الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وقال أبو العباس (أحمد بن يحيى) : التولية هاهنا: إقبال، وقد تكون (التولية)
إدباراً كقولك: وَلِّ عني وجهك، أي: أدبر عني بوجهك، وقد ولى: إذا أدبر.
وأما قوله تعالى: (شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ) الآية، فشطره: تلقاؤه وجهته
ونحوه.
وأصل الشطر: النحو، وقول الناس: فلان شاطِر معناه: قد أخذ في نحو
غير الاستواء. ويقال: هؤلاء قوم يشاطروننا، أي: دُورُهم تقابل دورنا، كما تقول: هم يناحوننا، أي: نحن ننحُو نحوهم، وينحون نحونا.
وشطر كل شيء: نصفه.
قال الله عز وجل: (وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (149)
الأم: كتاب جماع العلم: باب (حكاية من رد خبر الخاصة) :
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: فرض الله على الناس التوجه في القبلة إلى
المسجد الحرام، فقال سبحانه:(وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ) إلى قوله: (فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ) .
ثم قال: أفرأيت إذا سافرنا واختلفنا في القبلة، فكان الأغلب على أنها في
جهة، والأغلب على غيري في جهة، ما الفرض علينا؟.
فإن قلتَ: الكعبةُ فهي وإن كانت ظاهرة في موضعها فهي مغيبة عمن نأوا
عنها، فعليهم أن يطلبوا التوجه لها غاية جَهدهم على ما أمكنهم، وغلب
بالدلالات في قلوبهم. فإذا فعلوا وسعهم الاختلاف، وكان كل مؤدياً للفرض عليه، لأن الفرض عليه الاجتهاد في طلب الحق المغيب عنه.
الأم (أيضاً) : باب (إبطال الاستحسان)
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: وإن قال قائل: أرأيت ما لم يمض فيه كتاب.
ولا سنة، ولا يوجد الناس اجتمعوا عليه، فأمرت بأن يؤخذ به قياساً على كتاب الله أو سنة، أيقال لهذا: قُبِلَ عن اللَّه؟
قيل: نعم، قبلت جملته عن اللَّه.
فإن قيل: ما جملته؟ قيل: الاجتهاد فيه على الكتاب والسنة.
فإن قيل: أفيوجد في الكتاب دليل على ما وصفت؟
قيل: نعم، نسخ الله قبلة بيت المقدس وفرض على
الناس التوجه إلى البيت، فكان على من رأى البيت أن يتوجه إليه بالعيان.
وفرض اللَّه على من غاب عنه البيت، أن يولي وجهه شطر المسجد الحرام.
لأن البيت في المسجد الحرام، فكان المحيط بأنه أصاب البيت بالمعاينة، والمتوجه قَصد البيت ممن غاب عنه قابلين عن اللَّه معاً التوجه إليه.
وأحدهما على الإحاطة، والآخر متوجِّة بدلالة، فهو على إحاطة من
صواب جملة ما كُلف، وعلى غير إحاطة كإحاطة الذي يرى البيت من صواب البيت، ولم يكلف الإحاطة.
قال الله عز وجل: (وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ)
الأم: باب (استقبال القبلة) :
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: فنصب الله عز وجل لهم البيت والمسجد. فكانوا إذا رأوه فعليهم استقبال البيت، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى مُسْتَقْبِلَه، والناس معه
حوله من كل جهة، ودلهم بالعلامات التي خَلَقَ لهم، والعقول التي ركب فيهم على قصد البيت الحرام، وقصد المسجد الحرام، وهو: قصد البيت الحرام.
فالفرض على كل مصل فريضةً، أو نافلةً، أو على جنازة، أو ساجد لشكر، أو سجود قرآن، أن يتحرى استقبال البيت إلا في حالين: أرخص اللَّه تعالى فيهما سأذكرهما إن شاء الله تعالى.
الأم (أيضاً) : باب (كيف استقبال البيت) :
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: واستقبال البيت وجهان:
أولاً: فكل من كان يقدر على رؤية البيت ممن بمكة في مسجدها، أو منزل
منها، أو سهل، أو جبل، فلا تجزيه صلاته حتى يصيب استقبال البيت؛ لأنه
يدرك صواب استقباله بمعاينته.
ثانياً: وإن كان أعمى وسعه أن يستقبل به غيره البيت، ولم يكن له أن
يصلي وهو لا يرى البيت بغير أن يستقبله به غيره، فإن كان في حال لا يجد
أحداً يستقبله به، صلى وأعاد الصلاة؛ لأنه على غير علم، من أنه أصاب
استقبال القبلة، إذا غاب عنه بالدلائل التي جعلها الله، من النجوم، والشمس، والقمر، والرياح وغيرها، مما يستدل به أهل الخبرة على التوجه إلى البيت.
الأم (أيضاً) : باب (إبطال الاستحسان) :
قال الشَّافِعِي رحمه الله: فإن قيل فبم يتوجه إلى البيت؟
قيل: قال اللَّه تعالى:
(وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ)
وقال: (وَعَلَامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ (16) .
وكانت العلامات جبالاً يعرفون مواضعها من الأرض، وشمساً، وقمراً، ونجماً مما يعرفون من الفَلَكِ، ورياحاً يعرفون مهابها على الهواء، تدل على قصد البيت الحرام، فجعل عليهم طلب الدلائل على شطر المسجد الحرام فقال:(وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ) الآية.
وكان معقولاً عن اللَّه عز وجل أن يأمرهم بتولية وجوههم شطره، بطلب الدلائل عليه، لا بما استحسنوا، ولا بما سنح في قلوبهم، ولا خطر على أوهامهم بلا دلالة جعلها اللَّه لهم، لأنه قضى ألَّا يتركهم سدى، وكان معقولاً عنه لأنَّه إذا أمرهم أن يتوجهوا شطره، وغيب عنهم عينه، أن لم يجعل لهم أن يتوجهوا حيث شاؤوا لا قاصدين له بطلب الدلالة عليه.
الرسالة: باب (كيف البيان؟) :
وقال سبحانه: (وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ) الآية.
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: فدلهم جل ثناؤه إذا غابوا عن عين المسجد
الحرام على صواب الاجتهاد، مما فرض عليهم منه، بالعقول التي ركب فيهم، المميزة بين الأشياء وأضادها، والعلامات التي نصب لهم دون عين المسجد
الحرام الذي أمرهم بالتوجه شطره.
وقال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: ففرض عليهم الاجتهاد بالتوجه شطر
المسجد الحرام، مما دلهم عليه مما وصفت، فكانوا ما كانوا مجتهدين غير مزايلين أمره جل ثناؤه، ولم يجعل لهم إذا غاب عنهم عين المسجد الحرام أن يصلوا حيث شاؤوا.
أحكام القرآن: فصل (فيما يؤثر عنه - الشَّافِعِي - من التفسير والمعاني في
الطهارات والصلوات) :
قال الشَّافِعِي رحمه الله: وفي قوله تعالى: (وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ) الآية.
قيل في ذلك - واللَّه أعلم -: لا تستقبلوا المسجد الحرام من المدينة إلا
وأنتم مستدبرون بيت المقدس، وإن جئتم من جهة نجد اليمن - فكنتم تستقبلون البيت الحرام، وبيت المقدس - استقبلتم المسجد الحرام، لا أنَّ إرادتكم (قصدكم وجهتكم) بيت المقدس، وإن استقبلتموه باستقبال المسجد الحرام، ولا أنتم كذلك تستقبلون ما دونه ووراءه، لا إرادة أن يكون قبلة، ولكن جهة قبلة.
وقيل: (لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ) الآية، في استقبال قبلة غيركم.
قال الشَّافِعِي رحمه الله: فلما حول اللَّه رسوله صلى الله عليه وسلم إلى المسجد الحرام صلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أكثر صلاته مما يلي الباب من جهة وجه الكعبة، وقد صلّى من ورائها والناس معه مصطفين بالكعبة مستقبليها كلها، مستدبرين ما ورائها من المسجد الحرام.
قال الشَّافِعِي رحمه الله: وقوله عز وجل: (فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ)
الآية، فشطره وتلقاؤه وجهته: واحد في كلام العرب.
واستدل عليه ببعض ما في كتاب الرسالة.
أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، أخبرنا أبو العباس، أخبرنا الربيع:
أخبرنا الشَّافِعِي رحمه الله قال: قال الله تبارك وتعالى: (وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ)
الآية.
ففرض عليهم حيث ما كانوا: أن يولوا وجوههم شطره.
وشطره: جهته في كلام العرب. إذا قلت: أقصد شطر كذا، معروف أنك
تقول: أقصد قصد عين كذا، يعني: قصد نفس كذا: وكذلك (تلقاؤه وجهته)
أي: استقبل تلقاءه وجهته، وكلها بمعنى واحد، وإن كانت بألفاظ مختلفة.
قال خُفَاف بن ندْبَة:
ألا من مبلغ عَمْراً رسولاً
…
وما تغني الرسالة ُ شطرَ عمرو
وقال ساعدة بن جُؤَية:
أقول لأم زنباع أقيمي
…
صدورَ العيسِ شطرَ بني تميم
وقال لقيط الأيادي:
وقد أظلكم من شطر ثغركم
…
هول له ظُلَم تغشاكم قطعاً
وقال الشاعر:
إن العسيرَ بها داة مُخامِرُها
…
فشطرها بصرُ العينينِ مَحْسُورُ
قال الشَّافِعِي رحمه الله: يريد تلقاءها بصرُ العينين ونحوها: تلقاء جهتها.
وهذا كله - مع غيره من أشعارهم - يبين أن شطر الشيء: قَصْد عين
الشيء، إذا كان معايناً: فبالصواب (أي: التصويب إليه) ، وإن كان مغيَّباً
فبالاجتهاد والتوجُّه إليه، وذلك أكثر ما يمكنه فيه.
قال الشَّافِعِي رحمه الله: وقيل: (لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ) الآية.
في استقبال قبلة غيركم، وقيل في تحويلكم عن قبلتكم التي كنتم عليها إلى غيرها
- وهذا أشبه ما قيل فيها والله أعلم -.