المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌مصطفى لطفي المنفلوطي ‌ ‌مدخل … مصطفى لطفي المنفلوطي: وحري بنا قبل أن نتقدم لدراسة - نشأة النثر الحديث وتطوره

[عمر الدسوقي]

فهرس الكتاب

- ‌المقدمات

- ‌مقدمة

- ‌المحتويات:

- ‌تمهيد:

- ‌البعث

- ‌مدخل

- ‌رفاعة الطهطاوي

- ‌في العراق والشام

- ‌السيد محمود الألوس أبو الثناء

- ‌نصايف اليازجي

- ‌بطرس البستاني:

- ‌أثر الصحافة في تطور الأسلوب:

- ‌الوقائع المصرية:

- ‌مدرسة جمال الدين الأفغاني، وأدب المقالة:

- ‌محمد عبده:

- ‌أديب إسحق

- ‌إبراهيم اللقاني:

- ‌عبد الله نديم:

- ‌أدباء الشام:

- ‌إبراهيم اليازجي:

- ‌نجيب حداد:

- ‌تنوع المقالة:

- ‌أدب الرسائل:

- ‌عبد الله فكري:

- ‌محمد عبده:

- ‌حمزة فتح الله:

- ‌عبد الكريم سلمان:

- ‌أحمد مفتاح:

- ‌عبد العزيز جاويش:

- ‌حفني ناصف:

- ‌إبراهيم اليازجي:

- ‌الكتب الأدبية:

- ‌أسواق الذهب لأحمد شوقي:

- ‌حديث عيسى بن هشام للمويلحي:

- ‌ليالى سطيح لحافظ إبراهيم:

- ‌صهاريج اللؤلؤ للبكري:

- ‌تطور المقال الأدبي

- ‌مدخل

- ‌مصطفى لطفي المنفلوطي

- ‌مدخل

- ‌الاشتراكية عند المنفلوطي:

- ‌اللغة العربية عند المنفلوطي:

- ‌المراثي عند المنفلوطي:

- ‌مقالاته الأدبية:

- ‌رسائله:

- ‌البيان في رأي المنفلوطي:

- ‌أسلوب المنفلوطي:

- ‌منزلة المنفلوطي في موكب الأدب العربي:

- ‌أثر الثقافة الأجنبية في تطور المقال الأدبي:

الفصل: ‌ ‌مصطفى لطفي المنفلوطي ‌ ‌مدخل … مصطفى لطفي المنفلوطي: وحري بنا قبل أن نتقدم لدراسة

‌مصطفى لطفي المنفلوطي

‌مدخل

مصطفى لطفي المنفلوطي:

وحري بنا قبل أن نتقدم لدراسة مقالات المنفلوطي أن نلقي نظرة عابرة على نشأته وثقافته حتى نستطيع أن نقوم أدبه، ونعرف منزلته في موكب أدبنا الحديث.

نشأته وثقافته:

ولد المنفلوطي في سنة 1876 بمنفلوط إحدى قرى الصعيد من أسرة مصرية معروفة بالحسب والشرف، وحفظ القرآن في حداثته، ثم جاء إلى القاهرة ليدرس بالأزهر ومكث به عشر سنوات، ولكنه لم يجد فيه غنيته، ولا طلبته، وضاق بعلومه وطريقة التدريس فيه ذرعًا، وكاد يهجره إلى غير رجعة لولا أنوجد به الأستاذ الإمام محمد عبده يفسر القرآن الكريم بأسلوب جديد ينفذ إلى القلوب والبصائر، ويدرس لطلابه كتابي عبد القاهر الجرجاني في البلاغة:"أسرار البلاغة، ودلائل الإعجاز"، فأعجب به ولزم درسه، وانصرف عن دروس الأزهر، وكان لصحبته للإمام محمد عبده أثر عميق في تفكيره، وتحديد أهدافه، حيث حبب إليه دراسة الأدب، وكان يثني عليه ويطري فطنته وذكاءه، ويرجو أن يكون من خير المنتفعين بعلمه الناشرين لمبادئه وتعاليمه.

وأخذ المنفلوطي يتزود من ينابيع الأدب العربي قديمه وحديثه شعرًا ونثرًا، فقرأ لكبار الكتاب في العصر العباسي من أمثال ابن المقفع والجاحط، وبديع الزمان وغيرهم، كما اهتم بكتب النقد القديمة، فنجد له في مختاراته: صناعة الإنشاء لبشر بن المعتمر، والأديب غير الكاتب للمبرد، ودعوى الأدب للآمدي، وفصاحة القرآن للباقلاني، وإعجاز القرآن للقاضي عياض، وتخير من عيون الشعر العباسي أرقه لفظًا، وأشرفه معنى، فنرى له في مختاراته لأبي تمام وبشار وأبي نواس، والمتنبي وابن الرومي وغيرهم، مما يدل على ذوق مرهف، وحس مصقول، وقرأ كذلك في الدين والفقه والتاريخ، والعلوم الحديثة، ولكنه -والحق يقال- لم يكن متخصصًا فيها حاذقًا لها، وإنما كان يلم بها إلمام الأديب الذي يأخذ من كل فن بطرف على حد قول القدماء.

ص: 170

وكان يتتبع في حرص كتابات أستاذه الشيخ محمد عبده، والكتاب المعاصرين له، وبخاصة ذوي الفكر منهم، ويقرأ بنهم الكتب المترجمة، وبخاصة القصص المترجمة على اختلاف أنواعها، وإن أعجبه منها القصص الرومانسية، ويقول العلامة "جب":"ليس كالمنفلوطي من يتخذ مثلًا باهرًا على أثر التيارات الغربية في العالم العربي".

ثم اتصل بسعد زغلول عن طريق الإمام محمد عبده، وعن طريقهما تعرف بالسيد علي يوسف، صاحب المؤيد، وقد كان لهؤلاء الثلاثة: محمد عبده وسعد زغلول وعلي يوسف أثر كبير في شهرة المنفلوطي ودفعه في الطريق الذي اختاره لنفسه، وهو طريق الأدب والإصلاح الاجتماعي.

ولما اشتد الخلف بين الإمام محمد عبده والخديوي عباس على نحو ما فصلنا فيما سبق من كتابنا "في الأدب الحديث" الجزء الأول هجا المنفلوطي عباسًا بقصيدة مطلعها:

قدوم ولكن لا أقول سعيد

وملك وإن طال المدى سيبيد

رحلت ووجه الناس بالبشر باسم

وعدت وحزن في القلوب شديد

علام التهاني؟ هل هناك مآثر

فتحمد أم سعي لديك حميد

تذكرنا رؤياك أيام أنزلت

علينا خطوب من جدودك سود

فما قام منكم بالعدالة طارق

ولا سار منكم بالسداد تليد

كأني بقصر الملك أصبح بائدًا

من الظلم، والظلم المبين يبيد

وقد نثرت في 3 من نوفمبر 1897، وكان هذا اليوم ميعاد عودة عباس من رحلته إلى أوروبا، وحكم على المنفلوطي بالسجن عامًا، وبغرامة قدرها عشرون جنيهًا، وقضى بسجنه ستة أشهر، وبعد وساطة من الإمام محمد عبده لدى الخديوي حين عاد الوفاق بينهما أفرج عنه، ولما خرج مدح الخديوي شاكرًا بعدة قصائد يقول في إحداها:

وعفوت عني عفو مقتدر

والذنب فوق العفو والغفر

ص: 171

ولما توفي الإمام محمد عبده سنة 1905 ضاقت على المنفلوطي الأرض بما رحبت، واسودت الأيام في وجهه، ورأى القاهرة كئيبة لا تسكن، فآثر أن ينزوي ببلدته منفلوط، ومكث ثمة عامين، وابتداء وهو ببلدته يراسل المؤيد، ويكتب فيه مقالات أسبوعية وكانت أولى مقالاته في أكتوبر 1907.

ولما عاد إلى القاهرة عينه سعد زغلول محررًا عربيًا بديوان المعارف، وكان من المعجبين به المقدرين لمواهبه، ولما نقل سعد وزيرًا للحقانية "العدل" انتقل المنفلوطي معه، ولما اختير سعد وكيلًا للجمعية التشريعية، صحبه محررًا بها، وظل موظفًا بالحكومة حتى سنة 1921حين فصله ثروت على إثر مقالة نشرها يدافع بها عن سعد ويهجو خصومه، ولكنه ما لبث أن دعاه القصر ليشغل وظيفة في أمانة السر بالديوان الملكي، بيد أنه أقيل منها بعد قليل لمناصرته لسعد، وكان سعد في عداء مع القصر.

ولما أسندت إلى سعد رئاسة الوزارة سنة 1924، وافتتح "البرلمان" عين المنفلوطي رئيسًا لكتاب مجلس الشيوخ، بيد أن الأجل لم يمد له في حباله فمات في الثامنة والأربعين من عمره في اليوم الذي اعتدى فيه على سعد "يولو 1924"، فضاع نعيه في زحمة الأحداث.

ينتسب المنفلوطي إلى الإمام الحسين بن علي رضي الله عنهما، وكان أبوه قاضيًا لمنفلوط، وأمة تركية، ولكنها ما لبثت أن طلقت وتزوجت برجل آخر من منفلوط، فكان لذلك -ولا ريب- تأثير كبير على نفس المنفلوطي الشديدة الحساسية.

ويظهر أن النفلوطي عانى بعض شظف العيش أيام أن كان طالبًا بالأزهر، وبعد طلاق أمه، وزواج والده مرة أخرى، بيد أن حالة الفقر هذه قد تبدلت، إذ تزوج بسيدة ثرية، ولما ماتت ورث عنها ستة عشر فدانًا عاش بسببها في رفاهة العيش حتى قال:"قد رزقني الله من المال ما لا أطلب بعده لنفسي مزيدًا"، ولكنه على الرغم مما آل إليه من بسطة في الرزق لم تنسه الأيام سني الخصاصة الأولى فيقول:"ذكرت الجلسة البسيطة التي كنت أجلسها أيام الطلب في غرفتي العادجية الصغيرة بين زملائي الفقراء البسطان فبكيتها، ولم تنسني إياها جلستي اليوم في منزلي الأنيق الجميل بين خير الناس أدبًا وفضلًا ومجدًا"1.

1 نظرات ج 3 ص 208.

ص: 172

وكان المنفلوطي شديد التدين، سليم العقيدة، غير متزمت أو متعصب، لا يبيع دينه بأي ثمن مهما غلا، وكان فيه حيائ يمنعه من الحديث في المجالس حتى ليظن مجالسه أن بلسانه حبسة وعيا، وأنه ليس ذلك الأديب الذي يسيل الكلام المنمق على شباة قلمه عذبًا جميلًا، ولكنه، إذا خلا بأحد خلصائه ممن يأنس لهم، انطلق على سجيته، ورأيت فيه المنفلوطي الكاتب الذي نعرفه، وكان ممن يؤثرون العزلة والبعد عن مزاحمة الناس، وقد آثر السلامة بأن لبس الناس على علاتهم.

هذا وقد كانت الحقبة التي تفتحت فيها مواهب المنفلوطي الأدبية -أي في مستهل القرن العشرين- قد اشتد فيها بطش الإنجليز، وبخاصة بعد الاتفاق الثنائي سنة 1904، وكان المصريون يشعرون شعورًا حادًا بوطأة الاحتلال، ويدركون أنهم من أمة عريقة لها ماضيها وحضارتها ودينها الذي يبعث فيها العزة والكرامة، وتراثها الفكري العظيم، ويحلمون بعودة هذا المجد التليد، فلا بدع إذا راق لهم من الأدب الغربي -ذلك الذي اشتدت به صلتهم على مر الأيام منذ مستهل النهضة- الأدب الروماني الذي يتغنى بأمجاد الأمم ورائع تاريخها، ويعظم القوميات، ويهيم وجدًا بطبيعة الأوطان، والذي كان طابعه العام لدى الفرنسيين بخاصة -بعد انهاير إمبراطورية نابليون، هو الطابع الحزين، إذ وجد شباب فرنسا أنفسهم في فراغ بعد تلك الغزوات الكبيرة والانتصارات المجيدة، وكان في كل بيت مأتم بعد تلك الحروب الطاحنة، والبلاد في ضيق مالي شديد الوطأة بعد أن استنفدت موارد فرنسا في حروب نابليون، فأخذ الأدباء والشعراء يعزفون على قيثارة البؤس أنغامًا حزينة، وإلى أمد غير قليل حتى سميت تلك الأنغام داء العصر.

وقد كان حال المصريين بعد إخفاق الثورة العرابية، ونكبة الاحتلال تشبه حال الفرنسيين بعد أن تقوضت إمبراطورية نابليون، فاعجبهم من الآداب الغربية والأدب الرومانسي في تلك الحقبة، وكان المنفلوطي ممن يعتلج الأسى في صدورهم لرهافة في حسه، وصدق في وطنيته وإخلاص في عزمه على الإصلاح، وهو يرى البؤس والشقاء والفقر والمرضى يحيط به أني ذهب مع شعور بموهبته، ومن هنا انطلق يبكي ويصور آلام نفسه وبؤس قومه.

ص: 173

لم يكن المنفلوطي يعرف من اللغات غير العربية، ولكن ذلك لم يمنعه من قراءة ما ترجم من اللغات الأجنبية إليها، وأعجب بآثار الرومانسيين، وأقبل عليها بشغف ولذة، وقد شاء له طموحه أن يترجم بعض هذه الآثار القصصية، ولكن كيف السبيل إلى هذا وهو لا يجيد أي لغة غربية، ومن ثم دعا من ترجم له ترجمة حرفية بعض هذه القصص من طويلة وقصيرة، ثم صاغها بقلمه صياغة عربية مع كثير من التصرف والحرية في التعبير كما فعل في قصة "برناردين دي سان بيير""بول وفرجيني" التي سماها الفضيلة، وكانت قد ترجمت من قبل على يد محمد عثمان جلال، وكما فعل بقصة "ألفونس كار""ماجدولين"، وقصة "أدمون روستان""الشاعر أوسير أنودي برجراك"، وقصة "فرانسوا كوبيه""في سبيل التاج"، والأخيرتان تمثيليتان أحالهما المنفلوطي إلى الأسلوب القصصى السردي، وكذلك فعل ببعض القصص القصيرة التي نشرها في كتابه العبرات.

وليس من همي في هذا البحث أن أدرس قصص المنفلوطي المؤلف والمترجم، فذلك يأتي في دراسة تطور القصة المصرية، وإنما الذي يعنيني هنا هو المقال الأدبي لدى المنفلوطي، وقد رأينا آنفًا ينابيع الثقافة التي اغترف منها وأثرت في أدبه: الثقافة العربية القديمة، وآراء المصلحين الاجتماعيين في عصره، وبخاصة آراء أستاذه الإمام محمد عبده، والكتب والقصص المترجمة، ومن هنا نجد أن المنفلوطي لم يكن عميق الثقافة، واسع آماد الفكر وإنما كان قوي العاطفة، مرهف الحس والذوق، يضفي على كل ما يتناوله يراعه رونقًا وجمالًا من بارع أسلوبه وفيض عاطفته، فيحس القارئ إسحاسًا قويًا بانفعالات نفسه، والتذاذًا بحلو صياغته وجمال عرضه.

وقد استطاع المنفلوطي أن يبتدع طريقة جديدة في الكتابة الأدبية، طريقة تخالف تلك التي اشتهرت في القرن التاسع عشر لدى الكتاب الأدباء، إذ كانوا يحفلون بالسجع والزخارف البديعية، ويتكلفون ذلك تكلفًا، ويغلبهم على أساليبهم محفوظهم من الأدب القديم، فيرددون تشابيهه ومجازاته وكتاباته، وإن كانت لا تناسب الموضوع والبيئة والعصر.

ص: 174

وهي طريقة تخالف كذلك النثر الصحفي الذي يكتب لساعته، ويخوض فيغمار المعارك السياسية، فلا يتأنى صاحبه في انتقاء الألفاظ وتجويد الجمل وصقل الأسلوب، ومع أن المنفلوطي قد درس الأدب القديم، وتخير أطايبه لغذاء نفسه وعقله، إلا أنه استطاع أن يفلت من ربقته إلى حد كبير فكيف تأتى له هذا؟

دعنا نستمع إليه وهو يحدثنا كيف تهيأت له هذه السبيل: "كنت أقرأ من منثور القول ومنظومه ما شاء الله أن أقرأ، ثم لا ألبث أن أنساه، فلا يبقى منه في ذاكرتي إلا جمال آثاره، وروعة حسنه، ورنة الطرب به، وما أذكر أني نظرت في شيء من ذلك لأحشو به حافظتي، أو أستعين به على تهذيب بياني أو تقيوم لساني، أو تكثير مادة علمي باللغة والأدب، بل كل ما كان من أمري أنني كنت امرءًا أحب الجمال، وأفتن به كلما رأيته: في صورة الإنسان، أو مطلع البدر، أو مغرب الشمس، أو هجعة الليل، أو يقظة الفجر، أو قمم الجبال، أو سفوح التلال، أو شواطئ الأنهار، أو أمواج البحار، أو نغمة الغناء أو رنة الحداء، أو مجتمع الأطيار أو منتثر الأزهار أو رقة الحس، أو عذوبة النفس أو بيت الشعر، أو قطعة النثر، فكنت أمر بروض البيان مرا فإذا لاحت لي زهرة جميلة بين أزهاره، تتألق عن غصن زاهر بين أغصانه، وقفت أمامها وقفة المعجب بها، الحاني عليها، المستهتر بحسن تكوينها، وإشراق منظرها، من حيث لا أريد اقتطافها أو إزعاجها من مكانها، ثم أتركها حيث هي، وقد علقت بنفسي صورتها إلى أخرى غيرها، وهكذا حتى أخرج من ذلك الروض بنفس تطير سرورًا به، وتسيل وجدًا عليه، وما هي إلا أن درت ببعض تلك الرياض بعض دورات، ووقفت ببعض أزهارها بعض وقفات حتى شعرت أني قد بدلت من نفسي نفسًا غيرها، وأن بين جنبي حالًا غريبة لا عهد لي بمثلها من قبل، فأصبحت أرى الأشياء بعين غير التي كنت أراها بها، وأرى فيها من المعاني الغربية المؤثرة ما يملأ العين حسنًا والنفس بهجة".

هام المنفلوطي بالأدب حبًا منذ حداثته، وقد حاربه شيوخه في الأزهر وحاولوا أن يقفوا بينه وبين كتبه الأدبية، فنفر منهم وازداد شغفًا به وعكوفًا عليه، وما إن آنس من نفسه القدرة على الإفصاح عما يجيش في صدره، وما يختمر في فكره حتى أشهر يراعه، ولم يضعه إلا حين وافته منيته.

ص: 175

خصائص أسلوبه:

وحري بنا قبل أن نتكلم عن خصائص أسلوبه أن نتقدم بالحديث عن موضوعات مقالاته كما سجلها كتابه النظرات، معظم هذه الموضوعات اجتماعية ومنها في الدين والرثاء أو الأدب، ولا شك أن النشأة الدينية التي نشئها المنفلوطي في بيت شرف ونسب، ثم دراسته بالأزهر، وصحبته للأستاذ الإمام محمد عبده وتشربه مبادئه، وإعجابه به هي التي وجهته تلك الوجهة وأملت عليه الكتابة في تلك الموضوعات.

وأهم ما يلفت النظر في موضوعاته الاجتماعية شدة سخطه وحتفه على الحضارة الغربية، حضارة المستعمر، إذ كان يرى أنها هي التي جرت الموبقات والمفاسد إلى الأمة، وباعدت بين جمهرة الناس والسلوك الديني الطيب، وأنها خدعة من خدع الاستعمار يفتن بها الشعوب المغلوبة على أمرها، ولا يلبث أن يجذبها لألاؤها فتنحل أخلاقها، وتشيع بينها الفحشاء، والاتجار بالأعراض وانتهاك الحرمات، وشتى ألوان الشرور والآفات الاجتماعية، فقام المنفلوطي يحارب هذه المندينة غير ناظر إلا لمساوئها، بل كان يرى أنه من الخير للشرق أن يتجبنها ما استطاع إلى ذلك سبيلًا ولو ظل على جهالته، فيقول في ذلك.

"فكان من همي أن أدل على شرور الأشرار الكامنة في نفسوهم، وأن أكشف الستر عن دخائل قلوبهم حتى يتراءوا ويتكاشفوا، فيتواقفوا ويتحاجزوا، فلا يهنأ خادع، ولا يبكي مخدوع على نكبته، ولا يتخذ بعضهم بعضًا حمرًا يركبونها إلى أغراضهم ومطامعهم، وكان منشئي في قوم بداة سذج، لا يبتغون بدينهم دينًا، ولا بوطنهم وطنًا، ثم ترامى بي الأمر بعد ذلك، وتصرفت بي الحياة في شئون جمة، فخضعت لكثير من أحكام الدهر وأقضيته إلا أن أكون ملحدًا في ديني أو زاريا على وطني، فاستطعت وقد غمر الناس ما غمرهم من هذه المدينة الغربية أن أجلس ناحية، وأن أنظر إليها من مرتب عال، وكنت أعلم أن من أعجز العجز أن ينظر الرجل إلى الأمر نظرة حمقاء، فإما أخذه كله أو تركه كله، فرأيت حسناتها وسيئاتها وفضائلها ورذائلها، وعرفت ما يجب أن يأخذ

ص: 176

منها الأخذن وما يترك التارك، فكان من همي أن أحمل الناس من أمرها على ما أحمل عليه نفسي، وأن أنقم من هؤلاء العجزة الضعفاء، وتهالكهم لها واستهتارهم بها، وسقوطهم بين يدي رذائلها ومخازيها وإلحادها، وزندقتها وشحها وقسوتها وشرها وحرصها وتبذلها وتهتكها، حتى أصبح الرجل الذي لا بأس بعلمه وفهمه إذا حزبه الأمر في مناظرة بينه، وبين من يأخذ برذيلة من الرذائل لا يجد بين يديه ما ينضج به عن نفسه إلا أن يعتمد عليها في الاحتجاج على فعل ما فعل أو ترك ما ترك، كأنما هو القانون الإلهي الذي تثوب إليه العقول عند اختلاف الأنظار والأفهام".

ولكن المنفلوطي وإن كان كما قال -قد نظر إلى مساوئها ومحاسنها فلم يذكر شيئًامن تلك المحاسن، بل كان يحرص على الابتعاد عنها ما استطاع المرء إلى ذلك سبيلًا، ويقول في مقال بعنوان "المدنية الغربية":

"إن خطوة واحدها يخطوها المصري إلى الغرب تدني إليه أجله، وتدنيه من مهوى سحيق يعتبر فيه قبرًا لا حياة له من بعده إلى يوم يبعثون، لا يستطيع المصري وهو ذلك الضعيف المستسلم أن يكون من المدينة الغربية إن داناها إلا كالغربال من دقيق الخبز يمسك خشاره ويفلت لبابه، أو الراووق من الخمر يحتفظ بعقاره، ويستهين برحيقه، فخير له أن يتجنبها جهده، وأن يفر منها فرار السليم من الأجرب".

وقد أغرم المنفلوطي بالكتابة في الدعارة، والخيانة الزوجية والانتحار، وسقوط الفتيان والفتيات في مهواة الرذيلة، وانحراف بعض الأزواج عن جادة الدين والفضيلة، وهو يعز ومعظم هذا الفساد إلى تسرب المدينة الغربية إلى بيوتنا وأفكارنا وعاداتنا، وكان يلتقط أحيانًا الموضوعات التي يتناولها بالكتابة مما يتردد في الصحف من حوادث وأخبار، والصحف من همها نشر الخبر المثير، والفضائح الجذابة، وأنباء أبناء العلية، وهم قد ألفوا الخروج على العادات المألوفة، بسبب ما أخذوا من أسباب المدينة الغربية، وما جلبته من أوصاب رزئ بها المجتمع، مع أن التحلل من الأخلاق، واستشراء الفساد يصاحب المدنيات في كل عصر وكل بلد، وليس وقفًا على مدنية الغرب.

ص: 177

وإذا كان له بعض العذر في تحذيره وتهويله حتى لا يجرفنا التيار دفعة واحدة فننهار، ونفقد مقومات شخصيتنا، وننسى في غمرة التقليد كل ما لنا من حسنات، بيد أن نظرته إلى الحياة الاجتماعية في زمنه كانت نظرة متشائمة يائنة، فقد صور المجتمع تصويرًا بشعًا، وبالغ في تجسيم الآفات، ويتخذ من الحوادث الفردية ظاهرة عامة كما نراه في مقالته "الآداب العامة"، وكما في حديثه عن انتحار الطلبة في موسم الامتحانات، فلم يكن داء عضالًا منتشرًا بين جماهير الطلبة، ولا يعدو حادثة أو اثنتين، وبخاصة تلكم الأيام التي عاشها المنفلوطي في أوائل القرن العشرين قبل أن تنعقد الحياة.

ومقاله "أين الفضيلة" يوحي بأن المجتمع فاسد جملة في كل طوائفه:

"فتشت عن الفضيلة في حوانيت التجار، فرأيت التاجر لصًا في أثواب بائع وجدته يبيعني بدينارين ما ثمنه دينار واحد، فتشت عن الفضيلة في مجالس القضاء فرأيت أن أعدل القضاة من يحرص الحرص كله على ألا يهفو في تطبيق القانون الذي بين يديه هفوة يحاسبه عليها من منحه هذا الكرسي الذي يجلس عليه مخافة أن يسلبه إياه، أما إنصاف المظلوم، والضرب على يد الظالم وإراحة الحقوق على أهلها، وإنزال العقوبات منازلها من الذنوب فهي عنده ذيول وأذناب لا يأبه لها.

فتشت عن الفضيلة في تصور الأغنياء فرأيت الغنى إما شحيحًا أو متلافًا. فتشت عنها في مجالس السياسة فرأيت أن المعاهدة والإتفاق، والقاعدة والشرط ألفاظ متردفة معناها الكذب

فتشت عنها بين رجال الدين فرأيتهم -إلا من رحمة الله- يتجرون بالعقول في أسواق الجهل.

سيقول كثير من الناس: قد غلا الكاتب في حكمه وجاوز الحد في تقديره

ولكني أقول لهم قبل أن يقولوا كلمتهم: إني لا أنكر وجود الفضيلة، ولكني أجهل مكانها، فقد عقد رياء الناس أمام عيني سحابة سوداء أظلم لها بصري، حتى ما أجد في صفحة السماء نجمًا لامعًا ولا كوكبًا طالعًا

كل الناس يدعي الفضيلة وينتحلها، وكلهم يلبس لباسها، فمن لي بالوصول إليها في هذا الظلام الحالك والليل الأليل؟ ".

ص: 178

أتراه الحرص على ألا يشاهد أي انحراف مهما صغر شأنه عن جادة الصواب والحق والفضيلة، والدين هو الذي جعله يبالغ ويهول فيما يراه، أو يسمع به في هذه الانحرافات الصغيرة؟ أم أن التهويل غلب عليها فيما يتناوله من آفات المجتمع وسواه شأن ذوي العواطف المرهفة، وأصحاب المواعظ والخطب حين ينساقون مع عواطفهم، وحميا حماستهم

يشكو له شاب أصابه الصمم الكامل يطلب منه كلمة غراء، وبدلًا من أن يواسيه ويخفف عنه ويلته، إذ به يحيل الدنيا أمام عينيه سوداء قاتمة، وذلك في مقالته "الزهرة الذابلة" حيث يمتلئ صدر الشاب بعد قراءة المقال يأسًا وقنوطًا، فلا يجد أمامه إلا الانتحار، بل إن المنفلوطي يحرضه عليه، ويدفعه إليه، وكان في قدرته أن يحيل يأسه إلى أمل وجزعه إلى صبر، ولنستمع إليه يقول له:"لا أستطيع أن أعزيك عن مصابك يا بني فهو فوق ما يحتمل المحتمل، ويطبق الجلد الصبور، ولو أنني حاولت ذلك منك لكذبتك وغششتك، وأعوذ بالله أن أكون -يا بني- من الكاذبين في تعزيتك أو الغاشين لك فيها، ولو أردت نفسي على ذلك لما استطعت".

ولكننا نراه يقول له: "وكثير عليك يا بني وأنت زهرة يانعة في روض الشباب، وابتسامة لامعة في ثغر الآمال، وفجر مشرق في سماه الحياة أن تصعد على هذه الربوة الزاهرة المخضلة من ربى الحياة، فلا تلبث إلا قليلًا حتى يمر بك فارس الدهر، فيختطفك من مكانك ثم لا يعدو بك قليلًا حتى يلقيك على هذه الصخور الصماء، فوارحمتاه لك يا بني مما بك اليوم، ومما يستقبلك به الدهر غدًا".

فهل قدم المنفلوطي للفتى الذي جاءه مستغيثًا، يتطلب الكلمة الرطبة تنزل بردًا وسلامًا على قلبه الصادي فتخفف لوعته، وتزيل حسرته -الدواء الناجع، والتراياق النافع

لا أظن.

وكان المنفلوطي في اجتماعياته يفرط في حنوه على المرأة، ويبالغ في ذلك مبالغة عجيبة، وينعي على الرجل قسوته وغلظته، وكان يكره الطلاق ويمقته -وهو على حق- وحتى إذا زلت المرأة، وساءت سيرتها، فإنه يلتمس لها

ص: 179

المعاذير، وينحو باللوم الشديد على الذئب البشري الذي افترسها، إما؛ لأنه أكرمها على ما كانت تتأبى عليه، أو خدها ومناها ثم خاس في عهده، وتركها بعد أن قضى منها لبانته، ولهذا كان المنفلوطي من أنصار الحجاب الصفيق حفاظًا على المرأة، وحماية للفضيلة.

ويقول المنفلوطي في مقدمة النظرات مبينًا بعض الأسباب التي دعته إلى الخوض في هذه الموضوعات: "رأيت الترائي بالرذيلة حتى ادعاها لنفسه، ونحلها إياها من لا يتخلق بها طلبًا لرضا الناس عنه برضاه عنها، ورأيت البراءة من الفضيلة حتى فر بها صاحبها من وجوه الساخرين به، والناقمين عليه فرار العاري بسوأته، والموسوم بخزيته".

وإذا كان المنفلوطي قد خانه التوفيق في معالجة بعض الأدوء الاجتماعية لفرط حماسته، وضحالة دراسته، واصطناعه الأسلوب الخطابي والتهويل والمبالغة، فقد كانت ثمة مقالات بلغ فيها من العظة وقوة التأثير أمدًا بعيدًا، وقد حاول فيها تشخيص بعض آفاتنا الاجتماعية، والحملة عليها من ذلك تزويج الفتيات الصغيرات بمن يكبروهن في السن طمعًا في مال أو جاه من غير اعتبار لفارق السن أو قسوة المعاملة أو عدم التكافؤ، وكإهمال الرجل تربية أولادهم، وتسكعهم على المقاهي وقوارع الطرق، فيفسد البيت وينحرف الأولاد.

ص: 180