الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[فَصْلٌ فِي التَّسْعِيرُ]
(3106)
فَصْلٌ: قَالَ ابْنُ حَامِدٍ لَيْسَ لِلْإِمَامِ أَنْ يُسَعِّرَ عَلَى النَّاسِ، بَلْ يَبِيعُ النَّاسُ، أَمْوَالَهُمْ عَلَى مَا يَخْتَارُونَ. وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ. وَكَانَ مَالِكٌ يَقُولُ: يُقَالُ لِمَنْ يُرِيدُ أَنْ يَبِيعَ أَقَلَّ مِمَّا يَبِيعُ النَّاسُ بِهِ: بِعْ كَمَا يَبِيعُ النَّاسُ، وَإِلَّا فَاخْرُجْ عَنَّا وَاحْتَجَّ لَهُ بِمَا رَوَى الشَّافِعِيُّ، وَسَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، عَنْ دَاوُد بْنِ صَالِحٍ التَّمَّارِ، عَنْ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ عُمَرَ، أَنَّهُ مَرَّ بِحَاطِبٍ فِي سُوقِ الْمُصَلَّى، وَبَيْنَ يَدَيْهِ غِرَارَتَانِ فِيهِمَا زَبِيبٌ، فَسَأَلَهُ عَنْ سِعْرِهِمَا، فَسَعَّرَ لَهُ مَدَّيْنِ بِكُلِّ دِرْهَمٍ، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: قَدْ حُدِّثْت بِعِيرٍ مُقْبِلَةٍ مِنْ الطَّائِفِ تَحْمِلُ زَبِيبًا، وَهُمْ يَعْتَبِرُونَ بِسِعْرِكِ، فَإِمَّا أَنْ تَرْفَعَ فِي السِّعْرِ، وَإِمَّا أَنْ تُدْخِلَ زَبِيبَك فَتَبِيعَهُ كَيْفَ شِئْت وَلِأَنَّ فِي ذَلِكَ إضْرَارًا بِالنَّاسِ إذَا زَادَ تَبِعَهُ أَصْحَابُ الْمَتَاعِ، وَإِذَا نَقَصَ أَضَرَّ بِأَصْحَابِ الْمَتَاعِ.
وَلَنَا، مَا رَوَى أَبُو دَاوُد، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، عَنْ أَنَسٌ قَالَ:«غَلَا السِّعْرُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، غَلَا السِّعْرُ فَسَعِّرْ لَنَا. فَقَالَ: إنَّ اللَّهَ هُوَ الْمُسَعِّرُ الْقَابِضُ الْبَاسِطُ الرَّزَّاقُ، إنِّي لَأَرْجُو أَنْ أَلْقَى اللَّهَ تَعَالَى وَلَيْسَ أَحَدٌ يَطْلُبُنِي بِمَظْلِمَةٍ فِي دَمٍ وَلَا مَالٍ» قَالَ التِّرْمِذِيُّ هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ، وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ مِثْلُهُ. فَوَجْهُ الدَّلَالَةِ مِنْ وَجْهَيْنِ؛ أَحَدِهِمَا، أَنَّهُ لَمْ يُسَعِّرْ، وَقَدْ سَأَلُوهُ ذَلِكَ، وَلَوْ جَازَ لَأَجَابَهُمْ إلَيْهِ. الثَّانِي، أَنَّهُ عَلَّلَ بِكَوْنِهِ مَظْلَمَةٌ، وَالظُّلْمُ حَرَامٌ، وَلِأَنَّهُ مَالُهُ، فَلَمْ يَجُزْ مَنْعُهُ مِنْ بَيْعِهِ بِمَا تَرَاضَى عَلَيْهِ الْمُتَبَايِعَانِ، كَمَا اتَّفَقَ الْجَمَاعَةُ عَلَيْهِ.
قَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا: التَّسْعِيرُ سَبَبُ الْغَلَاءِ، لِأَنَّ الْجَالِبِينَ إذَا بَلَغَهُمْ ذَلِكَ، لَمْ يَقْدَمُوا بِسِلَعِهِمْ بَلَدًا يُكْرَهُونَ عَلَى بَيْعِهَا فِيهِ بِغَيْرِ مَا يُرِيدُونَ، وَمَنْ عِنْدَهُ الْبِضَاعَةُ يَمْتَنِعُ مِنْ بَيْعِهَا، وَيَكْتُمُهَا، وَيَطْلُبُهَا أَهْلُ الْحَاجَةِ إلَيْهَا، فَلَا يَجِدُونَهَا إلَّا قَلِيلًا، فَيَرْفَعُونَ فِي ثَمَنِهَا لِيَصِلُوا إلَيْهَا، فَتَغْلُوا الْأَسْعَارُ، وَيَحْصُلُ الْإِضْرَارُ بِالْجَانِبَيْنِ، جَانِبِ الْمُلَّاكِ فِي مَنْعِهِمْ مِنْ بَيْعِ أَمْلَاكِهِمْ، وَجَانِبِ الْمُشْتَرِي فِي مَنْعِهِ مِنْ الْوُصُولِ إلَى غَرَضِهِ، فَيَكُونُ حَرَامًا. فَأَمَّا حَدِيثُ عُمَرَ، فَقَدْ رَوَى فِيهِ سَعِيدٌ وَالشَّافِعِيُّ، أَنَّ عُمَرَ لَمَّا رَجَعَ حَاسَبَ نَفْسَهُ، ثُمَّ أَتَى حَاطِبًا فِي دَارِهِ، فَقَالَ: إنَّ الَّذِي قُلْت لَك لَيْسَ بِعَزِيمَةٍ مِنِّي وَلَا قَضَاءٍ، وَإِنَّمَا هُوَ شَيْءٌ أَرَدْت بِهِ الْخَيْرَ لِأَهْلِ الْبَلَدِ، فَحَيْثُ شِئْت فَبِعْ كَيْفَ شِئْت. وَهَذَا رُجُوعٌ إلَى مَا قُلْنَا. وَمَا ذَكَرُوهُ مِنْ الضَّرَرِ مَوْجُودٌ فِيمَا إذَا بَاعَ فِي بَيْتِهِ، وَلَا يُمْنَعُ مِنْهُ.
[مَسْأَلَةٌ النَّهْي عَنْ تَلَقِّي الرُّكْبَانِ]
(3107)
مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ (وَنُهِيَ عَنْ تَلَقِّي الرُّكْبَانِ) فَإِنْ تُلُقُّوا، وَاشْتُرِيَ مِنْهُمْ، فَهُمْ بِالْخِيَارِ إذَا دَخَلُوا السُّوقَ، وَعَرَفُوا أَنَّهُمْ قَدْ غُبِنُوا إنْ أَحَبُّوا أَنْ
يَفْسَخُوا الْبَيْعَ فَسَخُوا. رُوِيَ أَنَّهُمْ كَانُوا يَتَلَقَّوْنَ الْأَجْلَابَ، فَيَشْتَرُونَ مِنْهُمْ الْأَمْتِعَةَ قَبْلَ أَنْ تَهْبِطَ الْأَسْوَاقَ، فَرُبَّمَا غَبَنُوهُمْ غَبْنًا بَيِّنًا، فَيَضُرُّونَهُمْ، وَرُبَّمَا أَضَرُّوا بِأَهْلِ الْبَلَدِ؛ لِأَنَّ الرُّكْبَانَ إذَا وَصَلُوا بَاعُوا أَمْتِعَتَهُمْ، وَاَلَّذِينَ يَتَلَقَّوْنَهُمْ لَا يَبِيعُونَهَا سَرِيعًا، وَيَتَرَبَّصُونَ بِهَا السِّعْرَ، فَهُوَ فِي مَعْنَى بَيْعِ الْحَاضِرِ لِلْبَادِي، فَنَهَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنْ ذَلِكَ.
وَرَوَى طَاوُسٌ عَنْ أَبِيهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ: صلى الله عليه وسلم «لَا تَلَقَّوْا الرُّكْبَانَ، وَلَا يَبِعْ حَاضِرٌ لِبَادٍ» وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مِثْلُهُ، مُتَّفَقٌ عَلَيْهِمَا، وَكَرِهَهُ أَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ، مِنْهُمْ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَمَالِكٌ وَاللَّيْثُ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَالشَّافِعِيُّ وَإِسْحَاقُ.
وَحُكِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ لَمْ يَرَ بِذَلِكَ بَأْسًا. وَسُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَحَقُّ أَنْ تُتَّبَعَ. فَإِنْ خَالَفَ، وَتَلَقَّى الرَّكْبَانِ، وَاشْتَرَى مِنْهُمْ، فَالْبَيْعُ صَحِيحٌ فِي قَوْلِ الْجَمِيعِ. وَقَالَهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ. وَحُكِيَ عَنْ أَحْمَدَ رِوَايَةٌ أُخْرَى، أَنَّ الْبَيْعَ فَاسِدٌ لِظَاهِرِ النَّهْيِ.
وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ؛ لِأَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ رَوَى أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ «لَا تَلَقَّوْا الْجَلَبَ، فَمَنْ تَلَقَّاهُ، وَاشْتَرَى مِنْهُ، فَإِذَا أَتَى السُّوقَ فَهُوَ بِالْخِيَارِ» ، رَوَاهُ مُسْلِمٌ، وَالْخِيَارُ لَا يَكُونُ إلَّا فِي عَقْدٍ صَحِيحٍ، وَلِأَنَّ النَّهْيَ لَا لِمَعْنَى فِي الْبَيْعِ، بَلْ يَعُودُ إلَى ضَرْبٍ مِنْ الْخَدِيعَةِ يُمْكِنْ اسْتِدْرَاكُهَا بِإِثْبَاتِ الْخِيَارِ، فَأَشْبَهَ بَيْعَ الْمُصَرَّاةِ، وَفَارَقَ بَيْعَ الْحَاضِرِ لِلْبَادِي، فَإِنَّهُ لَا يُمْكِنُ اسْتِدْرَاكُهُ بِالْخِيَارِ، إذْ لَيْسَ الضَّرَرُ عَلَيْهِ، إنَّمَا هُوَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ. فَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا، فَلِلْبَائِعِ الْخِيَارُ إذَا عَلِمَ أَنَّهُ قَدْ غِبْنَ. وَقَالَ أَصْحَابُ الرَّأْيِ: لَا خِيَارَ لَهُ.
وَقَدْ رَوَيْنَا قَوْلَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي هَذَا، وَلَا قَوْلَ لَأَحَدٍ مَعَ قَوْلِهِ. وَظَاهِرُ الْمَذْهَبِ أَنَّهُ لَا خِيَارَ لَهُ إلَّا مَعَ الْغَبْنِ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا ثَبَتَ لِأَجْلِ الْخَدِيعَةِ وَدَفْعِ الضَّرَرِ، وَلَا ضَرَرَ مَعَ عَدَمِ الْغَبْنِ. وَهَذَا ظَاهِرُ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ، وَيُحْمَلُ إطْلَاقُ الْحَدِيثِ فِي إثْبَاتِ الْخِيَارِ عَلَى هَذَا؛ لِعِلْمِنَا بِمَعْنَاهُ وَمُرَادِهِ؛ لِأَنَّهُ مَعْنًى يَتَعَلَّقُ الْخِيَارُ بِمِثْلِهِ، وَلِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم جَعَلَ لَهُ الْخِيَارَ إذَا أَتَى السُّوقَ، فَيُفْهَمُ مِنْهُ أَنَّهُ أَشَارَ إلَى مَعْرِفَتِهِ بِالْغَبْنِ فِي السُّوقِ، وَلَوْلَا ذَلِكَ لَكَانَ الْخِيَارُ لَهُ مِنْ حِينِ الْبَيْعِ. وَلَمْ يُقَدِّرْ الْخِرَقِيِّ الْغَبْنَ الْمُثْبِتَ لِلْخِيَارِ، وَيَنْبَغِي أَنْ يَتَقَيَّدَ بِمَا يَخْرُجُ عَنْ الْعَادَةِ؛ لِأَنَّ مَا دُونَ ذَلِكَ لَا يَنْضَبِطُ.
وَقَالَ أَصْحَابُ مَالِكٍ: إنَّمَا نُهِيَ عَنْ تَلَقِّي الرُّكْبَانِ لِمَا يَفُوتُ بِهِ مِنْ الرِّفْقُ لِأَهْلِ السُّوقِ، لِئَلَّا يُقْطَعَ عَنْهُمْ مَا لَهُ جَلَسُوا مِنْ ابْتِغَاءِ فَضْلِ اللَّهِ تَعَالَى. قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ فَإِنْ تَلَقَّاهَا مُتَلَقٍّ، فَاشْتَرَاهَا، عُرِضَتْ عَلَى أَهْلِ السُّوقِ، فَيَشْتَرِكُونَ فِيهَا. وَقَالَ اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ: تُبَاعُ فِي السُّوقِ. وَهَذَا مُخَالِفٌ لِمَدْلُولِ الْحَدِيثِ؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم جَعَلَ الْخِيَارَ لِلْبَائِعِ إذَا دَخَلَ السُّوقَ، وَلَمْ يَجْعَلُوا لَهُ خِيَارًا، وَجَعْلُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم الْخِيَارَ لَهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ النَّهْيَ عَنْ تَلَقِّي الرُّكْبَانِ لِحَقِّهِ، لَا لِحَقِّ غَيْرِهِ. وَلِأَنَّ الْجَالِسَ فِي السُّوقِ كَالْمُتَلَقِّي، فِي أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُبْتَغٍ لِفَضْلِ اللَّهِ تَعَالَى، فَلَا يَلِيقُ بِالْحِكْمَةِ فَسْخُ عَقْدِ أَحَدِهِمَا، وَإِلْحَاقُ الضَّرَرِ بِهِ، دَفْعًا لِلضَّرَرِ