الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قال ابن سلام: حدثني أبانُ بن عثمان قال: جاء رجلٌ من جند عبد الملك ابن مروان ومعه ابنه إلى عبد الملك، فقال: ياأمير المؤمنين، إني تزوجتُ امرأة وزوجت باني أُمها، فلو أمرت لنا بأعطياتنا فنرُمَّ من شأننا ونضُمَّ إلينا أهلنا. قال: فإذا ولد لكما غلامان فما قرابة بينهما؟ إن أصبت أعطيتكما. ففكر ساعة ثم قال: ياأمير المؤمنين، هذا صاحب شرطتك قلدته سيفك وما وراء بابك إن أصابها فلا تعطني، وإن لم يصبها فأنا أعذر. فقال: صدقت! فسأله عنها، ففكر طويلاً ثمّ لم يُحر جواباً. فناداه رجلٌ من أقصى الصف من أهل العراق: إن أنا أصبتها تأمر لي بحاجتي؟ قال: نعم! قال: ابن الأب عمُّ ابن الابن، وابن الأبن خالُ ابن الأب. - قال ابن سلام: فسألني عنها شعبة وأنا غلام.
ومات ابن سلام ببغداد سنة ثنتين وثلاثين ومائتين، ومات أخوه عبد الرحمان بن سلام بالبصرة في هذه السنة بينهما أيامٌ.
38 - ومن أخبار أبي عبد الرحمن العٌتْبِيّ
وهو محمد بن عبيد الله بن عمرو بن معاوية بن عمرو بن عتبة بن أبي سفيان صخر بن حرب بن أمية بن عبد شمس.
قال الأصمعي: الخطباء من بني أمية عبد الملك بن مروان وعتبة بن أبي سفيان. - قال عتبة بن أبي سفيان لبعض ولده: يابُنّيَّ، بزّهْ سمعك عن سماع الخنى كما تنزه لسانك عن اللفظ به، فإن السامع شريك القائل، وإنما عمد إلى شر ما في وعائه، فأفرغه في وعائك، ولو رددت كلمة الجاهل في فيه لسعدت بها كما شقي هو بها. ثم أنشأ يقول " من المتقارب ":
تحرَّ من الطرق أوساطها
…
وعد عن الجانب المُشتَّبه
وسمعك صُنْ عن سماع القبيح
…
كصون اللسان عن اللفظ به
فإنك عند استماع القبيح
…
شريكٌ لقائله فأنتبه
وكم أزعج الحرص من طالب
…
فأدركه الموتُ في مطلبه
وقال عتبة لمؤدب ولده: ياعبد الصمد، ليكن إصلاحك بني إصلاحك نفسك، فإن عيوبهم إليك والحسن عندهم ما استحسنت والقبيح عندهم ما استقبحت، علمهم كتاب اللهِ ولاتُملَّهم فيكرهوه ولاتدعهم منه فيهجروه، وروهم من الشعر أعفه ومن الحديث أشرفه، ولاتخرجهم من علم إلى علم حتى يُحكموه، فإنَّ ازدحام العلم في الفهم مضلة للفهم، وجنبهم محادثة النساء وأشغلهم بسير الحكماء، وهددهم بي وأدبهم دوني، وكن لهم كالطبيب الرفيق الذي لايعجل من الدواء حتى يعرف موضع الداء، وقد أتكلت على كفايةٍ منك فلا تتكلن على عّذرٍ مني، واستزدني بزيادتهم أزدك إن شاء الله! واستعمل عتبة رجلاً من آله على الطائف، فظلم رجلاً من الأزد من شنؤة، فأتى الأزدي عتبة فمثل بين يديه فقال " من البسيط ":
أمرت من كان مظلوماً ليأتيكم
…
فقد أتاك غريبُ الدار مظلوم
ثمّ ذكر ظلامته، فقال عتبة: إني أراك أعرابياً جافياً، والله ما أحسبك تدري كم تصلي في كل يوم وليلةٍ. فقال: أرايت إن أنبأتك ذا، أتعجل لي عليك مسئلة؟ قال: نعم. قال الأعرابي " من الرجز ":
إن الصلاة أربعٌ وأربعُ
…
ثمّ ثلاثٌ بعدهن أربعُ
ثمّ صلاة الفجر لاتضَيَّعُ
قال: صدقت فسل! قال: كم فقارُ ظهرك؟ قال: لاأدري. قال: أفتحكم بين الناس وأنت تجهل هذا من نفسك؟! فقال: رُدُّوا عليه غُنيمته! وقال سعد القصر مولى عتبة: احتسبت علينا كُتُب معاوية حتى أرجف أهل مصر بموته، ثمّ قدم كتابه بسلامته، فصعد عتبة بن أبي سفيان المنبر والكتاب بين يديه فقال: ياأهل مصر، قد طالت معاتبتنا إياكم بأطراف الرماح وظبات السيوف، حتى صرنا شجى في لهاكم ما تسوغها حلوقكم، وأقذاء في عيونكم ماتطرف عنها جفونكم. أفحين اشتدت عرى الحق عليكم عقدا واسترخت عقد الباطل منكم حلاً!؟ أرجفتم بالخليفة وأردتم توهين الخلافة وخضتم الحقَّ إلى الباطل، وأقدم عهدكم به حديثٌ؟! فاربحوا أنفسكم إذ خسرتم دينكم! وهذا كتابُ أمير المؤمنين بالخبر السار والعهد القريب منه، واعلموا أن سلطاننا على أبدانكم دون قلوبكم، فأصلحوا لنا ما ظهر، نكلكم إلى الله فيما بطن، وأظهروا خيراً وإن أسررتم شرَّاً، فإنكم حاصدون ما أنتم زارعون، وعلى الله أتوكل وبه أستعين! ثمّ نزل.
وكتب معاوية إلى عتبة وهو والي مصر في عقوبات أقوام، وأمره أن لا يراجعه في ذلك، فكتب إليه عتبة: بالله على أداء حقك أستعين وعليه في جميع أمرك أتوكل، أنا مقتدٍ بكتابك ومنتهٍ إلى أمرك ومتخذه إماماً ما أمَّ الحزم، فإذا خالفه فعندها المراجعة لئلا يرجع عليك ضرره، ولم يغب أمير المؤمنين عما شهدت، ولم يرجع إليه ضرر مافعلت؛ وقد علم من قبلي أن ناري ذكيَّة الشعل لمن عاداك، وأن جنابي أحلى من العسل لمن والاك، فليثق بذلك مني لهم وعليهم وأنا أستكفيك الذي استكفاني بك، ولاقوة إلا بالله. فلما ورد كتابه على معاوية قال: كلامٌ موجزٌ وعقلٌ محرزٌ، فليعمل برأيه.
وعن أبي عطاء مولى عتبة قال: قدم علينا ابن عباس سنة إحدى وأربعين وهو كالقرحة المنبجسة، قال: فكان عتبة قليل الكلام، فنظر ابن عباس إلى عتبة يُحدُّ النظر إليه ويقل الكلام معه، فقال له: ياأبا الوليد، مالك تحد النظر - إليَّ وتقل الكلام معي، ألعقلةٍ فطالت أم لموجدة فدامت؟ فقال عتبة: ياأبا العباس، أما قلةُ كلامي معك فلقلته مع غيرك، وأما كثرة نظري إليك فلما أرى من أثر سبوغ النعمة عليك، ولئن سلطت الحقَّ على نفسك لتعلمن أنه لايعرض عنك إلا مبغض ولا ينظرُ إليك إلا محبُّ، ولئن كان هذا الكلام شفي منك داءً وأظهر منك مكتوماً ماأحبُ غيره. فقال ابن عباس: أمهيت، ياأبا الوليد! - يقال: أمهيت الحديدة إذا حددتها على المسن، يريد: بلغت الغاية في العذر - ولو كنتُ على يقين مما ظننت بك لكفاني أو لأرضاني دون ما سمعت منك. فتبسم معاوية ثمّ قال " من الرجز ":
دعوتُ عركاً إذ دعا عراكا
…
جندلتان اصطكتا اصطكاكا
من ينك العير ينك نياكا
لاتدخلوا بين بني عبد منافٍ، فإن الحلم لهم حاجزٌ، والداخل بينهم عاجزٌ، وإن فطنة ابن عباس مقرونة بفطنته، ثم تمثل " من الطويل ":
سمينُ قريشٍ مانعٌ منك شحمهُ
…
وغثُّ قريش حيث كان سمين
قال معاوية، لما مات أخوه عتبة، لولده: رحم الله أباكم وآنس وحشة عمكم وأحسن الخلافة عليكم، هلك أقربُ الناس إليَّ بعد والدي وأحبهم إليَّ بعد يزيد، ولئن كانت المنية أخطأتني لقد أصابتني. - توفي أبو سفيان سنة أربع وثلاثين وصلى عليه عثمان بن عفان، وتوفي ابنه عتبة سنة أربع وأربعين حين صدر معاوية عن الحج.
ودخل الرفزدق على عمرو بن عتبة في يوم حار وهو يسلت العرق عن جبينه ويقول " من البسيط ":
لولا ابن عتبة عمروٌ والرجاءُ له
…
ما كانت البصرة الحمقاء لي وطنا
أعطاني المال حتى قلت: يودعني
…
أو قلت: يدفع حقَّاً قد آراه لنا
فجوده متعبٌ شكري ومنته
…
وكلما ازددت شكراً زادني مننا
يرمي بهمته أقصى مسافتها
…
ولا يريد على معروفه ثمنا
فأعطاه عليها مائة دينار، وقيل: ألف دينار.
ومن دعاء عمرو بن عتبة: اللهم أعني على الدنيا بالقناعة وعلى الدين بالعصمة. اللهم إني أعوذ بك من طول الغفلة وإفراط الفطنة. اللهم لاتجعل قولي فوق عملي، ولاتجعل أسوأ عملي ماولي أجلي. اللهم إني استغفرك ما أملك وأستصفحك لما لاأملك. اللهم لاتجعلني ممن إن مرض ندم وإن أستغنى فتن وإن افتقر حزن.
قال الربيع الحاجب. لما مات المنصور قدمت وفود الأمصار على المهدي يعزونه، فما حفظنا عنهم شيئاً نستطرفه إلا كلمات من العتبي البصري فإنه قال: آجر الله أمير المؤمنين على أمير المؤمنين قبله وبارك لأمير المؤمنين فيما خلفه له، فلا مصيبة أعظم من موت والدٍ إمامٍ ولا عقبى أفضل من خلافة الله على أولياء الله، فاقبل يأامير المؤمنين من الله أفضل العطية واحتسب عنده أعظم الرزية! فقال النمهدي: من هذا الرجل؟ فقيل: من بني أمية من ولد عتبة بن أبي سفيان. قال: ماظننت أنه بقي من أعجازهم ماأرى.
وأولم محمد بن خالد الثقفي فدعا أبان بن عبد الحميد اللاحقي وسهم بن عبد الحميد الحنفي والحكم بن قنبر وعبيد الله بن عمرو العتبي، فاحتبس عنهم الغداء، فجاء محمد بن خالد فوقف على الباب فقال: ألكم حاجة؟ يمازحهم بذلك، فقال أبانُ " من السريع ":
حاجتنا عَجِلْ علينا بها
…
من الحشاوي كُلُّ طردين
فقال ابن قنبر " من السريع ":
ومن خبيص قد حكت عاشقاً
…
صفرته زين بتكوين
فقال عبيد الله " من السريع ":
وأتبعوا ذاك بآيينة
…
فإنكم أصحاب آيين
فقال سهم " من السريع ":
دعنا من الشعر وأوصافه
…
واعجل علينا بالأخاوين
فأحضر الغداء وخلع عليهم ووصلهم.
أول شعر قاله العتبي " من الطويل ":
بقلبي شيءٌ لستُ أعرفُ قدرهُ
…
على أنه ماكان فهو شديد
تمرُّ به الأيامُ تسحبُ ذيلها
…
فتبلى به الأيامُ وهو جديدُ
قال: دخلتُ على المأمون ببغداد، وحين خرجت قلت لأحمد بن أبي خالد: هل أنكرت مني شيئاً؟ قال: بلى، أضحكت أمير المؤمنين في شيء، وكان ضحكك أكثر من ضحكه.
وكان ابنه عبيد الله نادرة في الشعر، وكتب إلى أبيه " من السريع ":
وعدتني وعداً فأخلفتني
…
فثق بأني عنه مستغن
غنيتُ من ربي بمثل الذي
…
غنيتُ يا هذا به عني
أخلفت ظني بك في حاجة
…
ما أخلف الله بها ظني
صرتَ بها في الناس أحدوثة
…
وأضحك الله بها سني
ما عجبي من واحدٍ مخلفٍ
…
بل عجبي في أملي مني
وكتب إلي بعض أهله كتاباً فلم يأته الجواب، فقال " من الوافر ":
عمرتُ لك المودةَ بالتلاقي
…
فما جازيتني بالقرض قرضا
وواصلت الكتاب مع التنائي
…
فلم أرَ للجواب إليَّ نهضا
إذا كتب الصديقُ إلى صديقٍ
…
فقد وجب الجواب عليه فرضا
وقال العتبي في جارية كان يحبها اسمها ملك " من البسيط ":
لمَّا رأتني مُلْكٌ قاصراً بصري
…
عنها وفي الطرف عن أمثالها زورُ
قالت: عهدتك مجنوناً، فقلت لها:
…
إن الشبابَ جنونٌ بُرْؤهُ الكبرُ
وهذا البيت الأخير من الأبيات السائرة والأمثال الطاردة، ومثله لحسَّان " من الخفيف ":
إن شرخ الشباب والشعر الأسود ما
…
لم يعاص كان جنونا
واكل العتبي قوماً، فجاؤا بفالوذجة حارةٍ، فقصر عنها القوم وأمعن العتبي، فقال بعضهم لبعض: قد غبننا العتبي بأكله وامتناعنا. قال: لأنه ليس معنا صبر آل أبي سفيان على النار.
وكتب أبو علي الحرمازي إلى العتبي " من الهزج ":
بنفسي أنت قد جاء
…
ك ماعندي من كتبك
فلا يبعد من الإفضا
…
لِ من يرجوه من قربك
فما زلت أخا جودٍ
…
وإفضالٍ على صحبك
وسلْ قلبك عَمَّا لك في قلبي من حُبِكْ
فقد أخبرني قلبي عمَّا لي في قلبك
وإني لك راضٍ بي
…
وإني لي لراضٍ بك
وكتب أيضاً إليه الحرمازي " من السريع ":
أصبح بخيرٍ وبه أمس
…
ما أستخلف اليوم من الأمس
أما تكافيني على سرعتي
…
برد كراساتك الخمس
ومستعيرٌ منك أمثالها
…
إذ لم يطل عنك لها حبسي
فابعث بما أمكن من نحوها
…
تفديك من كلّ الأذى نفسي
وقال العتبي: أصابتني نكبة في طريق مكة، فجعلت أمشي وأنا أقول " من الهزج ":
أرى الموتَ لمن أمسى
…
على الذل له أصلح
قال: فهتف بي هاتفٌ " من الهزج ":
ألا يا أيها المرءُ الذي
…
الهمُّ به برَّحْ
إذا ضاق بك الأمرُ
…
ففكر في (ألمْ نَشْرَحْ)
سرقاته وسرقات من سرق منه، قال العتبي في ابن له مات " من الكامل ":
أضحت بخدي للدموع رسومُ
…
أسفاً عليك وفي الفؤاد كُلُومُ
والصبر يحسن في المواطن كلها
…
إلا عليك فإنه مذموم
استرقه حبيبٌ في بيتين أحدهما قوله في إدريس بن بدر " من الطويل ":
دموعٌ أجابت داعي الحزن هُمَّعُ
…
توصل منا عن قلوب تُقطَّعُ
وقد كان يُدعى لابس الصبر حازماً
…
فأصبح يُدعى حازماً حين يجزع
والآخر قوله " من الكامل ":
قالوا: الرحيل! فما شككت بأنها
…
نفسي عن الدنيا تريد رحيلا
الصبر أحمدُ غير أنَّ تلذذا
…
في الحبّ أحرى أن يكون جميلاً
وقيل: أخذ العتبي قوله يرثي ابنه " من الطويل ":