المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌رسائله: أما الموضوع الثاني الذي بلغ فيه تأنقه غايته، وحشد له - نشأة النثر الحديث وتطوره

[عمر الدسوقي]

فهرس الكتاب

- ‌المقدمات

- ‌مقدمة

- ‌المحتويات:

- ‌تمهيد:

- ‌البعث

- ‌مدخل

- ‌رفاعة الطهطاوي

- ‌في العراق والشام

- ‌السيد محمود الألوس أبو الثناء

- ‌نصايف اليازجي

- ‌بطرس البستاني:

- ‌أثر الصحافة في تطور الأسلوب:

- ‌الوقائع المصرية:

- ‌مدرسة جمال الدين الأفغاني، وأدب المقالة:

- ‌محمد عبده:

- ‌أديب إسحق

- ‌إبراهيم اللقاني:

- ‌عبد الله نديم:

- ‌أدباء الشام:

- ‌إبراهيم اليازجي:

- ‌نجيب حداد:

- ‌تنوع المقالة:

- ‌أدب الرسائل:

- ‌عبد الله فكري:

- ‌محمد عبده:

- ‌حمزة فتح الله:

- ‌عبد الكريم سلمان:

- ‌أحمد مفتاح:

- ‌عبد العزيز جاويش:

- ‌حفني ناصف:

- ‌إبراهيم اليازجي:

- ‌الكتب الأدبية:

- ‌أسواق الذهب لأحمد شوقي:

- ‌حديث عيسى بن هشام للمويلحي:

- ‌ليالى سطيح لحافظ إبراهيم:

- ‌صهاريج اللؤلؤ للبكري:

- ‌تطور المقال الأدبي

- ‌مدخل

- ‌مصطفى لطفي المنفلوطي

- ‌مدخل

- ‌الاشتراكية عند المنفلوطي:

- ‌اللغة العربية عند المنفلوطي:

- ‌المراثي عند المنفلوطي:

- ‌مقالاته الأدبية:

- ‌رسائله:

- ‌البيان في رأي المنفلوطي:

- ‌أسلوب المنفلوطي:

- ‌منزلة المنفلوطي في موكب الأدب العربي:

- ‌أثر الثقافة الأجنبية في تطور المقال الأدبي:

الفصل: ‌ ‌رسائله: أما الموضوع الثاني الذي بلغ فيه تأنقه غايته، وحشد له

‌رسائله:

أما الموضوع الثاني الذي بلغ فيه تأنقه غايته، وحشد له كل طاقته الأدبية، وبراعة بيانه فهو الرسائل، وقد ذكرنا فيما سبق من هذا الكتاب تطور الرسائل في الأدب القديم والحديث، وأنها ظلت مجلى البلاغة والبيان عند الأدباء يهتمون بتدبيجها كل الاهتمام، جريا على عادة السلف؛ ولأنها ذات تقاليد موروثة، وبخاصة تلك التي وضعتها مدرسة ابن العميد، وذكرنا أن شيخ كتاب الرسائل في العصر الحديث هو عبد الله فكري، وأنه قد سن لها سننًا معلومة، وأنه ما من كاتب ولا متأدب إلا له في هذا الميدان جولات.

وكان طبيعيًا أن يطرق المنفلوطي باب الرسائل في معاملته مع أصدقائه الأدباء، وأن تكون رسائله الخاصة غير مقالاته العامة التي تعالج داء من الأدواء الاجتماعية، أو تطرق موضوعًا دينيا، أو ترثي عظيمًا، أو تبكي حبيبًا، أو تعبر عن خلجات نفسه حين تهتز لمنظر جميل أو نكبة من النكبات، أو حين يتعرض للكلام عن الرحمة والحرية وما شاكلها.

ص: 213

فالرسائل من خصائصها الموروثة الإيجاز وسمو العبارة، واصطناع المحسنات، وضروب الخيال التفسيري، إنها نوع من الشعر المنثور، وقد تتضمن تحليل أبيات شعرية، أو الاستشهاد بها، وسنرى ذلك واضحًا في رسائل المنفلوطي، مع عذوبة في ألفاظه، وتسلسل في فكرته.

ولم يترك لنا المنفلوطي في نظراته سوى أربع رسائل:

أولاها: رسالة التقاضي، أو الرجاء لقضاء حاجة، والملاحظ من ناحية الشكل أنه لجأ فيها إلى الجمل الدعائية المعترضة على طريقة مدرسة ابن العميد مثل أعزك الله، وأيدك الله.

ثم قصر الجمل، وتساويها في الطول، ولم يلجأ في الرسالة الأولى هذه إلى السجع إلا نادرًا، ولكنه استخدم الازدواج، وهو تشابه الفواصل في الوزن لا في الحروف.

وفيها بعض الاستعارات الموروثة كقوله: تخرس دونها ألسنة الشكر.

والملاحظ كذلك حسن اختيار الألفاظ، والإيجاز في التعبير، والوصول إلى القصد بدن مقدمات.

أما من ناحية معانيها فقد ورد مثلها كثير لدى القدماء، ورسائل التشفع والرجاء مما حفلت به كتب الأدب، فليس في الواقع بهذه الرسالة معنى جديد أو فكرة مبتكرة، وكل ما هنالك أنه لجأ إلى كرمه وفضله، ولم يلجأ إلى الشفعاء والوسطاء من حاشيته وإخوانه.

أما الرسالة الثانية: فيظهر أنها رسالة إلى حبيب، وإن أخفى المنفلوطي ذلك، فلم يصرح أكان الحبيب رجلًا أو امرأة بيد أن سياق الرسالة يدل على أنها حبيبة كما سنرى.

لقد كان مريضًا وطال مرضه، وأشرف على الموت، ثم عافاه الله منه، ولم يعده ذلك الحبيب، واكتفى بالاعتذار كتابة فأرسل إليه المنفلوطي رسالة يقاطعه فيها.

ص: 214

ويستهلها المنفلوطي بأن برئ من مرض حبه، وصحا من رقده كادت تتصل برقدة الموت، فهل كان مرضه بسبب الحب؟ وأنه لم يخدم بالكلام المزوق، ويقبل المعذرة، ولم يجد في رسالة حبيبه هذا ما كان يجده من قبل ذلك النور الذي كان يملأ عينيه، ويشع من سطورها ويملأ قلبه روعة وهيبة.

إنه يحمد الله الذي أداله من رقه، وكشف له من مكنونه ما كشف غشاء الهوى عن بصره، ولا يكون الإنسان رقيقًا إلا لحبيب لا لصديق ويقول المنفلوطي:"فجفت الدموع التي طالما أذلتها بين يديك، وقرت العيون التي كنت أساهر بها الكواكب شوقًا إليك، والمرء لا يذيل الدموع بين يدي الصديق، ولا يساهر النجوم شوقًا إليه، وإنما يكون ذلك من صفات العاشق وحالاته، ويصرح المنفلوطي بأن ما كان بينهما ليس الصداقة فحسب، ولكنه الحب "والحب شجرة يغرسها الأمل".

وقد بلغ غاية الأناقة في عبارته حين قال: "الحب شجرة يغرسها الأمل في القلب، ثم يغذوها بمائة وهوائه، فلا تزال تشتجر أغصانها، وترف ظلالها، وترق أطيارها حتى يعصف بها عاصف من اليأس فتموت".

ويبين أن قلبه قد انصرف عن هذا الحب، وأنه حاول أن يعيده إلى سيرته فأبى، وأنه معذور فيما فعل، فقد أساء إليه غاية الإساءة، وعذبه، وأركبه في سبيل ذلك الحب مركبًا وعرًا، والآن قد فر من سجنه، واستروح نسيم الحرية وهيهات أن يقبل العودة إلى السجن ثانية، وأنه كان الحبيس الذي أطلق سراحه.

وقد استخدام المنفلوطي بعض كلمات غريبة نوعًا ما كالقلب الشموس، والمهر الأرن، وحتى يئون القارظان، وهو يلجأ في هذه الرسالة بمهارة إلى السجع غير المتكلف، وإلى المقابلة بين حال اليأس وحال الأمل، وقد أبدع في إظهار قسوة حبيبه على ذلك القلب.

هذا مع سمو في التعبير، وتحليتها بالطباق والسجع أحيانًا، والاستشهاد بالشعر، وقصر الفقرات، والازدواج والتشبيه، والاستعارة كما في قوله حتى "يعصف بها عاصف من اليأس""والقلب الشموس"، "وأنهلته من جفائك"، وله تعبيرات موروثة كقوله عن قلبه: ركب رأسه، وأرغمت معطسه، وليس للقلب رأس ولا معطس.

ص: 215

وكقوله: فلا أوبة حتى يئوب القارظان، إشارة إلى المثل "لا آتيك أو يئوب القارظان" وهما ابن عنزة، وعامر بن رهم وكلاهما من عنزة خرجًا في طلب القرظ "وهو ثمر شجر السنط" فلم يعودا، هو مثل غريب نادر الاستعمال في القديم والحديث، بل غير مناسب ألبتة في عصرنا هذا لمخالفته للبيئة التي كان عيش فيها المنفلوطي، ولكنه من محفوظه.

أما الرسالة الثالثة: فهي تهكم برجل بخيل تورط في ورطتين: الأولى قد زاره محتال، وما زال يداهنه ويماحله، ويطرق أبواب ضعفه حتى نال بعض رفده، والثانية: أنه قبل الذهاب إلى وليمة فأكل حتى شبع، ثم استمع للغناء بعد العشاء، والمنفلوطي يعجب لهذا التورط، ويسخر منه ومن بخله.

أما في الأولى فيبين له كيف خدعه ذلك المحتال؟ وكيف انتابته تلك النوبة من الكرم، وكيف سمح لدرهمه أن يخرج، وكيف ألمت به هذه الداهية، وكيف وصل هذا الشيطان إلى قلبه، كي يزيده تحسرًا على ما فرط منه، وندما على تلك النوبة من الأريحية.

"وإن أخوف ما أخاف عليك أن تكون أتيت من باب الخدعة الشيطانية التي يسمونها الرحمة، فإن كانت هي فالخطب عظيم والبلاء جسيم"، وهنا لا ينسى المنفلوطي ما في وطنه من المظاهر العديدة التي تستوجب الرحمة، وأن صاحبه هذا على بخله لا يستطيع أن يجابه كل هذه المظاهر، وإنه إن تورط في طريق الرحمة، فسيصير بعد قليل متسولًا مع المتسولين.

فإنك حيثما ذهبت، وأني حللت، لا تقع عينك إلا على يد شلاء، ورجل بتراء، وعين عمياء وصورة شوهاء، وثوب مخرق، وشلو ممزق، وطريح على التراب سقيم، وجسم أعرى من الأديم فإن لم تفارق الرحمة قلبك، فارق المال جيبك، فطفت مع الطائفين، وتسولت مع المتسولين ثم لا تجد لك راحمًا ولا معينًا".

وكأني به يصور له هواجس نفسه، ويعيره بأن الرحمة قد اجتثت من قلبه، وأنه لا عهد له بها، وأنه يخاف من التورط فيها حتى لا تحيله معدما يتسول، يتكفف الناس، كما كان يوهم نفسه بذلك، ويحتج لبخله.

ص: 216

أما الورطة الثانية، فهي قبوله الذهاب إلى وليمة، وقد بين المنفلوطي، كيف فرح هذا البخيل بهذه الدعوة؛ لأنه حرم على نفسه الطيبات، وكيف تحلب لها فوه، ورقصت أشداقه، وطار إليها، وكيف لنهمه وحرمانه، وقع على "خبزها وشوائها وفاكهتها وحلوائها، مثلج الصدر، ثابت القدم، ساكن القلب، طيب النفس".

ثم بين له خطأه في الذهاب إلى هذه الوليمة من وجهة نظره في البخل "كأنك لا تعلم أنها لذة الساعة، ومرارة العمر، وشبع اليوم وجوع الأبد، وأنك إنما طعمت خما في الحبالة من الحب، تأكله اليوم ليأكلك غدًا، فمن لك بالنجاة من مضيفك إن جاءك يومًا يتقاضاك دينه، وقد حفت به كوكبة من خلانه وصحبه فطار لمرآه لبك، وتمشى له قلبك في صدرك، وخيرك بين لحم شاتك ولحمك، فالفقر إن منحت، والعار إن منعت".

ئم يحثه تهكمًا وسخرية على الانزواء والانطواء كسابق عهده مكتفيًا من طعامه بالخبز والزيت، وحراسة صندوقه، لا يزور ولا يزار، حتى لا يتورط في مثل ما تورط فيه، ويحذره العودة إلى مثلها.

وقد بلغ المنفلوطي في الرسالة غايته في إظهار ضعف صاحبه، وبخله وشدة حرصه وابتعاده، وخلو قلبه من الرحمة، وأرعبه وأفزعه مما عساه يناله لتورطه في الذهاب إلى الوليمة، وزاده حسرة وندمًا للمحتال أن يخدعه في درهمه.

وله فيها تعبيرات طريفة بعضها قديم وبعضها حديث كقوله: "تحلب لها فوك، ورقصت لها أشداقك، وقوله: "وخيرك بين لحم شاتك ولحمك"، وتشبهه بالطائر الذي يلتقط الحب من الأحبولة يأكل اليوم وتأكله غدًا.

وهو يكثر فيها من السجع على غير ما عهدناه في الرسالتين السابقتين، ويستخدم ضروب الخيال التفسيري من تشبيه واستعارة، مع ما اتسمت به بقية رسائله من قصر الجمل وتساويها، واللجوء إلى الازدواج، وحسن اختيار الألفاظ.

ص: 217

والمنفلوطي قد قرأ -ولا شك- كثيرًا عن البخلاء: قرأ ما كتبه الجاحظ وما كتبه سهل بن هارون في رسالته المشهورة التي يدافع بها عن البخل.

وإذا رحنا نوازن بين ما كتب قديمًا، وما كتبه المنفلوطي نجد أنه لم يأت بجديد، وكل ما هنالك أنه عبث بصاحبه وساق آراءه في البخل مساق التهكم والسخرية، والتنذر على ذلك الحريص البخيل.

أما الرسالة الرابعة: فهي رسالة إلى صديق كبير يبين فيها المنفلوطي ما اعتراه من اليأس من هذه الحياة ومن فيها من الناس، وكيف استحالت هذه الحياة جحيمًا، ولهذا آثر العزلة حتى يوافيه أجله.

وتعتمد هذه الرسالة على وصف حالة اليأس التي يعانيها بالموازنة بينها وبين حال الأمل التي كان يطمع فيها، فإذا كان الأمل، جنة تغن أشجارها، وترن أطيارها، وتشتجر أغصانها، وتعتنق غدرانها، فاليأس هاجرة "تتلظى نارها، ويعتلج أوراها وتحول بين العيون واغتماضها، والجنوب ومضاجعها، والقلب يهبط به الخوف، فيتمشى بين الأضالع مشية الطائر الحذر".

أما حاله: "فتضرب كحال هذه الدنيا ما بين: "فرح وهم، وسرور وحزن، وقبض وبسط، ومد وجزر".

وهكذا يمضي يصور حالة القلق التي تعتوره: "اذكر الله ورحمته وإحسانه، ورأفته وحنانه، فيشرق لي من خلال ذاكره وجه الحياة الناضرة، وثغرها البارق وجمالها الساطع، وبشرها الضاحك، ثم اذكر الدهر وصروفه، والعيش وحتوفه، والأيام وما أعدت في طياتها لبنيها من عثرات في الخطوات، ونكبات في الغدوات والروحات، فألمس صدري بيدي لأعلم أين مكان قلبي من أضالعي، ثم أنثني على كبدي من خشية أن تصدعا".

ويلجأ إلى الله، إما أن يستكرم برحمته فينقذه من بلائه ويريحه من عنائه، وإما أن يورده حتفه، ويأخذه إليه، "فيستخلصني من موقف أنا فيه كالمريض المشرف، لا هو حي فيرجى، ولا ميت فيبكى".

ص: 218

ويبالغ ويهول فيما يعانيه صاحب الرجاء الكاذب من أهوال أشد إيلامًا "وأنكى وقعًا من النقص الذي يبتلى به عباده: في الأموال والأنفس والثمرات، وما يصيبهم من صاعقة العذاب، وطاغية الطوفان، والزلزال الأكبر والموت الأحمر.

وقد صار بهذه الحال اليائسة البائسة يحسد الحيوان والوحوش الهائمة؛ لأنها لا تفكر في غدها، ولا يقلقها الطمع في آت من الرزق، قد قنعت من الماء بالكدر، ومن العيش بالجشب "الخشن من الطعام"، فتساوى لديها السعد والنحس والنعيم والشقاء.

ويشبه نفسه برجل زلت رجله فوقع في بئر، وقبل أن يهوي إلى قراره علقت رجله بمرقاة، يحاول أن يصعد إلى أعلى فلا يستطيع، وتمنعه المرقاة من الغرق، فهو لا يزال معلقًا بين اليأس والرجاء، تتنازعه المخاوف، وتفتك به الوساوس.

ثم يقول في نهايتها: "هذه هي حالتي، وذلك همي، وهذا ما وسوس لي أن أعتزل الناس جميعًا، وأفارق عشيرتي وصحبي، ويراعي ومحبرتي، علني أجد في البعد عن مثارات الأماني، ومباعث الآمال راحة اليأس، فاليأس خير داء لأمراض الرجاء"، ثم يختمها بما ارتضاه لنفسه وهو في هذه الحال الكثيبة في عزلته:

"فهأنذا قابع في كسر بيتي، ولا مؤنس لي إلا وحدتي، أتخيل البيت قبرًا والثوب كفنًا، والوحشة وحشة المقبورين في مقابرهم؛ لأعالج نفسي على نسيان الحياة، وأمانيها الباطلة، ومطامعها الكاذبة، حتى يبلغ الكتاب أجله، وهذا آخر عهدي بك وبغيرك والسلام".

ونسأل: هل حقًا يبلغ اليأس بإنسان ما، وبخاصة إذا كان عنده شيء من الإيمان -وقد كان عند المنفلوطي منه الكثير- هذه الدرجة من الاضطراب والقلق، وتخيل الحياة جحيمًا لا يطاق حتى إنه ليتمنى الموت، بل ينتظره في وحشة وكآبة دونهما وحشة القبر وكآبته؟؟

ص: 219

وما هذا الأمر الجلل الذي جعله يفقد الثقة بالناس جميعًا، ويفارق عشيرته وصحبه وبراعه ومحبرته، ويحاول أن يقبر الأماني في نفسه؟ لم نعرف أن المنفلوطي مرت عليه بعد أن أخذ في الكتابة مثل هذا الأمر إلا في حالتين: الأولى عندما سجن؛ لأنه هجا الخديوي عباس، ولكن سرعان ما تشفع له المتشفعون فأفرج عنه، والثانية عندما مات أستاذه محمد عبده، فآثر العزلة في بلدته منفلوط، ولكن ما لبث أن استل يراعه، وأخذ يراسل المؤيد بعد برهة من الزمن.

أتراه افتعل هذه الرسالة افتعالًا ليبين ما قد يفعله اليأس بنفوس البائسين، من فقدان الثقفة بالناس، وعدم انتظار رحمة الله التي وسعت كل شيء!!

والرسالة كما نرى معتمدة كل الاعتماد على المقابلة، وهي ضرب من ضروب البديع، كما أن فيها كثيرًا من السجع، وإن كان خفيف الوقع على السمع، ليس متكلفًا ولا باردا، وبالنظرة إلى الحياة ومن فيها تلك النظرة السوداء الكئيبة التي تحيل حياة صاحبها نارًا تتلظى.

وفيها تضمين واقتباس "على كبدي من خشية أن تصدعا"، "ما أضيق العيش لولا فسخة الأمل"، "نقص في الأموال والأنفس والثمرات، من القرآن الكريم، وفيها براعة في تصوير حال اليائس بأكثر من صورة: صورة الظبي الخائف في أرض "تعزف جناتها وتحوم عقبانها، وتزأر سباعها، وتعوي ذئابها، وتحت سماء تتهاوى نجومها، وتتوالى رجومها، وتتراكم غيومها".

وصورة المتعلق بجوف البئر، وصورة المريض المشرف على الموت لا حي فيرجى، ولا يمت فيبكى، وصور هاجر اليأس التي تتظلى نيرانها ويعتلج أوارها.

والأسلوب قد بلغ درجة عالية في السمو والسلاسة والعذوبة والتدفق، عن طريق تلك الجمل القصيرة المتساوية، وبانتفاء الألفاظ المنسجمة النغم بعضها مع بعض، وعن طريق تلك التشابيه الموحية، والصورة الزاهية.

ورسائله في مجملها تسير على نمط مدرسة ابن العميد، فلم يتطور بها كما تطورت مقالاته.

ص: 220