الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مرّ عبيد الله على راعٍ في ظل حائط ومعه غنمٌ يرعاها، فقال: ياراعي، هل من لبن؟ قال: أنا مملوك وهذه الغنم لمولاي، ولايسعني ماتسألني ولا يحلُّ لي. قال وهو يطعم وإلى جنبه كلبٌ يأكل لقمةً ويلقي إليه لقمةً، فقال عبيد الله: إنك لعجبٌ! قال: وماذاك؟ قال: أراك تقاسم الكلب طعامك. قال: أولاً أستحيي من ذي عينين يراني آكل ولاأطعمه؟! قال له: فلمن هذه الغنم؟ قال: لبني فلان من أهل المدينة. قال: ومملوك من أنت؟ قال: لهم. قال: فلمن هذا الحائط؟ - يعني البستان. قال: لهم. قال: فأتى عبيد الله بن معمر مواليه، فقال: أتبيعوني مملوككم فلاناً؟ قالوا: نعم! قال: والغنم؟ قالوا: نعم! قال: والبستان؟ قالوا: نعم! فاشتراها كلَّها، ثمّ أقبل إلى الراعي فقال له: أنت، ياراعي، حُرٌّ لوجه الله! قال: الحمد لله على ذلك! قال: وقد اشتريتُ الغنم فهي لك! قال: أشهدك، يامولاي، إنها صدقة على المساكين! قال: وقد اشتريت الحائط وهو لك! قال: أشهدك، يامولاي، إنه وقفٌ على فقراء أهل المدينة! فانصرف عبيد الله وهو يقول: مارأيت كاليوم مثل هذا العبد لله درُّه! واشترى عبيد الله جارية بعشرين ألف دينار، كانت تُسمى الكاملة من الغناء وجودة الضرب ومعرفة الألحان والقرآن والشعر والكتابة وفنون الطبيخ والعطر. وكانت عند فتىً قد أدبها لنفسه، وكان يجدُ بها وجداً شديداً، فلم يزل ينفق عليها حتى أملق واحتاج. فقالت له الجارية: والله إني لأرثي لك وأشفق عليك، ولو أنك بعتني نلت غنى الدهر ولعل الله أن يصنع لنا جميلاً. فحملها إلى عبيد الله، فأعجبته، فاشتراها. فلما قبض الفتى المال استعبر كلّ واحدٍ منهما إلى صاحبه، فأنشأت تقول " من الطويل ":
هنيئاً لك المالُ الذي قد حويته
…
ولم يبقَ في كفيَ إلا تفكُّري
أقولُ لنفسي وهي في عين كربةٍ
…
أقلي فقد بان الحبيبُ وأكثري
إذا لم تكن للأمر عندك حيلةٌ
…
ولم تجدي شيئاً سوى الصبر فاصبري
فقال الفتى " من الطويل ":
ولولا قعود الدهر بي عنك لم يكن
…
تفرقنا شيئاً سوى الموتِ فاعذري
أبوءُ بحزنٍ من فراقك موجعٍ
…
أناجي به قلباً طويلَ التفكرِ
عليك سلامٌ لازيارةً بيننا
…
ولاوصلَ إلا ان يشاءَ ابنُ معْمَرِ
فقال عبيد الله ورقَّ لهما: خذ بيدها وانصرفا راشدين! والمالُ الذي نقدته في ثمنها أنفقه عليها! واللهِ لا أخذتُ منها درهماً.
قُتل عبيد الله بن معمر لأربعين سنو برستاق من رساتيق إصطخر في زمن عثمان بن عفان، ومات ابنه عمر لستين سنة بالشأم بموضع يقال له ضمير، فرثاه الفرزدق وقال من أبيات " من البسيط ":
يا أيها الناسُ لاتبكوا على أحدٍ
…
بعد الذي بضميرٍ وافقَ القَدَرا
كانت يداه لكم سيفاً يعاذُ به
…
من العدوِ وغيثاً ينبتُ الشجرا
فابكي هبلتِ أبا حفصٍ وصاحبه
…
أبا معاذٍ إذا المولى به انتصرا
41 - ومن أخبار محمد بن حفصٍ
روى عنه ولده عبيد الله بن محمد بن عائشة، وكان جواداً فصيحاً شاعراً. قال يحيى بن معين: العائشي رجل صدقٍ، ليس ممن يكذب إلا أنه سمع صغيراً.
ورد أعرابيٌ على محمد يسأله شيئاً، فقيل له: ويحك إن عليه ديناً! إذ طلع محمد، فقال له الأعرابيُّ: يا أبا عبد الرحمان، قد والله أخبروني بعذرك ولكن مثلك ومثلي كما قال من هو قبلي، وقد أنبئت أن عليك ديناً، فزد في رقم دينك واقض ديني! فأمر له ببدرة.
رئي ابن عائشة في يومٍ شديد الحر نصف النهار بالبصرة وهو على حمار وبين يديه غلامان، فقيل له: في مثل هذا الوقت؟ فقال: نعم! " من الطويل ":
حقوقٌ لأقوامٍ أريدُ قضاءها
…
كأني إذا لم أقضهن مريض
عُزي محمد بن عائشة في ابن له، فأنشد " من الطويل ":
يُعزي المُعزي ساعةً ثمّ تنقضي
…
ونفسُ المُعزَّى في أحرَّ من الجمرِ
لأن المُزّي إلفهُ في مكانه
…
وإلفُ المُعزَّى في ضريح من القبر
وقال عبد الله بن شبيب: رايت ابن عائشة وقف على قبر ابنٍ له قد دفن، فزفر زفرةً ثم قال " من الطويل ":
إذا ما دعوتُ الصبر بعدك والبُكا
…
أجاب البُكا طوعاً ولم يجبِ الصبرُ
فإن ينقطع منك الرجاءُ فإنه
…
سيبقى عليك الحُزن ما بقي الدهرُ
قال أبو العيناء: قلتُ لابن عائشة: حدثني هذا الحديث! قال: إي والله وكرامة. ثمّ أنشد " من الطويل ":
وأهونُ ما يعطي الخليلُ خليلهُ
…
من الهيّن الموجودِ أن يتكلَّما
وقال: مارأيتُ قطُّ أحسن استنشاداً عند الحاجات من ابن عائشة! قلتُ له يوماً: كان ابو عمرو المخزومي يقصدك كثيراً، ثمّ قد جفاك. فأنشد " من الطويل ":
فإنْ تَنأَ عَنَّا لاتَضُرْنا وإنْ تَعُدْ
…
تجدنا على العهد الذي كنت تعلمُ
وكان يقول: جزعك في مصيبة صديقك أحسن من صبرك، وصبرك في مصيبتك أحسن من جزعك. - قيل له: فلانٌ عليل، أفلا تعوده؟ فقال متمثلاً " من الطويل ":
ولستُ بزوارٍ لمن لايزوروني
…
ولستُ أرى للمرء مالايرى ليا
وكان ينشد " من الكامل ":
الحظُّ أنهضُ بالفتى من علمه
…
فانهض بجدٍ في الحوادثِ أو ذر
وكان يقول: لاتعرف كلمةٌ بعد القرآن وبعد كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم أخصر لفظاً ولاأكمل وصفاً ولاأعمَّ نفعاً من قول أمير المؤمنين عليّ عليه السلام: قيمةُ كلِ امرئ مايحسن. وكان ينشد " من الخفيف ":
قيمةُ المرء مثلُ ما يحسنُ المر
…
ءُ قضاءٌ من الوصيّ عليّ
قال الصوليّ: زنظمه آخر فقال " من السريع ":
قال عليُّ بنُ أبي طالبٍ
…
وَهْوَ الإمامُ العالمُ المتقنُ
كلُّ امرئٍ قيمتهُ عندنا
…
وعند أهل العقل مايحسنُ
قال ابن عائشة: ما رأيت أظرف من أبي نواس، مررت به يوماً في سكة قريش، فإذا هو في عقد باب دار قومٍ وهو يكلم امرأةً، وكان لي صديقاً، فاستخففت به، فلما رجعت قال لي " من الكامل ":
يا أيها الرجلُ النبيلُ
…
يا من له الرأيُ الأصيلُ
أرأيتَ ما أستقبحت من
…
أمري هناك هو الجميل
أنّ التي أبصرتها
…
سحراً تكلمني رسول
لبست هي القصد الذي
…
يوتى إليه ولا السبيلً
أدَّت إلي رسالةً
…
كادت لها نفسي تسيلُ
من فاتر العينين ينعت خصره ردفٌ ثقيلُ
منتصبٌ قوس الصبا
…
يرمي وليس له سبيلُ
فلو أنّ أذنك عندنا
…
فتسمعت ماذا أقول
لرأيت ما أستقبحته
…
من أمرنا وهو الجميل
وعلمت أني في نعيمٍ
…
لايحولُ ولايزولُ
وقال ابن عائشة: ليعذّبنَّ الله أبا نواسٍ على إساءته في تحسين شرب الخمر للناس وإن كان قد أحسن الوصف وأبدع، أليس الذي يقول " من الوافر ":
مضى أيلولُ وانقطع الحرورُ
…
وأطفتْ نارها الشِعرى العبورُ
فقوما فالقحا خمرا بماءٍ
…
فإن نتاج بينهما السُرورُ
نتاجٌ لاتدورُ عليه أمٌّ
…
وحملٌ لا تُعدُّ له الشهورُ
قال ابن عائشة: قصدتُ بغداد أريد السماع على عبد الله بن المبارك، فلما صرتُ بواسط قلت: لو دخلت إلى هذا الشيخ إسحاق بن يوسف الأزرق! فدخلتُ إليه وسلَّمت عليه وهو مريض، فلما رآني أجهش إلي يبكي، فقلت: مايبكيك؟ فقال: ألم ترَ إلى هذا الفاسق!؟ قلتُ: أيُّ الفاسقُ؟ قال: الحسن بن هانئ. قلتُ: ومالك وله؟ قال: كذب على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وزعم أني حدّثنه بحديث عن عبد الله بن مسعود. واللهِ ما حدثته به ولا تكلمتُ به! قال: قلت: ماهو؟ قال: ياجارية، هاتي القرطاس الذي دفعته إليك بالأمس. فجاءت به، فإذا فيه " من الرمل ":
يا حَسَن المُقلتين والجيد
…
وقاتلي منه بالمواعيد
توعدني الوعد ثمّ تخلفني
…
فيا بلائي من خلف موعودِ
حدثني الأزرق المحدثُ عن
…
عمرو بن شمر عن ابن مسعود
لايخلف الوعد غير كافرةٍ
…
وكافر في الجحيم مصفود
وجاء أعرابيٌّ إلى ابن عائشة من ولد زهير بن جناب الكلبي، فأنشده مدحاً له فيه فأعجب ابن عائشة، فقال له: أنت والله كما قال الشاعر " من الكامل ":
لسنا وإن أحسابنا كرمت
…
يوماً علي الأحساب نتكلُ
نبني كما كانت أوائلنا
…
تبني ونفعلُ مثل ما فعلوا
ولستُ كما قال جدك زهير بن جناب. فقال: وما الذي قاله جدي؟ فداك ابنه! فأنشده ابن عائشة " من الطويل ":
ألا رُبَّ ذي فقرٍ وإن كان مثرياً
…
يروح عليه شأوه وأباعرهْ
وكم مخربٍ مجداً تولى بناءه
…
سواه فأودى عزه ومفاخره
تحيف منه اللؤم أكناف مجده
…
فقد خرب البيت الذي هو عامره
وزال عموداه ورثت حباله
…
وأصلح أولاه وأفسد آخره
فقال الأعرابي: لله درك من منشد مجيد وعالم مفيد، والله ما نعرف هذا الشعر. قال: بلى أنشدنيه أبي عاصم.
قال الأصمعي: أتاني أبو الشمقمق، فأنشدني " من المتقارب ":
رأيتك في النوم أطمعتني
…
قواصر من تمرك البارحه
فقلت لصبياننا: أبشروا
…
برؤيا رأيت لكم صالحه
قواصر تأتيكم باكراً
…
وإلا فتأتيكم رائحه
فأمُّ العيال وصبيانها
…
إلى الباب أعينهم طامحه
فقل لي " نعم " إنها حلوةٌ
…
ودع عنك " لا " إنها مالحه
وصدق بنجحك تعبيرها
…
فلا يك تعبيرها نازحه
فأنت امرؤ تبتني المكرمات
…
سبوقٌ إلى الصفقة الرابحه
يداك يدٌ لسهام العدى
…
وأخرى لأفواقها مانحه
قال: فامرت له بتمر.
وقال ابن عائشة: يعجبني من شعر أبي الشمقمق قوله في أهل بغداد " من الخفيف ":
ليس فيها مرؤةٌ لشريفٍ
…
غير هذا القناع بالطيلسان
وبقينا في عصبة من قريشٍ
…
يشتهون المديح بالمحان
قال: صحب النبي صلى الله عليه وسلم من المهاجيرن أنيس بن مرثد وأبوه مرثد وجده أبو مرثد، ولا يعرف رجلٌ له ولأبيه وجده صحبة غيره.
قال: وبلغني أن أبا عروة كان يصيح بالذئب، فيوجد ميتاً قد انفلق قلبه، فقيل له: فكيف لم تمت الشاء؟! قال: لأنها قد ألفته وعلمت أنها ليست مذنبة. وأنشد ابنُ عائشة " من المنسرح ": وقال: لاأعرف في وصف الصديق المكاشر أحسن من قول عبد الله بن معاوية بن جعفر " من البسيط ":
لاخير في الود ممن لاتزالُ له
…
مستشعراً أبداً من خيفةٍ وجلا
إذا تغيبت لم تبرح تُسيْ به
…
ظناً وتسأل عما قال أو فعلا
يري الصديق بإدخال مكاشرةً
…
كيما يصول بها يوماً إذا عقلا
فلا عداوته تبدو فيعرفها
…
منه ولاوده يوماً إذا اعتدلا
دخل خالد بن صفوان مسجد الجامع، فإذا هو بالفرزدق جالساً في الشمس، فقال: ياأبا فراس، والله لو رأينك نسوة يوسف لما أكبرنك وما (قَطَّعنَ ايْديهنَّ) . فقال: أنت والله، يا أبا صفوان، لو رأينك نسوة مدين لما قلن:(استأجره غنَّ خَيْرَ من أستأجرت القَويُّ الأمينُ) .
وقال العائشي: أول الفراعنة سنان بن علوان بن عبيد بن عوج بن عمليق يكنى أبا ملك، وهو الأمثل الذي يبست يداه لما مدهما إلى سارة زوجة إبراهيم الخليل عليه السلام، فوهب لها هاجر بنت ثويب أم أسماعيل؛ وفرعون الثاني فرعون يوسف عليه السلام، وهو خير الفراعنة، الريَّان بن الوليد ابن ثروان بن اراشة بن قاران بن عمرو بن عمليق، يقال إنه أسلم على يد يوسف عليه السلام؛ والثالث فرعون موسى عليه السلام، وهو أخبث الفراعنة، وهو الوليد بن مصعب بن معاوية بن عمرو بن قاران بن عمرو بن عمليق؛ والرابع وهو توفيل الذي قتله بخت نصر حين غزا مصر؛ والخامس أليس بن استاذن وكان طوله ألفي ذراع وكان قصيراه جسراً لنيل مصر دهرا.