المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ليالى سطيح لحافظ إبراهيم: - نشأة النثر الحديث وتطوره

[عمر الدسوقي]

فهرس الكتاب

- ‌المقدمات

- ‌مقدمة

- ‌المحتويات:

- ‌تمهيد:

- ‌البعث

- ‌مدخل

- ‌رفاعة الطهطاوي

- ‌في العراق والشام

- ‌السيد محمود الألوس أبو الثناء

- ‌نصايف اليازجي

- ‌بطرس البستاني:

- ‌أثر الصحافة في تطور الأسلوب:

- ‌الوقائع المصرية:

- ‌مدرسة جمال الدين الأفغاني، وأدب المقالة:

- ‌محمد عبده:

- ‌أديب إسحق

- ‌إبراهيم اللقاني:

- ‌عبد الله نديم:

- ‌أدباء الشام:

- ‌إبراهيم اليازجي:

- ‌نجيب حداد:

- ‌تنوع المقالة:

- ‌أدب الرسائل:

- ‌عبد الله فكري:

- ‌محمد عبده:

- ‌حمزة فتح الله:

- ‌عبد الكريم سلمان:

- ‌أحمد مفتاح:

- ‌عبد العزيز جاويش:

- ‌حفني ناصف:

- ‌إبراهيم اليازجي:

- ‌الكتب الأدبية:

- ‌أسواق الذهب لأحمد شوقي:

- ‌حديث عيسى بن هشام للمويلحي:

- ‌ليالى سطيح لحافظ إبراهيم:

- ‌صهاريج اللؤلؤ للبكري:

- ‌تطور المقال الأدبي

- ‌مدخل

- ‌مصطفى لطفي المنفلوطي

- ‌مدخل

- ‌الاشتراكية عند المنفلوطي:

- ‌اللغة العربية عند المنفلوطي:

- ‌المراثي عند المنفلوطي:

- ‌مقالاته الأدبية:

- ‌رسائله:

- ‌البيان في رأي المنفلوطي:

- ‌أسلوب المنفلوطي:

- ‌منزلة المنفلوطي في موكب الأدب العربي:

- ‌أثر الثقافة الأجنبية في تطور المقال الأدبي:

الفصل: ‌ليالى سطيح لحافظ إبراهيم:

‌ليالى سطيح لحافظ إبراهيم:

وإذا أردنا أن نقف على الدوافع التي حدث بحافظ إبراهيم إلى كتابة ليالي سطيح، علينا أن نلقي نظرة خاطفة على حياة حافظ في الحقبة التي سبقت تأليف الكتاب: تخرج حافظ في المدرسة الحربية، وكان قد دخلها بالشهادة الابتدائية، ويعد تخرجه عين في الجيش، وسافر إلى السودان.

وكان حافظ منذ حداثته مشغوفًا بالشعر يتخير جيده ويحفظ منه الكثير، وقد آنس في نفسه القدرة على نظمه، ولم يكن أبدًا ميالًا إلى الحرب، ولعله دخل الحربية تأسيا بمثله الأعلى في الشعر محمود سامي البارودي، ولكن شتان بين طبيعتين، طبيعة الفارس الذي تجري في عروقه دماء أجداده المماليك، وطبيعة حافظ الوداعة المسالمة.

ولم يشترك حافظ إبان مقامه بالسودان في معركة، أو يحمل سيفًا، وإنما رضي أن يجلس خلف مكتب في إدارة التعيينات، يلبس البزة العسكرية وعقله يهيم في أودية الشعر، وكان قد اشتهر بين إخوانه بقول الشعر وجودة الإلقاء.

ونصاعة الخطاب فاختاروه مدافعًا عنهم في القضايا التي كانوا يتهمون فيها، وقد دافع في عشرين قضية ريحها كلها وبرأ أصحابها إلا واحدة، اعترف فيها المتهم بالقتل، ولم يملك حافظ وسيلة لتبرئته، وهو مصر على اعترافه.

وقد رأى في السودان بشاعة الاستعمار الإنجليزي، وذاته المصريين، والدسائس التي تحاك حولهم، فضاقت نفسه وبرم بهذا الجو الخانق، وهو الذي فطر على الحرية، وأخذ يجأر بالشكوى لأستاذه الإمام محمد عبده عله يتشفع له فيعود إلى مصر، تلك التي أخذ يحن إليها حنينًا شديدًا سجله في أكثر من قصيدة، ومن ذلك قوله يرثي لنفسه التي زج بها في الجندية ألوان الشقاء، وجنى عليها.

ص: 142

رميت بها على هذا التباب

وما أوردتها غير السراب

وما حملتها إلا شقاء

تقاضيني به يوم الحساب

خجنيت عليك يا نفسي وقبلي

عليك جنى أبي فدعي عتابي

فلولا أنهم وأدوا بياني

بلغت بك المنى وشفيت ما بي

سعيت وكم سعى قبلي أديب

فآب بخيبة بعد اغتراب

وكان حافظ كلما طال مقامه بالجيش المصري في السودان ازداد سخطًا وكراهية للإنجليز، وقد أحسوا منه هذه الكراهية، ودس له صنائعهم لديهم. فوجدت وشايتهم آذانًا صاغية، حتى إذا كانت ثورة الجيش في السودان التي تلت حرب "الترنسفال" سنة 1901، أتهم حافظ مع جماعة من الضباط بالتآمر، وأرسلوا إلى قلعة الجبل ليحاكموا فيها، وكاد يحكم عليهم بالإعدام لولا شفاعة الخديوي لهم، فاكتفى بإحالتهم إلى المعاش وأرسلوا إلى مصر.

وعاد حافظ إلى مصر، ولكنه عود غير حميد، وغير ما كان يرجوه ويصبو إليه، عاد مطرودًا من الجيش، صقر الكف من الوظيفة، ورأى الدنيا موصدة أبوابها في وجهه، فلا يدع إذ سمعناه ينفث تلك الزفرة الحارة من أعماق قلبه ألمًا وحزنًا:

سعيت إلى أن كدت أنتعل الدما

وعدت وما أعقبت إلا التندما

لحا الله عهد القاسطين الذي به

تهدم من بنياتنا ما تهدما

إذا شئت أن تلقي السعادة بينهم

فلا تك مصريًا ولا تك مسلمًا

سلام على الدنيا سلام مودع

رأى في ظلام القبر أنسًا ومغنمًا

وهذا لعمري حديث من بلغ اليأس منه مبلغًا، ومن رأى الدنيا أضيق من سم الخياط، حتى آثر عليها القبر بوحشته وظلمته، بلوجد فيه أنسًا ومغنمًا.

بيد أنه وجد فرجة من الأمل في الأستاذ محمد عبده الذي أضفي عليه من بره، وقدمه لكبار القوم، وشجعه على قول الشعر حتى لقد راودته نفسه أن يكون

ص: 143

من المقربين لدى الخديوي، بيد أنه وجد الأبواب دونه موصدة، والتزاحم على بابه يعوقه عن الوصول إلى حماه، وفي تلك الحقبة أخذ يترجم "البؤساء"، ويهديها إلى أستاذه ونصيره، فيكتب لها مقدمة كلها إطراء وثناء، وقد أشرنا إليها آنفًا، ولكن الأستاذ الإمام تختطفه المنية في سنة 1905، فيفجع فيه حافظ فجيعة اعتصرت فؤاده، وأحالت الدنيا أمام عينيه ظلاما دامسًا، ولم يجد من القوم من يشد عزمه، ويأخذ بيده، فيعتكف في بيته، ويتناول قلمه يبثه شجونه، ويسح على شباته ماء أحزانه، فكانت "ليالي سطيح" التي أخرجها بعد وفاة الإمام بعام أي في سنة 1906.

نحا حافظ في هذا الكتاب نحو "حديث عيسى بن هشام" للمويلحي، وقد تأثر به دون شك في روحه النقادة، وفي نظراته للمفاسد الاجتماعية، بل نقل عن قطعة طويلة هي وصف المويلحي لقصر إسماعيل، كما نقل عن الشيخ على يوسف مقالا بأكمله كان قد نشره في المؤيد تحت عنوان "السياسة الضعيفة العنيفة" تناول فيها مأساة "دنشواي"، وسياسة الإنجليز بمصر.

وقد اختار حافظ إبراهيم "سطيح" بن ربيعة كاهن بني ذؤيب في الجاهلية ليكون الحكيم الذي ينطق بالقول الفصل في المشكلات التي يعرضها حافظ، ومن معه عليه، ولم يصرح حافظ باسمه، وإنما كنى عنه بقول "حدث أحد أبناء النيل".

"ضاقت عن النفس مساحتها لهم نزل بي، وأمر بلغ مني فخرجت أروح عنها، وأهون عليها، فما زلت أسير والنيل، حتى سال ذهب الأصيل، فإذا أنا من الأهرام أدنى ظلام، وقد فتر مني العزم، وسئمت الحركة، فجلست أنفس عني كرب المسير، واضطجعت وما تنبعث فيجارحة من التعب، وكنت في نفسي في وحدة الضيغم ومن همومي في جيش عرمرم، وجعلت أفكر في الدهر وأبنائه، فجرى على لساني هذا البيت:

عوى الذئب فاستأنست بالذئب إذا عوى

وصوت إنسان فكدت أطير

ص: 144

وهكذا أخذ حافظ يناجي نفسه، ويحاول أن يخفف ما بها، ولكن ما لبث أن شم ريحًا كريهة "انقبض لها صدر الجو وتعبس بها وجه النهر، فلما أفاق من غشيته نظر فإذا أصل البلاء جيفة فوق وجه الماء، فغاظه ما رأى وهاجه ما شم وقال يخاطب النيل.

"ويحك إلى متى يسع حلمك جهل هذه الأمة المكسال، وإلى كم تحسن إليها وتسيء إليك، علمت أن سيكون منك الوفاء فلم تحرص على ودك، واتكلت على حلمك، وبالغت بعد ذلك في عقوقك، ولقد كانت ترتجو في سالف الدهر خيرك، وتتقي شرك، فتحتفل في مهاداتك، وتتحامى طريق معاداتك، ثم أمعنت في العقوق فصيرتك مقبرة للجيف لتصبح بذلك مجرى للبلاء، ومستودعًا للوباء".

واستمر حافظ على هذه النغمة يعنف الأمة لجحودها وكفرانها، ويستطرد لذكر حاله، أو يشير إلى مآله فيقول: "ينبغ فيها النابغة، فينبعث أشقاها للطعن عليه فلا يزال يكيد له حتى يبلغ منه، ويكتب فيها الكاتب فينبري به سفيهها فلا يفتأ ينبح عليه حتى ينشب فيه نابه ويفسد عليه كتابه، ويشعر فيها الشاعر فيحمل عليه جاهل، فلا ينفك عنه حتى يغلبه على أمره، ويقهره على شعره.

يا رب أخرجني إلى دار الرضا

عجلًا فهذا عالم منحوس

ظلوا كدائرة تحول بعضها

عن بعضها فجميعها معكوس

هكذا ابتدأ حافظ كتابه هذا ليالي سطيح، حتى إذا سكت عن هذه المناجاة، وعزم على التحول من هذا المكان إلى سواه، وقع في سمعه صوت إنسان يسبح الرحمن، فاقترب منه عله يجد أحد العباد يستدعيه دعوة يمحو بها الله سوء ما هو فيه، فلما داناه إذا هو يقول: "أديب بائس، وشاعر بائسن دهمته الكوارث، ودهته الحوادث، فلم يجد له عزمًا، ولم تصب منه حزمًا، خرج يروح عن نفسه ويخفف من نكسته، فكشف له مكاني، وقد آن أواني. أي فلان! لقد أخرجت للناس كتابًا ففتحوا عليك من الحروب أبوابًا، وخلا غابك من الأسد، فتذاءب

ص: 145

عليك أهل الحسد، أي فلان إذا ألقى عصاه ذلك المسافر، وغادر بحر العلم أرض الجزائر، فقد بطل السحر والساحر، فانكفئ إلى كسر دارك، وبالغ في كتم أسرارك، وأقبل غدًا مع الليل، وترقب طلوع سهيل، ومتى سمعت من قبلنا التسبيح، فقل لصاحبك الذي يليك: هلم بنا إلى سطيح".

ثم انقطع صوته فلبثت في مكاني حتى استوحشت لوحدتي وانفرادي في جوف ذلك الليل فرجعت أدراجي، وكنت لقيته في ذهول من عقلي، ودهشة من أمري، ولما ثاب إلى السكون جعلت أتأمل في عباراته، وأتروى في مغزى سجعاته، وقلت في نفسي: لقد كنت أعلم أن سطيحًا قد قضى نحبه ولقى ربه، فهل صدق القائلون بالرجعة أم جعل الله لكل زمن سطيحًا! على أني في غد سألقاه، وأطلب إليه أن أراه، وأسأله عن أشياء كتمتها في صدري، وكادت تدخل معي قبري.

ثم يروي حافظ كيف وصل إلى داره قبيل الفجر، وأنه كان يستأنس في وحدته بلزومات أبيا لعلاء المعري الذي يمثل في نفسه مكانة لا تدانيها مكانة، وأخذ بعد ذلك يقص علينا لياليه مع سطيح على شاطئ النيل، وكيف كان يجد في كل ليلة قبل ظهور سطيح إنسانًا تجالسًا يتجاوب معه الحديث إلى أن يحين موعد ظهور سطيح، فيخبره خبره، ويذهبان معًا إليه، وهو في أثناء قصته هذه يبدي ملحوظات انتقاديه سريعة على بعض العادات القبيحة في المجتمع المصري دون تعمق في معرفة الأسباب، أو تشخيص الداء بحيث يسهل وصف الدواء.

فهو مثلًا ينعي على بعض المصريين ما يقومون به في عيد شم النسيم، وكان الذي يجلس بجواره في الليلة الثانية "قاسم أمين"، وإن لم يصرح باسمه، فاستهجن هذا الاختلاط المبتذل، وقال يحدث نفسه وحافظ يسمعه: ألا يأتي أولئك الموكلون بالرد على أهل الصواب، فينظروا ما صنع أهل النعيم في شم النسيم، ويروا كيف ابتذلت فيه الخدور، ونفقت سوف الفحش والفجور، فلقد فعلوا تحت الحجاب ما ينكس له الأدب رأسه، ودعوناهم إلى غير ذلك فأبوا علينا الطلب وأنكروا الدعوة، وقالوا: إن تربية النساء ما لا تحمد معه المغبة

إلخ".

ص: 146

وفي تلك الليلة قال سطيح لصاحب حافظ هذا: "صاحب مذهب جديد ورأي سديد، دعا القوم إلى رفع الحجاب وطالبهم بالبحث في الأسباب، فألقوا معه نقاب الحياء، وتنقبوا من دونه بالبذاء، أي فلان إذا مضت على كتابك خمسون حجة، وظهر لذي عينين إدلاؤك بالحجة، تكفل مستقبل الزمان بإقامة الدليل والبرهان، فلعل الذي سخر لجماعة الرقيق والخصيان من أنقذهم من يد الذل والهوان يسخر لتلك السجين الشرقية، والأسيرة المصرية، من يصدع قيد أسرها، ويعمل على إصلاح أمرها".

وقد استعرض حافظ في كتابه هذا كثيرًا من المشكلات السياسية والاجتماعية في عصره، ولكنه كان يمر عليها مرورًا سريعًا دون أن يقف ليشفي الغلة ويكشف عن العلة، تعرض لمشكلة السوريين في مصر، تلك التي كانت موضعًا للجدل الصحافي حقبة من الزمن، وترى حافظًا لا يغمطهم حقهم بل يعترف بفضلهم في نشر العربية وفي خدمة الصحافة، ويعترف كذلك بما قدمته مصر لهم من فرص عزت عليهم في ديارهم، وقد أجرى على لسان سطيح حين سأله جليس حافظ السوري عما يأخذه علي بني وطنه، فقال:"إنني لا أكذب الله، لقد أكثر من التداخل في شئونهم، فعز ذلك عليهم من أقرب الناس إليهم، نزلتهم بلادهم فنزلتم رحبًا، وتفيأتم ظلالهم فأصبتم خطبأ، ثم فتحتم أبواب الصحافة فقالوا: أهلا، وحللتم معهم في دور التجارة فقالوا: مهلًا، لو أنكم وقفتم عند هذا الحد لرأيتم منهم ودا صحيحًا وإخلاصًا صريحًا، ولكنكم تخطيتم ذلك إلى المناصب فسددتم طريق الناشئين، وضيقتم نطاق الاستخدام على الطالبين، وأنتم تعلمون أن المصري يعبد خدمة الحكومة فهو يصرف إليها همه، ويقف عليها علمه، فهي إن فاتته فاته الأمل وفتر نشاطه عن السعي والعمل، حببت إليكم الحركة، وحبب إليهم السكون، وجبلتم على الجد، وجبلوا على المجون، فاصرفوا أنفسكم عن مزاحمتهم في أعز الأشياء عليهم حتى تخلق الحاجة في نفوسهم شعورًا جديدًا، فيحس ناشئهم أنه إنما يتعلم لنفسه، ولأمته لا لخدمة حكومته".

ص: 147

وينظر حافظ نظرة سريعة إلى تقاعس المصريين عن بناء جامعة لهم، وعدتهم عشرة ملايين، يكتفون بإرسال أبنائهم إلى جامعة بيروت الأمريكية فيقول على لسان سطيح:"أليس من العار أن تكونوا أكثر مالًا وأعز نفرًا، ولا تجدوا في مصر لتعليم أولادكم مستقرًّا، وليست بيروت بأخصب من عروس النيل أرضًا، ولا بأوسع من ملك مصر طولًا وعرضًا".

ثم يتكلم عن الامتيازات الأجنبية في سرعة شديدة، وكأنه خشي أن يخوض فيها فتعد عليه كلماته وتحصى إشاراته، ويعلل لبقائها بأن الإنجليز لو أرادوا لأزالوها، ولكنهم يريدون أن يسأم المصريون حياة الذلة في ظلها فيركنون إلى رجال الاحتلال يطلبون منهم الحماية، ويصف سياسة الإنجليز بأنها كالكهرباء تدرك العين فعلها، ولا يدرك العقل كنهها، وهم إذا دخلوا قرية جعلوا أعزة اهلها أذلة، وكان لهم في اجتذاب ثروتها كياسة الأسفنج في اجتذاب الماء مع ذلك الرفق والسهولة، ثم ينتقل إلى بعض أدواء المجتمع، فيصف "مشيخة السجادة الصوفية والوصاية على اليتيم والزار" في كلمات خاطفة كأنه يحصيها إحصاء دون ترتيب، فيقول على لسان عابر طريق يقول لزميل له وهو ينصت إليهما: "لقد أفاض الفلاسفة في تعريف السعادة، وتفننوا في تصوير

اللذة، ولكني لم أجد فيهم من نفذ فهمه إلى حقيقة ذلك التعريف جهلوا أن السعادة كل السعادة في مشيخة السجادة، وأن أسعد الناس حالًا وأرخاهم بالًا جالس فوقها، يجري رزقه من تحتها، فهي الجنة التي تجري من تحتها أنهار النذور، والكنز الذي لا تفنى ذخائره أمد الدهور".

وأسعد من هذا الحي ميت يسخر له الله من بيني على قبره قبة عالية، ثم يدعو الناس إلى التبرك بتلك العظام البالية، فتجيء سعادته في مماته على قدر شقائه في حياته، وتطير بذكر كراماته الأنباء، وتحمده على تلك النعمة الأحياء، وفي ذلك يقول قائلهم:

أحياؤنا لا يرزقون بدرهم

وبألف ألف ترزق الأموات

من لي بحظ النائمين بحفرة

قامت على أحجارها الصلوات

ص: 148

ويقول الثاني: إن كل السعادة في الوصاية على اليتيم وفي النظارة على وقف حبس على العظم الرميم، يأكل الأول ما شاء ولا محاسبة، ويلتهم الثاني ما أراد ولا مراقبة، ثم يسأل صاحبه: أتعرف السعيدة من الناس كما عرفت السعيد من الرجال: قال السعيدة من النساء من سهلت لها الأقدار، فأصبحت تدعى شيخة الزار فهي تملأ يديها ذهبًا، وبيتها نشبًا

إلخ.

ويتهكم بعد ذلك بالصحافة والصحفيين، وينعي على الشرق تقليده للغربي، ويتكلم عن الحرية وكيف أساء الناس فهمها حتى زعموا أن تعريفها الشافي:"هو أن يعمل المرء ما شاء أن يعمل، ويرى من رأي ما شاء أن يرى، وأن سبيله في ذلك أن يستطرد به جواد الإرادة المطلقة في ميدان الشهوات لا يبالي داس به آداب ذلك المجتمع الإنساني، أم تخطئ أعناق الفضائل".

ويستطرد حافظ إلى النقد الأدبي في عهده، وقد قابل شاعرًا من الشعراء "وقد عنى نفسه"، فأسمعه شعره فقال له:"أسمعتني الليلة كلامًا لو نحله ابن أوس ما شك سامعه في أنه من مختاراته، فما لك تكتم الناس مثل هذا الشعر السري، ولو أنك أذعته لفضضت به من كثير من أولئك الذين باتت تطن الصحف بذكرهم، قال: ليس من أمري المديح، ولا سبيل إلى إذاعته في تلك الصحف إذا أنا لم أسلك به تلك الطريق، قلت: فإن أعياك الأمر فمالك لا تجمعه في ديوان، ثم تخرج للناس كما يفعل الشعراء ممن هم دونك في منازل الأدب ومراتب القريض. قال: يكون ذلك حقيقيًا بي لو أن من يقرأ الأثر في مصر يقرأه لذاته لا لذات صاحبه، ونحن بحمد الله في بلد لا تنفق فيه سلعة الأديب ما لم يكن صاحبها حظيظًا عند تلك الصحف، حتى إذا ظهر أثره في الناس قامت تقرظه بصنوف المديح والإطراء، وتنزل نفسها في الدعوة إلى كتابة منزلة أولئك المبشرين في الدعوة إلى دينهم، ويسوقه الحديث إلى محاباة الصحف لشوقي، وهو لا يرى في شعره شيئًا يستحق المحاباة اللهم إلا ما يتباصر به علينا من تلك المعاني الغريبة التي ما سكنت في مغنى عربي إلا ذهبت بروائه".

ص: 149

وبعد جدل مع صاحبه الذي يدافع عن شوقي بحرارة، وينصفه من حافظ يحتكمان إلى سطيح، فيحكم أن كلا منهما جانب الصواب، فالإغراق في القدح كالإغراق في المدح لا يعطي الرأي الصائب، ثم يقول:"إنه أرقكم طبعًا وأجملكم صنعًا"، وينتهي بقوله:"ولو أنه منح من رقة المباني ما منع من رقة المعاني، فسلم أسلوبه من ذلك التعقيد الذي أخلق ديباجته لكان شاعركم غير مدافع وواحدكم غير منازع"، وقد كان هذا طبعًا قل أن ينفي شوقي إلى الأندلس، ويعكف على قراءة الشعر العربي الجزل ويعود من منفاه، وقد استوى بين يديه ميزان الشعر لفظه ومعناه، ولكن حافظًا ظل يجادل في منزلة شوقي، ويستدل على سرقاته للمعاني، ولعل هذه هي المرة الوحيدة التي جأر فيها بالتهجم على شوقي، ولعله كان يطمع لمثل منزلته لدى القصر، وهو في أشد الحاجة إلى ما يمسك أوده، فوجد شوقي ثمة يسد عليه الأبواب، وقد صارحه سطيح بأنه إنما يحسده على مكانته، ولكنه يتعقب سيئاته دون ذكر شيء من حسناته.

ويتعرض حافظ لعديد من الموضوعات لا نستطيع أن نقف عندها جميعًا وبحسبنا أن نذكرها، فيتكلم على الأفغاني، ومحمد عبده، والعامية والفصحى، والشهرة والحسد، ووصف كتشنر، والخلق المصري، ويطيل في الكلام عن تجربته المرة في السودان، وعن المدرسة الحربية في عهد الإنجليز، ويصف ما عليه المصريون من الذلة، وهم في الجيش فيقول:"ينظر المصري إلى الإنجليزي وهو كأنه ينظر إليه بالنظارة المعظمة فيكبره رهبة وإجلالًا، ويتضعضع لرؤيته، وينظر إليه الإنجليزي بتلك النظارة وقد عكسها، فيصغره استخفافًا بشأنه، ويطيل عتاب الخالق الذي فطره على شكله وصورته، ومنحه نعمة التنفس في جو يتنفس الإنجليزي فيه، ويصف حال كبار ضباط الجيش المصري كبار الرتب، والأجسام لا كبار النفوس والأحلام، ويوسعهم ذمًا وتبكيتًا، ويقول له صاحبه: أراك موتورًا فلا يدع إذا بالغت في النعي على القوم فيما يذهبون إليه من ضروب سياستهم".

وقد نقل ما قاله على يوسف في المؤيد عن كرومر وحادثة دنشواي، ووصيف كرومر بأنه كالملك المطلق الإرادة، قضى كل هذا الزمن طيب الخاطر

ص: 150

هادئ البال قرير العين بهذا السلطان القوي الذي يدير دولاب الحكومة المصرية، وقد لقي من الأمة مهادًا طريًّا، ومن أمير البلاد مسالمة مرضية، ومن الوزراء استسلامًا ليست العبودية أوفى منها في العبد لسيده".

وكان هذا الكلام طبعًا بعد أن طوحت حادثة دنشواي بكرومر، وأخرجته من مصر.

وقد رأى حافظ في ذلك المقال ما يشفي غلته من الإنجليز فنقله كاملًا، ولكنه رأى المقال لا يتعرض لدانلوب فأوسعه ذما، ونقد سياسته الخبيثة في التعليم، ذلك الرجل الذي "أبلى البلاء الحسن في قتل النفوس واستحياء الجسوم"، ونراه يقسو قسوة كبيرة فيحكمه على المصريين، فيقول على لسان أحدهم:"لقد نزلت هذه الأمة منزلة من الخمول هبطت بها إلى مصاف العجماوات حتى خشيت أن يخطئها البعث يوم البعث".

ويختم حافظ الكتاب بحديثه عن بؤسه وشقائه، ويصف نفسه وصفًا مؤثرًا فيقول: "وما كدنا نأتي على هذا الحديث حتى رأينا فتى يتوكأ على عصا، وهو لا يكاد يحمل بعضه بعضَا من قرط الهزال، وما تنطق به معارف وجهه من سوء الحال يرد عن نفسه حملات الألم، وصدمات السأم بأناشيد أودعها من الأنين ما يعلم به الصخور كيف تلين، فاستوقف هيكله أبصارنا واسترعى صوته أسماعنا، فإذا به يغني هذه الأبيات:

لقد كان هذا الظلم فوضى فهذبت

حواشيه حتى بات ظلمًا منظمًا

تمن علينا اليوم أن أخصب الثرى

وأن أصبح المصري حرا منعمًا

أعد عهد إسماعيل جلدًا وسخرة

فإني رأيت المن أنكى وآلاما

عملتم على عز الجماد وذلنا

فأغليتم طينًا وأرخصتم دما

ص: 151

فإذا سألوه عن حاله ذكر أنه من تلاميذ الأستاذ الإمام، وراح حافظ يثني على أستاذه ما وسعه الثناء، وأن الخير كل الخير في تلك المدرسة العظيمة مدرسة الأستاذ الإمام، فإذا كان من خير يرجي لهذا البلد، فعلى أيديهم يكون.

ولقد رأينا من هذا العرض أن حافظًا اصطنع هذا القالب القريب من القصة، ولا نستطيع أن نقول إنه قصة وإنما هو من المقامة أدنى، إذ تنقصه عناصر القصة وحبكتها وعرضها وشخصياتها، ليدلي إلينا بآرائه في المجتمع الذي يعيش فيه، ولقد كان يردد كثيرًا من الآراء التي شاعت في عصره، وجهر بها قادة الإصلاح الاجتماعي منذ عهد جمال الدين الأفغاني ومدرسته، ولكن حافظًا كما رأينا وقف علينا ولم يطل الوقوف، ولقد كان صريحًا في مجاهرته بنقائص الإنجليز وسوء استعمارهم، وعظم بطشهم وغطرستهم، ولا بدع فهو يحمل في ذاكرته كثيرًا من تجاربه المرة معهم في السودان، ولكنه لم يجرؤ على الجهر بهذه الآراء إلا بعد أن اشتدت به المحنة، وخرج كرومر الداهية من مصر، وثارت مصر كلها وراء مصطفى كامل تندد به وبسياسته واستبداده.

ونلحظ على أسلوب هذا الكتاب أنه يراوح بين السجع والترسل، السجع في الغالب يأتي على لسان سطيح، وعلى لسان حافظ قليلًا، يكثر في الكتاب من الاستشهاد بشعره وشعر سواه، ونراه يحاول التجديد في التشبيه كقوله يصف الإنجليز:"وأما خلتهم فبيناهم ضعاف يغضون للخطب إذا هم أشداء ركابون للهول، فهم أشبه شيء بالخمر ضعيفة في الكأس شديدة في الرأس، ولهم نظر يشف له كل شيء كأنما قد جمعت لأشعة راتنجن من أشعته، وإرادة سخر لها البخار في البحار كما سخر الريح لسليمان، وكان لهم في اجتذاب ثروتها كياسة الإسفنج في اجتذاب الماء مع ذلك الرفق والسهولة".

ويأتي ببعض الجناس كقوله: "ترفل في الحرائر من هبات الحرائر"، وقوله:"لأنبذن تلك الحرفة التي اضطرتني إلى التحام الأعراض والميل مع الأغراض". وقوله: "ردني بارك الله فيك، وأسمعني تأويل ذلك من فيك"، وقوله: "هنا

ص: 152

كانت تصدح القيان على المزاهر والأعواد، فتجاوبها الورق على الأفنان والأعواد"، وإن كانت الجملة الأخيرة اقتباسًا من كلام المويلحي في وصف قصر إسماعيل.

وهناك ألوان أخرى من البديع تأتي على قلة كالتورية والمقابلة، ويكثر من الاقتباس من القرآن، ويتكئ في بعض معانيه على آياته الكريمة.

وتجري على لسانه أحيانًا بعض عبارات من الكلام الدراج، وإن كان نادرًا كقوله:"يسكنون في فرد إقليم"، وهو مأخوذ من اللهجة السورية، ويأتي ببعض الكلمات المعجمية كقوله:"نهاز أذنبه الكلام"، وقوله:"ويأتي حامل الضب" أي الحقد.

ونراه يتكلف أحيانًا تكلفًا ظاهرًا في عبارته التي تدور حول معنى تافه كقوله على دولة الشعر والأدب: "ولو لم يتداركها الأفغاني لقضت نحبها ولقيت ربها، قبل أن يمتعها بكم ويمتعكم بها، أدركها الأفغاني ولم يبق فيها إلا الذماء فنفخ فيها نفخة حركت من نفسها، وشدت من عزمها، أدركها وهي شمطاء قد نهض منها بياض المثيب في سواد الشباب، فشاب قرناها قبل أن تشيب ناصية القرن الخامس، فسودت يده البيضاء ما بيضت من شعرها سود الليالي".

والذي نلحظه على الأسلوب جملة أنه لا يستخدم فيه من ألوان الخيال سوى الخيال التفسيري من مجازات وتشبيهات واستعارات، وأنه لا يسمو به سمو الأداء الأدبي، ولعل طبيعة الموضوع، والنقد الاجتماعي حالًا بينه وبين ذلك، إذ كان الكتاب في جملته نظرات اجتماعية وسياسية مركزة جدًا، وللأسلوب الاجتماعي خصائصه التي ذكرناها آنفًا، وإن رفت عليه مسحة الأدب في هذا الكتاب.

ص: 153