الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وَمِنْهَا، صِحَّةُ الضَّمَانِ فِي كُلِّ حَقٍّ، أَعْنِي مِنْ الْحُقُوقِ الْمَالِيَّةِ الْوَاجِبَةِ، أَوْ الَّتِي تَئُولُ إلَى الْوُجُوبِ، كَثَمَنِ الْمَبِيعِ فِي مُدَّةِ الْخِيَارِ وَبَعْدَهُ، وَالْأُجْرَةِ وَالْمَهْرِ قَبْلَ الدُّخُولِ أَوْ بَعْدَهُ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْحُقُوقَ لَازِمَةٌ، وَجَوَازُ سُقُوطِهَا لَا يَمْنَعُ ضَمَانَهَا، كَالثَّمَنِ فِي الْمَبِيعِ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْخِيَارِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَسْقُطَ بِرَدِّ بِعَيْبِ أَوْ مُقَايَلَةٍ. وَبِهَذَا كُلِّهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ.
[فَصْلٌ مَا يَصِحُّ ضَمَانُهُ]
(3573)
فَصْلٌ: فِيمَا يَصِحُّ ضَمَانُهُ: وَيَصِحُّ ضَمَانُ الْجَعْلِ فِي الْجَعَالَةِ، وَفِي الْمُسَابَقَةِ وَالْمُنَاضَلَةِ. وَقَالَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ، فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ: لَا يَصِحُّ ضَمَانُهُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَئُولُ إلَى اللُّزُومِ، فَلَمْ يَصِحَّ ضَمَانُهُ، كَمَا فِي الْكِتَابَةِ. وَلَنَا، قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى:{وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ} [يوسف: 72] . وَلِأَنَّهُ يَئُولُ إلَى اللُّزُومِ إذَا عَمِلَ الْعَمَلَ، وَإِنَّمَا الَّذِي لَا يَلْزَمُ الْعَمَلُ، وَالْمَالُ يَلْزَمُ بِوُجُودِهِ، وَالضَّمَانُ لِلْمَالِ دُونَ الْعَمَلِ.
وَيَصِحُّ ضَمَانُ أَرْشِ الْجِنَايَةِ، سَوَاءٌ كَانَتْ نُقُودًا كَقِيَمِ الْمُتْلَفَاتِ، أَوْ حَيَوَانًا كَالدِّيَاتِ. وَقَالَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ: لَا يَصِحُّ ضَمَانُ الْحَيَوَانِ الْوَاجِبِ فِيهَا؛ لِأَنَّهُ مَجْهُولٌ. وَقَدْ مَضَى الدَّلِيلُ عَلَى صِحَّةِ ضَمَانِ الْمَجْهُولِ، وَلِأَنَّ الْإِبِلَ الْوَاجِبَةَ فِي الذِّمَّةِ مَعْلُومَةُ الْأَسْنَانِ وَالْعَدَدِ، وَجَهَالَةُ اللَّوْنِ أَوْ غَيْرُهُ مِنْ الصِّفَاتِ الْبَاقِيَةِ لَا تَضُرُّ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَلْزَمُهُ أَدْنَى لَوْنٍ أَوْ صِفَةٍ فَتَحْصُلُ مَعْلُومَةً، وَكَذَلِكَ غَيْرُهَا مِنْ الْحَيَوَانِ، وَلِأَنَّ جَهْلَ ذَلِكَ لَمْ يَمْنَعْ وُجُوبَهُ بِالْإِتْلَافِ، فَلَمْ يَمْنَعْ وُجُوبَهُ بِالِالْتِزَامِ.
وَيَصِحُّ ضَمَانُ نَفَقَةَ الزَّوْجَةِ، سَوَاءٌ كَانَتْ نَفَقَةَ يَوْمِهَا أَوْ مُسْتَقْبَلَةً؛ لِأَنَّ نَفَقَةَ الْيَوْمِ وَاجِبَةٌ، وَالْمُسْتَقْبِلَةُ مَآلُهَا إلَى اللُّزُومِ، وَيَلْزَمُهُ مَا يَلْزَمُ الزَّوْجَ فِي قِيَاسِ الْمَذْهَبِ. وَقَالَ الْقَاضِي: إذَا ضَمِنَ نَفَقَةَ الْمُسْتَقْبَلِ، لَمْ تَلْزَمْهُ إلَّا نَفَقَةُ الْمُعْسِرِ؛ لِأَنَّ الزِّيَادَةَ عَلَى ذَلِكَ تَسْقُطُ بِالْإِعْسَارِ.
وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ عَلَى الْقَوْلِ الَّذِي قَالَ فِيهِ: يَصِحُّ ضَمَانُهَا. وَلَنَا، أَنَّهُ يَصِحُّ ضَمَانُ مَا لَمْ يَجِبْ، وَاحْتِمَالُ عَدَمِ وُجُوبِ الزِّيَادَةِ لَا يَمْنَعُ صِحَّةَ ضَمَانِهَا، بِدَلِيلِ الْجَعْلِ فِي الْجَعَالَةِ، وَالصَّدَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ، وَالْمَبِيعِ فِي مُدَّةِ الْخِيَارِ. فَأَمَّا النَّفَقَةُ فِي الْمَاضِي، فَإِنْ كَانَتْ وَاجِبَةً، إمَّا بِحُكْمِ الْحَاكِمِ بِهَا، أَوْ قُلْنَا: بِوُجُوبِهَا بِدُونِ حُكْمِهِ، صَحَّ ضَمَانُهَا، وَإِلَّا فَلَا.
وَيَصِحُّ ضَمَانُ مَالِ السَّلَمِ، فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ. وَالْأُخْرَى لَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إلَى اسْتِيفَاءِ الْمُسْلَمِ فِيهِ مِنْ غَيْرِ الْمُسْلَمِ إلَيْهِ، فَلَمْ يَجُزْ، كَالْحَوَالَةِ بِهِ. وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ؛ لِأَنَّهُ دَيْنٌ لَازِمٌ فَصَحَّ ضَمَانُهُ، كَالْأُجْرَةِ وَثَمَنِ الْمَبِيعِ. وَلَا يَصِحُّ ضَمَانُ مَالِ الْكِتَابَةِ، فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ. وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَأَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ. وَالْأُخْرَى: يَصِحُّ؛ لِأَنَّهُ دَيْنٌ عَلَى الْمُكَاتَبِ، فَصَحَّ ضَمَانُهُ، كَسَائِرِ الدُّيُونِ عَلَيْهِ.
وَالْأُولَى أَصَحُّ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِلَازِمٍ. وَلَا مَآلُهُ إلَى اللُّزُومِ، فَإِنَّ لِلْمُكَاتَبِ تَعْجِيزَ نَفْسِهِ، وَالِامْتِنَاعَ عَنْ أَدَائِهِ، فَإِذَا لَمْ يَلْزَمْ الْأَصِيلَ، فَالضَّمِينُ أَوْلَى. وَيَصِحُّ ضَمَانُ الْأَعْيَانِ الْمَضْمُونَةِ، كَالْمَغْصُوبِ وَالْعَارِيَّةِ. وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيُّ فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ، وَقَالَ فِي
الْآخَرِ: لَا يَصِحَّ؛ لِأَنَّ الْأَعْيَانَ غَيْرُ ثَابِتَةٍ فِي الذِّمَّةِ، وَإِنَّمَا يَضْمَنُ مَا ثَبَتَ فِي الذِّمَّةِ، وَوَصْفُنَا لَهَا بِالضَّمَانِ إنَّمَا مَعْنَاهُ أَنَّهُ يَلْزَمُهُ قِيمَتُهَا إنَّ تَلِفَتْ، وَالْقِيمَةُ مَجْهُولَةٌ.
وَلَنَا، أَنَّهَا مَضْمُونَةٌ عَلَى مَنْ هِيَ فِي يَدِهِ، فَصَحَّ ضَمَانُهَا، كَالْحُقُوقِ الثَّابِتَةِ فِي الذِّمَّةِ. وَقَوْلُهُمْ: إنَّ الْأَعْيَانَ لَا تَثْبُتُ فِي الذِّمَّةِ. قُلْنَا: الضَّمَانُ فِي الْحَقِيقَةِ إنَّمَا هُوَ ضَمَانُ اسْتِنْقَاذِهَا وَرَدِّهَا، وَالْتِزَامُ تَحْصِيلِهَا أَوْ قِيمَتِهَا عِنْدَ تَلَفِهَا.
وَهَذَا مِمَّا يَصِحُّ ضَمَانُهُ، كَعُهْدَةِ الْمَبِيعِ، فَإِنَّ ضَمَانَهَا يَصِحُّ، وَهُوَ فِي الْحَقِيقَة الْتِزَامُ رَدِّ الثَّمَنِ أَوْ عِوَضِهِ، إنْ ظَهَرَ بِالْبَيْعِ عَيْبٌ، أَوْ خَرَجَ مُسْتَحَقًّا، فَأَمَّا الْأَمَانَاتُ، كَالْوَدِيعَةِ، وَالْعَيْنِ الْمُؤَجَّرَة، وَالشَّرِكَةِ، وَالْمُضَارَبَةِ، وَالْعَيْنِ الَّتِي يَدْفَعُهَا إلَى الْقَصَّارِ وَالْخَيَّاطِ، فَهَذِهِ إنْ ضَمِنَهَا مِنْ غَيْرِ تَعَدٍّ فِيهَا، لَمْ يَصِحَّ ضَمَانُهَا؛ لِأَنَّهَا غَيْرُ مَضْمُونَةٍ عَلَى مَنْ هِيَ فِي يَدِهِ، فَكَذَلِكَ عَلَى ضَامِنِهِ. وَإِنْ ضَمِنَهَا إنْ تَعَدَّى فِيهَا، فَظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ رحمه الله، يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ الضَّمَانِ؛ فَإِنَّهُ قَالَ فِي رِوَايَةِ الْأَثْرَمِ، فِي رَجُلٍ يَتَقَبَّلُ مِنْ النَّاسِ الثِّيَابَ، فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: ادْفَعْ إلَيْهِ ثِيَابَك، وَأَنَا ضَامِنٌ.
فَقَالَ لَهُ: هُوَ ضَامِنٌ لِمَا دَفَعَهُ إلَيْهِ. يَعْنِي إذَا تَعَدَّى أَوْ تَلِفَ بِفِعْلِهِ. فَعَلَى هَذَا إنْ تَلِفَ بِغَيْرِ تَفْرِيطٍ مِنْهُ وَلَا فِعْلِهِ، لَمْ يَلْزَمْ الضَّامِنَ شَيْءٌ، لِمَا ذَكَرْنَا، وَإِنْ تَلِفَ بِفِعْلِهِ أَوْ تَفْرِيطٍ لَزِمَ ضَمَانُهَا وَلَزِمَ ضَامِنُهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهَا مَضْمُونَةٌ عَلَى مَنْ هِيَ فِي يَدِهِ، فَلَزِمَ ضَامِنَهُ، كَالْغُصُوبِ وَالْعَوَارِيّ. وَهَذَا فِي الْحَقِيقَةِ ضَمَانُ مَا لَمْ يَجِبْ، وَقَدْ بَيَّنَّا جَوَازَهُ.
وَيَصِحُّ ضَمَانُ عُهْدَةِ الْمَبِيعِ عَنْ الْبَائِعِ لِلْمُشْتَرِي، وَعَنْ الْمُشْتَرِي لِلْبَائِعِ، فَضَمَانُهُ عَلَى الْمُشْتَرِي هُوَ أَنْ يَضْمَنَ الثَّمَنَ الْوَاجِبَ بِالْبَيْعِ قَبْلَ تَسْلِيمِهِ، وَإِنْ ظَهَرَ فِيهِ عَيْبٌ أَوْ اُسْتُحِقَّ، رَجَعَ بِذَلِكَ عَلَى الضَّامِنِ، وَضَمَانُهُ عَنْ الْبَائِعِ لِلْمُشْتَرِي هُوَ أَنْ يَضْمَنَ عَنْ الْبَائِعِ الثَّمَنَ مَتَى خَرَجَ الْمَبِيعُ مُسْتَحَقًّا، أَوْ رُدَّ بِعَيْبٍ، أَوْ أَرْشِ الْعَيْبِ. فَضَمَانُ الْعُهْدَةِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ هُوَ ضَمَانُ الثَّمَنِ أَوْ جُزْءٍ مِنْهُ عَنْ أَحَدِهِمَا لِلْآخَرِ. وَحَقِيقَةُ الْعُهْدَةِ الْكِتَابُ الَّذِي يَكْتُبُ فِيهِ وَثِيقَةَ الْبَيْعِ، وَيَذْكُرُ فِيهِ الثَّمَنَ، فَعُبِّرَ بِهِ عَنْ الثَّمَنِ الَّذِي يَضْمَنُهُ.
وَمِمَّنْ أَجَازَ ضَمَانَ الْعُهْدَةِ فِي الْجُمْلَةِ أَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ. وَمَنَعَ مِنْهُ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ؛ لِكَوْنِهِ ضَمَانَ مَا لَمْ يَجِبْ، وَضَمَانَ مَجْهُولٍ، وَضَمَانَ عَيْنٍ. وَقَدْ بَيَّنَّا جَوَازَ الضَّمَانِ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ. وَلِأَنَّ الْحَاجَةَ تَدْعُو إلَى الْوَثِيقَةِ عَلَى الْبَائِعِ، وَالْوَثَائِقُ ثَلَاثَةٌ؛ الشَّهَادَةُ، وَالرَّهْنُ، وَالضَّمَانُ. فَأَمَّا الشَّهَادَةُ فَلَا يُسْتَوْفَى مِنْهَا الْحَقُّ، وَأَمَّا الرَّهْنُ فَلَا يَجُوزُ فِي ذَلِكَ بِالْإِجْمَاعِ؛ لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إلَى أَنْ يَبْقَى أَبَدًا مَرْهُونًا، فَلَمْ يَبْقَ إلَّا الضَّمَانُ.
وَلِأَنَّهُ لَا يَضْمَنُ إلَّا مَا كَانَ وَاجِبًا حَالَ الْعَقْدِ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَتَعَلَّقُ بِالضَّمَانِ حُكْمٌ إذَا خَرَجَ مُسْتَحَقًّا أَوْ مَعِيبًا حَالَ الْعَقْدِ، وَمَتَى كَانَ كَذَلِكَ، فَقَدْ ضَمِنَ مَا وَجَبَ حِينَ الْعَقْدِ، وَالْجَهَالَةُ مُنْتَفِيَةٌ؛ لِأَنَّهُ ضَمِنَ الْجُمْلَةَ، فَإِذَا خَرَجَ بَعْضُهُ مُسْتَحَقًّا، لَزِمَهُ بَعْضُ مَا ضَمِنَهُ. إذَا ثَبَتَ هَذَا، فَإِنَّهُ يَصِحُّ ضَمَانُ الْعُهْدَةِ عَنْ الْبَائِعِ لِلْمُشْتَرِي قَبْلَ قَبْضِ الثَّمَنِ وَبَعْدَهُ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ:
إنَّمَا يَصِحُّ بَعْدَ الْقَبْضِ؛ لِأَنَّهُ قَبْلَ الْقَبْضِ لَوْ خَرَجَ مُسْتَحَقًّا لَمْ يَجِبْ عَلَى الْبَائِعِ شَيْءٌ.
وَهَذَا يَنْبَنِي عَلَى ضَمَانِ مَا لَمْ يَجِبْ إذَا كَانَ مُفْضِيًا إلَى الْوُجُوبِ، كَالْجَعَالَةِ. وَأَلْفَاظُ ضَمَانِ الْعُهْدَةِ أَنْ يَقُولَ: ضَمِنْت عُهْدَتَهُ أَوْ ثَمَنَهُ أَوْ دَرَكَهُ. أَوْ يَقُولَ لِلْمُشْتَرِي: ضَمِنْت خَلَاصَك مِنْهُ. أَوْ يَقُولَ: مَتَى خَرَجَ الْمَبِيعُ مُسْتَحَقًّا فَقَدْ ضَمِنْت لَك الثَّمَنَ. وَحُكِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ، أَنَّهُ قَالَ: ضَمِنْت عُهْدَته، أَوْ ضَمِنَتْ لَك الْعُهْدَةَ. وَالْعُهْدَةُ فِي الْحَقِيقَةِ: هِيَ الصَّكُّ الْمَكْتُوبُ فِيهِ الِابْتِيَاعُ.
هَكَذَا فَسَّرَهُ بِهِ أَهْلُ اللُّغَةِ، فَلَا يَصِحُّ ضَمَانُهُ لِلْمُشْتَرِي؛ لِأَنَّهُ مِلْكُهُ، وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ؛ لِأَنَّ الْعُهْدَةَ صَارَتْ فِي الْعُرْفِ عِبَارَةً عَنْ الدَّرْكِ وَضَمَانِ الثَّمَنِ، وَالْكَلَامُ الْمُطْلَقُ يُحْمَلُ عَلَى الْأَسْمَاءِ الْعُرْفِيَّةِ دُونَ اللُّغَوِيَّةِ، كَالرَّاوِيَةِ، تُحْمَلُ عِنْدَ إطْلَاقِهَا عَلَى الْمَزَادَةِ، لَا عَلَى الْجَمَلِ، وَإِنْ كَانَ هُوَ الْمَوْضُوعَ. فَأَمَّا إنْ ضَمِنَ لَهُ خَلَاصَ الْمَبِيعِ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: هُوَ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّهُ إذَا خَرَجَ حُرًّا أَوْ مُسْتَحَقًّا، لَا يَسْتَطِيعُ تَخْلِيصَهُ، وَلَا يَحِلُّ.
وَقَدْ قَالَ أَحْمَدُ، فِي رَجُلٍ بَاعَ عَبْدًا أَوْ أَمَةً، وَضَمِنَ لَهُ الْخَلَاصَ، فَقَالَ: كَيْفَ يَسْتَطِيعُ الْخَلَاصَ إذَا خَرَجَ حُرًّا؟ فَإِنْ ضَمِنَ عُهْدَةَ الْمَبِيعِ وَخَلَاصَهُ، بَطَلَ فِي الْخَلَاصِ. وَهَلْ يَصِحُّ فِي الْعُهْدَةِ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ، بِنَاءً عَلَى تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ. إذَا ثَبَتَ صِحَّةُ ضَمَانِ الْعُهْدَةِ، فَالْكَلَامُ فِيمَا يَلْزَمُ الضَّامِنَ، فَنَقُولُ: إنَّ اسْتِحْقَاقَ رُجُوعِ الْمُشْتَرِي بِالثَّمَنِ لَا يَخْلُو، إمَّا أَنْ يَكُونَ بِسَبَبِ حَادِثٍ بَعْدَ الْعَقْدِ، أَوْ مُقَارِنٍ لَهُ، فَأَمَّا الْحَادِثُ فَمِثْلُ تَلَفِ الْمَبِيعِ مِنْ الْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ فِي يَدِ الْبَائِعِ أَوْ بِغَصْبِ مِنْ يَدِهِ أَوْ يَتَقَايَلَانِ، فَإِنَّ الْمُشْتَرِيَ يَرْجِعُ عَلَى الْبَائِعِ دُونَ الضَّامِنِ؛ لِأَنَّ هَذَا الِاسْتِحْقَاقَ لَمْ يَكُنْ مَوْجُودًا حَالَ الْعَقْدِ، وَإِنَّمَا ضَمِنَ الِاسْتِحْقَاقَ الْمَوْجُودَ حَالَ الْعَقْدِ.
وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَرْجِعَ بِهِ عَلَى الضَّامِنِ؛ لِأَنَّ ضَمَانَ مَا لَمْ يَجِبْ جَائِزٌ، وَهَذَا مِنْهُ. وَأَمَّا إنْ كَانَ بِسَبَبٍ مُقَارِنٍ، نَظَرْنَا؛ فَإِنْ كَانَ بِسَبَبٍ لَا تَفْرِيطَ مِنْ الْبَائِعِ فِيهِ، كَأَخْذِهِ بِالشُّفْعَةِ، فَإِنَّ الْمُشْتَرِيَ يَأْخُذُ الثَّمَنَ مِنْ الشَّفِيعِ وَلَا يَرْجِعُ عَلَى الْبَائِعِ وَلَا الضَّامِنِ. وَمَتَى لَمْ يَجِبْ عَلَى الْمَضْمُونِ عَنْهُ شَيْءٌ، لَمْ يَجِبْ عَلَى الضَّامِنِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى.
وَأَمَّا إنْ زَالَ مِلْكُهُ عَنْ الْمَبِيعِ بِسَبَبٍ مُقَارِنٍ لِتَفْرِيطٍ مِنْ الْبَائِعِ، بِاسْتِحْقَاقٍ أَوْ حُرِّيَّةٍ أَوْ رَدٍّ بِعَيْبٍ قَدِيمٍ، فَلَهُ الرُّجُوعُ إلَى الضَّامِنِ، وَهَذَا ضَمَانُ الْعُهْدَةِ، وَإِنْ أَرَادَ أَخْذَ أَرْشِ الْعَيْبِ، رَجَعَ عَلَى الضَّامِنِ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ إذَا لَزِمَهُ كُلُّ الثَّمَنِ، لَزِمَهُ بَعْضُهُ إذَا اسْتَحَقَّ ذَلِكَ عَلَى الْمَضْمُونِ عَنْهُ، وَسَوَاءٌ ظَهَرَ كُلُّ الْمَبِيعِ مُسْتَحَقًّا أَوْ بَعْضُهُ؛ لِأَنَّهُ إذَا ظَهَرَ بَعْضُهُ مُسْتَحَقًّا، بَطَلَ الْعَقْدُ فِي الْجَمِيعِ، فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ، فَقَدْ خَرَجَتْ الْعَيْنُ كُلُّهَا مِنْ يَدِهِ بِسَبَبِ الِاسْتِحْقَاقِ، وَعَلَى الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى: لَا يَبْطُلُ الْعَقْدُ فِي الْجَمِيعِ، وَلَكِنْ اسْتَحَقَّ رَدَّهَا، فَإِنْ رَدَّهَا كُلَّهَا فَالْحُكْمُ كَذَلِكَ، وَإِنْ أَمْسَكَ الْمَمْلُوكَ مِنْهَا، فَلَهُ الْمُطَالَبَةُ بِالْأَرْشِ، كَمَا لَوْ وَجَدَ بِهَا عَيْبًا.
وَلَوْ بَاعَهُ عَيْنًا أَوْ أَقْرِضَهُ شَيْئًا بِشَرْطِ أَنْ يَرْهَنَ عِنْدَهُ عَيْنَهَا، فَتَكَفَّلَ رَجُلٌ بِتَسْلِيمِ الرَّهْنِ، لَمْ تَصِحَّ الْكَفَالَةُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُ الرَّاهِنَ إقْبَاضُهُ وَتَسْلِيمُهُ، فَلَا يَلْزَمُ الْكَفِيلَ مَا لَا يَلْزَمُ الْأَصْلَ. وَإِنْ ضَمِنَ لِلْمُشْتَرِي قِيمَةَ مَا يَحْدُثُ