المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌31 - ومن أخبار الأصمعي - نور القبس

[اليغموري]

فهرس الكتاب

- ‌بسم الله الرحمن الرحيموبه أستعين

- ‌في الحث على تعلم العلم وتقويم اللسان

- ‌ابتدآءُ امر النَحْو ومن تكلم فيه

- ‌من اخبار العلماء والنحاة والرواة من اهل البصرة

- ‌1 - من أخبار أبي الأسْوَد

- ‌2 - ومن أخبار يحيى بن يعمر العدواني

- ‌3 - ومن أخبار نصر بن عاصم الليثي

- ‌4 - ومن أخبار سعد الرابية

- ‌5 - ومن أخبار عنبسة بن معدان الفيل

- ‌6 - ومن أخبار عبد الله بن أبي إسحاق الحضرمي

- ‌7 - ومن أخبار أبي عمرو بن العلاء

- ‌8 - ومن أخبار سلمة بن عياش العامري

- ‌9 - ومن أخبار مسلمة النحوي

- ‌10 - ومن أخبار يزيد بن أبي سعيد النحوي

- ‌11 - ومن أخبار أبي بكر الهذلي

- ‌12 - ومن أخبار عيسى بن عمر الثقفي

- ‌13 - ومن أخبار أبي الخطاب الأخفش

- ‌14 - ومن أخبار حماد بن سلمة

- ‌15 - ومن أخبار يونس بن حبيب النحوي

- ‌16 - ومن أخبار أبي عبد الرحمان الخليل بن أحمد الفراهيدي

- ‌17 - ومن أخبار أبي محرز خلف بن حيان الأحمر

- ‌18 - ومن أخبار أبي محمد اليزيدي

- ‌19 - ومن أخبار أبي عبد الله محمد بن أبي محمد اليزيدي

- ‌20 - ومن أخبار أبي إسحاق إبراهيم بن أبي محمد اليزيديّ

- ‌21 - ومن أخبار أبي عليّ اسماعيل بن أبي محمد اليزيدي

- ‌22 - ومن أخبار أبي جعفر أحمد بن محمد بن أبي محمد اليزيدي

- ‌23 - ومن أخبار أبي العباس الفضل بن محمد بن أبي محمد اليزيدي

- ‌24 - أخبار رجلٍ من اليزيديين لم يسمَّ

- ‌25 - ومن أخبار سيبويه وهو أبو بشر عمرو بن عثمان بن قنبر

- ‌26 - ومن أخبار أبي الحسن الأخفش وهو سعيد بن مسعدة

- ‌27 - ومن أخبار النضر بن شُميل بن خرشة بن يزيد بن كلثوم المازنيّ

- ‌28 - ومن أخبار أبي فيد مؤرِّج بن عمرو السَدُوسيّ

- ‌29 - ومن أخبار أبي زيد الأنصاري

- ‌30 - ومن أخبار أي عبيدة معمر بن المثنى

- ‌31 - ومن أخبار الأصمعي

- ‌في أبتداء أمر البصرة ونزول المسلمين فيها

- ‌32 - ومن أخبار قُطرُب النحوي

- ‌33 - ومن أخبار يعقوب الحَضْرميّ

- ‌34 - ومن أخبار كيسان المحوي

- ‌35 - ومن أخبار خلاد بن يزيد الباهليّ

- ‌37 - ومن أخبار ابن سلام الجُمحي

- ‌38 - ومن أخبار أبي عبد الرحمن العٌتْبِيّ

- ‌39 - ومن أخبار العائشي التيميّ

- ‌40 - ومن أخبار عبيد الله بن معمر التيميّ

- ‌41 - ومن أخبار محمد بن حفصٍ

- ‌42 - ومن أخبار عبد الرحمان بن عبيد الله

- ‌43 - ومن أخبار أبي عليّ الحسن بن عليّ الحِرْمازيّ

- ‌44 - ومن أخبار أبي العالية الشاميّ

- ‌45 - ومن أخبار أبي محلَّم السَعْديّ

- ‌46 - ومن أخبار أبي قلابة الجَرْميّ

- ‌47 - ومن أخبار أبي عمر الجَرْميّ

- ‌48 - ومن أخبار أبي الحسن عليّ بن المغيرة الأثْرم

- ‌49 - ومن أخبار أبي محمد عبد الله بن محمد التوزّيّ

- ‌50 - ومن أخبار أبي عَدْنانَ السُلَميّ

- ‌51 - ومن أخبار الزياديّ أبي إسحاق

- ‌52 - ومن أخبار أبي عمرو قَعْنَبِ بن المُحْرِز الباهليّ البصريّ

- ‌53 - ومن أخبار أبي عثمان المازنيّ

- ‌54 - ومن أخبار دماذ غُلام ابي عبيدة

- ‌55 - ومن أخبار أبي عمران موسى بن سلمة النحويّ

- ‌56 - ومن أخبار أبي حاتم السجستانيّ

- ‌57 - ومن أخبار أبي الفَضْل الرياشيّ

- ‌58 - ومن أخبار الجاحظ

- ‌59 - ومن أخبار عُمر بن شَبَّة

- ‌في ابتداء أمر الكوفة ونزول المسلمين فيها

- ‌أسامي من تضمنهم هذا الكتاب من رواة الكوفة وعلمائها وقرائها

- ‌60 - من أخبار قبيصة بن جابرٍ الأسدي

- ‌61 - ومن أخبار الشعبيّ

- ‌62 - ومن أخبار سليمان بن مهران الأعمْش

- ‌63 - ومن أخبار ابن السائب الكَلْبيّ

- ‌64 - ومن أخبار أبي الحكم الكلبيّ

- ‌65 - ومن أخبار أبي جنابٍ الكلبيّ

- ‌66 - ومن أخبار ابن عياش المنتوف

- ‌67 - ومن أخبار حُمران بن أعْيَنَ

- ‌68 - ومن أخبار زهير القُرقبيّ

- ‌69 - ومن أخبار حمزة بن حبيبٍ الزّيات

- ‌70 - ومن أخبار حماد الراوية

- ‌71 - ومن أخبار جَنّاد بن واصل

- ‌72 - ومن اخبار ابن الجصاص

- ‌73 - ومن أخبار المفُضَّل الضَبيّ

- ‌74 - ومن أخبار الشرْقيّ بن القطاميّ

- ‌75 - ومن أخبار معاذٍ الهَرّاءِ

- ‌76 - ومن أخبار أبي عمرو الشيبانيّ

- ‌77 - ومن أخبار بُزُرخ العَروُضيّ

- ‌78 - ومن أخبار أبي جعفر الرؤاسيّ

- ‌79 - ومن أخبار القاسم بن مَعْن

- ‌80 - ومن أخبار أبي بكر بن عيَّاشٍ

- ‌81 - ومن أخبار الكسائيّ

- ‌ومن اخبار ابي هلال المحاربي

- ‌83 - ومن اخبار ابي المنذر هشام بن محمد الكلبي

- ‌84 - ومن اخبار الهيثم بن عدي بن عبد الرحمن الطائي

- ‌85 - ومن أخبار ابن كناسةً

- ‌86 - ومن أخبار الأحْمر غُلام الكسائي

- ‌87 - ومن أخبار أبي زكرياء الفرّاء

- ‌88 - ومن أخبار هشام النحويّ

- ‌89 - ومن أخبار ابن الأعرابيّ

- ‌في ابتداء أمر مدينة السلام واختطاط أبي جعفر المنصور إياها ونزولها

- ‌ومن أخبار العلماء والنحاة والرواة من أهل بغداد ومن طرأ عليها من

- ‌90 - محمّد بن إسحاق بن يسارٍ

- ‌91 - ومن أخبار ابن دَأبٍ

- ‌92 - ومن أخبار الواقديّ

- ‌93 - ومن أخبار أبي البَخْتَريّ القاضي

- ‌94 - ومن أخبار أبي المُنذرِ العَروضيّ

- ‌95 - ومن أخبار أبي مِسْحَلٍ الأعرابيّ

- ‌96 - ومن أخبار ابن قادمٍكان يؤدب أولاد سعيد بن سلم بن قتيبة، وكان

- ‌97 - ومن أخبار أبي عُبيد القاسم بن سَلاّم

- ‌98 - ومن أخبار النضر بن حديد

- ‌99 - ومن أخبار أبي محمّد إسحاق بن إبراهيم الموصليّ

- ‌100 - ومن أخبار مُصْعب الزُبيريّ

- ‌101 - ومن أخبار أبي جعفر الجُرجاني محمّد بن عمر

- ‌102 - ومن أخبار ابن السكِّيت

- ‌103 - ومن أخبار أبي محمد سلمة بن عاصم النحوي

- ‌104 - ومن اخبار الزبير بن بكار

- ‌105 - ومن اخبار حماد بن اسحاق بن ابراهيم الموصلي

- ‌106 - ومن اخبار ابي العيناء

- ‌وما اخبار ًالمبرد

- ‌108 - ومن اخبار ثعلب

- ‌109 - ومن أخبار أبي العباس محمّد بن الحسن الأحْوَل

- ‌110 - ومن أخبار ابن عُليَل العَنَزيّ

- ‌111 - ومن أخبار ابن مَهْديّ الكِسْرَويّ

- ‌112 - ومن أخبار المُفضَّل بن سَلَمَة بن عاصم

- ‌113 - ومن أخبار يحيىَ بن عليّ المُنجِّم

- ‌114 - ومن أخبار أبي الحسن أحمد بن سعيد الدمشقيّ

- ‌115 - ومن أخبار أبي الحسن عليّ بن سليمان بن الفضْل الأخْفش

- ‌116 - ومن أخبار أبي إسحاق إبراهيم بن السّريّ الزَجّاج

- ‌117 - ومن أخبار أبي بكر محمّد بن السَريّ السَرّاج

- ‌118 - ومن أخبار أبي بكر محمّد بن الحسن بن دريد الأزْديّ

- ‌119 - ومن أخبار ابن عَرَفة المُهلَّبيّ

- ‌120 - ومن أخبار أبي بكر محمّد بن القاسم بن محمّد الأنباريّ

- ‌121 - ومن أخبار الصُوليّ

- ‌ذكر النسابين

- ‌122 - منهم دَغْفل بن حَنْظَلةَ

- ‌123 - ومن النسلبين أبو ضَنْضَم البَكْري

- ‌124 - ومنهم النخّار العُذْريّ

- ‌125 - ومن أخبار وَهْب بن مُنَبِّهٍ

الفصل: ‌31 - ومن أخبار الأصمعي

فقال كسرى: فسروا لي ما قال! فترجم له، فقال: لئن كان يسهر من غير سقم، ولاعشق إنه لسارق! قال أبو عبيدة: كان كثير أشعر أهل الإسلام، وكان يكذب في حُبه وجميل يصدق. وسئل: من أشعر المولدين؟ قال: السيد! وكان السيد مشتهراً بمدح أهل البيت، وهو الذي يقول " من البسيط ":

إني امرؤٌ حميريٌّ حين تنسبني

لا من ربيعة آبائي ولا مضر

وقال من قصيدة " من البسيط ":

ثمَّ الولاء الذي أرجو النجاة به

يوم القيامة للهادي أبي حسنِ

قوله في اللغة والعربية، قال أبو عبيدة: الناقراتُ من السهام المصيبات القرطاس، والقاصرات التي لاتبلغ، والغاضرات التي تخرج عن الهدف يمنة ويسرة، والطالعات التي تخرج من فوق الهدف، والحوابي التي تقرب من القرطاس ولا تصيب، والمقرطسات المصيبات. وقال: أهل العالية يقولون: الحرب خدعة، وهي لغة رسول الله صلى الله عليه ولغة نجد: خدعة؛ ورجل خدعة إذا كان يخدع الناس، ورجل هُزأة إذا كان يهزؤ بالناس؛ قال: والمكاشرة أن يضحك إليه وفي صدره عليه غمر. والطم والرم: الرطب واليابس؛ والغارة الشعواء: الكثيرة. قال: وأهل الحجاز يقولون: قد أخلق الثوب، وبنو تميم يقولون: قد خلَّق الثوب، ويقولون أيضاً بالتخفيف خلق وهو كثير في كلامهم، وإنما يخففون في فعل وفعل ولايخففون في فعل. قال أبو عبيدة: أسماءُ الحلب البرم والفطر والضب والمصر والضف والنكع، فالمصر بإصبعين والضف بالكف كلها والنكع أن يجهدها في الحلب، والنكع والنهز ضرب الضرع باليد عند الحلب لتَدُرَّ، وإنما ذلك في الضأن خاصة، فأما المعز فإنما هو المسح، وأما الكسع فإنما هو ردُّ الدرة وحقن اللبن وهو في النوق خاصة، يُرش الضرع بالماء ويضربه بيده ليرتفع، فيكون أقوى للناقة.

قال أبو ربيعة النحوي: كانت العرب تقول: من لم يكن عقله من أكمل مافيه كان هلاكه بأكمل ما فيه. فحدثت بهذا الحديث الأصمعي فقال: هذا حسن وعندي آخر يشبهه، كانت العرب تقول: من كانت فيه خصلة هي أكمل من عقله فبالحرى أن تكون سبب منيته. فحدثت بهذين الحديثين أبا عبيدة فقال: هذان حسنان وعندي آخر يشبههما، كانت العرب تقول: من لم يكن أغلب خصال الخير عليه عقله كان في أغلب خصال الخير حتفه. فحدثت بهذه الأحاديث أبا دلف فقال: هذا حسنٌ كلُّه وعندي آخر يشبهها، كانت العرب تقول: كلُّ شيءٍ إذا كثُر رخص إلا العقلُ فإنه إذا كثُر غلا.

وقال أبو عبيدة: لم يكن لأبي بكر ولا لعمر ولا لعثمان ولا لعلي قاضٍ ولا عمالُ شُرط ولا لابن الزبير بالمدينة، وكان أوَّل قاض في المدينة في خلافة معاوية في إمارة مروان استقضى عبد الله بن نوفل بن الحارث بن عبد المطلب حتى عزل معاوية مروان عن المدينة واستعمل سعيد بن العاص، واستقضى سعيد أبا سلمة بن عبد الرحمان.

وقال أبو عبيدة كان رجل من بني هلال يقال له طفيل بن زلال، فكان إذا سمع بقوم عندهم دعوة أتاهم فأكل من طعامهم، فسمي الطفيليُّ طفيلياً به. - وقال وكان الناس لايركبون الحمير حتى تفارقوا أيام المنصور فركبوها، ولبيس في الأرض مركب إلا وهو كلما كان أكبر كان أحسن إلا الحمير فإنها كلما كانت أكبر كان أقبح. وقال آخر لعنها الله! فارهها يتعب وخسيسها يتعب رجليك.

كان أبو عبيدة لما كبُر إذا أراد أن يقوم تمثَّل بقول أبي الطمحان القيني " من الوافر ":

حنتني حانيات الدهر حتى

كأني خاتلٌ يدنو لصيد

قريبُ الخطو يحسبُ من رآني

ولستُ مقيداً أني بقيد

وقال: دخلنا على أبي عبيدة نعوده ونسأله عن سبب علته، فقال: هذا النوشجاني! دخلتُ عليه مسلماً، فجاءني بموزٍ كأنه أيور المساكين، فأكثرتُ منه فكان سبب علتي. ثمّ دخل أبو العتاهية بعد موت أبي عبيدة دار النوشجاني، فوضع بين يديه قنو موز، فقال: ياهذا! أقتلت أبا عبيدة وتريد أن تقتلني؟ لقد استحليت قتل العلماء، والله لاأذوقه! قال الصولي: مات أبو عبيدة سنة تسع ومائتين، وقيل: عشر، وقيل: إحدى عشرة، وقيل: إثنتي عشرة، وله أربع وتسعين سنة. وقيل للأصمعي: مات أبو عبيدى! فقال: اليوم مات الظرف.

‌31 - ومن أخبار الأصمعي

ص: 45

هو أبو سعيد عبد الله بن قريب بن عبد الملك بن علي بن أصمع بن مظهر بن رياح بن عمرو بن عبد شمس بن أعيا بن سعد بن عبد بن غنم بن قتيبة بن معن بن مالك بن أعصر، وقريبُ لقب واسمه عاصم ويكنى أبا بكر الباهلي. قال الأصمعي: الأصمع الأملس المحدد وبه سميت الصومعة. قال: ويقال رجل أصمع إذا كان ذكياً حديد الفؤاد. - قال الأصمعي: لما حضرت جدي عليَّ بن أصمع الوفاة جمع بنيه وقال: يابنيَّ، عاشروا الناس معاشرة حسنة، فإن عشتم حنوا إليكم، وإن متم بكوا عليكم! وقيل لأبي عبيدة: إن الأصمعي ينتمي إلى باهلة، فلو تكلمت فيه أنه يدَّعي إليهم؟ فقال: لا، دعوه يكن منهم! يعني أنه لاشرف له فيهم لأنه لا أثر لهم في الجاهلية ولامناقب، ألا ترى أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال لرجل: على أنك إن قتلت رجلاً من باهلة قتلت به مبالغة في خِسَّة المقتول. وقال الأشعث بن قيس الكندي للنبي صلى الله عليه وسلم: أتتكافأ دماؤنا، يارسول الله؟ قال: نعم، ولو قتلت رجلاً من باهلة لقتلك به. - قال الشعبي: كانت العرب في الجاهلية إذا أسرت أسيراً فدته بأسير، إلا أن يكون باهلياً أو غنوياً زادوا عليه قلوصين. - وأنشد رجل من بني عبد القيس " من المتقارب ":

أباهلَ ينبحني كلبكم

وأسدكم ككلاب العرب

ولو قيل للكلب: ياباهليُّ

عوى الكلب من لؤم هذا النسب

وقال بشَّار " من الوافر ":

إذا أنكرت نسبة باهليٍ

فكشف عنه ناحية الإزار

على أستاه ساداتهم كتابٌ

موالي عامرٍ وسما بنارِ

قال أبو هشام لبشار: إن الله قد أعمى عينيك، فما ترى؟ ولكن قل لمن ينظر هل مما ذكرت شيئاً؟! يعني قوله:" على استاه ساداتهم كتاب ". فقال له بشار: أنت من سفلتهم وإنما قلت: على استاه ساداتهم "! قال المرزباني: وأغار أحمد بن أبي طاهر على بشار في بيته وعلى كلام أبي عبيدة الذي تقده فقال وأساء " من المنسرح ":

لاتدفع الباهلي عن حسبه

دعه وما يدعيه من نسبه

سلم لدعواه باهليته

لعله أن يلَّج في كذبه

إنك إن تبغه فما أحدٌ

ألأم من قومه ولا حسبه

فإن طغا أو زها عليك بما

صحَّ له في اللئام من عربه

فارفع حواشي إزاره تر ما

يلوح من وسمه على ذنبه

وقال أبو العيناء: رأيت أبا قلابة الجزمي في جنازة الأصمعي وهو يقول " من الخفبف ":

لعن الله أعظما حملوها

نحو دار البلى على خشبات

أعظما تبغض النبي وأهل البيت والطيبين والطيبات

وقال رجل للأصمعي: لاتنس وعدي! قال: ما أحسن ما قال الأعشى " من الطويل ":

وإني إذا ما قلت قولاً فعلته

ولستُ بمخلاف لقولي مبدل

ثمّ أنشد " من الطويل ":

وإني لمنجاز لما قلت، إنني

ارى وصمة أن يخلف الحُرُّ واعده

قال إسحاق بن إبراهيم الموصلي: ما رأيت أحداً قط مثل الأصمعي في العلم بالشعر ولا مقارنا له، ما أنشدته شيئاً قط إلا أنشدني في مثله حتى كأنه أعده لي، فأنشدته للأعشى " من البسيط ":

عُلِقتُها عَرضاً وعُلِقت رُجلاً

غيري وعُلق أخرى غيرها الرجلُ

فأنشدني من وقته " من الكامل ":

قتلتك أخت بني لؤيٍ إذ رمت

وأصاب نبلك إذ رميت سواها

وأعارها الحدثان منك مودةً

وأعار غيرك وُدَّها وهواها

وقال الأصمعي: ستة لاتخطئهم الكآبة: فقيرٌ حديث عهد بغنى، ومكثرٌ يخاف على ماله التلف، والحسود، والحقود، وطال مرتبة فوق قدره، وخليط أدباء ولا أدب له. وقال: من قعد به نسبه نهض به أدبه. وقال: لاترى أحدب إلا خفيف الروح ولا أعمى إلا ثقيل الروح ولا أحول إلا خبيث الطريقة. وقال: الاستطالة على من أنعمت عليه هدم لصنيعتك وتكدير لمعروفك. وقال: ثلاثة أشياء يذهبن الذهن: كثرة النظر في المرآة وكثرة الضحك ودوام النظر إلى البحر، وثلاث تورث الانقطاع: الإكثار من أكل الباذنجان والزيتون والباقلي.

وقال أبو حاتم: كنا عند الأصمعي، فقال رجلٌ: من القائل " من الوافر ":

فمن يكُ سائلاً عني فإني

من الفتيان أيامَ الخنان

ص: 46

مضت مائة لعام ولدت فيه

وعشر بعد ذاك وحجتان

وقد أبقت صروف الدهر مني

كما أبقت من السيف اليماني

فقال الأصمعي: يقولها النابغة الجعدي. فقال له: أتعرف من أرخ سنه في شعره غيره؟ فجعل الأصمعي ينشد أشعار من أرخوا سنهم في أشعارهم، فحفظت من ذلك أنه كان عميرة الكعبي الخزاعي يخط لكلّ من مات من أهله قبراً ويسوق عن كلّ من تزوج منهم مهراً وهو القائل " من الطويل ":

فنيت وأفناني الزمان وأصبحت

هنيدةُ قد أنضيت من بعدها عشرا

وقد كنتُ مما أهزم الجيش واحدا

وأعطي فلا منا عطائي ولا نزرا

وقد عشت دهراً ما يكون عشيرتي

لها ميتٌ حتى أُخط له قبرا

فأصبحت مثل الفرخ لا أنا ميتٌ

فأسلي ولا حيُّ فأصدر لي أمرا

وقال إسحاق بن إبراهيم: ما ولدت النساء مثل الأصمعي في حفظه وذكائه وفطنته، أنشدته يوماً قولي " من الطويل ":

إذا كانت الأحرار أصلي ومنصبي

ودافع ضيمي خازم وابن خازم

عطست بأنف شامخ وتناولت

يداي الثريا قاعداً غير قائم

فأنشدني لبشار " من المتقارب ":

ألا أيها السائل جاهلا

ليعرفني أنا أنف الكرم

نمت في الكرام بني عامر

فروعي وأصلي قريش العجم

وقال: إذا كانت في العالم خصال أربع وفي المتعلم خصال أربع اتفق أمرهما وتم، وإن نقصت من واحد منهما خصلة منها لم يتم أمرهما. فأما اللواتي في العالم: فالعقل والصبر والرفق والبذل، وأما اللواتي في المتعلم: فالعقل والحرص والفراغ والحفظ، لأن العالم إذا لم يحسن تدبير المتعلم بعقله خلط عليه أمره، وإن لم يبذل له علمه لم ينتفع به. وأما المتعلم فإنه إن لم يكن له عقل لم يفهم، وإن لم يكن له حرص لم يتعلم، وإن لم يفرغ قلبه للعلم لم يعقل عن معلمه، وإذا ساء حفظه كان ما يكون منهما مثل الكتاب على الماء. - وقال: إذا أردت أن تعرف عقل الرجل في مجلس واحد فحدّث في خلال حديثك بما لايكون، فإن رأيته قد أصغى إليه فأعلم أنه أحمق وإن أنكره فهو عاقل.

وقال الأصمعي: تضرعت في الأسباب على باب الرشيد مؤملا الظفر به والوصول إليه حتى أني صرت لبعض حرسه خدينا، فإني لفي ليلة قد نثرت السعادة والتوفيق فيها الأرق بين أجفان الرشيد، إذ خرج خادم فقال: أبالحضرة أحدٌ يحسن الشعر؟ فقلت: الله أكبر، ربَّ قيدٍ مضيق حلَّه التيسير! فقال لي الخادم: ادخل! فلعلها أن تكون ليلة تعرس في صباحها بالغنى إن فزت بالحظوة عند أمير المؤمنين. فدخلت فواجهت الرشيد في بهوه والفضل ابن يحيى إلى جانبه، فوقف بي الخادم بحيث يسمع التسليم، فسلمت، فردّ السلام ثمّ قال: ياغلام، أرحه قليلاً، يفرخ روعه إن كان وجد للروع في نفسه حساً! فقلت في نفسي: فرصةٌ يفتك بها الدهر بإدخال شغل على قلبه كرمك، مجيران لمن نظر إليك من أعتراض أذيةٍ! فقال: ادن! فدنوت، محسنا. فقال: تالله ما رأيت أدعى منك! فقلت: أنا على الميدان، فأطلق من عناني، ياأمير المؤمنين! فقال: أنصف القارة من راماها! ثمّ قال: ما المعنى في هذه الكلمة بدياً؟ قلت: فيها قولان، القارة هي الحرة من الأرض، وزعمت الرواة أن القارة كانت رماة للتبابعة، والملك إذ ذاك أبو سهمه في كبد قوسه، فقال: أين رماة العرب؟ فقالت العرب: أنصف القارة من راماها. فقال لي الرشيد: أصبت! ثم قال: أتروي لرؤبة والعجاج شيئاً؟ فقلت: هما مشاهدان لك بالقوافي وإن غُيباً عن بصرك بالأشخاص. فأخرج من بيد فرشه رقعة، ثمّ قال: أنشدني " من الرجز ":

أرقني طارقُ همٍ أرقا

فمضيت فيها مضيَّ الجواد في سنن ميدانه تهدر بي أشداقي، فلما صرت إلى مديحه لبني أمية، ثنيت لساني إلى امتداحه للمنصور في قوله " من الرجز ":

قلتُ لزير لم تصله مريمه

- يقال: هو زير نساء وحدث نساء إذا كان يحب محادثتهن - فلما رآني قد عدلت عن أرجوزة إلى غيرها قال: أعن حيرة أم عن عمد تركت؟ قلت: عن عمد، تركتُ كذبه إلى صدقه فيما وصف به المنصور من مجده. فقال لي الفضل: أحسنت بارك الله عليك! مثلك يؤهل لمثل هذا المجلس! فلما أتيت على آخرها قال لي الرشيد: أتروي كلمة عديّ بن الرقاع " من الكامل ":

عرف الديار توهماً فاعتادها

ص: 47

قلت: نعم! قال: هاتها! فمضيت فيها حتى إذا أنا صرت إلى صفته لجمله، قال لي الفضل: ناشدتك الله أن تقطع علينا ما أمتعنا به السهر في ليلتنا هذه بصفة جملٍ أجرب! فقال له الرشيد: اسكت فالابل هي التي أخرجتك عن دارك، وعزتك في قرارك، فاستلبت تاج ملكك، ثم ماتت، وعملت جلودك سياطاً ضربت بها أنت وقومك! فقال الفضل: لقد عوقبت على غير ذنب والحمد لله! فقال له الرشيد: أخطأت! الحمد على النعم، لو قلت: وأستعين الله لكنت مصيباً! ثمّ قال لي: امض في أمرك! فأنشدته حتى بلغت إلى قوله " من الكامل ":

تزجي أغن كأن إبرة روقه

فاستوى جالساً، ثمّ قال لي: اتحفظ فيها ذكرا؟ قلت: نعم، ذكرت الرواة أن الفرزدق قال: كنت في المجلس وجرير إلى جانبي، فلما ابتدأ عدي في قصيدته قلت لجرير مسراً إليه: لنسخر من هذا الشامي! فلما ذقنا كلامه يئسنا منه، فلما قال " من الكامل ":

تزجي أغن كأن إبرة روقه

وعدي كالمستريح، فقال جرير: أما تراه يستلب بها مثلا؟ فقال " من الكامل ":

قلم أصاب من الدواة مدادها

ثمّ أنشد عدي كذلك، فقلت لجرير: كان سمعك مخبوءاً في صدره. فقال لي: اسكت، شغلني سبك عن جيد الكلام! فلما بلغ إلى قوله " من الكامل ":

ولقد أراد الله إذ ولاكها

من أمةٍ إصلاحها ورشادها

قال الأصمعي: فقال لي: ماتراه قال إذ أنشده الشاعر هذا البيت؟ قلت: قال: كذاك أراد الله! فقال الرشيد: ماكان في جلالته ليقول هذا، أحسبه قال: ماشاء الله! قلت: وكذا جاءت الرواية. فلما أتيت على آخرها قال لي: أتدري لذي الرُّمة شيئاً؟ قلت: الأكثر! قال: فما أراد بقوله " من الطويل ":

ممرٌّ أمرَّت متنه أسديةٌ

ذراعيةٌ حلَاّلةٌ بالمصانعِ

قلت: ياأمير المؤمنين، وصف حمار وحش أسمنه بقل روضة تواشجت أصوله وتشابكت فروعه من مطر سحابة كانت بنوء الأسد، ثمّ في الذراع من ذلك. فقال الرشيد: أرح، فقد وجدناك ممتعا، وعرفناك محسناً. ثمّ قال: أجد ملالة! ونهض، فأخذ الخادم يصلح عقب النعل في رجله وكانت عربية، فقال الرشيد: عقرتني، ياغلام! فقال الفضل: قاتل الله الأعاجم! أما أنها لو كانت سندية لما احتجت إلى هذه الكلفة؟! فقال الرشيد: هذه نعلي ونعل آبائي صلوات الله عليهم، كم نعارض فلا نترك من جواب ممض ثمّ قال: ياغلام، يؤمر صالح الخادم بنعجيل ثلاثين ألف درهم على هذا الرجل في ليلته هذه، ولايحجب في المستأنف! فقال الفضل: لولا أنه مجلس أمير المؤمنين ولا يأمر فيه غيره لأمرت لك مثل ما أمر به لك أمير المؤمنين، وقد أمرت لك به إلا الف درهم، فتلقى الخادم صباحا! قال الأصمعي: فما صليت من غد إلا وفي منزلي تسعة وخمسون ألف درهم.

وقال: أنشدت الرشيد ليلة " من الكامل ":

بانت أميمة بالطلاق

فنجوت من ربق الوثاق

بانت فلم يحفل بها

قلبي ولم تدمع مآقي

ودواءُ مالا تشتهيه النفس تعجيلُ الفراقِ

فجعل الرشيد يعيد: " ودواءُ ما لاتشتهيه النفس تعجيل الفراق " ثمّ قال: عليَّ برأس هيصم اليماني! فقال لي: يا أصمعي، هذا ماجرَّه الشعر:" ودواء.... "! وأنشد البيت.

وقال ابن الأعمش: كنا في مضرب الحسن بن سهل ومعنا الأصمعي، فتحدث فقال: خرجت فاطمة عليها السلام ناشزا - بالزاي معجمة - تطلب ميراثها من أبي بكر....! فوثب إليه رجلٌ فخنقه، وارتفع الصوت، وقام المطلب بن فهم وهو حاجب للحسن بن سهل يحجز بينهما، وسمع الحسن الصوت فدعاه وسأله، فقال: وثب فلان على الأصمعي في شيء جرى بينهما فخنقه. فقال: يوثب على ضيفي وجليسي وفي داري؟! ياغلام، السياط! فقال له: يثبت الأصمعي على بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم فيتناولها، فيسوغ ذلك له ولايسوغ لمن يثب عليه ويخنقه؟! فقال: فما القصة؟ فأخبر بها، فدعا الأصمعي فعنفه وقال: ماهذا من الحديث الذي يحدث به العوام؟ لاتعودن! وروى الناس هذا الحديث ناشرا - بالراء المهملة - يعنون: نشرت شعرها. فرواه الأصمعي بالزاي: أي مخالفة لعليّ في ذلك.

قال الأصمعي: قال لي الرشيد: أنشدني أحسن ماقيل في السفر! فأنشدته قول عمر بن أبي ربيعة " من الطويل ":

رأت رجلا أما إذا الشمس عارضت

فيضحى وأما بالعشي فيخصر

أخا سفرٍ جوابٍ أرض تقاذفت

به فلوات فهو أشعث أغبر

ص: 48

قليلاً على ظهر المطية ظله

سوى ما نفى عنه الرداء المحبر

قال: أنا والله ذاك وكان يحج عاماً ويغزو عاماً.

قال الأصمعي: كنت مع الرشيد منصرفنا من الروم، إذا نحن برجل قد أنحط عليه صدره وعليه برنس وبيده عكاز، فلما حاذى الرشيد قال " من الكامل ":

ياأول الخلفاء را

ح بنفسه وغدا وأسرى

حتى أباح حمى العدو

وحاز ما يحوون قسرا

صدرت ركابك بافتتا

ح الروم قد اوقرن اجرا

في الله أشعث أغبرا

وتقودنا شعثاً وغبرا

حلوا إذا يوسرت اباء

إذا عوسرت مُرَّاً

قال: من الرجل؟ قال: عبدك ابن العلاء، يا أمير المؤمنين! فأمر له بكل بيت عشرة آلاف درهم. - وقال الأصمعي: سمعت ابن أبي السعلاء يحدو بالرشيد، فيقول " من الهزج ":

أغيثاً تحمل الناقة

أم تحملُ هارونا

أم الشمس أم البدرُ

أمِ الدُنيا أم الدنيا

ألا بل كلما عدد

تُ قد أصبح مقرونا

على مفرق هارون

فداه الآدميونا

وقال الأصمعي: كنتُ بين يدي الرشيد في يوم قُرّ، إذ دخل سعيد بن سلم، فقال: ياسعيد، أنشدني في البرد! فأنشده لمُرة بن محكان السعدي " من البسيط ":

وليلةٍ من جمادي ذات أندية

لايبصرُ الكلبُ من ظلمائها الطنبا

لاينبحُ الكلبُ فيها غير واحدةٍ

حتى يلفَّ على خيشومه الذنبا

فقال: غير هذا. فأنشدته أنا " من البسيط ":

وليلةٍ يصطلي بالفرثِ جازرها

يختص بالنقري المثرين داعيها

لاينبح الكلب فيها غير واحدة

حتى الصباح ولاتسري أفاعيها

أطعمت فيها على جهد ومسغبة

كومَ العشار إذا لم يمس راعيها

فقال: أريد أبلغ من هذا. فأنشدته " من الطويل ":

وليلةٍ قُرٍ يصطلي القوس رَبُها

وأقدحه اللاتي بها يتنبلُ

فقال: ياأصمعي، حسبك ما بعد هذا شيء! ثمّ أنشدني " من المتقارب ":

إذا نبح الكلبُ في أهله

فإن قصاراه أن يكشرا

ص: 49

وقال الأصمعي: أتى خادم للرشيد فقال: أجب أمير المؤمنين! قلتُ: فيم يدعوني؟ قال: لاعلم لي، ولكن سمعته ومن عنده من بني هاشم يتذاكرون الرُطب، فاختار كلُّ واحد منهم صنفا. قلت: فأي الأصناف اختار أمير المؤمنين؟ قال: الريثا. قلت: وما أختار عيسى بن جعفر؟ قال: الأزاد. قلت: امض! فلما دخلتُ وسلمت قال: ههنا، يابصري! ثمّ قال: ايُّ الرطب أطيب عندكم؟ قلت: ياأمير المؤمنين، أصف لك جميع أجناسه، ثمّ الاختيار إليك! قال: نعم. قلت: الذي هو عماد المال وأكثر التمران البرني والشهريز، ويعلم أميرُ المؤمنين لم سمي البرني برنياً والشهريز شهريزا؟ قال: لم؟ قلت: لأن كسرى مر بالبرني وهو حامل فقال: اين برنيك! وهو بالفارسية: حملٌ جيدٌ، ومر بالشهريز فقال: اين سُرخ نيز! أي وهذا الأحمر أيضاً، يريد جيد، فعربا برني وشهريز. فقال: لمن كان هذا التفسير؟ وأعجبه. ثمّ قلت: وعندنا صنف يقال له البرشوم يرطب قبل أنَّ يبدو صلاح غيره، وينفذ قبل أن يرطب النخل، فهو لتكبيره وسرعة ذهابه أغلى ثمناً من غيره. وعندنا نخلةٌ يقال لها السُكّر حُلو طيبٌ هش، ورطبها من أطيب الرطب أعظمه لحاء وأرقه سحاء غير أن نواته غليظة، والحموضة إليه سريعة وقلما يصبر كنيزه. وعندنا نخلةٌ يقال لها الأزاد بسرها حُلُوٌ طيبٌ ورطبها ليس بذاك وكنيزها باقٍ صبور وهي تسمى الحُرة. وعندنا نخلة يقال لها الهلباث، نخلها من أحسن النخل منظراً، ورطبها من أطيب الرطب وينتهي في آخره وجميع الرطب يرطبُ معاً. وعندنا نخلة يقال الجيسوان يوكل بلحها وزهوها عدلُ رطب غيرها، فإذا صار إلى حد الإرطاب تغير طعمها، وحالت عن حالها؛ وعندنا نخلةٌ يقال لها الكريثاء، بسرها حلوٌ طيبٌ هش ورُطبها عذبٌ رقيقٌ ونواها ضامر لطيف وكنيزها صبور باقٍ، وبسرها إذا كثُر زهزه يقلى ويطبخ ويدَّخر، ولا يزداد على السنين إلا جودة، ويجلب إلى سائر البلدان. وأعجب من هذا، ياأمير المؤمنين، أنّ صبياننا يلعبون بنوى جميع أنواع التمور ويسمون كلَّ نواة درهما إلا نواة الكريثاء، فإنهم يسمونها ديناراً ويتبايعون بينهم أربعا وعشرين نواةً من نوى الأزاد بنواة من نوى الكريثاء. فقال هارون: أنا أبو جعفر! وكان إذا أصاب الشيء اكتنى بجعفر، وأمر لي بمائة ألف وخمسين ألفا.

وقال الأصمعي: مارأيت الرشيدُ يوماً مبتذلاً ولا شارباً ألا يوما واحداً فإني دخلت عليه ووجنتاه حمراوان، ودخل عليه أبو حفص الشطرنجي الأعمى، فقال للرشيد: أيكم سبق إلى بيت من الشعر يوافق ما في نفسي فله ألف دينار! فوقع في نفسي أنه يريد جارية الناطفي وكان يميل إليها، وفطن أبو حفص فبدرني بحدةِ العميان فقال " من الخفيف ":

مجلسٌ ينسبُ السُرورُ إليه

لمحبٍ ريحانه ذكراك

فقال له: قد قاربت وأحسنت، لك ألفُ دينار! فبدأت أعمل بيتاً وتهيبته، فسبقني أبو حفص فقال " من الخفيف ":

كلما دارت الزجاجةُ

زادتهُ اشتياقاً وحرقةً فبكاك

فقال له: أحسنت ولك ألف دينار! فلما رأيت ذلك قلت " من الخفيف ":

لم ينلك الرجاءُ إن تحضريني

وتجافت أمنيتي عن سواك

فقال الرشيد: أحسنت، ياأصمعي، ولك ألف دينار! ثمّ أطرق ورفع رأسه فقال: وقد قلت بيتاً، أنا فيه أشعر منكما " من الخفيف ":

فتمنيتُ أن يغشيني اللهُ

نعاساً لعلّ عيني تراك

فقلت: ياأمير المؤمنين، أنت أشعر فخذ جوائزنا! فقال: جوائزكما لكما، فانصرفا! وقال: خرجت مع الرشيد حاجاً، فإني لفي خيمتي إذ أقبل أعرابي ومعه أمة سوداء، فقال لي: ياشيخ، اكتب لي كتاب عتق هذه الجارية! فأردت أسبر عقله فقلت: تملي عليّ وأنا أكتب. قال: اكتب: بسم الله الرحمان الرحيم، هذا ما أعتق فلان بن فلان أمته ميمونة السوداء، أعتقها لوجه الله تعالى وجواز العقبة. ياميمونة، إنه لاسبيل لي عليك إلا سبيل الولاء، ولا منَّة لي عليك، بل المنة لله عليَّ وعليك! وانصرف وانصرفت، فحدثت الرشيد، فأمر بعتق مائة نسمةٍ على مثل ماأملاه الأعرابي.

وقال: أنشدت الرشيد أبيات النابغة الجعدي من القصيدة الطويلة " من الطويل ":

فتىً تمَّ فيه ما يسرُّ صديقه

على أنّ فيه ما يسوءُ الأعاديا

فتىً كملتْ أعراقه غير أنه

جوادٌ فما يبقى من المال باقيا

ص: 50

أشمُّ طُوالُ الساعدين شمردلٌ

إذا لم يرح للمجد أصبح غاديا

قال الرشيد: ولم لم يروحه في المجد كما أغداه؟! ألا قال: إذا راح للمعروف أصبح غاديا! فقلت: أنت والله، ياأمير المؤمنين، في هذا أعلم منه بالشعر! قال الأصمعي: كنت عند الرشيد فقدم إليه فالوذ، فقال: ياأصمعي، أتعرف قريش هذا؟ فقلت: قومك، ياأمير المؤمنين، يعرفونه. كان ابن جدعان عمله، وفيه يقول الشاعر " من الوافر ":

منادٍ فوق دارته يبنادي

لبابُ البّرُ يلبكُ بالشهاد

وأما الأعرابُ فإن مزرداً أخا الشماخ كان نهماً جشعا، وكانت أمه توثر إخوته عليه، وإنها غابت عن بيتها يوماً، فوثب على ما في بيتها فأكله وقال " من الطويل ":

ولما غدت أمي تزور بناتها

أغرت على العكم الذي كان يمنع

خلطتُ بصاعي حنطةٍ صاع عجوة

إلى صاع سمنٍ فوقه يتريَّعُ

ودبَّلتُ أمثال الأثافي كأنها

رؤوس نقادٍ مزقت لاتجمعُ

وقلت لبطني أيسري اليوم إنه

حمى أمنا مما تفيدُ وتجمع

فإن كنتُ مصفوراً فهذا دواؤه

وإن كنت غرثاناً فذا يوم تشبعُ

فقال: لله درك، هاتوا حتى نأكل ونشبع إن شاء الله! قال: وكنا عند الرشيد فجاؤا بطفشيل فقال: ياأصمعي، أهذا اسمٌ عربيً؟ فقلت له: حدثني الشرقي بن القطامي أن بني اسرائيل كانوا في التيه، فقال حبر لهم يقال له شيلا: سخن لنا أخلاط حبوب! فعمل الطفشيل، وهو بالعبرانية تفشيل، فأعربته العربُ فصيرت التاء طاء، وكذلك أنطاكية بالعبرانية أنتاكية فقالت العرب بالطاء. فوهب لي الرشيد ألف دينار.

قال: وقال لي الرشيد: أما ترى قبح أسماء سكك بغداد مثل قطيعة الكلاب ونهر الدجاج وأشباه ذلك؟ فهل للعرب مواضع قبيحة الأسماء؟ قلت: نعم، قد قال الراجز " من الخفيف ":

ماترى لمح بارق

سقيت ماؤه بيه

فشروري فقروري

فحنونا فلحسيه

فقال: لله درك! فما رأيت مثلك خلقت لهذا الشأن وحدك.

قال: وقال لي الرشيد ذات ليلة: ياأصمعيُّ، ألا ترى الدعيَّ بن الدعيّ اليهودي بن اليهودي عبد بني حنيفة مروان بن أبي حفصة يقول لمعن بن زائدة، وإنما هو عبد من عبيدي " من الوافر ":

أقمنا باليمامة إذ يئسنا

مقاماً لانريدُ به زيالا

وقلنا: أين نذهب بعد معن

وقد ذهب النَّوال فما نوالا

وكان الناس كلهم لمعن

إلى أن زار حفرته عيالا

فجعلني وحشمي عيالاً لمعن، وقال: إن النوال قد ذهب فما يصنع بنا؟ فقلت: ياأمير المؤمنين، عبد من عبيدك، أنت أولى بأدبه وهو بالباب. قال: عليَّ به! فأدخل، فقال: السياط! فأخذ الخدم يضربونه فضرب أكثر من ثلاثمائة سوط وهو يقول: ياأمير المؤمنين، استبقني واذكر قولي فيك وفي أبيك! قال: وماقلت؟ فأنشده قصيدته التي يقول فيها " من الكامل ":

هل تطمسون من السماء نجومها

أو تمحقون من السماء هلالها

أم تدفعون مقالةً عن ربكم

جبريل بلغها النبيّ فقالها

شهدت من الأنفال آخر آية

بتراثهم فأردتم إبطالها

فدعوا الأسود خوادارً في غيلها

لا تولغنَّ دماءكم أشبالها

فأمر له بثلاثين ألف درهم وخلاه. فلما خرج قال لي: ياأصمعي، من هذه؟ قلت: لاأدري. قال: هذه مواسة بنت أمير المؤمنين، قمُ فقبل رأسها! فقلت: أفلت من واحدة ووقعت في أخرى! إن فعلت أدركنه الغيرة فقتلني. فقمت فوضعت كمي على رأسها وفمي على كمي، فقال: والله لو أخطأتها لقتلتك! أعطوه عشرة آلاف درهم! وقال: كنت عند الرشيد، فأُتي بجارية ليبتاعها، فأعجبته، فقال لمولاها: بكم الجارية؟ قال: بمائة ألف درهم! فقال: ادفع المال إليه، ياغلام! فلما وليَّ قال: رُدُّوا الجارية! فرّدت فقال: أبكر أم ثيب؟ قالت: بل ثيب! قال: رُدُّوها على مولاها! ثم أنشأ يقول " من الكامل ":

قالوا: أردت صغيرةً فأجبتهم

أشهى المطي إليَّ ما لم يركب

كم بين حبَّة لؤلؤ مثقوبة

لبست وحبة لؤلؤ لم تثقب

فقالت الجارية: ياأمير المؤمنين، أتاّن لي في الجواب؟ قال: نعم. فأنشأت تقول " من الكامل ":

ص: 51

إن المطية لايلذ ركوبها

حتى تذلل بالزمام وتركب

والحب ليس بنافع أربابه

ما لم يؤلف في النظام ويثقب

فضحك وقال: ياغلام، ادفع ثمنها لمولاها! وأمر لها بمائة ألف درهم في خاصة نفسها. - وقال: حججت سنة حج هارون وكانت سنة قحطة، فرأيت على قارعة الطريق جارية حسنة الوجه قد أخرجت كفا كأنها لسان ظبي وهي تقول " من الخفيف ":

طحطحتنا قوارع الأعوام

وبرانا تقلب الأيام

واتيناكم نمد أكفا

نبتغي بذلكم ونيل الطعام

فاطلبوا الأجر والمعونة فينا

أيها الزائرون بيت الحرام

قال: فجئت بها إلى هارون فملأ صحفة لها دنانير وزودها طعاماً.

قال: وقال لي الرشيد: أتعرف للعرب اعتذاراً وندما؟ دع أمر النابغة فإنه يحتج ويعتذر. فقلت: ما أعرف إلا بشر بن أبي خازم الأسدي، فإنه هجا أوس بن حارثة بن لام فأسره بعد ذلك وأراد قتله، فقالت له أمه وكانت ذات رأي: اذكر مدحه أباك! فعفا عنه، فقال بشر " من الطويل ":

إني على ماكان مني لنادمٌ

وإني إلى أوس بن لام لتائب

وإني إلى أوس ليقبل توبتي

ويعرف ودي ما حييت لراغب

فهب لي حياتي والحياة لقائم

بشكرك فيها خيرُ ماأنت واهب

سأمحو بمدح فيك إذ أنا صادقٌ

كتاب هجاه فيك إذ أنا كاذب

قال: وكان في البصرة فتى ظريف يغشاه فتيان البصرة يتحدثون عنده، وكان في كوخ من قصب، فشربوا يوما عنده، فقال بعضهم: ألا نبني لك داراً؟ فقال أحدهم: عليّ الآجر! وقال الآخر: علي الجص! وقال الآخر: عليَّ البناء! قال: فصير كوخه قصرا في ساعة بالقول، فلما طال ذلك عليه قال " من الوافر ":

لنا كوخ يهدم كل يوم

ويبنى ثم يصبح جذم خص

إذا مادارت الأقداح قالوا

غدا يبنى بآجر وجص

وكيف يشيد البنيان قوم

يزجون الشتاء بغير قمص

قال: فحدثت به الرشيد، فضحك وقال: ولكنا نبني لك قصرا. ثم أمر لي بألفي دينار.

وقال: سمعت الرشيد يقول: قلب العاشق عليه مع معشوقه، فقلت: هذا والله، ياأمير المؤمنين، أحسن من قول عروة بن حزام العذري لعفراء " من الطوبل ":

أراني تعروني لذكراك روعة

لها بين جلدي والهظام دبيب

وأصرف عن {ايي الذي كنت أرتئي

ويعزب عني ذكره ويغيب

ويضمر قلبي غدرها ويعينها

عليَّ فما لي في الفؤاد نصيب

فقال الرشيد: من قال هذا وهما فإني أقوله علما. ولله درك، يا أصمعي! فإني أجد عندك ما يضل عن العلماء. - قال الصولي: أخذه العباس بن ألحنف بل غيره فقال " من الطويل ":

يهيم بحران الجزيبرة قلبه

وفيها غزال فاتر اللحظ ساحره

يؤازره قلبي عليَّ وليس لي

يدان بمن قلبي عليَّ يؤازره

فأخذه سهل بن هارون فقال " من البسيط ":

أعان طرفي على جسمي وأعضائي

بنظرة وقفت جسمي على دائي

وكنت غراً بما تجني عليَّ يدي

لا علم لي أنَّ بعضي بعض أعدائي

وقال البحتري " من البسيط ":

ولستُ أعجبُ من عصيان قلبك لي

يوماً إذا كان قلبي فيك يعصيني

وأشار ابن الأحنف إلى هذا فقال " من السريع ":

قلبي إلى ماضرني داع

يُكثرُ أحزاني وأوجاعي

كيف احتراسي من عدوي إذا

كان عدُوّي بين أضلاعي

قال: وكان الرشيد يتمثل بهذين البيتين " من المنسرح ":

أكني بغير أسمها وقد علم الله

خفيات كلّ مكتتم

مخافة الكاشح المفتش أن

يُظهر فينا عوائر الكلم

ص: 52

قال: وقدمت من سفر على الرشيد، فاستبطأني، فقلت: ماألاقتني أرضٌ حتى رأيت أمير المؤمنين. فلَّما خرج الناس قال: مامعنى أقتني؟ قلت ما الصقتني بها ولا قبلتني. فقال: هذا حسنٌ ولكن لاتكلمني بين يدي الناس إلا بما أفهمهُ حتى أجد جوابه، فإذا خلوت فقل ماشئت، فإني أسألك عمَّا لاأعلمُ، وإنه يقبح بالسلطان أن يسمع ما لايدري، فإما أن يسكت فيعلم الناس أنه مالاقهم، أو يجيب بغير الجواب فيتحقق عندهم ذلك. فقلت: قد والله أفادني أمير المؤمنين من الأدب أكثر مما أفدته.

وقال: قال لي المأمون أيام الرشيد: لمن هذا البيت " من البسيط ":

ما كنت إلا كلحم ميت

دعا إلى أكله اضطرار

قلت: لابن أبي عيينة المهلبي عبد الله. فقال: كلامٌ شريفٌ! ثم قال لي كأنه من قول الشاعر " من الطويل ":

وإن بقومٍ سوَّدوك لفاقةً

إلى سيدٍ لو يظفرون بسيد

فقلت: والله جاء به الأمير وعجبتُ من فهمه مع صغر سنه.

وقيل: إن تاجراً قدم بغداد بعدل خمر سودٍ فبارت عليه، فقال عبد الله ابن مسلم بن جندب الهذلي " من الكامل ":

قلْ للمليحة في الخمار الأسود

ماذا صنعت براهبٍ متعبد

قد كان شمَّر للصلاة ثيابه

حتى وقفت له بباب المسجد

فلمَّا قالها بضاعته.

وقال: لمَّا مات محمد بن سليمان بن علي الهاشمي دخلت على أخيه جعفر بن سليمان، وقد حزن عليه حزناً شديداً ولم يطعم ثلاثاً، فأنشدته لابن أراكة الثقفي " من الطويل ":

لعمري لئن أتبعت عينك مامضى

من الدهر أو ساق الحمام إلى القبر

لتستنفذن ماء الشؤون بأسره

ولو كنت تمريهن من ثبج البحر

وقلت لعبد الله إذ حنَّ باكياً

تعزَّ وماء العين منحدرٌ يجري

تبين فإن كان البُكا ردَّ هالكاً

على أحدٍ فاجهد بكاك على عمرو

ولا تبك ميتاً بعد ميتٍ أجنَّه

عليٌّ وعبَّاسٌ وآل أبي بكر

قال: فأمر فجيء بالطعام وأكل من ساعته.

وقال: لما أوقع الرشيد بالبرامكة " من المتقارب ":

إذا ذُكر الشرك في مجلسٍ

أضاءت وجوهُ بني بَرْمَكِ

وإن تُلْيت عندهمُ سُورةُ

أتوا بالأحاديث عن مزدك

وقال الفضل بن الربيع " من الكامل ":

انظر إلى ابن الفاعلين وكبره

حتى كأن أباه عبدُ مناف

لاذنب لي فيه ولكن للذي

وضع اللئام مواضع الأشراف

قال: وسألني الخليل بن أحمد عن قول السمؤل " من الخفيف ":

ينفع الطيب القليل من الرز

قِ ولاينفع الكثير الخبيت

ما معنى قوله الخبيث؟ فقلت: اليهود تُبدل الثاء تاء، وإنما أراد الخبيث. قال: فلم لم يقل الكتير؟ فسكت.

قال: وأنشدت قاضي المدينة محمد بن عمران الطلحي قول أبي الشمقمق " من السريع ":

يا أيها السائلُ عن منزلي

نزلتُ في الخان على نفسي

آكل من مالي ومن كسرتي

حتى لقد أوجعني ضرسي

يغدو عليَّ الخبزُ من خابزٍ

لايقبل الرهن ولا ينسي

فقال: إن هذه الملح إنما تعجب عقلاء الرجال، اكتبها! فقلت: أصلحك الله! إنما يروي هذه الأحداث. فقال: ويحك الأشراف تعجبهم الملاحة! وقال إسحاق بن إبراهيم: قال لي الأصمعي ونحن نريد الرقة مع الرشيد: كم حملت معك من كتبك؟ قلت: خففَّت فحملت ثمانية عشر صندوقا. فقال لي: أو هذا تخفيف؟ هذا نهاية التثقيل! - وأنشد إسحاق بن إبراهيم الأصمعي قوله في غضب المأمون عليه " من البسيط ":

يا سرحة الماء قد سُدَّت مواردهُ

أما إليك طريقٌ غير مسدود

لحائم حامٍ حتى لا حيام به

مُحَلاٍّ عن طريق الماء مطرود

فقال الأصمعي: أحسنت في الشعر غير أن هذه الحاءات، لو كانت اجتمعت في آية الكرسي لعابتها! - وأنشد الأصمعي " من الوافر ":

وقالوا: يا جميلُ أتى أخوها

فقلت: أتى الحبيب أخو الحبيب

أحبك والقريبُ بنا بعيدٌ

لأن ناسبت بتنة من قريب

وقال الأصمعي: أنشدني أبو عمرو " من الطويل ":

أرى كُلَّ وادٍ أوطنتها وإن خلت

لها حججٌ يندى بمسك ترابها

ص: 53

حلفت بأني لو أرى تبعاً لها

ذئاب الغضا حُبَّت إليَّ ذئابها

وقال إسحاق بن إبراهيم: قرأت على الأصمعي شعر امرئ القيس، فلمَّا بلغت إلى قوله " من الطويل ":

أمن أجل أعربيةٍ حَلَّ أهلها

بروض الشرى عيناك تبتدران

فقال لي: أتعرف في هذا البيت خبئاً باطناً غير ظاهر؟ قلتُ: لا. فسكت عني، فقلت: إن كان فيه شيءٌ فأفدنيه! قال: نعم، أما يدلك هذا البيتُ على أنه لفظ ملكٍ مستهين ذي قدرة على مايرد؟ - قال الأصمعي: ليس في وصف الدرّ شيءٌ أحسن من قول رؤبة " من الرجز ":

كأن خلفيها إذا ما درَّاً

جروا هراش حرشاً فهرا

قال الأصمعي: أنشد رجلٌ بشاراً وأنا حاضرٌ قول الشاعر " من الطويل ":

وقد جعل الأعداء ينتقصوننا

وتطمع فينا ألسنٌ وعيونُ

ألا إنما ليلى عصا خيزرانةٍ

إذا غمزوها بالأكف تلينُ

فقال بشار: والله لو جعلها عصا مخٍ أو عصا زبدٍ، لما كان إلا مخطئاً مع ذكر العصا! ألا قال كما قلتُ " من الوافر ":

وحوراء المدامع من معدٍ

كأن حديثها قطعُ الجنان

إذا قامت لسحبتها تثنت

كأن عظامها من خيزران

ينسيك المنى نظرٌ إليها

ويصرفُ وجهها وجه الزمان

قال: وأنشدنا لنفسه يفخر بالعمى " من الطويل ":

عميتُ جنيناً والذكاءُ من العمى

فجئتُ عجيب الظن للعلم موئلاً

وغاض ضياء العين للعقل رافداً

بقلب إذا ما ضيع الناس حصَّلا

وشعر كنور الروض لاءمت بينه

بقولٍ إذا ما أحزن الشعر أسهلا

وكان يقول: الحمد لله الذي ذهب ببصري! فقيل له: لم، يا أبا معاذ؟ فقال: لاأرى من أبغضُ.

وقال الأصمعي: كان بخلاء العرب أربعة كلهم شاعر: الحطيئة وحميد الأرقط السعدي وأبو ألسود الدُؤلي وخالد بن صفوان التميمي. فأما الحطيئة فإنه كان يرعى غنماً له وفي يده عصا، فصاح به رجلٌ يستضيفه: ياراعي الغنم! ففطن أنه ضيفٌ فقال: هذه عجراء من سلم! قال: إني ضيف. قال: للضيفان أعددتها. وأما حميد ألرقط فإن ضيفاً دخل إليه ليلاً فقال لامرأته: لك الويل والثبور، قومي إلى المشئوم، فأصلحي له! لإاصلحت له، فجعل الرجل يأكل ويقول: مافعل الحجاج؟ فلما فرغ قال حميد " من الطويل ":

يخرُّ على الاطناب من فرحٍ بنا

هجفٌ لمخزون التحية باذلُ

يقول وقد ألقى المراسي للقرى

أبن لي ما الحجَّاجُ بالناس فاعلُ

فقلت: لعمري ما لهذا طرقتني

فكلُ ودعِ الأخبار ما أنت آكل

تدبّل كفاه ويحدر حلقه

إلى الصدر ما ضُمَّت إليه الأنامل

أتانا ولم يعدله سحبان وائلٍ

بياناً وعلماً بالدهر هو قائلُ

فما زال عنه اللقمُ حتى كأنه

من العي لما أن تكلم باقل

وأما أبو الأسود فإنه كان له دكان وكان لايسع إلا موضع طبق، فمرَّ به أعربيٌ على فرس، فدعاه إلى طبقه، فدنا، فأكل فقال له: عندنا ما تحب، فتعال إذا شئت! وعمد أبو الأسود إلى شنةٍ يابسة فجعل فيها حصى وجعلها تحت ركبته، فلما مرّ به الأعرابيُّ قال له: ادن! فدنا، فقعقع أبو الأسود الشنة، فنفر الفرس بالأعرابي، فدق ترقوته. وأما خالد بن صفوان فإنه مرض، فوصف له الطبيب فروجاً، فقال: وما الفروج؟! ثمّ ألحّ عليه الطبيب، فاشترى فروجا فأكل بعضه، ودخل عليه رجلٌ من قريش، فخاف أن يأكل معه فقال خالد مبتدئاً: نتغدَّى بنصف هذا الفروج، ونتعشَّى بباقيه، ثمّ قال " من الطويل ":

تداري زماناً عارماً بصرُوُفه

ومن لايداري عيشه ليس يعقلُ

فخرج القرشي وهو يقول " من الطويل ":

تعلمت ترنيق المعيشة بعدما

كبرتُ وأعداني على البخل خالد

وأنشد للعباس بن الأحنف " من البسيط ":

أتأذنون لصبٍ في زيارتكم

فعندكم شهوات السمع والبصر

لايضمر السُوء إن طال الجلوس به

عفُّ الضمير ولكن فاسقُ النظر

وتذاكروا عنده شعر العباس بن الأحنف، فتسخَّطه وقال: والله ما يؤتى من جودة المعنى ولكنه سخيف اللفظ، ألا ترى قوله " من السريع ":

ص: 54

اليوم مثلُ الحول حتى أرى

وجهك والساعات كالشهر

إنَّ الذي أضمر عند الذي

أظهر كالقطرة في البحر

لو شقَّ عن قلبي قُري وسطه

ذكرك والتوحيدُ في سطرِ

ثمّ قال " من السريع ":

يا من تمادى قلبه في الهوى

سال بك السيلُ وما تدري

أبعد أن قد صرت أحدوثة

في الناس مثل الحسن البصري

لعمري أنّ الحسن البصري مشهورٌ ولكن ليس هذا موضع ذكره! - وأنشد لأبي العتاهية " من الرمل ":

أنت ما استغنيت عن صا

حِبك الدهر أخوه

فإذا احتجت إليه

ساعةً مجكَ فوهُ

أهنأ المعروف مالم

تبتذلْ فيه الوُجوه

وقال: ماوصف أحدٌ الثغر إلا احتاج إلى قول بشر بن أبي خازم " من الوافر ":

يفلجنَ الشفاه عن أقحوانٍ

جلاهُ غِبٍ ساريةٍ قطارُ

ولا وصف أحد اللون بأحسن من بيتي عمر بن أبي ربيعة المخزومي " من الخفيف ":

وهيَ مكنونةٌ تَحيّر منها

في أديم الخدين ماء الشباب

شفَّ منها محققٌ جنديٌّ

فهيَ كالشمس من خلال السحاب

قال: ولاوصف أحدٌ عيني امرأة إلا احتاج إلى قول عدي بن الرقاع " من الكامل ":

لولا الحياء وأن رأسي قد بدا

فيه المشيب لزرتُ أمَّ القاسم

وكأنها وسط النساء أعارها

عينيه أحورُ من جآذرِ جاسم

وسنان أقصدهُ النُعاس فرنقتْ

في عينه سنةٌ وليس بنائم

ولا وصف أحدٌ نجيباً إلا احتاج إلى قول حميد بن ثور " من الطويل ":

محلى بأطواق عتاقٍ يبينها

على الضُرّ راعي الضأن لو يتقوفُ

ولا وصف أحد ظليماً إلا أحتاج إلى قول علقمة بن عبدة " من البسيط ":

هَيقٌ كأن جناحيه وجؤجوهُ

بيتٌ أطافت به خرقاءُ مهجومُ

ولا أعتذر أحدٌ إلا احتاج إلى قول النابغة " من الطويل ":

فإنك كالليل الذي هو مدركي

وإن خلتُ أن المنتأى عنك واسعُ

ولم يبتدئ أحدٌ من الشعراء مرثية أحسن من أبتداء أوس بن حجر " من المنسرح ":

أيتها النفس أجملي جزعاً

إنَّ الذي تحذرين قد وقعا

إنَّ الذي جمَّع السماحةَ والنجدة والحزم والتقُى جُمعا

الألمعي الذي يظنُّ لك الظَّنَّ كأن قد رأى وقد سمعا

وأصدق ما قالته العربُ قولُ الحطيئة " من البسيط ":

من يفعل الخير لايعدم جوازيهُ

لايذهب العرف بين الله والناس

قال: وهو بيتٌ أوّله مثلٌ وآخره مثلٌ. وأحسن ماقيل في الكبر قولُ حميد بن ثور " من الطويل ":

أرى بصري قد خانني بعد صحةٍ

وحسبك داءً أن تصحَّ وتسلما

وألام بيتٍ قاله رجلٌ ينشد وهو يسمع - وقال هذا لقلة حنينه إلى ألافه " من البسيط ":

تلقى بكلُ بلادٍ إن أقمت بها

أهلاً بأهل وجيراناً بجيران

وأحسن ماقيل في صفة امرأة عجزاء خميصة قولُ الأعشى " من البسيط ":

صفرُ الوشاحين ملء الدرع بهنكةٌ

إذا تأتي يكادُ الخصر ينخزل

وأحسن من هذا قولُ أبي وجزة السعدي " من الكامل ":

أدماءُ في وضح يكادُ رداؤها

يغري ويصنعُ ما أحبَّ إزارها

وأشعر أبيات وصف بها الفرس قولُ النابغة " من المنسرح ":

وغارةٍ تسعرُ المقانب قد

سارعت فيها بصلدم صتم

فعمٍ أسيلٍ عراضِ أوظفة الرجلين خاظي البضيعِ ملتئم

في مرفقيه تحانف وله

بركة زورٍ كجبأةِ الخزم

وهو طويلُ الجران مدَّ بلحييه

فلم يأزما على كزم

خيط على زفرةٍ فتمَّ ولم

يرجع إلى دقةٍ ولا هضم

وأحسن ما قيل في صفة الدروع " من الطويل ":

وبيضٍ من النسج القديم كأنها

نهاءٌ نقيعٌ ماؤه متدافعُ

تصفقها هوجُ الجنوب إذا جرت

وتعقبها الأمطار فالماء راجع

ولا شعر أشبه بالسنة من قول عديّ بن زيد " من الطويل ":

عن المرء لاتسأل وسلْ عن قرينهِ

فإن القرين بالمقارن يقتدي

ص: 55

ولم يقل شعر قكٌ مثل هذه الثلاثة المعاني في رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي قول كعب بن زهير " من البسيط ":

تحمله الناقةُ الأدماءُ معتجراً

بالبرد كالبدر جلَّي ليلةَ الظُلمِ

وفي عطافيه أو أثناء ريطته

ما يعلم الله من دينٍ ومن كرم

وأجود بيتٍ في الغيث بيت الهذُليّ " من الطويل ":

لتُلقحه ريحُ الجنوب وتقبل

الشمالُ نتاجاً والصبا حالبٌ يمري

قال: وقال الكميت " من المتقارب ":

مرته الجنوب فلما

أكفهرَّ حلَّت عزاليه الشمألُ

قال: وأحسن ما قيل في وصف جيشٍ قولُ العجَّاج " من الرجز ":

كأنما زهاؤه لمن جهر

ليلٌ ورزُّ وغره إذا وغر

سارٍ سرى من قبل العين فجرّ

عيطّ السحاب والمرابيعَ الكُبَرْ

وأحسن ما قيل في وصف الإبل قولُ عمر بن لجاءٍ " من الرجز ":

أنعتها إني من نعاتها

مندحَّةَ السُراتِ وادقاتها

أي عظيمة الجوف منبسطته دانيةٌ من الأرض،

مكفوفة الأخفاف محمراتها

سابغةَ الأذناب ذيَّالاتها

يريد: أخفافها ليست بمنكسرة كأنها مكفوفةٌ بكفافٍ،

طَوَتْ ليومِ الخمس أسقياتها

غابر ما فيها على بُلَاّتها

أي طَوَتِ البقية على البلات، واطو باقي سقاءك على بلله! أي وفيه بلل لا تطوه على يبسٍ فينكسر وهذا مثلٌ،

وافقت الشمسَ بجمجماتها

تمشي إلى رواءٍ عاطناتها

تجبس العانس في ريطاتها

بالأجرع السهل إلى جاراتها

التجبُّس التميدُ والتميس، يقول: تمشي إلى الرواء التي رويت قبلها كما تمشي هذه المرأة العانس،

كأنما نُطَّت إلى ضَرَّاتها

مِن نخر الطلح مجوفاتها

قال: ولا أعرف للعرب من صفة القطا كقول المَرذَار " من الطويل ":

بلادٌ مروراةٌ يحارُ بها القطا

ترى الرأل في حافاتها يتحدقُ

يظلّ بها فرخُ القطاةِ كأنه

يتيمُ جفا عنه مواليه مُطرّقُ

مروراة كلّ أرض لاتنبت مثل العزاز، والرأل فرخ النعام. - قال: وأجودُ ما قال الشعراء قول القيس في الطيب " من الطويل ":

ألم ترياني كلما جئت طارقاً

وجدتُ بها طيباً وإن لم تطيَّبِ

قال: ولم أسمع وصف الطعنة بمثل هذا " تشهق " و " تهرُّ " كقول أوس بن حجر " من المتقارب ":

وفي صدره مثل جيب العرو

سِ تشهقُ حيناً وحيناً تهرّ

" جيب العروس " أراد: الصبغ بالدم، و " تشهق " أراد: إذا ردّ صاحبها نفسه تصعَّد الدمُ، فسمعت لها شهيقاً، وإذا تنفس أسرع الدمُ إلى موضعها فاحتبس على فمِ الجُرح، فسمعت له مثلَ الهرير. وقال: ثمّ بعد ذلك قولُ زياد الأعجم في مرثية المغيرة بن المهلب " من الكامل ":

ومُدَّجج كره الكماة نزالهُ

شاكي السلاح مسايفٍ أو رامح

سبقت يداك له الحتوف بطعنة

شهقتْ لمنفذها أصولُ جوانح

قال: وأحسن ما قيل في وصف عمود الصبح قول ذي الرُمَّة " من الطويل ":

كأن عمودُ الصبح جيدٌ ولبَّةٌ

وراء الدُجى من حُرّة اللون حاسِرُ

شبَّه بياض الصبح في الحمرة بعنق امرأة ولبتها، وقوله " وراء الدُجى " أي بعد ما ذهب الدجى. - قال: وأحسن ما قيل في الغيرة قول مسكين الدارمي:

ألا أيها الغائرُ المستشيطُ

علامَ تغار إذا لم تغرْ

فما خير عرس إذا خفتها

وما خير بيتٍ إذا لم يُزرْ

تغارُ على الناس أن ينظروا

وهل يفتن الصالحات النظرْ

فإني سأخلي لها بيتها

فتحفظ في نفسها أو تذرْ

إن الله لم يُعطه زُدَّها

فلن يعطي الوُدَّ سوطٌ ممر

يكاد يقطع أضلاعه

إذا ما رأى زائراً أو نفر

فمن ذا يراعي له عرسه

إذا ضرَّه والمطيَّ السفر

قال: وكان الأصمعي كثيراً يردد هذين البيتين في العشق " من الطويل ":

سقى اللهُ أياماً لنا لسنَ رُّجعا

وسقيا لعصر العامرية من عصر

ليالي أعطيت البطالة مقودي

تمرُّ الليالي والشهورُ ولا أدري

ص: 56

قال: وسأل رجلُ من أشراف البصرة عن معنى قول زهير وقال: أوجزوا التفسير " من الطويل ":

ومن يعص أطراف الزجاج فإنه

يطيع العوالي ركبت كل لهذم

فذهبوا في التفسير كلَّ مذهب، فسأل الأصمعي فقال: مثل قولهم: من عصى السوط أطاع السيف. - قال المبرد: كانت العرب إذا جاءت تطلب صلحاً فعلامتهم أن يؤخروا صدور رماحهم فيقدموا زجاجها، فإن لم يقبلوا الصلح قلبوا الأسنة للحرب. - وسئل عن قول امرئ القيس " من الطويل ":

وهل ينعمن إلا سعيدٌ مخلَّدٌ

قليلُ الهموم ما يبيت بأوجال

قال: هذا مثل قولهم: استراح من لاعقل له! وقال ابو حاتم: سألت الأصمعي عن قول المتلمس " من الطويل ":

لذي الحلم قبل اليوم ما تقرعُ العصا

وما علم الإنسان إلا ليعلما

فقال: أراد به: إنما يقبل التذكرة والوعظ ذو العقل، وكان ذلك أن عامر بن الظرب العدواني حاكم العرب كان قد اضطرب حكمه لطول عمره، فقال لولده: إذا رأيتموني أحكم بصواب فأمسكوا! وإذا رأيتموني قد اضطربت فحركوا عصا في أيديكم! وقال: إلا ترى إلى قول الآخر " من الكامل ":

وزعمتم أن لاحلوم لنا

إن العصا قرعت لذي الحلم

قال المازني: سألت الأصمعي عن بيت الأعشى " من البسيط ":

وما طلابك شيئاً لست مدركه

إن كان عنك غراب الجهل قد وقعا

وأنشدته أنا لأبي حية النميري " من المتقارب ":

زمان عليَّ غرابٌ غدافٌ

فطيَّره الدهرُ عني فطارا

فقال الأصمعي: أراد أن جهل شبابه الذي شعره أسود فيه كريش الغراب، قد طار عنه بشيبه. وأنشدني " من المتقارب ":

زمان عليّ غرابٌ غدافٌ

فطيَّره القدر السابق

وصار على وكره عقعق

من البلق ذو شيبةٍ ناغقُ

وسئل عن بيت ابن مقبل " من المتقارب ":

لعمر أبيك لقد شاقني

خيالٌ حزنتُ له إذ حزن

فقال: هذا مثلُ قول مزاحم العقيلي " من الطويل ":

بكت دراهم من نأيهم فتسرعت

دموعي فأي الباكيين ألومُ

أمستعبراً يبكي على الهون والبلى

أم اخر يبكي شجوه ويهيم

وليس ثمَّ حزن ولا ههنا بكاء. - قال: وأنشد عنده أبيات دعبل " من الكامل ":

أين الشبابُ وأيَّةً سلكا

لا أين يُطلب ضلَّ بلْ هلكا

لا تعجبي يا سلمَ من رجلٍ

ضحك المشيبُ برأسه فبكى

قد كان يضحك في شبيبته

فأتى المشيبُ فقلَّما ضحكا

يا سلم ما بالشيبِ منقصةٌ

لاسوقةً يبقي ولا ملكا

قصر الغواية عن هوى قمرٍ

وجد السبيلَ إليه مشتركا

لاتأخذا بظلامتي أحداً

قلبي وطرفي في دمي اشتركا

فعجب الناسُ من قوله: " ضحك المشيب برأسه فبكى "، فقال: إنما أخذ قوله من قول الحسين بن مطير الأسدي حيث يقول " من الخفيف ":

أين أهلُ القباب بالدهناء

أين جيراننا على الأحساء

جاورونا والأرضُ ملبسةٌ نو

رَ الأقاحي تجادُ بالأنواء

كلَّ يومٍ بأقحوان جديد

تضحك الأرض من بكاء السماء

قال: وقد أخذه أيضاً مسلم بن الوليد صريعُ الغواني حيث يقول " من السريع ":

مستعبرٌ يبكي على دمنةٍ

ورأسه يضحكُ فيه المشيب

وقال الأصمعي: أولُ الإبل الذود إلى العشرة، فإذا بلغت الخمسة عشر إلى عشرين فهي الصرمة، فإذا بلغت ثلاثين أو أربعين فهي صُبَّة، فإذا بلغت خمسين إلى الستين فهي هجمة، فإذا بلغت سبعين إلى الثمانين فهي العكرة، فإذا بلغت مائة فهي هنيدة بلا ألف ولا لام، فإذا بلغت السبع مائة إلى الأف فهي العرج، والبرك إبل الحيّ. - وقال: إنما سُميّ مُضَرُ مضرَ لشدة بياضه، ومنه المضيرة لبياضها.

وقال: في الحمار عشرة أمثال: الجحش لمَّا بذَّك الأعيارُ؛ وأنكحت الفراء فسترى؛ وكلُّ الصيد في جوف الفراء؛ ومن ينك الفراء ينك نياكاً؛ والعير أوقى لدمه؛ وأصبر من عير أبي سيارة، وذلك أنه دفع بالناس أربعين سنة بعرفات؛ وأخرب من جوف حمار؛ والعيرُ يضرط والمكواة في النار؛ وإن ذهب عيرٌ فعيرُ في الرباط. وقال المتلمس في أذلَّ من الحمار والوتد " من البسيط ":

ص: 57

ولا يقيم بدار ليس يعرفها

إلا الأذلَاّنِ عير الأهل والوتدُ

وقال الرياشي: ألقى الأصمعي علينا قول بعض الشعراء " من الطويل ":

أحِبُّ من النسوان كُلَّ قصيرةٍ

لها نسبٌ في الصالحين قصيرُ

ثمّ قال: سلوا! فسألنا فلم نجد أحداً يقف عليه، فقال: أما قوله: " أحب من النسوان كلَّ قصيرة " فكأنه قال: أُحب أن أتزوج امرأة، إذا سألتُ عنها قيل: حسبك بها فضلاً وديناً وعقلاً وجمالاً، فقد كُفيت أن أسأل عن حالها، فإذا سألتُ عن أبيها قيل: به رجلاً صالحاً ديّناً: وأنشد الأصمعي " من الطويل ":

أحبُ من النسوان كلَّ طويلةٍ

لها نسبٌ في الصالحين طويلُ

وقال: هذه المرأة ليست في شهرة تلك الأولى، هذه أحتاج أني أسأل الناس عنها وعن جمالها ودينها وأسأل عن آبائها حتى أعرف من هم مثل معرفتي تلك.

قال: وقد جاء في الحديث: نهى عن جداد النخل بالليل أي صرامه قال: والحال الحمأةُ، وفي الحديث: إن جبريل عليه السلام لمَّا دعا فرعون عند الغرق أخذ من حال البحر فأدخله في فيه.

وسأل حضري بدوياً: هل عندكم مايرعى؟ فقال البدوي هازئاً به: نعم عندنا مقمل ومدبٌ وباقل وحانط وثامر ووراس! وإنما عني بهذا كله الرمث، وذلك أن الرمث أول ما يتفطر بالنبت يقال: قد أقمل، فإذا زاد على التفطر شيئاً قيل: قد أدبي، ثمّ هو الباقل، ثمّ هو الحانط أي المدرك، وكلُّ مدركٍ يقال له: حانط ويقال: حنط ابنك فزوجه! وهو يحنط حنوطا، والثامر الذي قد خرج ثمره، والوارس الذي قد أصفر وكاد يتحاتُ ويتساقط، وقد أورس الشجر إذا دخلته صفرة. - قال: وكلُّ نبتٌ مالحٍ فهو الحمض نحو الرمث والعضاه والطرفاء والخذراف، فأما الرُغْل والقلام والبرم والطحماء والدرماء والنجيل والسعدان فالخلة، والخلة خبز الإبل والحمض لحمها.

وسئل عن قول عليّ عليه السلام: أشكو إليك عجري وبجري، فقال: همومي وأحزاني. - وقال في قوله: دمُ عفراء أفضل من دم سوداء عند الله، العفراء البيضاء وهي المبيضة البطن من الشحم والسمن، والسوداء التي بطنها أسود فليس فيه شحم.

قال: وكان شيخٌ من الكتاب يجالسنا عند أبي عمرو بن العلاء فنظر إلى رجلٍ قد جاء خطُّه، فقال: قد ضاع خطُّك وارتفع! أي ظهر وجاد، ومنه قول الشاعر " من الطويل ":

تضوَّع مسكاً بطنُ نعمان أن مشت

به زينبٌ في نسوةٍ عطراتِ

يُخمرن أطراف البنان من التقى

ويرقدن جنح الليل معتجرات

قال: والعارض في قول جرير " من الوافر ":

أتذكر يوم تصقلُ عارضيها

بعودٍ بشامةٍ سُقي البشام

هو السن الذي يلي الناب. قال: ويقالُ لأعمال مكة والمدينة العروض، والأعراض القرى واحدتها عرضٌ؛ والعرض بسكون الراء المال الذي ليس بنقد، وبتحريك الراء المال كله؛ وعلق فلان فلانة عرضاً أي من غير تعمد. - وقال: النهار فرخ الحباري، والبقرة العيال الكثير، يقال: جاء فلان يجرُ بقرة أي عيالاً. - ومرَّ فلان يتساوك أي مرّ يتثنى في عطفيه، ومن ثمَّ سميَّ المسواك مسواكا لتردده في جانبي الفم. - وتقول العرب عند الوجع: حس! معناه: وه! وحسسته قتلته، قال الله تعالى:(إذ تحُسُّونهم بإذنه) . - والتزوير إصلاح الكلام، ومنه قول عمر يوم سقيفة بني ساعدة: كنت زوَّرت في صدري مقالةً أقوم بها بين يدي أبي بكر، فجاء أبو بكر فما ترك شيئاً مما كنتُ زورته إلا تكلم به. - قال: واسم دجلة دغليثا، فأعربوها فقالوا: دجلة. - وعمل العراق من هيت إلى الصين والهند والسند، ثمّ هكذا إلى الريّ وخراسان إلى الديلم والجبال كلها وطبرستان. وقال: إصبهان سُرَّة العراق فتحها أبو موسى؛ والجزيرة ما بين دجلة والفرات والموصل.

قال الأصمعي: كان أبو فرعون الساسي سائلا بالبصرة، وكنتُ أسمع أبا عمرو بن العلاء يذكر فصاحته ويقول: إنه أفصح أهل البلد، وكان مياسير أهل البصرة يعرضون عليه الكفاية، فيأبى إلا المسألة. قال الأصمعي: فمكثتُ حولاً أطلبه لاأقدر عليه لشغله مع أهل البصرة بالشراب وغيره، فغدوت يوماً مع الأخفش الأكبر أبي الخطاب، نأتي قوماً من الأعراب اقتحمتهم السنة، فبيننا نحن في بعض سكك البصرة إذا نحن بشيخٍ قصير عظيم الهامة كث اللحية وفي يده زبيل وهو يقول " من الرجز ":

لقد غدوتُ خلقَ الثيابِ

معلقَ الزبيل والجراب

ص: 58

طبَّا يدقُّ حلق الأبواب

أسمعُ ذات الخدر والحجاب

ثمّ أتى باباً فقرع حلقته ثم قال: أنيلونا، نالتكم الشفاعة! فخرجت إليه عجوز شهيرة فقالت: بورك فيك، ياسائل، ارجع، فما لك عندنا نائل! فأنشأ يقول " من الرجز ":

ربَّ عجوز خبَّة زبون

سريعة الرد على المسكين

تظن أن بوركا يكفيني

إذا غدوت باسطاً يميني

عدمت كل عجلة تؤذيني

قال: فقال الأخفش: ألا تسمع لهذا الشويخ ما أفصحه وأسرع إجابته؟! قال: فقلت: إن كان أبو فرعون حيَّاً فهو ذا! ومانحن يومنا بلاقٍ أحداً من الأعراب أفصح منه ولاأظرف، فصيَّر شُغلنا اليوم به! فقال: ذلك إليك! فأتيتهُ فقلت: ياشيخُ، هل لك في فليسات وطعام؟ فقال: أي بأبي، وأين ذلك؟ قال: قلت: عندي! قال: فصيّر مدرجتك لي وادياً حتى أكون له سبيلاً! فانطلقت به إلى المنزل، فقلت: أسألك عن أشياء. فقال: ياشيخ، ألا أرى سؤالك نقداً وطعامك نسيئةًظ! فقلت: أي جارية، هاتي ماحضر! قال: وهذه رفع حشمة قبل ورود مودةٍ! فجاءت الجارية بخوانٍ وأرغفة، فانثنى على جوانبها فأكلها، فلمَّا نظرت إليه الجارية يلتقم الرُعفان أقبلت بجميع ما في سندانتها من خبز فرمت به بين يديه ثمّ قالت: كل! اصطحبت بارداً! فلمَّا نظر إلى كثرة الرُعفان جثا على ركبتيه ثمّ أنشأ يقول " من الرجز ":

إني على ما كان من هزالي

وخفَّةِ اللحم على أوصالي

أثلِم حرفَ القرص من حيالي

ثلمَ المحاقِ جانب الهلال

فأهوت الجارية إلى الخوان فرفعت ثمّ قالت: أي مولاي، إنما أمر اللهُ عز وجل بالتسمية على الطعام، فأما بالارتجاز فلا! فالتفت إليَّ فقال: ياشيخ، وللمنزل ربٌّ سواك أما إنه قد قيل في الامثال: لاتحمدن أمةً عام اشترائها ولا فتاةً عام هدائها؟! والله لولا أنها عرفتك بديدنك ما سبقتك إلى أمرٍ لا تريده، فها هي هذه قد ملكت خوانها فأين فليساتك التي وعدتنيها؟ قال الأصمعي: فالتفت إليَّ الأخفش فقال: أبا سعيد، أنت كما قال الشاعر " من الكامل ":

سقط العشاء به على سرحان

والرأي لك إن قبلت النجاء، فأخرجه راشداً لاعليك ولا لك! فقال: لله أنت جربَّةٌ جمعتم والله لو كنتم باهليين مازدتم! أما والله لآتين غداً شيخاً لكم قد وصف بالحذق باللؤم والتعليم له فأمتدحتكم عنده، لعلَّ الله أن ينفعكم بي، إذ ضرَّني بكم. قال الأخفش: فما شككتُ أنه يعني سعيد ابن مسلم! فقلت: ياأعرابيُّ، ومن شيخنا يرحمك الله؟ قال: أصيمعي ههنا ذكر لي، بلغني أنّ أمير المؤمنين عليَّ بن أبي طالب عليه السلام قطع يد جده في شنٍ سرقه، فلذلك سميَّ الأصمعي. فقلت: ياأبا الخطاب، نجني من هذا، ولك الإقرارُ بالتصريف ما عشت! قال الأخفش: فقلت له: ياأعرابيُّ، قُم فقد أغناك الله! فقال: وبمن؟ قلت: بي! قال: كلاّ والله إنَّ لوجهك لحراقيف تُدلُّ على أنك وهذا الشيخ رضيعاً لبان! ثمّ تناول زبيله، فأقبلتُ أقول: اللهمَّ أخرجه عنَّا في عافيةٍ! فخرج وهو يقول " من الرجز ":

ياربَّ جبسٍ، قد غدا في شانه

لا يسقطُ الخردلُ من بنانهِ

ولايريمُ الدَهْرَ من مكانه

أشجع من ليثٍ على دُكانِهِ

لايطمعُ السائلُ في رُغفانهِ

لم يُعطني الفلس على هوانهِ

يا ربّ فالَعَنْه بترجمانه

وانصرف.

قال: وقال خلف بن خليفة الأقطع يمدح يزيد بن عمر بن هبيرة ويصف قصره الذي بناه - وقال الفضل بن الربيع: هو لابن أبي عُيينة المهلبي في قصر عيسى بن جعفر بالخُريبة " من البسيط ":

زُرْ وادي القصر نعمَ القصرُ والوادي

لابُدَّ من زورةٍ عن غير ميعاد

زرهُ فليس له شبهٌ يعادله

من منزل حاضرٍ إن شئت أو بادِ

تُرفى قراقيره والعيسُ واقفةٌ

والنونُ والضَبُّ والملاحُ والحادي

قال: أخذه من الذي يقول " من الكامل ":

مُكَّاؤُها غَرِدٌ

يُجيبُ الخضر من ورشانها

قرنتْ رؤوسُ ظبائها

بالزرق من حيتانها

وقال: دخلت البادية فإذا أنا بأعرابية على قبرٍ وهي تنشد " من البسيط ":

هل أخبر القبر سائليه

أو قرَّ عيناً بزائريه

ص: 59

أو هل تراه أحاط علماً

بالجسد المستكن فيه

لو يعلم القبر من يراري

تاه على كلٍ مايليه

ياموت لو تقبل افتداءٍ

لكنتُ بالنفس أفتديه

أنعى يزيداً لمعتفيه

أنعى يزيداً لمعتريه

ياجبلاً كان ذا امتناع

وركن عزٍ لآمليه

يانخلة طلعها نضيدٌ

يقربُ من كفِ مجتنبيه

تحلو نعم عنده سماحاً

ولم تطب قطُّ لابفيه

ويا مريضاً على فراشٍ

تؤذيه أيدي ممرضيه

ويا صبوراً على بلاء

كان به اللهُ يبتليه

يا موت ماذا أردت مني

حققَّت ما كنتُ أتقيه

دهري رماني بفقد إلفي

أذم دهري وأشتكيه

آمنك الله كلَّ روعٍ

وكلَّ ما كنت تتقيه

قال: فدنوت منها. فقلت: من صاحب هذا القبر؟ قالت: والله لو علمت مكان أحدٍ ماتكلمتُ! قلت: فإن رأيت أن تعيدي الأبيات؟ قالت: سبحان الله، أوبلغ منك الجهل ما أرى؟ أقول لك: لو علمت مكان أحدٍ ما تكلمت! ثمّ تقول: أعيدي الأبيات!؟ قلت: فإني قد حفظتها، أنشدك؟ قالت: نعم! فأنشدتها، قالت: لعلك الأصمعي الذي يبلغنا خبره؟ فقلت: نعم! ثمّ انصرفت.

وقال: دخلتُ على الرشيد في الليل، فتذاكرنا أحوال القمر، فقلت: العربُ تقول إذا كان ابن ليلة: رضاعُ سخيله حِلَّ أهلها برميله. قيل: ماأنت ابن ليلتين؟ قال: حديثُ أمتين بكذب ومين. قيل: ماأنت ابن ثلاث؟ قال: قليلُ اللباث. قيل: فما أنت ابن أربع؟ قال: عتمةُ أمّ ربع غير جائع ولا مرضع. قيل: فابن خمس؟ قال: عشاءُ خلفات قعس - ويقال: حديثٌ وأنس. ويقال: سِر وأمس. قيل: ماأنت ابن ست؟ قال: سِر وبت - وقيل: تحدَّث وبت. قيل: فابن سبع؟ قال: دلجة ضبع - وقيل: أنسُ ذي الجمع. وقيل: حديثُ جمع. وقيل: يضفر في النسع. وقيل: يلتقطُ في الجزع. وقيل: الودع. وقيل: عشيَّة أهل جمع. قيل له: ماأنت ابن ثمان؟ قال قمرٌ إضحيان. قيل: ماأنت ابن تسع؟ قال: يثقبُ فيَّ الجزع ويقطع الشسع. قيل: فما أنت ابن عشر؟ قال: ثلثُ الشهر - وقيل: مخانقُ الفجر. وقيل: أوديك إلى الفجر. وقيل: أبادرُ الفجر. وقيل: ماأنت ابن إحدى عشره؟ قال: أطلع عشاء وأرى بُكره - وقيل: أغيبُ بسحره. قيل: ماأنت ابن إثنتي عشرة؟ قال: مؤنق للبشر بالبدو والحضر. قيل: ماأنت ابن ثلاث عشرة؟ قال: قمرُ باهرٌ لكل ذي ناظر. قيل: ماأنت ابن أربع عشرة؟ قيل: مقتبل الشباب أضيءُ مدجنات السحاب. قيل: ما ابن ست عشرة؟ قال: نقص الخلق بالغرب والشرق. قيل: ماأنت ابن سبع عشرة؟ قال: أمكنتُ المقتفره - قال ثعلبٌ: المقتفرةُ الذي يتبعُ الآثار، ومقفراته موضعه الذي يقصده. قيل: ماأنت ابن ثماني عشرة؟ قال: انبسط أهل العشرة. قيل: ماأنت ابن تسع عشرة؟ قال: بطيءُ الطلوع بين الخشوع. قيل: ماأنت ابن عشرين؟ قال: أطلع بسحره وأنتظر بالبهمه - قال ثعلب: وسط الليل. قيل: ماأنت ابن إحدى وعشرين؟ قال: كالقبس يرى بالغس. قيل: ماأنت ابن اثنتين وعشرين؟ قال: بطيء السُرى إلا ريث ماأرى. قيل: ماأنت ابن ثلاثٍ وعشرين؟ قال: أطلعُ في قتمه ولاأجلو الظلمه في قتمه - أي في غبار. قيل: ما أنت ابن أربع وعشرين؟ قال: لاقمر ولا هلال. قيل: ماأنت ابن خمس وعشرين؟ قال: دنا الأجل وانقطع الأمل. قيل: ماأنت ابن ستٍ وعشرين؟ دنا فلا يرى مني إلا شفا - أي بقية. قيل: ماأنت ابن سبع وعشرين؟ قال: أطلعُ بُكره ولا أرى ظهرا. قيل: ماأنت ابن ثمان وعشرين؟ قال: ضئيل لاصغير فلا يراني إلا البصير. قيل: ماأنت ابن تسع وعشرين؟ قال: أسبق شعاع الشمس. قيل: ماأنت ابن ثلاثين؟ قال: هلالٌ مستبين.

وقال: كنتُ بالبادية فنظرت إلى أعرابي في يوم شديد البرد، وقد حفر لنفسه حفرة في الأرض ودفن نفسه فيها وهو يقول " من الطويل ":

يا ربُّ هذا القُرُّ أصبح كالحاً

وأنت بعدمي عالمٌ لاتعلمُ

فإن كنت يوماً ما جهنمَّ مدخلي

ففي مثل هذا اليوم طابت جهنم

قال الرياشي: كنا عند الأصمعي فجاءه رجلُ سكران وكان جارٌ له ندافاً، فقال له: امدحني بالجوار! فقال له " من الكامل ":

ص: 60

حيَّاك ربُّك واصطحبت عصيدةً

وإدامها زبد فزبد واندف

فقبَّل رجله وقال: جزاك الله خيراً! قال: ودخلتُ الحمَّام فوجدت رجلاً وسيماً فقلت: مانسبك؟ قال: لاأدري. قلت: ماأسمك؟ قال: عمرويه؟ قلت: فالصنعة؟ قال: حائك. فناولته ليفة وقلت: ادلك بهذا ظهري! وقلت " من الرمل ":

إنما أنت لحاك الله

يا عمرويه جيفه

كنتُ أرجوك فعند اليأس

ناولتك ليفه

لو كما تنقص تزدا

د إذن كنت خليفه

وقال: كنتُ أنشد هذا البيت ولا أرى له ثانيا " من الوافر ":

أرى للكأس حقاً لاأراه

لغير الكأس إلا للنديم

فسمعت بعض أصحاب الحمَّامات يوقد ويقول " من الوافر ":

هو القطبُ الذي دارت عليه

رحا اللذات في الدهر القديم

قال: جاؤنا بقثاء كأنه أُيور المراهقين وموزٍ كأذرع الأبكار. - قال: وقرأ رجلٌ: (إنَّا أرْسَلْنا نُوحا) فأرتج عليه، فقال له نبطيُّ: خلفه إن لم يذهب نوح فأرسل غيره. - وقال: كلُّ ما عمل من الدروع بالعراق فهو الفارسي، وما عمل بالشام فهو السلوقي. - وكان إذا استثقل إنساناً أنشد " من البسيطط:

من يشتري ستةً مني بواحدةٍ

أمَّن يبادلُ جيراناً بجيران

وسُئل: لمَ سمَّتَ العرب أولادها كلباً وذئباً وعبيدها ميموناً ومباركاً؟ قال: سمَّت أولادها لأعدائها وسمَّت عبيدها لأنفسها. - وقال: ماعرفتُ معنى قول الله تعالى: (حَصَبُ جَهَنَّمَ) حتى سمعت أعرابية تقول: حصبتُ التنَّور - أي أوقدته. - وقال: دهاة العرب أربعة: معاوية وعمرو ابن العاص والسائب بن ألقرع والمغيرة بن شعبة، وكلُّهم وُلد بالطائف. - وقال: قلتُ لأعرابي: خيرُ الغداء بواكره، فكيف في العشاء؟ قال: سوافره! يعني من قبل مغيب الشمس.

وقال: دخلت على الرشيد بعقبٍ علَّة، فقال: كيف أنت؟ فقلت: شفاني الله برؤية أمير المؤمنين، ولقد بتُّ بليلة النابغة! فقال: إنَّا لله، هو والله قوله " من الطويل ":

فبتُّ كأني ساورتني ضئيلةٌ

من الرقش في أنيابها السُمُّ ناقعُ

فعجبت من ذكائه وفطنته.

قال الرشيد يوماً: أنشدونا أحسن ماقيل في العقاب! فعذر القومُ ولم يأتوا بشيء، فقال الأصمعي: من أحسنه " من البسيط ":

باتت يؤرقها في وكرها سغب

وناهضٌ يخلسُ الأقواتَ من فيها

ثمّ استمرَّ بها عزمٌ فحدَّرها

كأنما الريحُ هبَّتْ من خوافيها

ماكان إلا كرجع الطرف إذ رجعت

ملأى تمطقُ ممَّا في أسافيها

ثمّ قال: وهذا امرؤ القيس يقول " من الطويل ":

كأن قلوبَ الطير رطباً ويابساً

لدى وكرها العُنَّابُ والحشفُ البالي

فقال الرشيد: لله درك، مامن شيء إلا وجدتُ عندك فيه شيئاً.

وقال: دخل العباس بن ألحنف على الرشيد وعنده الأصمعي، فقال: أنشدنا من ملحك الغريبة! فأنشده " من الهزج ":

إذا ماشئت أن تصنع

شيئاً يعجبُ الناسا

فصور ههنا فوزاً

وصور ثمَّ عبَّاسا

ودع بينهما شبرا

وإن زدتَّ فلاباسا

فإن لم يدنوا حتى

ترى رأسيهما راسا

فكذبها وكذبة

بما قاست وما قاسى

فلمَّا خرج قال الأصمعي: مسترقٌ من العرب والعجم! فقال لي: ماكان من العرب؟ فقلت: رجلٌ يقال له عمر هوي جارية يقال لها قمر، فقال " من الهزج ":

إذا ما شئت أن تصنع

شيئاً يعجب البشرا

فصور ههنا قمراً

وصور ههنا عُمرا

فإن لم يدنو حتى

ترى بشريهما بشرا

فكذبها بما ذكرت

وكذبه بما ذكرا

قال: فما كان من العجم؟ قلت: رجلٌ يقال له فلق هوي جارية يقال لها روق، فقال " من الهزج ":

إذا ماشئت أن تصنع

شيئاً يعجبُ الخلقا

فصور ههنا روقاً

وصور ههنا فلقا

فإن لم يدنوا حتى

ترى خلقيهما خلقا

فكذبها بما لاقت

وكذبه بما يلقَّى

ص: 61