الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العراق لم يتأثر بعوامل هذه النهضة، وظل القوم عاكفين على الأدب القديم، وعلى النماذج الرديئة منه بصفة خاصة، ولم يكن لهم اتصال بالعالم الخراجي إلا عن طريق اللغة التركية أو زيارة عاصمة الخلافة، وهم معذورون ولا شك، فإذا حصلوا شيئًا من العربية وعلومها فبمجهودهم الخاص، دون عون الحكومة، بل إن الحكومة قد فرضت في مدارسها اللغة التركية تدرس بها كل العلوم، وصارت تزاحم العربية مزاحمة شديدة.
فإذا ذهبنا إلى بلاد الشام وجدنا منذ مستهل القرن التاسع عشر اهتمامًا قويًا باللغة وآدابها، ورأينا النهضة تتجه وجهة أدبية منذ ظهورها، بفضل الإرساليات التبشيرية، وما أثارته من جدل ديني وترجمات للكتب المقدسية على أن التخلص من الأسلوب الموروث في النثر لم يكن هينًا، ورأينا مباهاة الأدباء تظهر في محاكاتهم لأسلوب المقامات.
نصايف اليازجي
…
ناصيف اليازجي:
خذ مثلًا ناصيف اليازجي "1800-1871"، وكان معاصرًا لرفاعة الطهطاوي نجده يحرص على كتابة المقامات، حتى بلغت ستين مقامة جمعها في كتاب سماه "مجمع البحرين" طبع لأول مرة ببيروت سنة 1856، وبينما كان النثر يتطور في مصر، ويسير بخطى واسعة نحو التحرير والانطلاق، كان لا يزال أسلوب المقامة سائدًا في بلاد الشام، وكان القوم يعدونه مجتلى فخارهم بمعرفة ذخائر اللغة وغريبها، وقدرتهم الفائقة على محاكاة الحريري، والقاضي الفاضل والسيوطي في أسجاعهم، يقول الشيخ ناصيف في مستقل مقامته الخزرجية: "قال سهيل بن عباد، دخلت بلاد العرب، في التماس بعض الأرب، فقصدت نادى الأوس والخزرج، لأتفرج وأتخرج، وآخذ من ألسنتهم بعض المنهج، فلما صرت في بهرة النادي، أخذ بمجامع فؤادي، فجلت بين القوم ساعة، وأنا أحدق إلى الجماعة، وإذا شيخنا ميمون بن خزام، قد تصدر في ذلك المقام، وهو يقول: من أراد أن يعرف جهينة أو شاعر مزينة، فليحضر ليسمع ويرى، فإن كل الصيد في جوف الفرا، فعمد إليه رجل وقال، أطرق كرى، إن النعامة في القرى، فقال الشيح: كل فتاة بأبيها معجبة، فكن سائلًا أو مسئولًا لنرى ما في القداح من الأنصبة
…
إلخ".؟
وكان له بجانب ذلك الأسلوب مرسل خال من السجع، ولكنه لم يرتفع فيه إلى درجة الأسلوب الأدبي، وكان يلجأ إليه حين يشرح قضية، أو يخوض في مسألة اجتماعية أو تاريخية، ولعله اصطنع هذا الأسلوب حين رأى رواجه لدى كتاب مصر في أخريات حياته، ولقد تأثر لبنان بخاصة، وبلاد الشام بعامة بتلك النهضية التي تفتحت أزهارها بمصر، ولا أدل على ذلك من قول المعلم بطرس البستاني الذي كان معاصرًا لرفاعة الطهطاوي 1819-1883 عند كلامه على حال اللغة في عهده، وكيف تدهورت، ودخلها كثير من الكلمات الأعجمية، بل إن هؤلاء الأعاجم قد حاولوا جاهدين إفساد لغتنا: "ومع أننا نرى العجم والتتر، والإفرنج من الجهة الواحدة آخذين في توسيع دائرة لغاتهم، وإدخالها بين العرب، والمتفرنجين من الجهة الواحدة آخذين في إفساد، وإماتة لغة أمتهم بواسطة إبدالهم كلماتها المأنوسة بكلمات أجنبية نافرة لا تليق باللغة العربية، كما أن ملبوس أهلها لا يليق بالعرب، مع أنه كما أن الناس تحتاج إلى الناس، كذلك اللغات تحتاج إلى غيرها، ولكن يجب الاقتصار على ما لا وجود له في أصل تلك اللغة مما يزيدها قوة وحسنًا
لا تنافرًا وثقلًا.
هذا ولا ينبغي أن نغفل عن تلك الكلمات النافرة الميتة الموجودة في قواميس اللغة العربية مما لا فائدة منه للعرب إلا التثقيل على الذهن العربي، والقلم الشرقي".
وبعد أن يتكلم على اللغات الدارجة التي نشأت في كل قطر عربي، وزاحمت اللغة الفصحى، وما في ذلك من مضرة باللغة وخسارة فادحة، تلفت حوله فوجد حقول الآداب العربية يبابا، وأخذ يتحسر على ما منوا به من فقد علمائهم، وكتابهم، وأطبائهم وشعرائهم وخطبائهم، ومدارسهم وفلاسفتهم، ثم نوه بما قام به رجال الإرساليات التبشيرية في ربوع الشام من بعث تلك النهضة على يد مدارسهم ومطابعهم، ثم يقول: "وقد فعل محمد علي في هذا الجيل بكتب الإفرنج ما فعله كرولس الكبير بكتب العرب، فأمر بترجمة أطايبها إلى اللغة
العربية، وسلمها مع كثير من الكتب العربية القديمة للمطبعة المعتبرة الموجودة في بولاق من الإقليم المصري، فخرج منها كتب شتى في اللغة والطب والطبعات، والتاريخ وهلم جرا، فزين لغته العربية بكامل الفنون والصنائع من العربية والإفرنجية، وعسى أن يحذو أنجاله، وحفدته حذوه في هذا الأمر".
ونرى من هذا النص أن البستاني كان واقفًا على مدى ما تحتاجه اللغة العربية من إصلاح، وما أصابها من ضعف، وما قام به محمد علي، ورجاله في سبيل تنميتها، وبث روح الحياة في أوصالها بنقل علوم الغرب إليها.
ونرى كذلك أن البستاني في هذه المقالة قد اصطنع الأسلوب المرسل غير المسجوع، وآثر السهولة في التعبير، وكان من دعاة هذا الأسلوب، ونعى على هؤلاء المتحذلقين الذين يتمسكون بأسلوب الحريري المسجوع، أو الذين ينقبون في المعاجم جريا وراء كلمة غريبة:"ولكن إذا وجد قوم من أصحاب الغنى، والخطر يلذ لهم الفحص عن الأمور القديمة، والتفتيش عن المواد السالفة، ويقصدون ذلك بالذات، فلنترك لهم الحرية التامة في هذا الأمر، وتكلفهم المحافظة على اللغة القديمة، ولندع تكأكؤ الأعرابي وأساجيع الحريري، وفيروز باديات الفيروزبادي موضوعات لتأملاتهم الدائمة، ودرسهم الأبدي"، ولعله كان يائسًا من أهل جيله؛ لأنه ذكر بعد هذا قوله:"والظاهر أن هذا لإصلاح محفوظ للأجيال المستقبلة".
ومع سلامة عبارته في مجملها إلا أنها لم تخل من الأخطاء اللغوية، والنحوية فاستخدم واسطة وصحتها وساطة، وأدخل باء الإبدال على المأخوذ لا على المتروك كما هي القاعدة في قوله:"وإماتة لغة أمهم بواسطة إبدالهم كلماتها المأنوسة بكلمات أجبية نافرة"، ولم يخل أسلوبه كذلك من الركاكة كقوله: "وعلى أنه كما أن الناس تحتاج إلى الناس كذلك اللغات
…
" إلخ.
ومع وجود المترسلين أمثال البستاني في لبنان، فإن الموضوعات التي طرقوها لم تكن جديدة، ولم تعمل على إثراء اللغة، والأفكار، والصور ولم يزودوها بشيء