الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قال أبو حاتم: كنت في المسجد الجامع بالبصرة وأنا إذ ذاك غلامٌ، فدخل أبو نواس فجلس إليَّ وجعل يعبث بي وينشدني، قلت: اللهمَّ خلصني منه! فدخل غلامٌ يقفيّ من أجمل الناس، فلما بصُر به هشَّ وتخلخل عن مكانه وأجلسه بيني وبينه وجعل يحادثه وينشده إلى أن أقيمت الصلاة، فالتفت إليَّ وقال " من السريع ":
أُتيحَ لي ياسهلُ مستظرفٌ
…
تسحرُ عيني عينهُ الساحره
وهي أبياتٌ. ثمّ التفت إلى الغلام وقد قام، فنظر إلى كفله فإذا هو أرسح، فقال " من السريع ":
ماشئتَ من دُنياولكنّهُمُنافقٌ ليستْ له آخرهْ
قال أبو مالك عون بن محمد: كان هذا قبل التسعين ومائة، وأبو حاتم إذ ذاك غلامٌ يجمع العلم، وما مات حتى قارب التسعين. - وقال: كانت المعاني مدفونة حتى أثارها أبو نواس، وأنشد له " من الوافر ":
ولو أني استزدتك فوق مابي
…
من البلوى لأعوزك المزيدُ
ولو عرضتْ على الموتى حياتي
…
بعيشٍ مثل عيشي لم يريدوا
قال: وكان أبو حاتم يميل إلى الأحداث ميلاً كثيراً ويفرط في ممازحتهم، وربما يضع يده يلمسهم، فعاتبه بعض البصريين وقال: إنك تفعل هذا وتقوم إلى الصلاة. فقال: متني قويٌّ وما أمذي! قال: وكان يحلف أنه لايتجاوز المدح.
قال محمد بن زكرياء الغلابي: كنا عند أبي حاتم بين العشاء والعتمة، فخالط عينيه الغمص، فأفلتت منه ضرطة، فقال فيه ابن الضيون " من السريع ":
إنَّا سمعنا ضرطةً افلتت
…
من أستٍ سهلان أبي حاتمِ
فأفزعتْ من كان مستبهاً
…
وأيقظت من كان من نائمِ
وظلَّ أهل الأرض في رجةٍ
…
واعتلق المظلوم بالظالمِ
فذكر لأبي حاتم، فقال: ويلك هذه لم تكن ضرطة، هذه كانت نفخة الصور! قال: مرّ رجلٌ براهبٍ فقال له: عظني! قال: أعظكم وفيكم الفرقان ومحمد منكم؟! قال: نعم. قال: فاتعظ ببيت شعرٍ قاله رجلٌ منكم " من الطويل ":
تجرَّد من الدنيا فإنك إنما
…
خرجت إلى الدنيا وأنت مُجرَّدُ
مات أبو حاتم رحمه الله سنة خمسٍ وخمسين ومائتين.
57 - ومن أخبار أبي الفَضْل الرياشيّ
واسمه العباس بن الفرج، ورياشٌ مولى عباسة زوجة محمد بن سليمان الهاشمي، وفرج أبوه مولاه. - قال أبو شراعة: رأيت فرجاً أبا عباس الرياشيَّ سندياً أخرم نجاراً، يجيء إلى المسجد فيصيح بابنه: ياأباَّس! فيقوم إليه، فيعطيه الخبر وغير ذلك. - وكان عبَّاس صدوق اللهجة جامعاً للعلوم، وقرأ كتاب سيبويه على المازني.
قال ابن دريد: سألت الرياشيَّ عن الفرق بين الوامق والعاشق، فقال: أخبرنا الأصمعي عن أبي عمرو بن العلاء قال: نزل عُقفان بن قيس مكة فنزل على أروى بنت كُريز أم عثمان بن عفان، فأكرمت مثواه، فرحل عنها وأنشأ يقول " من الطويل ":
خَلِفْ على أروى السلام فإنما
…
جزاء الثويّ أن يعفَّ ويحمدا
سأرحلُ عنها وامقاً غير عاشقٍ
…
جزى الله خيراً ماأعفَّ وأمجدا
قال ابن دريد: ولم يزد على هذا الجواب، فسألت أبا حاتم، فقال: المَّة محبة الوالد لولده وألخ لأخيه والصاحب لصاحبه، والعشق عشقُ الرجل للمرأة ومحبة النكاح.
قال الرياشيّ: قال لي الأمير إسحاق بن إبراهيم: أقمْ عندي وأجري عليك في الشهر ألفين وأوليك القضاء. فأبيت وقلت حين أنصرفت من عنده " من الطويل ":
يقولون لي: قائضْ بنيك بمنفسٍ
…
يكن لك مرأى في الحياة ومسمعُ
فكيف وقد نيطت بقلبيَّ منهمُ
…
علائقُ مجموعٌ لها الحُبُّ أجمعُ
قال عليّ بن المظفر الكاتب: رأيتُ الرياشيَّ عند أبي ومعه ابنٌ له، فقال له: كُلْ واذكر سُوءَ المُتقلب. - قال الرياشيَّ: يقال المرءُ المؤمنُ ولا يقال المرء الكافر، ويقرا:(يَومَ يَنْظُرُ المرءُ ما قَدَّمَتْ يَداهُ وَيَقُولُ الكافِرُ يَاليتني كُنْتُ تُراباً) . - ومن شعره " من المديد ":
أملٌ من دونه أجلي
…
فمتى أُفضي إلى أملي
كلّ يوم ينقضي عُمري
…
باعتقاب الحُزن والعللِ
قُتل الرياشي بالبصرة، قتله الزنج في سنة سبع وخمسين ومائتين، وقتلوه قصداً لأن ملك الزنج كان يتصل به أنه يدعو عليه.
58 - ومن أخبار الجاحظ