الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
عَدَمَ الشَّرْطِ فَأَشْبَهَ مَا لَوْ بَاعَ عَبْدًا يَظُنُّ أَنَّهُ حُرُّ، أَوْ أَنَّهُ عَبْدُ غَيْرِهِ، فَتَبَيَّنَ أَنَّهُ عَبْدُهُ.
وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُفَرَّقَ بَيْنَ مَنْ يَعْلَمُ أَنَّ الْبَيْعَ يَفْسُدُ بِالْعَجْزِ عَنْ تَسْلِيمِ الْمَبِيعِ، وَبَيْنَ مَنْ لَا يَعْلَمْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ مَنْ يَعْلَمُ ذَلِكَ يَعْتَقِدُ فَسَادَ الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ، فَكَانَ بَيْعُهُ فَاسِدًا؛ لِكَوْنِهِ مُتَلَاعِبًا بِقَوْلِهِ: مُعْتَقِدًا فَسَادَهُ، وَمِنْ لَا يَعْلَمُ يَعْتَقِدُهُ صَحِيحًا، وَقَدْ تَبَيَّنَ اجْتِمَاعُ شُرُوطِهِ، فَصَحَّ، كَمَا لَوْ عَلِمَهُ مَقْدُورًا عَلَى تَسْلِيمِهِ.
[فَصْلٌ قَالَ الْأَجْنَبِيّ لِلْمُدَّعِيَّ أَنَا وَكِيلُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فِي مُصَالَحَتِك عَنْ هَذِهِ الْعَيْنِ]
(3496)
فَصْلٌ: فَإِنْ قَالَ الْأَجْنَبِيُّ لِلْمُدَّعِي: أَنَا وَكِيلُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فِي مُصَالَحَتِك عَنْ هَذِهِ الْعَيْنِ، وَهُوَ مُقِرٌّ لَك بِهَا، وَإِنَّمَا يَجْحَدُهَا فِي الظَّاهِرِ. فَظَاهِرِ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ أَنَّ الصُّلْحَ لَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّهُ يَجْحَدُهَا فِي الظَّاهِرِ لِيَنْتَقِصَ الْمُدَّعِيَ بَعْضَ حَقِّهِ، أَوْ يَشْتَرِيَهُ بِأَقَلَّ مِنْ ثَمَنِهِ، فَهُوَ هَاضِمٌ لِلْحَقِّ، يَتَوَصَّلُ إلَى أَخْذِ الْمُصَالِحِ عَنْهُ بِالظُّلْمِ وَالْعَدُوَّانِ، فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ شَافَهَهُ بِذَلِكَ، فَقَالَ: أَنَا أَعْلَمُ صِحَّةَ دَعْوَاك، وَأَنَّ هَذَا لَك، وَلَكِنْ لَا أُسَلِّمُهُ إلَيْك، وَلَا أُقِرُّ لَك بِهِ عِنْدَ الْحَاكِمِ حَتَّى تُصَالِحَنِي مِنْهُ عَلَى بَعْضِهِ، أَوْ عِوَضٍ عَنْهُ. وَقَالَ الْقَاضِي: يَصِحُّ. وَهَذَا مَذْهَبُ. الشَّافِعِيِّ.
قَالُوا: ثُمَّ يَنْظُرُ إلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، فَإِنْ صَدَّقَهُ عَلَى ذَلِكَ، مَلَكَ الْعَيْنَ، وَرَجَعَ عَلَى الْأَجْنَبِيِّ وَعَلَيْهِ بِمَا أَدَّى عَنْهُ، إنْ كَانَ أَذِنَ لَهُ فِي الدَّفْعِ، وَإِنْ أَنْكَرَ الْإِذْنَ فِي الدَّفْعِ، فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ، وَيَكُونُ حُكْمُهُ حُكْمَ مِنْ قَضَى دَيْنَهُ بِغَيْرِ إذْنِهِ. وَإِنْ أَنْكَرَ الْوِكَالَةَ، فَالْقَوْل قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ، وَلَيْسَ لِلْأَجْنَبِيِّ الرُّجُوعُ عَلَيْهِ، وَلَا يُحْكَمُ لَهُ بِمِلْكِهَا.
فَأَمَّا حُكْمُ مِلْكِهَا فِي الْبَاطِنِ، فَإِنْ كَانَ وَكَّلَ الْأَجْنَبِيَّ فِي الشِّرَاءِ، فَقَدْ مَلَكَهَا؛ لِأَنَّهُ اشْتَرَاهَا بِإِذْنِهِ، فَلَا يَقْدَحُ إنْكَارُهُ فِي مِلْكِهَا؛ لِأَنَّ مِلْكَهُ ثَبَتَ قَبْلَ إنْكَارِهِ، وَإِنَّمَا هُوَ ظَالِمٌ بِالْإِنْكَارِ لِلْأَجْنَبِيِّ، وَإِنْ كَانَ لَمْ يُوَكِّلْهُ، لَمْ يَمْلِكُهَا؛ لِأَنَّهُ اشْتَرَى لَهُ عَيْنًا بِغَيْرِ إذْنِهِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَقِفَ عَلَى إجَازَتِهِ، كَمَا قُلْنَا فِي مَنْ اشْتَرَى لِغَيْرِهِ شَيْئًا بِغَيْرِ إذْنِهِ بِثَمَنٍ فِي ذِمَّتِهِ، فَإِنْ أَجَازَهُ، لَزِمَ فِي حَقِّهِ، وَإِنْ لَمْ يَجُزْهُ لَزِمَ مَنْ اشْتَرَاهُ.
وَإِنْ قَالَ الْأَجْنَبِيُّ لِلْمُدَّعِي: قَدْ عَرَفَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ صِحَّةَ دَعْوَاك، وَهُوَ يَسْأَلُك أَنْ تُصَالِحَهُ عَنْهُ، وَقَدْ وَكَّلَنِي فِي الْمُصَالَحَةِ عَنْهُ. فَصَالَحَهُ صَحَّ، وَكَانَ الْحُكْمُ كَمَا ذَكَرْنَا؛ لِأَنَّهُ هَاهُنَا لَمْ يَمْتَنِعْ مِنْ أَدَائِهِ، بَلْ اعْتَرَفَ بِهِ، وَصَالَحَهُ عَلَيْهِ، مَعَ بَذْلِهِ لَهُ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ لَمْ يَجْحَدْهُ.
[مَسْأَلَة اعْتَرَفَ بِحَقِّ فَصَالَحَ عَلَى بَعْضِهِ]
(3497)
مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَمَنْ اعْتَرَفَ بِحَقٍّ، فَصَالَحَ عَلَى بَعْضِهِ، لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ صُلْحًا؛ لِأَنَّهُ هَضْمٌ لِلْحَقِّ) وَجُمْلَتُهُ أَنَّ مَنْ اعْتَرَفَ بِحَقٍّ وَامْتَنَعَ مِنْ أَدَائِهِ حَتَّى صُولِحَ عَلَى بَعْضِهِ، فَالصُّلْحُ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّهُ صَالَحَ عَنْ بَعْضِ مَالِهِ بِبَعْضٍ، وَهَذَا مُحَالُ، وَسَوَاءٌ كَانَ بِلَفْظِ الصُّلْحِ، أَوْ بِلَفْظِ الْإِبْرَاءِ أَوْ بِلَفْظِ الْهِبَةِ الْمَقْرُونِ بِشَرْطِ، مِثْلُ أَنْ يَقُولَ: أَبْرَأَتْك عَنْ خَمْسِمِائَةٍ، أَوْ وَهَبْت لَك خَمْسَمِائَةٍ، بِشَرْطِ أَنْ تُعْطِيَنِي مَا بَقِيَ. وَلَوْ لَمْ يَشْتَرِطْ، إلَّا أَنَّهُ لَمْ يُعْطِ بَعْضَ حَقِّهِ إلَّا بِإِسْقَاطِهِ بَعْضَهُ، فَهُوَ حَرَامٌ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ هَضَمَهُ حَقَّهُ.
قَالَ ابْنُ أَبِي إِسْحَاقَ: الصُّلْحُ عَلَى الْإِقْرَارِ هَضْمٌ لِلْحَقِّ، فَمَتَى أَلْزَمَ الْمُقَرَّ لَهُ تَرْكَ بَعْضِ حَقِّهِ، فَتَرَكَهُ عَنْ غَيْرِ طِيبِ
نَفْسِهِ، لَمْ يَطِبْ الْأَخْذُ. وَإِنْ تَطَوَّعَ الْمُقَرُّ لَهُ بِإِسْقَاطِ بَعْضِ حَقِّهِ بِطِيبٍ مِنْ نَفْسِهِ، جَازَ، غَيْرَ أَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِصُلْحٍ، وَلَا مِنْ بَابِ الصُّلْحِ بِسَبِيلٍ، وَلَمْ يُسَمِّ الْخِرَقِيِّ الصُّلْحَ إلَّا فِي الْإِنْكَارِ، عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي قَدَّمْنَا ذِكْرَهُ، فَأَمَّا فِي الِاعْتِرَافِ، فَإِذَا اعْتَرَفَ بِشَيْءِ وَقَضَاهُ مِنْ جِنْسِهِ، فَهُوَ وَفَاءٌ، وَإِنْ قَضَاهُ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِ، فَهِيَ مُعَاوَضَةٌ، وَإِنْ أَبْرَأَهُ مِنْ بَعْضِهِ اخْتِيَارًا مِنْهُ، وَاسْتَوْفَى الْبَاقِيَ، فَهُوَ إبْرَاءٌ، وَإِنْ وَهَبَ لَهُ بَعْضَ الْعَيْنِ وَأَخَذَ بَاقِيَهَا بِطِيبِ نَفْسٍ، فَهِيَ هِبَةٌ، فَلَا يُسَمِّي ذَلِكَ صُلْحًا.
وَنَحْوُ ذَلِكَ قَالَ ابْنُ أَبِي مُوسَى وَسَمَّاهُ الْقَاضِي وَأَصْحَابُهُ صُلْحًا. وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَغَيْرِهِ؛ وَالْخِلَافُ فِي التَّسْمِيَةِ، أَمَّا الْمَعْنَى فَمُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَهُوَ فِعْلُ مَا عَدَا وَفَاءَ الْحَقِّ، وَإِسْقَاطُهُ عَلَى وَجْهٍ يَصِحُّ، وَذَلِكَ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ؛ مُعَاوَضَةٌ، وَإِبْرَاءٌ، وَهِبَةٌ.
فَأَمَّا الْمُعَاوَضَةُ، فَهُوَ أَنْ يَعْتَرِفَ لَهُ بِعَيْنٍ فِي يَدِهِ، أَوْ دَيْنٍ فِي ذِمَّتِهِ، ثُمَّ يَتَّفِقَانِ عَلَى تَعْوِيضِهِ عَنْ ذَلِكَ بِمَا يَجُوزُ تَعْوِيضُهُ بِهِ، وَهَذَا ثَلَاثَةُ أَضْرُبٍ أَحَدُهَا، أَنْ يَعْتَرِفَ لَهُ بِأَحَدِ النَّقْدَيْنِ، فَيُصَالِحَهُ الْآخَرُ، نَحْوُ أَنْ يَعْتَرِفَ لَهُ بِمِائَةِ دِرْهَمٍ، فَيُصَالِحَهُ مِنْهَا بِعَشْرَةِ دَنَانِيرَ، أَوْ يَعْتَرِفَ لَهُ بِعَشْرَةِ دَنَانِيرَ، فَيُصَالِحَهُ عَلَى مِائَةِ دِرْهَمٍ، فَهَذَا صَرْفٌ، يُشْتَرَطُ لَهُ شُرُوطُ الصَّرْفِ، مِنْ التَّقَابُضِ فِي الْمَجْلِسِ وَنَحْوِهِ. الثَّانِي، أَنْ يَعْتَرِفَ لَهُ بِعُرُوضٍ، فَيُصَالِحَهُ عَلَى أَثْمَانٍ، أَوْ بِأَثْمَانٍ فَيُصَالِحَهُ عَلَى عُرُوضٍ، فَهَذَا بَيْعٌ يَثْبُتْ فِيهِ أَحْكَامُ الْبَيْعِ.
وَإِنْ اعْتَرَفَ لَهُ بِدَيْنٍ، فَصَالَحَهُ عَلَى مَوْصُوفٍ فِي الذِّمَّةِ، لَمْ يَجُزْ التَّفَرُّقُ قَبْلَ الْقَبْضِ؛ لِأَنَّهُ بَيْعُ دَيْنٍ بِدِينٍ. الثَّالِثُ. أَنْ يُصَالِحَهُ عَلَى سُكْنَى دَارٍ أَوْ، خِدْمَةِ عَبْدٍ، وَنَحْوِهِ، أَوْ عَلَى أَنْ يَعْمَلَ لَهُ عَمَلًا مَعْلُومًا، فَيَكُونُ ذَلِكَ إجَارَةً لَهَا حُكْمُ سَائِرِ الْإِجَارَاتِ، وَإِذَا أَتْلَفَ الدَّارُ أَوْ الْعَبْدُ قَبْلَ اسْتِيفَاءِ شَيْءٍ مِنْ الْمَنْفَعَةِ، انْفَسَخَتْ الْإِجَارَةُ، وَرَجَعَ بِمَا صَالَحَ عَنْهُ.
وَإِنْ تَلِفَتْ بَعْدَ اسْتِيفَاءِ شَيْءٍ مِنْ الْمَنْفَعَةِ، انْفَسَخَتْ فِيمَا بَقِيَ مِنْ الْمُدَّةِ، وَرَجَعَ بِقِسْطِ مَا بَقِيَ. وَلَوْ صَالَحَهُ عَلَى أَنْ يُزَوِّجَهُ جَارِيَتَهُ، وَهُوَ مِمَّنْ يَجُوزُ لَهُ نِكَاحُ الْإِمَاءِ، صَحَّ. وَكَانَ الْمُصَالَحُ عَنْهُ صَدَاقَهَا، فَإِنْ انْفَسَخَ النِّكَاحُ قَبْلَ الدُّخُولِ بِأَمْرٍ يُسْقِطُ الصَّدَاقَ، رَجَعَ الزَّوْجُ بِمَا صَالَحَ عَنْهُ، وَإِنْ طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ، رَجَعَ بِنِصْفِهَا، وَإِنْ كَانَ الْمُعْتَرِفُ امْرَأَةً، فَصَالَحَتْ الْمُدَّعِي عَلَى أَنْ تُزَوِّجَهُ نَفْسَهَا، جَازَ وَلَوْ كَانَ الْمُعْتَرَفُ بِهِ عَيْبًا فِي مَبِيعِهَا، فَصَالَحَتْهُ عَلَى نِكَاحِهَا صَحَّ. فَإِنْ زَالَ الْعَيْبُ، رَجَعَتْ بِأَرْشِهِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ صَدَاقُهَا، فَرَجَعَتْ بِهِ، لَا بِمَهْرِ مِثْلِهَا. وَإِنْ لَمْ يَزُلْ الْعَيْبُ، لَكِنْ انْفَسَخَ نِكَاحُهَا بِمَا يُسْقِطُ صَدَاقَهَا، رَجَعَ عَلَيْهَا بِأَرْشِهِ.
الْقِسْمُ الثَّانِي، الْإِبْرَاءُ، وَهُوَ أَنْ يَعْتَرِفَ لَهُ بِدَيْنٍ فِي ذِمَّتِهِ، فَيَقُولَ: قَدْ أَبْرَأْتُك مِنْ نِصْفِهِ أَوْ جُزْءٍ مُعَيَّنٍ مِنْهُ، فَأَعْطِنِي مَا بَقِيَ. فَيَصِحُّ إذَا كَانَتْ الْبَرَاءَةُ مُطْلَقَةً مِنْ غَيْرِ شَرْطٍ. قَالَ أَحْمَدُ: إذَا كَانَ لِلرَّجُلِ عَلَى
الرَّجُلِ الدَّيْنُ، لَيْسَ عِنْدَهُ وَفَاءٌ فَوَضَعَ عَنْهُ بَعْضَ حَقِّهِ، وَأَخَذَ مِنْهُ الْبَاقِيَ، كَانَ ذَلِكَ جَائِزًا لَهُمَا، وَلَوْ فَعَلَ ذَلِكَ قَاضٍ، لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ إثْمٌ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَلَّمَ غُرَمَاءَ جَابِرٍ لِيَضَعُوا عَنْهُ، فَوَضَعُوا عَنْهُ، الشَّطْرَ.
وَفِي الَّذِي أُصِيبَ فِي حَدِيقَتِهِ فَمَرَّ بِهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ مَلْزُومٌ، فَأَشَارَ إلَى غُرَمَائِهِ بِالنِّصْفِ، فَأَخَذُوهُ مِنْهُ. فَإِنْ فَعَلَ ذَلِكَ قَاضٍ الْيَوْمَ، جَازَ إذَا كَانَ عَلَى وَجْهِ الصُّلْحِ وَالنَّظَرِ لَهُمَا.
وَرَوَى يُونُسُ، عَنْ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْن كَعْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّهُ تَقَاضَى ابْنَ أَبِي حَدْرَدٍ دَيْنًا كَانَ لَهُ عَلَيْهِ فِي الْمَسْجِدِ، فَارْتَفَعَتْ أَصْوَاتُهُمَا حَتَّى سَمِعَهَا رَسُولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم فَخَرَجَ إلَيْهِمَا، ثُمَّ نَادَى:«يَا كَعْبُ. قَالَ: لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ. فَأَشَارَ إلَيْهِ، أَنْ ضَعْ الشَّطْرَ مِنْ دَيْنَك. قَالَ: قَدْ فَعَلْت يَا رَسُولَ اللَّه. قَالَ رَسُولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم قُمْ فَأَعْطِهِ» . فَإِنْ قَالَ: عَلَى أَنْ تُوَفِّيَنِي مَا بَقِيَ بَطَلَ؛ لِأَنَّهُ مَا أَبْرَأَهُ عَنْ بَعْضِ الْحَقِّ إلَّا لِيُوَفِّيَهُ بَقِيَّتَهُ، فَكَأَنَّهُ عَاوَضَ بَعْضَ حَقِّهِ بِبَعْضٍ.
الْقِسْمُ الثَّالِثُ، الْهِبَةُ. وَهُوَ أَنْ يَكُونَ لَهُ فِي يَدِهِ عَيْنٌ، فَيَقُولَ قَدْ وَهَبْتُك نِصْفَهَا، فَأَعْطِنِي بَقِيتهَا. فَيَصِحُّ، وَيُعْتَبَرُ لَهُ شُرُوطُ الْهِبَةِ. وَإِنْ أَخْرَجَهُ مَخْرَجَ الشَّرْطِ، لَمْ يَصِحَّ. وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّهُ إذَا شَرَطَ فِي الْهِبَةِ الْوَفَاءَ جَعَلَ الْهِبَةَ عِوَضًا عَنْ الْوَفَاءِ بِهِ، فَكَأَنَّهُ عَاوَضَ بَعْضَ حَقِّهِ بِبَعْضٍ.
وَإِنْ أَبْرَأَهُ مِنْ بَعْضِ الدَّيْنِ، أَوْ وَهَبَ لَهُ بَعْضَ الْعَيْنِ بِلَفْظِ الصُّلْحِ، مِثْلَ أَنْ يَقُولَ: صَالِحْنِي بِنِصْفِ دَيْنَك عَلَيَّ، أَوْ بِنِصْفِ دَارِك هَذِهِ. فَيَقُولَ: صَالِحَتك بِذَلِكَ. لَمْ يَصِحَّ، ذَكَرَهُ الْقَاضِي وَابْنُ عَقِيلٍ. وَهُوَ قَوْلُ بَعْضِ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ. وَقَالَ أَكْثَرُهُمْ: يَجُوزُ الصُّلْحُ؛ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَجُزْ بِلَفْظِهِ خَرَجَ عَنْ أَنْ يَكُونَ صُلْحًا، وَلَا يَبْقَى لَهُ تَعَلُّقٌ بِهِ، فَلَا يُسَمَّى صُلْحًا، أَمَّا إذَا كَانَ بِلَفْظِ الصُّلْحِ سُمِّيَ صُلْحًا؛ لِوُجُودِ اللَّفْظِ، وَإِنْ تَخَلَّفَ الْمَعْنَى، كَالْهِبَةِ بِشَرْطِ الثَّوَابِ، وَإِنَّمَا يَقْتَضِي لَفْظُ الصُّلْحِ الْمُعَاوَضَةَ إذَا كَانَ ثَمَّ عِوَضٌ، أَمَّا مَعَ عَدَمِهِ فَلَا.
وَإِنَّمَا مَعْنَى الصُّلْحِ الِاتِّفَاقُ، وَالرِّضَى، وَقَدْ يَحْصُلُ هَذَا مِنْ غَيْرِ عِوَضٍ، كَالتَّمْلِيكِ إذَا كَانَ بِعِوَضٍ سُمِّيَ بَيْعًا، وَإِنْ خَلَا عَنْ الْعِوَضِ سُمِّيَ هِبَةً. وَلَنَا أَنَّ لَفْظَ الصُّلْحِ يَقْتَضِي الْمُعَاوَضَةَ؛ لِأَنَّهُ إذَا قَالَ: صَالِحْنِي بِهِبَةِ كَذَا، أَوْ عَلَى نِصْفِ هَذِهِ الْعَيْنِ، وَنَحْوُ هَذَا. فَقَدْ أَضَافَ إلَيْهِ بِالْمُقَابَلَةِ، فَصَارَ كَقَوْلِهِ: بِعْنِي بِأَلْفٍ.
وَإِنْ أَضَافَ إلَيْهِ " عَلَى " جَرَى مَجْرَى الشَّرْطِ. كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا} [الكهف: 94] . وَكِلَاهُمَا لَا يَجُوزُ؛ بِدَلِيلِ مَا لَوْ صَرَّحَ بِلَفْظِ الشَّرْطِ أَوْ بِلَفْظِ الْمُعَاوَضَةِ. وَقَوْلُهُمْ: أَنَّهُ يُسَمَّى صُلْحًا. مَمْنُوعٌ، وَإِنْ سُمِّيَ صُلْحًا فَمَجَازٌ؛ لِتَضَمُّنِهِ قَطْعَ النِّزَاعِ وَإِزَالَةَ الْخُصُومَةِ. وَقَوْلُهُمْ: إنَّ الصُّلْحَ لَا يَقْتَضِي الْمُعَاوَضَةَ. قُلْنَا: لَا نُسَلِّمُ.
وَإِنْ سَلَّمْنَا لَكِنَّ الْمُعَاوَضَةَ حَصَلَتْ مِنْ اقْتِرَانِ حَرْفِ الْبَاءِ، أَوْ عَلَى، أَوْ نَحْوِهِمَا بِهِ، فَإِنَّ لَفْظَةَ الصُّلْحِ تَحْتَاجُ إلَى حَرْفٍ تَعَدَّى بِهِ، وَذَلِكَ يَقْتَضِي الْمُعَاوَضَةَ، عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ.