الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
والثاني: إلى حاكم البلد، لأنه يتعلق به حق الموقوف عليه وحق من ينتقل إليه، ففوض الأمر فيه إلى الحاكم، فإن جعله إلى اثنين من أفاضل ولده، جعل إليهما، فإن لم يوجد فيهما إلا فاضل واحد، ضم الحاكم إليه آخر؛ لأن الواقف لم يرض بنظر واحد.
فصل
وإن اختلف أرباب الوقف فيه، رجع إلى الواقف، لأن الوقف ثبت بقوله، فإن لم يكن، تساووا فيه، لأن الشركة ثبتت، ولم يثبت التفضيل، فوجبت التسوية، كما لو شرك بينهم بلفظه.
[باب الهبة]
وهي التبرع بتمليك مال في حياته، وهي مستحبة، لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:«تهادوا تحابوا» . وهي أفضل من الوصية، لما روى أبو هريرة قال:«سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي الصدقة أفضل؟ قال: أن تصدق وأنت صحيح شحيح، تأمل الغنى، وتخشى الفقر، ولا تمهل حتى إذا بلغت الحلقوم قلت: لفلان كذا ولفلان كذا» رواه البخاري، ومسلم بمعناه.
وهبة القريب أفضل، لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم:«الرحم شجنة من الرحمن، فمن وصلها وصله الله، ومن قطعها قطعه الله» . وفي هبة القريب صلته، ولا يجوز تفضيل بعض ولده على بعض في العطية، لما روى النعمان بن بشير قال:«تصدق علي أبي ببعض ماله، فقالت أمي عمرة بنت رواحة: لا أرضى حتى تُشهد عليها رسول الله، فجاء أبي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليُشهده على صدقتي، فقال: أكل ولدك أعطيت مثله؟ قال: لا، قال: فاتقوا الله، واعدلوا بين أولادكم، قال: فرجع أبي، فرد تلك الصدقة» رواه مسلم، وفي لفظ:«لا تشهدني على جور» متفق عليه. فسماه جوراً، والجور حرام، ولأن ذلك يوقع العداوة، وقطيعة الرحم، فمنع منه، كنكاح المرأة على عمتها، فإن فعل فعليه التسوية بأحد أمرين: إما رد عطية الأول، أو إعطاء الآخر مثله، لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمره برده،
وأمره يقتضي الوجوب، فإن مات، ولم يسو بينهم، ففيه روايتان:
إحداهما: يثبت ذلك لمن وهب له، ويسقط حق الرجوع، اختاره الخرقي، ولأنه حق للأب، يتعلق بمال الولد، فسقط بموته، كالأخذ من ماله.
والثانية: يجب رده، وهذا اختيار ابن بطة وصاحبه أبي حفص، لأن النبي صلى الله عليه وسلم سماه جوراً، والجور يجب رده بكل حال، والتسوية المأمور بها القسمة بينهم على قدر مواريثهم، لأنه تعجيل لما يصل إليهم بعد الموت، فأشبه الميراث.
فصل:
فإن خص بعض ولده لغرض صحيح، من زيادة حاجة، أو عائلة، أو اشتغاله بعلم، أو لفسق الآخر وبدعته، فقد روي عن أحمد رضي الله عنهما يدل على جوازه، لقوله في تخصيص بعضهم بالوقف: لا بأس به إذا كان في سبيل الحاجة، وأكرهه إذا كان على سبيل الأثرة. ووجه ذلك، ما روي أن أبا بكر رضي الله عنه قال لعائشة: كنت قد نحلتك جذاذ عشرين وسقاً، ووددت أنك حزتيه، وإنما هو اليوم مال الوارث، وإنما هما أخواك وأختاك. ويحتمل المنع، لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يستفصل بشيراً.
فصل:
والأم كالأب في التسوية بين الأولاد، لأنها أحد الأبوين، فأشبهت الأب. ولا تجب التسوية بين سائر الورَّاث، لأن النبي صلى الله عليه وسلم علم أن لبشير زوجة، فلم يأمره بإعطائها، حين أمره بالتسوية بين أولاده.
فصل:
وما جاز بيعه من مقسوم، أو مشاع، أو غيره، جازت هبته، لأنه عقد يقصد به تمليك العين، فأشبه البيع. وتجوز هبة الكلب، وما يباح الانتفاع به من النجاسات، لأنه تبرع، فجاز في ذلك، كالوصية. ولا يجوز في مجهول، ولا معجوز عن تسليمه، ولا في المبيع قبل قبضه، لأنه عقد يقصد به التمليك في الحياة، أشبه البيع، ولا يجوز تعليقها على شرط مستقبل لذلك. والحكم في الإيجاب والقبول فيها، كالحكم في البيع على ما ذكر في بابه.
فصل:
ولا يثبت الملك للموهوب له في المكيل والموزون إلا بقبضه، لحديث أبي بكر رضي الله عنه. وروي عن عمر رضي الله عنه نحوه، فإن مات الموهوب له قبل القبض، بطلت، لأنه غير لازم، فيبطل بالموت كالشركة. وإن مات الواهب، فعنه ما يدل على
أن الهبة تبطل لذلك، وهو قول القاضي. وقال أبو الخطاب: لا تبطل، لأنه عقد مآله إلى اللزوم، فلا يبطل بالموت، كبيع الخيار. ويقوم الوارث مقام المورثين في التقبيض والفسخ، فإذا قبض، ثبت الملك حينئذ. والخيرة في التقبيض إلى الواهب، لأنه بعض ما يثبت به الملك فكانت الخيرة له فيه، كالإيجاب، ولا يجوز القبض إلا بإذنه، لأنه غير مستحق عليه، فإن قبض بغير إذنه، لم تتم الهبة. وإن أذن، ثم رجع قبل القبض، أو مات بطل الإذن.
فصل:
وأما غير المكيل والموزون، ففيه روايتان:
إحداهما: لا تتم هبته إلا بالقبض، لأنه نوع هبة، فلم تتم قبل القبض، كالمكيل والموزون.
والثانية: تتم قبل القبض، لما روي عن علي وابن مسعود رضي الله عنهما أنهما قالا: الهبة إذا كانت معلومة، فهي جائزة، قبضت أو لم تقبض، ولأن الهبة أحد نوعي التمليك، فكان منها ما يلزم قبل القبض، كالبيع، وقد ذكرنا اختلاف تفسير أصحابنا للمكيل والموزون في البيع، وإن كان الموهوب في يد المتهب، لم يحتج إلى قبض، لأن قبضه مستدام، وهل يفتقر إلى إذن في القبض؟ فيه روايتان. وذكر القاضي: أنه لا بد من مُضِيّ مدة يتأتى قبضه فيها لما ذكرنا في الرهن.
فصل:
فإن وهب لابنه الصغير شيئاً، وقبضه له، صح ولزم؛ لأنه وليه، فكان له القبض، كما لو كان الواهب أجنبياً، ويكون حكم القبض حكمه فيما إذا وهب له رجل شيئاً في يده؛ لأنه في يد الأب.
فصل:
والهبة المطلقة لا تقتضي ثواباً، سواء كانت من مماثل أو أعلى أو أدنى، لأنها عطية على وجه التبرع، فلم تقتض ذلك كالصدقة. وإن شرط ثواباً معلوماً صح، وكانت بيعاً يثبت فيه الخيار والشفعة، وضمان العهدة، وحكي عن أحمد رواية ثانية: أنه يغلب فيها حكم الهبة، فلا تثبت فيها أحكام البيع المختصة به. وإن شرط ثواباً مجهولاً، احتمل أنه لا يصح، لأنه عوض مجهول في معاوضة، فلم يصح كالبيع.
وعنه: أنه يصح ويعطيه ما يرضيه أو يردها، ويحتمل أن يعطيه قيمتها، فإن لم يفعل فللواهب الرجوع، لما روي عن عمر رضي الله عنه أنه قال: من وهب هبة أراد بها
الثواب فهو على هبته، يرجع فيها إذا لم يرض منها. قال أحمد: إذا تغيرت العين الموهوبة بزيادة أو نقصان، ولم يثبه منها، فلا أرى عليه نقصان ما نقص، إلا أن يكون ثوباً لبسه، أو جارية استخدمها أو استعملها، فإن اختلفا، فقال: وهبتك ببدل، فأنكر الآخر، فالقول قول المنكر، لأنه ادعى عليه بدلاً الأصل عدمه.
فصل:
وإن وهب لغير ولده شيء، وتمت الهبة، لم يملك الرجوع فيه، لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:«العائد من هبته كالعائد في قيئه» متفق عليه. وروى ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا يحل لرجل أن يعطي عطية، فيرجع فيها إلا الوالد فيما يعطي ولده» رواه الترمذي، وقال: حديث حسن.
وإن وهب الرجل لولده، فله الرجوع للخبر؛ ولأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بشيراً برد ما وهب لولده النعمان؛ ولأن الأب لا يتهم في رجوعه؛ لأنه لا يرجع إلا لضرورة، أو إصلاح الولد. وليس للجد الرجوع؛ لأن الخبر يتناول الوالد حقيقة، وليس الجد في معناه؛ لأنه يدلي بواسطة، ويسقط بالأب، ولا تسقط الإخوة، فأما الأم فيحتمل أن لا رجوع لها، لأنه لا ولاية لها على ولدها، بخلاف الأب، ويحتمل أن لها الرجوع، لأنها أحد الأبوين، فأشبهت الأب، ولأنه يجب عليها التسوية بين ولدها في العطية، فأشبهت الأب. والهبة والصدقة سواء في ذلك، بدليل أن في حديث النعمان بن بشير: فرجع أبي، فرد تلك الصدقة. وعن أحمد رضي الله عنه ليس للأب الرجوع في هبته أيضاً، لعموم قوله صلى الله عليه وسلم:«العائد في هبته كالعائد في قيئه» .
فصل:
وللرجوع في الهبة شروط أربعة:
أحدها: أن تكون باقية في ملكه، لأن الرجوع فيها بعد خروجها عن ملكه إبطال لملك غيره، فإن عادت إلى الابن بفسخ العقد، فله الرجوع فيها، لأنه عاد حكم العقد الأول، وإن عادت بسبب آخر، فلا رجوع له، لأنه ما استفاد هذا الملك بهبة أبيه.
الثاني: أن يكون تصرف الابن فيها باقياً. فإن استولد الأمة أو رهنها، أو حجر عليه لفلس، سقط الرجوع لما فيه من إسقاط حق الغرماء والمرتهن، ونقل ملك فيما لا يقبل النقل. فإن زال الحجر والرهن، فله الرجوع لزوال المالك.
الثالث: أن لا يزيد زيادة متصلة، كالسمن والتعلم، فإن زادت ففي الرجوع روايتان. كالروايتين في الرجوع على المفلس، وإن كانت منفصلة، لم يمنع الرجوع،
والزيادة للابن؛ لأنها نماء منفصل في ملكه، فكانت له كنماء المبيع المعيب.
الرابع: أن لا يتعلق بها رغبة لغير الولد، نحو أن يرغب الناس في تزويجه، فيزوجوه من أجله أو يداينوه، فإن تعلقت بها رغبة، ففيه روايتان:
إحداهما: لا رجوع فيها؛ لأنه إضرار بالغير، فلم يجز كالرجوع فيها بعد فلس الابن.
والثانية: له ذلك؛ لعموم الحديث؛ ولأن حق الغير لم يتعلق بهذا المال، أشبه ما لو لم يتزوج.
فصل:
وللأب أن يأخذ من مال ولده ما شاء مع غناه وحاجته بشرطين:
أحدهما: أن لا يجحف بالابن، ولا يأخذ ما تعلقت به حاجته.
الثاني: أن لا يأخذ من مال أحد ولديه، فيعطيه الآخر؛ لأن تفضيل أحد الولدين غير جائز، فمع تخصيص الآخر بالأخذ منه أولى، فإذا وجد الشرطان، جاز الأخذ؛ لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم:«أنت ومالك لأبيك» رواه سعيد وابن ماجه.
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن أطيب ما أكلتم من كسبكم، وإن أولادكم من كسبكم» رواه سعيد. والترمذي وقال: حديث حسن. ولأنه يتصرف في مال ولده الصغير بغير تولية، أشبه مال نفسه، وليس للابن مطالبة أبيه بدين له عليه لما ذكرنا. قال أحمد رضي الله عنه: وإذا مات بطل دين الابن. قال بعض أصحابنا: يعني ما أخذه على سبيل التملك، فأما إن أخذه على غير ذلك، رجع الابن في تركته، وليس للأم الأخذ من مال ولدها بغير إذنه، ولا للجد، ولا سائر الأقارب، لعدم الخبر فيهم، وامتناع قياسهم على الأب، لما بينهما من الفرق، ويحتمل أن يجوز للأم، لدخول ولدها في عموم قوله: أولادكم.
فصل:
وإن تصرف الأب بمال ابنه قبل تملكه، لم يصح تصرفه، نص عليه أحمد، فقال: لا يجوز عتقه لعبد ابنه ما لم يقبضه. وكذلك إبراؤه من دينه وهبته لماله، لأن ملك الابن باق عليه، بدليل صحة تصرفه فيه، ووطئه لجواريه، وجريان الربا بينه وبين أبيه، فأشبه مال الأجنبي. وإن وطئ الأب جارية ابنه قبل تملكها، فلا حد عليه للشبهة، وإن لم تلد، فهي على ملك الابن، وإن ولدت، فولده حر، وتصير أم ولد له.
فصل:
فصل في العمرى: وهي أن يقول: أعمرتك هذه الدار حياتك، أو جعلتها لك عمرك، أو عمري. ولها ثلاث صور:
إحداهن: أن يقول: أعمرتك هذه الدار حياتك، ولعقبك من بعدك، فهذه هبة صحيحة؛ لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم:«من أعمر عمرى فهي للذي أعمرها حياً وميتاً» رواه أحمد ومسلم.
الثانية: أن يقول: أعمرتكها حياتك. ولم يزد، ففيها روايتان:
إحداهما: هي كالأولى للخبر، وجاء في لفظ:«قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعمرى لمن وهبت له» متفق عليه؛ ولأن الأملاك المستقرة كلها مقدرة بحياة المالك، وتنتقل إلى الورثة، فلم يكن تقديره بحياته منافياً لحكم الإملاك.
والثانية: يرجع بعد موته إلى المعمر، لما روى جابر قال:«إنما العمرى التي أجازها رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقول: هي لك ولعقبك، فأما إذا قال: هي لك ما عشت، فإنها ترجع إلى صاحبها» . متفق عليه
الثالثة: أن يقول مع ذلك: فإذا مت عادت إلي إن كنت حياً، أو إلى ورثتي، والرقبى مثل ذلك، إلا أنه يقول: إن مت قبلي، عادت إلي، وإن مت قبلك، فهي لك. أو يقول: أرقبتك داري هذه. وقال مجاهد: هي أن يقول: للآخر مني ومنك موتاً، ففيها روايتان:
إحداهما: هي لازمة لا تعود إلى الأول؛ لعموم الخبر الأول، ولقول رسول الله صلى الله عليه وسلم:«لا ترقبوا، فمن أرقب شيئاً فهو له حياته وموته» ولأنه شرط أن يعود إليه بعدما زال ملكه، فلم يؤثر، كما لو شرطه بعد لزوم العقد.
والثانية: ترجع إلى المعمر والمرقب، لحديث جابر، ولقول رسول الله صلى الله عليه وسلم:«المؤمنون عند شروطهم» وتصح العمرى والرقبى في العقار والثياب والحيوان، لأنها نوع هبة، فجازت في ذلك كله، كسائر الهبات. ولو شرط في الهبة شرطاً منافياً لمقتضاها، نحو أن يقول: وهبتك هذا بشرط ألا تبيعه، أو بشرط أن تبيعه أو تهبه، فسد الشرط. وفي صحة العقد وجهان، بناء على الشروط الفاسدة في البيع، وإن قيدها، فقال: وهبتكها سنة، لم يصح لأنه عقد ناقل للملك في الحياة، أشبه البيع، والله أعلم.