الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الشَّكِّ وَرَوَى ابْنُ الْمُنْذِرِ، بِإِسْنَادِهِ، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم «رَخَّصَ فِي بَيْعِ الْعَرِيَّةِ فِي الْوَسْقِ وَالْوَسْقَيْنِ وَالثَّلَاثَةِ وَالْأَرْبَعَةِ.» وَالتَّخْصِيصُ بِهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا تَجُوزُ الزِّيَادَةُ فِي الْعَدَدِ عَلَيْهِ، كَمَا اتَّفَقْنَا عَلَى أَنَّهُ لَا تَجُوزُ الزِّيَادَةُ عَلَى الْخَمْسَةِ؛ لِتَخْصِيصِهِ إيَّاهَا بِالذِّكْرِ.
وَرَوَى مُسْلِمٌ عَنْ سَهْلٍ، «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم رَخَّصَ فِي بَيْعِ الْعَرِيَّةِ؛ النَّخْلَةِ وَالنَّخْلَتَيْنِ.» وَلِأَنَّ خَمْسَةَ الْأَوْسُقِ فِي حُكْمِ مَا زَادَ عَلَيْهَا؛ بِدَلِيلِ وُجُوبِ الزَّكَاةِ فِيهَا دُونَ مَا نَقَصَ عَنْهَا، وَلِأَنَّهَا قَدْرٌ تَجِبُ الزَّكَاةُ فِيهِ، فَلَمْ يَجُزْ بَيْعُهُ عَرِيَّةً، كَالزَّائِدِ عَلَيْهَا. فَأَمَّا قَوْلُهُمْ: أَرْخَصَ فِي الْعَرِيَّةِ مُطْلَقًا، فَلَمْ يَثْبُتْ أَنَّ الرُّخْصَةَ الْمُطْلَقَةَ سَابِقَةٌ عَلَى الرُّخْصَةِ الْمُقَيَّدَةِ، وَلَا مُتَأَخِّرَةٌ عَنْهَا، بَلْ الرُّخْصَةُ وَاحِدَةٌ، رَوَاهَا بَعْضُهُمْ مُطْلَقَةً وَبَعْضُهُمْ مُقَيَّدَةً، فَيَجِبُ حَمْلُ الْمُطْلَقِ عَلَى الْمُقَيَّدِ، وَيَصِيرُ الْقَيْدُ الْمَذْكُورُ فِي أَحَدِ الْحَدِيثَيْنِ كَأَنَّهُ مَذْكُورٌ فِي الْآخَرِ، وَلِذَلِكَ يُقَيَّدُ فِيمَا زَادَ عَلَى الْخَمْسَةِ، اتِّفَاقًا.
[فَصْلٌ لَا يَجُوزُ أَنْ يَشْتَرِيَ أَكْثَرِ مِنْ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ فِيمَا زَادَ عَلَى صَفْقَةٍ]
(2868)
فَصْلٌ: وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَشْتَرِيَ أَكْثَرَ مِنْ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ، فِيمَا زَادَ عَلَى صَفْقَةٍ، سَوَاءٌ اشْتَرَاهَا مِنْ وَاحِدٍ أَوْ مِنْ جَمَاعَةٍ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يَجُوزُ لِلْإِنْسَانِ بَيْعُ جَمِيعِ ثَمَرِ حَائِطِهِ عَرَايَا، مِنْ رَجُلٍ وَاحِدٍ، وَمِنْ رِجَالٍ، فِي عُقُودٍ مُتَكَرِّرَةٍ؛ لِعُمُومِ حَدِيثِ زَيْدٍ وَسَهْلٍ، وَلِأَنَّ كُلَّ عَقْدٍ جَازَ مَرَّةً، جَازَ أَنْ يَتَكَرَّرَ، كَسَائِرِ الْبُيُوعِ.
وَلَنَا، عُمُومُ النَّهْيِ عَنْ الْمُزَابَنَةِ، اسْتَثْنَى مِنْهُ الْعَرِيَّةَ فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ، فَمَا زَادَ يَبْقَى عَلَى الْعُمُومِ فِي التَّحْرِيمِ. وَلِأَنَّ مَا لَا يَجُوزُ عَلَيْهِ الْعَقْدُ مَرَّةً إذَا كَانَ نَوْعًا وَاحِدًا، لَا يَجُوزُ فِي عَقْدَيْنِ، كَاَلَّذِي عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ، وَكَالْجَمْعِ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ، فَأَمَّا حَدِيثُ سَهْلٍ فَإِنَّهُ مُقَيَّدٌ بِالنَّخْلَةِ وَالنَّخْلَتَيْنِ؛ بِدَلِيلِ مَا رَوَيْنَا، فَيَدُلُّ عَلَى تَحْرِيمِ الزِّيَادَةِ عَلَيْهِمَا، ثُمَّ إنَّ الْمُطْلَقَ يُحْمَلُ عَلَى الْمُقَيَّدِ كَمَا فِي الْعَقْدِ الْوَاحِدِ. فَأَمَّا إنْ بَاعَ رَجُلٌ عَرِيَّتَيْنِ مِنْ رَجُلَيْنِ فِيهِمَا أَكْثَرُ مِنْ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ جَازَ.
وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ وَالْقَاضِي: لَا يَجُوزُ؛ لِمَا ذَكَرْنَا فِي الْمُشْتَرِي. وَلَنَا أَنَّ الْمُغَلِّبَ فِي التَّجْوِيزِ حَاجَةُ الْمُشْتَرِي؛ بِدَلِيلِ مَا رَوَى مَحْمُودُ بْنُ لَبِيدٍ قَالَ: «قُلْت لِزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ: مَا عَرَايَاكُمْ هَذِهِ؟ فَسَمَّى رِجَالًا مُحْتَاجِينَ مِنْ الْأَنْصَارِ، شَكَوْا إلَى رَسُولِ اللَّهِ أَنَّ الرُّطَبَ يَأْتِي وَلَا نَقْدَ بِأَيْدِيهِمْ يَبْتَاعُونَ بِهِ رُطَبًا يَأْكُلُونَهُ، وَعِنْدَهُمْ فُضُولٌ مِنْ التَّمْرِ، فَرَخَّصَ لَهُمْ أَنْ يَبْتَاعُوا الْعَرَايَا بِخَرْصِهَا مِنْ التَّمْرِ الَّذِي فِي أَيْدِيهِمْ يَأْكُلُونَهُ رُطَبًا.» وَإِذَا كَانَ سَبَبُ الرُّخْصَةِ حَاجَةَ الْمُشْتَرِي، لَمْ تُعْتَبَرْ حَاجَةُ الْبَائِعِ إلَى الْبَيْعِ، فَلَا يَتَقَيَّدُ فِي حَقِّهِ بِخَمْسَةِ أَوْسُقٍ.
وَلِأَنَّنَا لَوْ اعْتَبَرْنَا الْحَاجَةَ مِنْ الْمُشْتَرِي وَحَاجَةَ الْبَائِعِ إلَى الْبَيْعِ، أَفْضَى إلَى أَنْ لَا يَحْصُلَ الْإِرْفَاقُ، إذْ لَا يَكَادُ يَتَّفِقُ وُجُودُ الْحَاجَتَيْنِ،
فَتَسْقُطُ الرُّخْصَةُ. فَإِنْ قُلْنَا: لَا يَجُوزُ ذَلِكَ، بَطَلَ الْعَقْدُ الثَّانِي. فَإِنْ اشْتَرَى عَرِيَّتَيْنِ أَوْ بَاعَهُمَا، وَفِيهِمَا أَقَلُّ مِنْ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ، جَازَ، وَجْهًا وَاحِدًا. (2869) الْفَصْلُ الثَّالِثُ، أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ فِي بَيْعِ الْعَرِيَّةِ أَنْ تَكُونَ مَوْهُوبَةً لِبَائِعِهَا. هَذَا ظَاهِرُ كَلَامِ أَصْحَابِنَا. وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ. وَظَاهِرُ قَوْلِ الْخِرَقِيِّ، أَنَّهُ شَرْطٌ.
وَقَدْ رَوَى الْأَثْرَمُ، قَالَ: سَمِعْت أَحْمَدَ سُئِلَ عَنْ تَفْسِيرِ الْعَرَايَا. فَقَالَ: الْعَرَايَا أَنْ يُعْرِيَ الرَّجُلُ الْجَارَ أَوْ الْقَرَابَةَ لِلْحَاجَةِ أَوْ الْمَسْكَنَةِ، فَلِلْمُعْرِي أَنْ يَبِيعَهَا مِمَّنْ شَاءَ. وَقَالَ مَالِكٌ: بَيْعُ الْعَرَايَا الْجَائِزُ هُوَ أَنْ يُعْرِيَ الرَّجُلُ الرَّجُلَ نَخَلَاتٍ مِنْ حَائِطِهِ، ثُمَّ يَكْرَهُ صَاحِبُ الْحَائِطِ دُخُولَ الرَّجُلِ الْمُعْرِي؛ لِأَنَّهُ رُبَّمَا كَانَ مَعَ أَهْلِهِ فِي الْحَائِطِ، فَيُؤْذِيهِ دُخُولُ صَاحِبِهِ عَلَيْهِ، فَيَجُوزُ أَنْ يَشْتَرِيَهَا مِنْهُ. وَاحْتَجُّوا بِأَنَّ الْعَرِيَّةَ فِي اللُّغَةِ هِبَةُ ثَمَرَةِ النَّخِيلِ عَامًا. قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: الْإِعْرَاءُ، أَنْ يَجْعَلَ الرَّجُلُ لِلرَّجُلِ ثَمَرَةَ نَخْلِهِ عَامَهَا ذَلِكَ. قَالَ الشَّاعِرُ الْأَنْصَارِيُّ يَصِفُ النَّخْلَ:
لَيْسَتْ بِسَنْهَاءَ وَلَا رَجَبِيَّةٍ
…
وَلَكِنْ عَرَايَا فِي السِّنِينَ الْجَوَائِحِ
يَقُولُ: إنَّا نُعْرِيهَا النَّاسَ. فَتَعَيَّنَ صَرْفُ اللَّفْظِ إلَى مَوْضُوعِهِ لُغَةً وَمُقْتَضَاهُ فِي الْعَرَبِيَّةِ، مَا لَمْ يُوجَدْ مَا يَصْرِفُهُ عَنْ ذَلِكَ.
وَلَنَا، حَدِيثُ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، وَهُوَ حُجَّةٌ عَلَى مَالِكٍ، فِي تَصْرِيحِهِ بِجَوَازِ بَيْعِهَا مِنْ غَيْرِ الْوَاهِبِ، وَلِأَنَّهُ لَوْ كَانَ لِحَاجَةِ الْوَاهِبِ لَمَا اُخْتُصَّ بِخَمْسَةِ أَوْسُقٍ، لِعَدَمِ اخْتِصَاصِ الْحَاجَةِ بِهَا. وَلَمْ يَجُزْ بَيْعُهَا بِالتَّمْرِ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ مِنْ حَالِ صَاحِبِ الْحَائِطِ الَّذِي لَهُ النَّخِيلُ الْكَثِيرُ يُعْرِيهِ النَّاسَ، أَنَّهُ لَا يَعْجِزُ عَنْ أَدَاءِ ثَمَنِ الْعَرِيَّةِ، وَفِيهِ حُجَّةٌ عَلَى مَنْ اشْتَرَطَ كَوْنَهَا مَوْهُوبَةً لِبَائِعِهَا؛ لِأَنَّ عِلَّةَ الرُّخْصَةِ حَاجَةُ الْمُشْتَرِي إلَى أَكْلِ الرُّطَبِ، وَلَا ثَمَنَ مَعَهُ سِوَى التَّمْرِ، فَمَتَى وَجَدَ ذَلِكَ، جَازَ الْبَيْعُ.
وَلِأَنَّ اشْتِرَاطَ كَوْنِهَا مَوْهُوبَةً مَعَ اشْتِرَاطِ حَاجَةِ الْمُشْتَرِي إلَى أَكْلِهَا رُطَبًا، وَلَا ثَمَنَ مَعَهُ، يُفْضِي إلَى سُقُوطِ الرُّخْصَةِ، إذْ لَا يَكَادُ يَتَّفِقُ ذَلِكَ. وَلِأَنَّ مَا جَازَ بَيْعُهُ إذَا كَانَ مَوْهُوبًا، جَازَ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَوْهُوبًا، كَسَائِرِ الْأَمْوَالِ، وَمَا جَازَ بَيْعُهُ لِوَاهِبِهِ، جَازَ لِغَيْرِهِ، كَسَائِرِ الْأَمْوَالِ، وَإِنَّمَا سُمِّيَ عَرِيَّةً لِتَعَرِّيهِ عَنْ غَيْرِهِ، وَإِفْرَادِهِ بِالْبَيْعِ.
(2870)
الْفَصْلُ الرَّابِعُ: أَنَّهُ إنَّمَا يَجُوزُ بَيْعُهَا بِخَرْصِهَا مِنْ التَّمْرِ، لَا أَقَلَّ مِنْهُ وَلَا أَكْثَرَ وَيَجِبُ