة غربية من نبغ في الكتابة إلا رفاعة الطهطاوي، ولكنه طول عصر محمد علي -بعد عودته إلى مصر- شغل بالترجمة، وبإدارة كثير من المدارس والمؤسسات، ولم يعن بالتأليف إلا في عصر إسماعيل.

أجل! لقد وضع رفاعة بترجماته بعض البذور الطيبة في الأرض الطيبة لتنتج النثر الحديث، وأثرى اللغة العربية بالموضوعات الجديدة والقوالب الحديثة، من ذلك ترجمته لقصة "تليماك" للأب فنلون الفرنسي، وهي أول قصة فيما نعلم ترجمت إلى العربية في العصر الحديث، وفضلًا عن ذلك فهو يمثل أول محاولة لنقل الأدب الأسطوري اليوناني إلى الفكر العربي، وقد وصف رفاعة هذه الترجمة

ص: 36

أو هذا التعريب كما سماها بأنه أداها بأسهل تقريب وأجزل تعبير، متحاشيًا ما يورث المعنى أدنى تغيير، أو يؤثر في فهم المقصود أقل تأثير، مع محافظة على الأصل، والحرص على سلامة العربية، وقواعدها وأصولها ووصف الكتاب المترجم نفسه بأنه "مشتمل على الحكايات النفائس، وفي ممالك أوروبا وغيرها عليه مدار التعليم في المدارس، ومؤلفه "فنلون" ملك أداب، وذو ملكة سيالة تفيض بالعجيب، والإعجاب".

كانت هذه القصة من الكتب التي ترجمها رفاعة وهو في السودان، وعلى الرغم من إدراكه ما في هذه المحاولة من صعوبة إلا أنه كان واثقًا من اقتدار العربية، ووفائها بأمثال هذه التراجم وذلك كما يقول: إنه معلوم عند أهل الصناعة أن يجر اللغة العربية يقطع على محيط بحار اللغات الأخرى التيار، وأنه لدررها ولآليها غواص، ولسماء غيثها مدرار، ولآدابها ومعارفها ميزان ومعيار، وكل شيء عنده بمقدار، فلا غرو إذا فتح اللسان العربي بمقاليده عن مفردات الألسن، ومجتمعها ومستقرها، ومستودعها"، وهذه نظرية جديرة بالاعتبار، فاللغة العربية قد وسعت ثقافة اليونان والفرس، وغيرهم في القديم، وإذا كان العرب قد أغفلوها لما كانوا فيه من هوان، وإذا كانت اللغة ذاتها قد عميت عليهم لما كانوا فيها من جهل وفقر عقلي، وإذا كان ركام القرون قد طمر كثيرًا من مفرداتها، فإن هذه المحاولة وأمثالها تكشف عن ذخائرها، وتبرهن على قدراتها ووفائها بالتعبير عن هذه المعاني، إذا كان المترجم متمكنا في اللغتين، قديرًا على الكشف عن أسرارها.

ولا نريد أن نترك هذه القصة المترجمة دون أن نقف قليلًا لدى الأسلوب الذي ترجمت به ذلك الأسلوب الذي نعته رفاعة بأنه أجزل تعبير، فقد التزم رفاعة في هذه الترجمة العبارة المسجوعة، وقوة الأداء، واختيار الألفاظ قدر طاقته وجهده، وقد ذكر رفاعة أنه عربه وهو "مبلبل الخاطر، وسحائب الهموم على مواطر، بالبعد عن الأهل والدار، والتعرض لحوادب الدهر والأخطار، ثم طرحته في زوايا الإهمال، ولم يسنح لي إشهاره ببال "كان قد ترجمه ما بين 1850

ص: 37

و1853 ولم ينشر إلا سنة 1867"، حتى علم به بعض الطلاب، من الأحباب ذوي الألباب، ودعا بدعاء مجاب، فاقتصرت على أن أرسلت إليه بنسخة مقابلة على أصلها إذا كانت أحق بها، وقد كان خطر لي أن أفرغه في قالب يوافق مزاج العربية، وأصوغه صياغة أخرى أدبية، وأضم إليها المناسبات الشعرية، وأضمنه الأمثال والحكم النثرية والنظمية، يعني أنسجه على منوال جديد، وأسلوب به ينقص عن أصله ويزيد، حتى لا يكون إلا مجرد أنموذج لأصله الأصيل، يقبل عليه من الأهالي كل قبيل، إلا أني رأيت أن الأوفق الآن بالنسبة للوقت، والزمان حفظ الأصل وطرح الشك، وإبقاء ما كان على ما كان، وإنما لم أجد بدا من مسايرة اللغة العربية وقواعدها، وعقائدها المرعية، مع المحافظة على الأصل المترجم منه حسب الإمكان".

لقد كان رفاعة يريد أن يتصرف في الترجمة، ويصوغه صياغة جديدة غير متقيدة بالعبارة الفرنسية، بل قد يزيد عنها أو ينقص لتأتي عبارته في أسلوب أدبي جميل، وإن دل هذا على شيء فهو يدل على أن رفاعة أحس بأن أسلوبه يتطور، وأنه كان عند طبعه أقدر منه على الصياغة الأدبية عند ترجمته، وفي الحق إن أسلوب رفاعة قد تطور مع الأيام، وكما أوغلنا في القرن التاسع عشر نجده يزداد نصاعة، وقوة وتخلصًا من أوضار الماضي وقيوده.

ولم تكن المقدمة وحدها مسجوعة، ولكن الكتاب كله أتى مسجوعًا، وإليكم مثلًا من هذا الكتاب حتى يعيننا في التعرف على تطور الأسلوب الأدبي لدى رفاعة وغيره، يقول تليماك حين نزل مصر:"ثم وصلنا إلى جزيرة المنار القريبة من مدينة "بو" "اسم الإسكندرية" فنزلنا النيل، وسرنا حتى وصلنا إلى مدينة منف، نعم، إن أسرنا أوجب عندنا الغم والحزن، وأبعد عنا السرور والفرح بأي شيء قبيح أو حسن، لكن قد تفرجنا وسرحنا الأبصار، بمشاهدة أرض الخصبة الشبيهة بجنة تجري من تحتها الأنهار، فمن الشطين في أي جانب كان، مدن عظيمة غنية شديدة العمران، وقصور الخلا جيدة الموقع، ومزارع مذهبة الحصيد كل

ص: 38

سنة تزرع، ومراع مملوءة من الماشية، وأهل الفلاحة عندهم المحصول بكثرة، وثروتهم ذات صيت وشهرة، والرعاة يغنون على صوت المزامير، والصدى حولهم مجيبهم مكررا بالتعابير، فقال منظور "مربى تليماك ورفيقه في رحلته" حين رأى ذلك:

- ما أسعد الأمة التي يحكمها ملك عاقل، وسلطان عادل، تعيش في الرخاء، والكرم والسخاء، وتكون سعيدة مرتاحة، تحب دوام ملكه إذ هو السبب في الراحة

إلخ.

ومن أوائل الكتب التي ترجمها كتاب "قلائد المفاخر في غريب، وعائد الأوائل والأواخر"، ترجمة وهو بباريس وطبع لأول مرة سنة 1833، وقد سلك فيه رفاعة غالبًا مسلك الترسل، وكانت الألفاظ الصحيحة لا تسعفه أحيانًا كقوله:"ولا يوجد أحد ذو ذوق سليم وطبع مستقيم إلا ويطرب بسماع الآلات حتى الخلق الهمل المتوحشون، فإن لهم آلات خاصة ذات دوي ملخبط وغوغة عظيمة بحيث يضر آذان السامع فهي كالدربكة مثلًا".

ولكنه اشتمل على كثير من المباحث القيمة كالشعر والموسيقى، والغناء لدى الأمم المختلفة في الشرق والغرب، ومختلف العادات كالزواج والحفلات وإكرام الضيف والملبس والسكنى والمئونة وغير ذلك، وبهذا كان صلة بين العربية وبين العالم الخارجي.

ومن المترجمات ذات الأثر في النثر الحديث كتاب سماه رفاعة "بداية القدماء وهداية الحكماء"، وهو من الكتب التي أخرجها بعد عودته من باريس تعرض فيه لتاريخ اليونان، والميثولوجيا والآداب اليونانية، وتضمن كذلك أخبار الأنبياء وتاريخ قدماء المصريين والسوريين، والسريانيين والبابليين والعجم والهنود، وأفاض في تاريخ اليونان وخرافاتها، وحروبها وفتوحها وآدابها وعلومها وفلسفتها، وقد استعان في تأليف هذا الكتاب بكتب التاريخ الفرنسية المعتمدة، وقد ختمه رفاعة بنبذة عن الميثولوجيا لدى المصريين القدماء، ونجح رفاعة فيما أخفق فيه مترجمو العصر

ص: 39

العباسي حيث لم يفهموا كتابي الشعر والخطابة لأرسطو، ولم يستطيعوا نقل ما كتبه من المأساة بأسلوب عربي مفهوم، ولم يحاولوا أن يشرحوا الميثولوجيا اليونانية، "أي عقائدهم التي بنيت عليها آدابهم"، فجاءت تلك الترجمات غامضة، وكان لذلك أثره في الفلسفة الإسلامية من جهة، وفي إعراض العرب والمسلمين عن الأدب اليوناني من جهة أخرى، وقد أتم رفاعة هذه الأبحاث القيمة بترجمته لقصة "تليماك"، فكان بذلك أول من شق طريق التيار الأدبي العربي الذي أخذ من ذلك الحين يتدفق على العربية، ويزاحم التيار العربي الأصيل.

ومن أواخر الكتب التي ألفها رفاعة كتابان سنقف عندهما هنيهة لنعرف كيف تطور أسلوبه، أما أولهما فكتابه "مناهج الآداب المصرية في مباهج الآداب العصرية"، وقد قدم له بمقدمة بين فيها الغرض من تأليفه، وهو نفع قومه على قدر جهده، وإرشادهم لما فيه خيرهم، أن "يعين الجمعية بقدر الاستطاعة، ويبذل ما عنده من رأس مال البضاعة، لمنفعة وطنه العمومية، وذلك بتصنيف نخبة جليلة، وترصيف تحف جميلة في المنافع العمومية التي هي للوطن توسيع دائرة التمدنية، اقتطفتها من ثمار الكتب العربية اليانعة، واجتنيتها من مؤلفات الفرنساوية النافعة، مع ما سنح بالبال وأقبل على الخاطر أحسن إقبال، وعزرتها بالآيات البينات، والأحاديث الصحيحة، والدلائل البينات، وضمنتها الجم الغفير من أمثال الحكماء، وآداب البلغاء، وكلام الشعراء، وكل ما ترتاح إليه الأفهام، وتنزاح به عن الذهن الأوهام".

وإذا تجاوزنا عن هذه المقدمة ذات السجع المتكلف، وعرضنا لمباحث الكتاب وجدناها جديدة مفيدة خرجت بالنثر عن ذلك التقليد الموروث الذي قصره الأدباء على الرسائل الإخوانية، من تهنئة وتغزية ورجاء واستعطاف واعتذار، كما كان شأنه قبل هذه النهضة، بينما نراه هنا يعالج موضوعات حية مثل منابع الثورة وتحسين حال المجتمع، فتكلم عن الزراعة، والصناعة، والتجارة والآداب وتهذيب الأخلاق، والفضائل والدين، كلام رجل مثقف غزير الإطلاع، وقد تخلص في هذا

ص: 40

الكتاب من السجع والجري وراء المحسنات، وكان اهتمامه بتوضيح المعاني أعظم من عنايته بتنسيق العبارة، ونرى هذا الكتاب سلاسة، وطواعية، وتدفقًا مما يدل على تطور أسلوبه المرسل خذ مثلًا قوله:

"وقد ذكر الحكماء أن لكل خلق طرفين: أحدهما الإفراط، وثانيهما التفريط، وهما مذمومان، فالبخل إفراط وهو مذموم، والتبذير تفريط في الإنفاق وهو مذموم أيضًا، والوسط ممدوح وهو العدل في الإنفاق، وهكذا كل فضيلة لها طرفان ووسط، والوسط عبارة عن الإنصاف في الفضيلة، وهو الممدوح منها، ولكن ربما يقع في الوهم فضيلة أحد الطرفين لعدم الوقوف على الحقيقة بترك معاشرة أرباب الفضائل، فلهذا ينبغي تعيين محل تعلم فيه الفضائل حتى لا تشتبه بأضدادها، وبيان ذلك أن الإنسان من جميع الحيوان لا يكتفي بنفسه في تكميل ذاته، ولا بد له من معاونة قوم كثيري العدد حتى تتم حياته طيبة، ويجري أمره على السداد، ولهذا قال الحكماء: إن الإنسان مدني بالطبع

إلخ".

مثل هذه المباحث وهذا الأسلوب قد تميز فيما بعد، وصار القالب الذي تصب فيه الموضوعات الاجتماعية والسياسية، وإن ظل الأسلوب الأدبي له خصائصه من الاهتمام البعارة وحسن الصياغة، وانتقاء اللفظ، وتدفق العاطفة، وبعض ألوان الخيال، وضع رفاعة مثل هذه المقالات أساس النثر الاجتماعي والنثر السياسي، وسنتكلم عنهما فيما بعد إن شاء الله.

أما كتابه الثاني فقد ألفه في أخريات أيامه حين عزم أولو الأمر على فتح المجال أمام الفتاة للتعليم، فطلب من رفاعة أن يؤلف كتابا "في الآداب، والتربية لتعليم البنين، والبنات على السويَّة"، فألف كتابه "المرشد الأمين للبنات والبنين"، وفي هذا الكتاب مباحث ذات فائدة جليلة في التربية، والسلوك الإنساني، وعلاقة الرجل بالمرأة أختا وزوجًا وأما وحبيبة، وكان رفاعة في هذا الكتاب صريحًا صراحة لا نستطيع أن نجاريه فيها اليوم إذا عهد إلينا بتأليف كتاب مثل هذا للبنات، ولكنه كان متأثرًا ولا شك بثقافته الغربية، وبحرصه أن يعرف الفتيات الحق من شيخ

ص: 41

كبير ووالد غيور بدلًا من تلمسه في كتب لا رقيب عليها تثير الغرائز الدنيا، وتدفع إلى الفساد.

ومن مباحثه القيمة حديثه عن الوطن والمواطن الصالح، والأسرة وبنيانها وصلاحها، ونرى رفاعة يزاوج بين الترسل والسجع، فحين تأخذه العاطفة يرتفع أسلوبه ويختار كلماته، ويأتي بالعبارات مسجوعة، وإن زال عنها التكلف غالبًا من مثل قوله يعرف الوطن: "الوطن هو عش الإنسان الذي فيه درج، ومنه خرج، ومجمع أسرته، ومقطع سرته، وهو البلد الذي نشأته تربته وغذاه هواؤه، ورباه نسيمه وحلت عنه التمائم فيه، قال أبو عمرو بن العلاء: مما يدل على حرية الرجل، وكرم غريزته حنينه إلى أوطانه، وتشوقه إلى متقدم إخوانه، وبكاؤه على ما مضى من زمانه، والكريم يحين إلى أحبابه كما يحن الأسد إلى غابة، ويشتاق اللبيب إلى وطنه كما يشتاق النجيب إلى عطنه، فلا يؤثر الحر على بلده بلدًا، ولا يصبر عنه أبدًا: قال الشاعر:

بلاد بها نيطت علي تمائمي

وأول أرض مس جلدي ترابها

وقال آخر:

بلد صحبت بها المشيبة والصبا

ولبست ثوب العيش وهو جديد

فإذا تمثل في الضمير رأيته

وعليه أثواب الشباب تميد

ونراه يتكلم عن مصر كلام المحب الوامق، الذي شغفه الوطن حبًا، فكل ما فيها جميل، دليل الوطنية الصادقة، التي بدأت تبزع أنوارها في القلوب، بعد أن كانت الوطنية كلمة لا مدلول عليها عند المصريين قبل ذياك التاريخ، إذ كانوا يشعرون بالتبعية لخليفة آل عثمان، ولم يفكروا في بلادهم كوطن مستقل له كيانه ومقوماته.

وقد اشتدت هذه النزعة في هذه الحقبة لا عند رفاعة فقط، بل عند كثيرين سواها كما سنرى بعد قليل.

ص: 42

يقول رفاعة: "ولا شك أن مصر وطن شريف إن لم نقل: إنها أشرف الأمكنة، فهي أرض المجد والشرف في القديم والحديث، وكم ورد في فضلها من آيات بينات وآثار وحديث، فما كأنها إلا صورة جنة الخلد، منقوشة في عرض الأرض بيد الحكمة الإلهية التي جمعت محاسن الدنيا فيها، حتى تكاد أن تكون حصرتها في أرجائها ونواحيها، بلدة معشوقة السكنى، رحبة المثوى، حصباؤها جوهر، وترابها مسك أذفر، يومها غداة، وليلها سحر، وطعامها هنئ، وثراها مريء، واسعة الرقعة، طيبة البقعة، كأن محاسن الدنيا عليها مفروشة، وصورة الجنة فيها منقوشة، واسطة البلاد ودرتها، ووجهها وغرتها، بلد خرج منه كبار ملوك، وسلاطين وحكماء وأساطين، وكم نبعث منه عيون علوم، وانجلى

به من البلاء سحائب غيوم، فمن ذا يضاهي مصر في كمال الافتخار، أو يباريها في الجمال والاعتبار إنها أول أمة في المجد، وعلو الهمة

" إلخ.

ففي هذه الفقرة وسواها مما يحمل عاطفة حادة نرى رفاعة يلجأ إلى الأسلوب المسجوع، والتأنق في عبارته، وكأنه يربأ يمثل تلك العواطف إلا أن تلبس ثوبًا خاصًا يعتقد جماله حتى تظهر في أبهى حلة، وأجمل زينة حسب ظنه.

أما إذا كان الموضوع لا يحتال لمثل هذه العاطفة، وإنما يلزمه الشرح والبسط والتعمق في الفكرة، فإن رفاعة يطلق نفسه على سجيتها، ويلجأ إلى الأسلوب المرسل كما جاء مثلا عند كلامه عن المواطن الصالح ما له وما عليه، وهو موضوع جديد لعله نظر فيه إلى المجتمع الغربي كما شهده بباريس، وقد كان رفاعة يتكلم عنه لأول مرة في عصرنا"، وعلى الرغم من مضي تلك السنوات العديدة، فإن كثيرًا من المواطنين لا يعرفون حتى الوطن عليهم، ولا حقوقهم في هذا الوطن.

يقول رفاعة بعد أن تكلم عن المواطن الصالح من هو: فصفة الوطنية لا تستدعي فقط أن يطلب الإنسان حقوقه الواجبة له على الوطن، بل يجب عليه أيضًا أن يؤدي الحقوق التي للوطن عليه، فإذا لم يوف أحد من أبناء الوطن بحقوق وطنه ضاعت حقوقه المدنية التي يستحقها على وطنه.

ص: 43

وقد كان الرومانيون في قديم الزمان يجبرون الوطني الذي بلغ من العمر عشرين سنة، أن يحلف يمينا أنه يحامي عن وطنه وحكومته، فيأخذون عليه عهدًا بذلك، وصيغة اليمين:"أشهد الله على أني أحمل سلاح الشرف، لأمانع به عن وطني وأهله، كلما لاحت فرصة أتمكن فيها من مساعدته، وأشهد الله على أني لحماية الوطن، والدين أحارب منفردًا أو مع الجيش، وأشهد الله على أني أحافظ على امتثال القوانين، والعوائد المقبولة في بلادي الموجودة في الحال، وما يتجدد منها، وأشهد الله ألا أتحمل أحدًا يجسر أن يخل بها، وينقض نظامها".

وينطلق رفاعة بمثل هذا الأسلوب السهل المعتمد على الأدلة، والشواهد يشرح حقوق الوطن على المواطن، وحق المواطن على وطنه، دون أن يلجأ إلى تكلف في اقتناص سجعة، أو الجري وراء محسن لفظي أو معنوي.

ولعلنا رأينا من هذه النماذج العديدة كيف تطور أسلوب رفاعة الطهطاوي، فقد كان يلجأ إلى الأسلوب المرسل في النثر الاجتماعي والسياسي، وكان هذا الأسلوب أول الأمر يغص بالكلمات العامية، والدخيلة، والمعربة، وكان يلجأ إليه كذلك عند الترجمة غالبًا.

أما في مقدمات كتبه جميعًا، وفي الموضوعات المشحونة بالعاطفة، وفي الموضوعات الأدبية الخالصة كالوصف والرسائل وغيرها، فإنه يؤثر عادة الأسلوب المسجوع، ويتأنق في عبارته، ويحليها ببعض ألوان البديع، وكان هذا الأسلوب المسجوع أول الأمر يبدو عليه التكلف وأثر الصنعة، ثم خفت حدة هذا التكلف على مر الأيام بازدياد ثقافته، وكثرة مرانه على الكتابة، ونمو ثروته اللغوية.

وليس من همي في هذا الكتاب أن أتتبع رفاعة في كل ما كتب من كتب ومقالات، وإنما أردت أن أتعرف على ظواهر تطور النثر ممثلة فيه؛ لأنه كان رائدًا من رواده، ولم يكن تطور أسلوبه إلا نتيجة لتطور عام شهدنا معالمه في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، وبخاصة في مصر.

ص: 44