المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌اللغة العربية عند المنفلوطي: - نشأة النثر الحديث وتطوره

[عمر الدسوقي]

فهرس الكتاب

- ‌المقدمات

- ‌مقدمة

- ‌المحتويات:

- ‌تمهيد:

- ‌البعث

- ‌مدخل

- ‌رفاعة الطهطاوي

- ‌في العراق والشام

- ‌السيد محمود الألوس أبو الثناء

- ‌نصايف اليازجي

- ‌بطرس البستاني:

- ‌أثر الصحافة في تطور الأسلوب:

- ‌الوقائع المصرية:

- ‌مدرسة جمال الدين الأفغاني، وأدب المقالة:

- ‌محمد عبده:

- ‌أديب إسحق

- ‌إبراهيم اللقاني:

- ‌عبد الله نديم:

- ‌أدباء الشام:

- ‌إبراهيم اليازجي:

- ‌نجيب حداد:

- ‌تنوع المقالة:

- ‌أدب الرسائل:

- ‌عبد الله فكري:

- ‌محمد عبده:

- ‌حمزة فتح الله:

- ‌عبد الكريم سلمان:

- ‌أحمد مفتاح:

- ‌عبد العزيز جاويش:

- ‌حفني ناصف:

- ‌إبراهيم اليازجي:

- ‌الكتب الأدبية:

- ‌أسواق الذهب لأحمد شوقي:

- ‌حديث عيسى بن هشام للمويلحي:

- ‌ليالى سطيح لحافظ إبراهيم:

- ‌صهاريج اللؤلؤ للبكري:

- ‌تطور المقال الأدبي

- ‌مدخل

- ‌مصطفى لطفي المنفلوطي

- ‌مدخل

- ‌الاشتراكية عند المنفلوطي:

- ‌اللغة العربية عند المنفلوطي:

- ‌المراثي عند المنفلوطي:

- ‌مقالاته الأدبية:

- ‌رسائله:

- ‌البيان في رأي المنفلوطي:

- ‌أسلوب المنفلوطي:

- ‌منزلة المنفلوطي في موكب الأدب العربي:

- ‌أثر الثقافة الأجنبية في تطور المقال الأدبي:

الفصل: ‌اللغة العربية عند المنفلوطي:

‌اللغة العربية عند المنفلوطي:

ومن الموضوعات التي اهتم بها المنفلوطي في مقالاته الاجتماعية موضوع اللغة العربية، وقد رأى أن الهجمات قد اشتدت عليها من جهات كثيرة، من المستعمر الذي كان يمني نفسه بأن تتحول عنها إلى العامية حتى تنقطع بيننا وبين تراثنا وقرآنا وديننا الأسباب، وننسى حاضرتنا وتاريخنا وأمجادنا، فننصاع لتراهاته وسخافاته، وتقبل على ثقافاته، ومن بعض أذنابه الذين دأبوا على الترويج لما يقول، وقد شرحنا ذلك مدعومًا بالأدلة من أقوالهم في كتابنا الأدب الحديث دافع المنفلوطي عن اللغة العربية، ورد القول على من ادعى قصورها عن مقتضيات الحضارة الحديثة، وبين ان عوامل نموها كثيرة وبخاصة الاشتقاق، ويعجب من أن عرب الجاهلية بلغ بهم الترف اللغوي حدا وضعوا منه خمسمائة اسم للأسد، وأربعمائة للداهية وثلاثمائة للسيف، "ونحن نراها اليوم تضيق عن حاجتنا فلا نعرف لأداة واحدة من آلاف الأدوات التي يصنعها المعمل الواحد اسمًا عربيًا، اللهم إلا القليل التافة من أمثال: المسبر، والمبرد، والمشار، والمسمار".

وهو حينما يقول هذا، لا يعني الإزراء بها، والتحقير لها، وإنما يحاول جاهدًا أن يبعث فيها الحياة حتى تساير نهضتنا، وقد كمنت فيها عوامل نموها ورقيها، فرأى أن الحاجة ماسة إلى العناية الشديدة بأمرها، لا في مفرداتها فحسب، ولكن في أساليبها وتصفيتها من المبتذل الساقط، وقد أجمل رأيه بقوله: "إن كان الجاهليون في حاجة إلى مجتمع لتوحيد اللهجات المتشعبة، فنحن في حاجة إلى مجتمعات كثيرة: مجتمع لجمع المفردات العربية المأثورة وشرح أوجه استعمالها الحقيقية والمجازية في كتاب واحد يقع الاتفاق عليه والإجماع على العمل به، ومجتمع دائم لوضع أسماء للمسميات الحديثة بطريقة التعريب أو النحت أو الاشتقاق، وآخر للإشراف على الأساليب العربية المستعملة وتهذيبها وتصفيتها من المبتدل الساقط، والمستغلق النافر، والوقوف بها عند الحد الملائم للعقول والأذهان، وآخر للمفاضلة بين الكتاب والشعراء والخطباء، ومجازاة المبرز منهم والمقصر إن خيرًا فخير وإن شرًا فشر.

قال المنفلوطي هذا قبل أن ينشأ مجمع اللغة العربية، وقبل أن ينشأ المجلس الأعلى لرعاية الفنون والآداب وتخصص الجوائز العديدة لتشجيع المبرزين في مختلف الميادين، وإن دل هذا الرأي على شيء فإنه يدل على شدة حرصه على نهضة اللغة ومسايرتها للمدينة الحديثة، وبقاء أسلوبها عربية فصيحًا لا تشويه شوائب العجمة، والرقي بالأدب شعرًا ونثرًا.

وكما كان المنفلوطي شديد الحفاظ على اللغة كان كذلك شديد الحفاظ على الدين الإسلامي في سماحته، وقويم سلوكه، وكريم عاداته، وسامي أخلاقه، وعلى الرابطة التي تربط بين أهله إنه يريده نقيًا من شوائب البدع والآفات التي دست على بساطة عقيدته، ويريده قويًا بأهله الأقوياء.

ص: 193

وقد مرت بنا حملته على هؤلاء الذين يقفون الضباع الواسعة على قوم من ذوي البطالة والجهالة نظير انقطاعهم لتلاوة الآيات وترديد الصلوات، وقراءة الأحزاب والأوراد، ويريد أن ينقطع عنهم هذا الإحسان حتى يتعلموا صنعة أو مهنة يرتزقون منها رزقًا شريفًا.

فبهذا أمر الدين، وحث كل فرد على الإسهام في بناء المجتمع وخيره، وأما هؤلاء المحترفون للدعوات والصلوات، المتعطلون عن العمل النافع فهم ليسوا من الدين في شيء، والإحسان إليهم ضار بهم وضار للمجتمع على السواء.

وكذلك مرت بنا حملته على أدعياء التصوف، ومشايخ الطرق ويقول:"لو أنصفوهم لسموهم قطاع الطرق".

وقد رد على "كرومر" في كتابه مصر الحديثة MODERN EGYPT حين رمى الإسلام بكل نقيصة محتجًا بما صار إليه المسلمون من ضعف وهوان، وما عليه جمهرتهم من فساد وانحلال، وأخذ المنفلوطي في رده يفند مزاعمه، ويوازن بين الإسلام والمسيحية، والمدينة الحاضرة التي لا تمت إلى المسيحية بصلة، بل هي مدينة مادية بحت، تتنكر الأديان والروحانيات، وعزا في حماسة جارفة كل ما أصاب المسلمين من ضعف، وما دخل دينهم من خرافات ويدع إلى "قوم من المسيحيين، أو أشباه المسيحيين لبسوا لباس الإسلام، وتزيوا بزيه، ودخلوا فيه، وتمكنوا من نفوس ملوكه الضعفاء، وأمرائه الجهلاء فأمدوهم بشيء من السطوة والقوة، تمكنوا بها من نشر مذاهبهم السقيمة وعقائدهم الخرافية بين المسلمين

"كل ما نراه اليوم بين المسلمين من الخلط في عقيدة القضاء والقدر، وعقيدة التوكل، وتشييد الأضرحة، وتجصيص القبور، وتزيينها، والترامي على أعتابها، والاهتمام بصور العبادات وأشكالها دون حكمها وأسرارها، وإسناد النفع والضر إلى رؤساء الدين، وأمثال ذلك أثر من آثار المسيحية الأولى، وليس من الإسلام في شيء".

وهو ينفي عن المسلمين التعصب الديني تلك التهمة التي يسارع إليها المستعمرون كلما وجدوا من المسلمين يقظة فكرية أو نهضة وطنية، ومع ذلك:"فهل التعصب الديني إلا اتحاد المسلمين يدا واحدة على الذود عن أنفسهم والدفاع عن جامعتهم، وإعلاء شأن دينهم حتى يكون الدين كله لله".

ص: 194

والحق أن المنفلوطي كان يمثل المسلم المستنير، والبعيد البعد كله عن التعصب الذميم، وهو حين ينفي تعصب المسلمين ضد من يخالفهم في الدين فإنما يقرر حقيقة، إذ لو كان لدى المسلمين أي تعصب للاشت الأكثرية الأقلية من زمن بعيد، في حين نرى المسلمين والمسيحيين يعيشون في كنف وطن واحد في ظل المودة، والإخاء عملًا بتعاليم الإسلام التي أوصت بأهل الذمة خيرًا.

ولا أدل على عدم تعصب المنفلوطي من ثورته العارمة عندما هاج المسلمون على المسيحيين في وية "أطنة" إحدى ولايات الدولة العثمانية، وقتلوهم ومثلوا بهم عام 1909، ويقول مخاطبًا المسلمين:"لو جاز لكل إنسان أن يقتل كل من يخالفه في رأيه ومذهبه، لأقفرت الأرض من ساكنها، وأصبح ظهر الأرض أعرى من سراة الأديم".

ويقول لهم: "وما جاء الإسلام إلا ليقضي على مثل هذه الهجمية والوحشية التي تزعمون أنها الإسلام، ما جاء الإسلام إلا ليستل من القلوب أضغانها وأحقادها، ثم يملؤها بعد ذلك حكمة ورحمة، فيعيش الناس في سعادة وهناءة".

ويشتد عليهم بقوله: "عذرتكم بعض العذر لو لم تقتلوا الأطفال الذين لا يسألهم الله عن دين ولا مذهب قبل أن يبلغوا سن الحلم، والنساء الضعيفات اللواتي لا يحسن في الحياة أخذا ولا ردًا، والشيوخ الهالكين الزاحفين وحدهم إلى القبور قبل أن تزحفوا إليهم وتتعجلوا قضاء الله فيهم، أما وقد أخذتم البريء بجريرة المذنب، فأنتم مجرمون لا مجاهدون، وسفاكون لا محاربون".

وهو بهذا يصدر عن عقيدة إسلامية صحيحة، وينادي بتطبيق الوصية التي أوصى بها النبي صلى الله عليه وسلم زيد بن حارثة بألا يقتل المسلمون النساء والأطفال والشيوخ، وبتطبيق الوصية التي أوصى بها أبو بكر رضي الله عنه قواده، بل شملت وصية النبي الزرع والضرع والرحمة بها.

ونراه من ناحية أخرى يتحمس حماسة بالغة، ويأسى أشد الأسى عندما بدأ الطليان يغزون ليبيا، ويحالون النزول بطرابلس الغرب، ونراه يرثي لهؤلاء

ص: 195

المسلمين الضعفاء الذين اقتحمت ديارهم الجيوش الجرارة، ويبث الحمية في نفوس المسالمين حتى يغيشوهم وينجدوهم، وينعي على المستعمرين الطغاة ظلمهم وقهرهم.

كتب المنفلوطي أكثر من مقال في هذا الموضوع، مدفوعًا بعاطفته الإسلامية القوية، وضع فيه ذوب قلبه حمية وغيرة على الدين وأهله ورثاء، ورحمة لهؤلاء الذين يتصدون للاستعمار الغاشم، ويتطلعون إلى إخوانهم في مشارق الأرض ومغاربها، يناشدونهم القوة والنصرة، ويشيد ببطولتهم وحميتهم العربية الإسلامية في الذود عن ديارهم مع قلة عددهم وفقرهم.

ولقد كان لمقالاته في المؤيد أثرها، ونادى المؤيد بإنشاء هيئة الهلال الأحمر مزودة بالأطباء والأدوية، والأغطية والممرضين لإسعاق أهل ليبيا الأبطال، وماكان أحوجهم آنذاك إلى هذه النجدة، فضلًا عن تطوع كثير من أبناء مصر للحرب في صفوف إخوانهم العرب المسلمين.

ومع هذه العاطفة الدينية التي تجلت في كتاب المنفلوطي، ومواقفه الرائعة في الدفاع عن الدين، فإنه لم يكن متزمتًا، أو متنطعًا في دينه، بل كان متأثرًا بأستاذه محمد عبده، يفهم رسالة الدين فهمًا صحيحًا، ولا يحتفل كثيرًا بتلك القشور والمظاهر التي ليست من الدين في شيء، لم يكن ممن يعتقدون في شفاعة الأولياء، ويستنكر زيارة أضرحتهم والتوسل إليهم، اسمعه يقول لصاحبه في مقاله "يوم الحساب"، وكيف رد صاحبه عليه؟ :

- هل تستطيع أن تشفع لي أو تطلب لي شفاعة من ولي من الأولياء، أو نبي من الأنبياء؟

- لا تطلب المحال، ولا تصدق كل ما يقال، فقد كنا مخدوعين في الدار الأولى بتلك الآمال الكاذبة التي كان يبيعها لنا تجار الدين بثمن غال، ولا يتقون الله في غشنا وخداعنا، وما الشفاعة إلا مظهر من مظاهر الإكرام والتبجيل يختص به الله بعض المقربين، فلا يشفع عنده أحد إلا بإذنه

إلخ.

ص: 196

ونراه يفضح ما يقوم به بعض المتفقهين في الذين من التحايل على الشرع، والجرأة على مخالفة أسراره وحكمته بالتأويل الكاذب، والفهم الخاطئ، والنوايا السيئة كما عرضه لحال الرجل الذي كان يصرخ يوم الحساب ويقول:"أهلكتني يا أبا حنيفة"، "فذنبه أنه كان يعمد إلى الأحكام الشرعية فنتزع منها حكمًا وأسرارها، ثم يرفعها إلى الله قشورًا جوفا ليخدعه بها، ويغشه فيها كما يفعل مع الأطفال والبله، مستندًا على تقليد أبي حنيفة أو غيره من كبار الأئمة، وأبو حنيفة أرفع قدرًا، وأهدى بصيرة، من أن يتخذ الله هزؤا وسخرية، وأن يكون ممن يهدمون الدين باسم الدين".

ولا ننسى أن المنفلوطي لقي ممن يتظاهرون بالتدين عنتا كثيرًا حينما كانوا يعنفونه، ويلومونه على اشتغاله بالأدب ويعدون ذلك خروجًا عن الجادة، ويعدا عن الدين، ولهذا نراه يدعو الناس ألا ينخدعوا بالمظاهر الكاذبة والمراءاة "وما هذه اللحية والسبحة والهمهمة والدمدمة إلا حبائل كان ينصبها لاصطياد عقول الناس وأموالهم، ولكن الناس لا يعملون".

وعلى الرغم من أنه غير متزمت في دينه إلا أن ثمة أمرين لم يتساهل فيهما قط: أولهما حجاب المرأة، وقد لام قاسم أمين في أكثر من مقالة على دعوته الجريئة، بل عد تلك الدعوة من الآثام التي سيحاسب عليها قاسم أمين يوم القيامة حسابًا عسيرًا، فيذكر في مقاله "يوم الحساب" محاولة بين الشيخ محمد عبده وقاسم أمين، يقول أولهما للثاني:

- ليتك يا قاسم أخذت برأيي، وأحللت نصحي لك محلًا من نفسك، فقد كنت أنهاك أن تفاجئ المرأة المصرية برأيك في الحجاب قبل أن تأخذ له عدته من الأدب والدين، فجنى كتابك عليها ما جناه من هتك حرمتها وفسادها وتبذلها، وإراقة تلك البقية الصالحجة التي كانت في وجهها من ماء الحياء.

وأما ثانيهما فهو الإلحاد في الدين، وفساد العقيدة، وكثر من مقالاته تفصح عن تهجمه الشديد على الإلحاد، وفي تتمة الحوار بين الشيخ محمد عبده وقاسم أمين، يقول ثانيهما للأول:

ص: 197

- أنا أردت أن أنصح المرأة فأفسدتها كما تقول، وأنت أردت أن تحيي الإسلام فقتلته، إنك فاجأت جهلة المسلمين بما لا يفهمون من الآراء الدينية الصحيحة، والمقاصد العالية الشريفة، فأرادوا غير ما أردت، وفهموا غير ما فهمت، فأصبحوا ملحدين بعد أن كانوا مخوفين، وأنت تعلم أن دينا خرافيًا خير من لا دين، أولت لهم بعض آيات الكتاب، فاتخذوا التأويل قاعدة حتى أولوا الملك والشيطان والجنة والنار، وبينت لهم حكم العبادات وأسرارها، وسفهت لهم رأيهم في الأخذ بقشورها دون لبابها، فتركوها جملة واحدة، وقلت لهم: إن الولي إله باطل، والله إله حق، فأنكروا الألوهية حقًّا وباطلًّا".

وهكذا كان موقف المنفلوطي في قضايا عصره الاجتماعية والدينية، متدينا يريد الخير للمجتمع، ويفهم الدين فهمًا صحيحًا، ويحارب الفساد والانحراف والزيغ في العقيدة1، ويندد بآفات المدنية الحديثة، ويدعو إلى عدم التعصب وإلى التسامح والتزام روح الشرع وأسراره وحكمه، متأثرًا بنشأته ووراثته ودراسته، وتلمذته للإمام محمد عبده".

1 انظر "دمعة على الإسلام"، ج2 ص54، وانظر الصندوق "ضريح السيد البدوي" ج2 ص 23 من كتاب النظرات.

ص: 198