المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

فهرس الكتاب

- ‌الفصل الحادي عشرصلاة التطوُّع أو صلاة النّفْل

- ‌فضل صلاة التطوع وأصنافها

- ‌أ. السُّنَنُ الراتبة المؤكدة

- ‌ب. السُّنن الملحقة بالسنن الراتبة المؤكَّدة

- ‌قضاءُ السنن الراتبة والسنن الملحقة بها

- ‌صلاة الرواتب في السفر

- ‌ج. تحيَّة المسجد

- ‌د. الوتر

- ‌القنوت في الوتر وفي الصلاة المكتوبة

- ‌هـ. صلاة التراويح

- ‌و. قيام الليل

- ‌ز. صلاة الضُّحى

- ‌ح. صلاة الكسوف

- ‌ط. صلاة الاستسقاء

- ‌ي. صلاة التسابيح

- ‌ك. صلاة الاستخارة

- ‌ل. سجدة التلاوة

- ‌م. سجدة الشكر وصلاة الشكر

- ‌ن. الصلاة بعد الفراغ من الطواف عند المقام

- ‌س. الصلاةُ عَقِبَ الأذان

- ‌ع. الصلاةُ عَقِبَ الوضوء

- ‌الأوقاتُ المنهيُّ عن الصلاة فيها

- ‌أحكامٌ عامة لصلاة التطوُّع

- ‌1- في صلاة الفريضة لا يجوز الجلوس ولا الاضطجاع إلا من ضرورة

- ‌2 - إذا كان المسلم في المسجد فأقيمت الصلاة المفروضة

- ‌3 - الصلاة المكتوبة الأصل فيها أن تُؤدَّى في المساجد جماعة

- ‌4 - وكما يجوز أن تصلَّى النافلةُ انفرادياً فإنه يجوز أن تصلَّى جماعةً

- ‌الفصل الثاني عشرصلاة الجماعة

- ‌حكم صلاة الجماعة وفضلها

- ‌صلاة النساء

- ‌الإمام يصلي صلاة خفيفة

- ‌متابعة المأموم للإمام

- ‌تنعقد الجماعة بإمام ومأموم واحد

- ‌مفارقةُ الإمام

- ‌الصلاةُ جماعةً في المسجد مرتين

- ‌المسبوق يدخل في الصلاة على الحال التي عليها الإمام

- ‌خروج المُحْدِث من الصلاة

- ‌أ. صفة الأئمَّةالأحقُّ بالإمامة

- ‌إِمامة الأعمى

- ‌إمامة الصبي

- ‌إمامة المرأة

- ‌اقتداء المقيم بالمسافر وبالعكس

- ‌اقتداء المفترض بالمتنفل وبالعكس

- ‌الإمام يصلي جالساً

- ‌صلاة الإمام المخلّ بشروط الصلاة

- ‌الإمام يستخلف في صلاته

- ‌الإمام يكرهه المصلون

- ‌موقف الصبيان والنساء

- ‌صلاة الرجل وحده خلف الصفوف

- ‌أين يقف الإمام من المأمومين

الفصل: ‌و. قيام الليل

التراويح جماعةً «فلما كانت الثالثة جمع أهله ونساءه والناس فقام بنا» رواه أبو داود وغيره من طريق أبي ذرٍّ رضي الله عنه. فعمر رضي الله عنه لم يُحْدِث أمراً جديداً بجمع الناس على أُبيِّ بن كعب، وبالتالي فليس فعله بدعةً تندرج تحت قوله عليه الصلاة والسلام «كل مُحْدَثةٍ بدعة وكل بدعة ضلالة» .

فالرسول صلى الله عليه وسلم كان يكتفي بثماني ركعات، وصحابته رضوان الله عليهم زادوها في عهد عمر رضي الله عنه إلى عشرين ركعة، وكان يؤُمُّهم أبيُّ بن كعب الذي روينا عنه آنفاً أنه صلَاّها في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ثماني ركعات إماماً للنسوة اللاتي كن في بيته، فدل كل ذلك على الجواز. ولا يعجبني قول من يقول بزيادتها إلى أن يبلغ بها الأربعين ركعة، فنحن أمامَنا فعلُ الرسول صلى الله عليه وسلم وفعل صحابته، وليس بعد هذين الفعلين من فضلٍ يُلتَمَس أو خيرٍ يُطلَب.

أما القراءة في صلاة التراويح فلم يرد فيها اختصاصٌ بسورٍ معينة، فلْيقرأ المسلم ما شاء من كتاب الله سبحانه، ولْيطوِّل ما وسعه التطويل، خاصةً إن هو صلَاّها منفرداً.

أما ما يفعله ناسٌ في زماننا هذا من قراءة آية قصيرة واحدة في الركعة الواحدة، وربما كانت لا تفيد معنى قائماً بنفسها مِن مثل {وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ} أو {وَتَقَلُّبَكَ في السَّاجِدِيْنَ} أو {مُدْهَامَّتَان} فهو دالٌّ على جهلٍ وعزوف منهم عن ثواب الله سبحانه، وعلى إساءة في أداء هذه الصلاة التي يقال فيها إنها قيام الليل في رمضان، وما يعنيه قيام الليل هذا من الإطالة والاستغراق.

‌و. قيام الليل

ص: 71

ويقال أيضاً صلاة الليل، كما يقال التهجد، قال تعالى:{يَا أَيُّهَا المُزَّمِّلُ. قُم الليْلَ إلا قَلِيْلاً} الآيتان 1، 2 من سورة المزمل، وقال سبحانه {ومِن الليْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَىْ أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامَاً مَحْمُوْدَاً} الآية 79 من سورة الإسراء. وقد مرَّ في بحث [الوتر] حديث ابن عمر رضي الله عنه «أن رجلاً سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صلاة الليل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: صلاةُ الليل مَثْنى مَثْنى..» رواه البخاري ومسلم وأحمد وأبو داود والترمذي.

ونحن لسنا في حاجة لإطلاق التهجُّدِ على صلاة الليل إن كانت بعد نومٍ كما يرى ذلك عدد من الفقهاء، مستدلين على ذلك بأن التهجد والهُجود لغةً يعني النوم، من هجد يهجد إذا نام، ولهذا قالوا: التهجد لا يكون إلا بعد نومٍ من الليل، فإذا صلى بعد العشاء قبل أن ينام فإن صلاته لا تكون تهجداً. نعم نحن لسنا في حاجة لهذا التقييد، أولاً لأن حُكم التهجد هو حُكم صلاة الليل نفسه دون فارق بينهما، وثانياً لأن كلمة هجد يهجد كما أنها تعني نام ينام، فإنها تعني أيضاً سهر يسهر، فهي من الأضداد، وبذلك يصح إطلاق التهجد على الصلاة قبل النوم كما يصح إطلاقه عليها بعد النوم.

أما فضل قيام الليل فهو عظيم لا يفوقه سوى فضل الصلوات المكتوبة فحسب، فقيام الليل أفضل صلوات التطوع بما فيها السنن الرواتب، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «أفضل الصيام بعد شهر رمضان شهر الله المحرَّم، وأفضل الصلاة بعد الفريضة صلاة الليل» رواه الترمذي. وفي رواية من طريق أبي هريرة رضي الله عنه قال «سُئل رسول الله صلى الله عليه وسلم: أيُّ الصلاة أفضل بعد المكتوبة؟ قال: الصلاة في جوف الليل، قيل: أي الصيام أفضل بعد رمضان؟ قال: شهر الله الذي تدعونه المحرَّم» رواه أحمد ومسلم والنَّسائي.

ص: 72

وقد وردت عدة نصوص تحث على قيام الليل أذكر منها ما رُوي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «رحم الله رجلاً قام من الليل فصلَّى وأيقظ امرأته فصلَّت، فإن أبت نضح في وجهها الماء، ورحم الله امرأة قامت من الليل فصلَّت وأيقظت زوجها فصلَّى، فإن أبى نضحت في وجهه بالماء» رواه أحمد وابن حِبَّان وأبو داود والترمذي والنَّسائي. وعن أبي سعيد رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «ثلاثة يضحك الله إليهم: الرجل إذا قام من الليل يصلي، والقوم إذا صَفُّوا للصلاة، والقوم إذا صفُّوا للقتال» رواه أحمد وأبو يعلى. وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم «يا عبد الله لا تكن مثل فلان، كان يقوم الليل فترك قيام الليل» رواه البخاري ومسلم. وروى أبو أُمامة الباهلي رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «عليكم بقيام الليل فإنه دأب الصالحين قبلكم، وهو قُربة لكم إلى ربكم، ومُكَفِّرةٌ للسيئات، ومَنْهاةٌ عن الإثم» رواه الترمذي وابن خُزَيمة والطبراني والحاكم.

ص: 73

وقد كان قيام الليل مفروضاً وواجباً طيلة عام كامل منذ أن نزل قوله تعالى {يَا أَيُّهَا المُزَّمِّلْ. قُم الليْلَ إلا قَلِيْلاً} الآيتان 1، 2 من سورة المزَّمِّل. ثم إنَّ حُكم الوجوب قد نُسخ ليصبح قيام الليل مندوباً مستحباً فحسب بقوله سبحانه {إنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُوْمُ أَدْنَىْ مِنْ ثُلُثَي الليْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِن الذِيْنَ مَعَكَ وَاللهُ يُقَدِّرُ الليْلَ وَالنَّهَارَ عَلِمَ ألَّنْ تُحْصُوْهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَأُوْا مَا تَيَسَّرَ مِن القُرْآنِ

} الآية 20 من سورة المزمل. قوله علم ألَّنْ تُحْصُوه: أي علم أن لن تطيقوه ولن تستطيعوه. فعن سعد بن هشام بن عامر «أنه جاء إلى عائشة رضي الله عنها يسألها

أنبئيني عن قيام رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقالت: ألستَ تقرأ يا أيها المزمل؟ قلت: بلى قالت: فإن الله عز وجل افترض قيام الليل في أول هذه السورة، فقام النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه حولاً، وأمسك الله خاتمتها اثني عشر شهراً في السماء، حتى أنزل الله في آخر هذه السورة التخفيف، فصار قيام الليل تطوعاً بعد فريضة

» من حديث طويل رواه مسلم والنَّسائي. وعن ابن عباس رضي الله عنه قال في المزَّمِّل « {قُم الليْلَ إلا قَلِيْلاً نِصْفَهُ} نسختها الآية التي فيها {عَلِمَ ألَّنْ تُحْصُوْهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَأُوْا مَا تَيَسَّرَ مِن القُرْآنِ}

» رواه أبو داود.

ص: 74

أما وقت قيام الليل فهو موسَّع تماماً كوقت الوتر وكوقت صلاة التراويح، يمتد من بعد صلاة العشاء إلى أذان الفجر، أي طلوع الفجر، وأفضلُه آخِرَ الليل لما رُوي أن عمرو بن عبسة قال «قلت: يا رسول الله أي الليل أسمع؟ قال: جوف الليل الآخِر، فصلِّ ما شئت» رواه أبو داود والحاكم والترمذي. فمن أحبَّ أن ينال الفضيلة التامة لقيام الليل فلْيصلِّه في آخر الليل، وكلما اقترب بصلاته من آخر الليل تحقَّق من نوال الفضيلة التامة، فعن مسروق قال «سألت عائشة عن عمل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: كان يحب الدائم، قال قلت: أي حين كان يصلي؟ فقالت: كان إذا سمع الصارخ قام فصلى» رواه مسلم والنَّسائي وأبو داود والبخاري وأحمد. قوله الصارخ: أي الديك وهو يصرخ في آخِر الليل قبيل طلوع الفجر. وهذا كله إن كان المرء يريد أن يصلي قليلاً من قيام الليل.

ص: 75

أما إن أراد أن يصلي مقدار ثلث الليل، فلْيجعل صلاته في الثلث الأخير، وإن هو أراد أن يصلي مقدار نصف الليل، فليبدأ بمنتصف الليل وينتهي في آخره، وإن هو أراد الزيادة فلْيبدأ عقب ثلث الليل الأوَّل، ولا يُفَضَّل أن يُزاد على ذلك، بل لا بد للمرء من أخذ قسط من النوم فلا يصلي الليل كله، وفي كلٍّ وردت أحاديث أذكر منها ما يلي: عن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «من خاف أن لا يقوم من آخِر الليل فليوتر أوله، ومن طمع أن يقوم آخِره فليوتر آخِر الليل، فإن صلاة آخِر الليل مشهودة وذلك أفضل» رواه مسلم وأحمد والترمذي وابن ماجة. وفي رواية أخرى لمسلم من طريق جابر «أيُّكم خاف أن لا يقوم من آخر الليل فلْيوتر ثم ليرقد، ومن وثق بقيامٍ من الليل فلْيوتر من آخِره، فإن قراءة آخِر الليل محضورة وذلك أفضل» . وقد مرَّت الروايتان في بحث [الوِتر] . وروى أبو هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «ينزل ربنا تبارك وتعالى كلَّ ليلة إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر، يقول: مَن يدعوني فأستجيب له، مَن يسألني فأعطيه، مَن يستغفرني فأغفر له» رواه البخاري ومسلم وابن ماجة وأبو داود. وفي روايةٍ لمسلم من طريق أبي هريرة بلفظ «إذا قُضي شطرُ الليل أو ثلثاه ينزل الله تبارك وتعالى إلى السماء الدنيا

» . فتردد بين شطر الليل وثلث الليل الأخير، ومثله ما جاء في رواية ثالثة عند مسلم من طريق أبي هريرة بلفظ «ينزل الله في السماء الدنيا لشطر الليل أو لثلث الليل الآخِر» . فهذه الروايات الثلاث صرَّحت بذكر الثلث الآخِر من الليل، وترددت روايتان منها بين شطر الليل والثلث الآخِر من الليل، وجاءت رواية رابعة رواها مسلم من الطريق نفسها بلفظ «ينزل الله إلى السماء الدنيا كلَّ ليلة حين يمضي ثلث الليل الأول» . وبمثلها جاءت روايات عند أحمد وأبي داود والنَّسائي والترمذي وابن ماجة من طريق أبي

ص: 76

هريرة وأبي سعيد رضي الله عنهما. فهذه الروايات تذكر ثلث الليل الأول وليس الآخِر، فهي معارِضة للروايات الأولى وخاصة الروايةَ الصحيحة القوية التي رواها البخاري ومسلم وابن ماجة وأبو داود. وقد رجَّح جمهرة علماء الحديث رواية البخاري ومسلم وابن ماجة وأبي داود على رواية مسلم الرابعة، فالعمل برواية البخاري ومسلم وابن ماجة وأبي داود أولى، ويشهد لهذه الرواية الصحيحة القوية ما رواه عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له: أَحَبُّ الصلاة إلى الله صلاةُ داود عليه السلام، وأَحَبُّ الصيام إلى الله صيامُ داود، وكان ينام نصف الليل ويقوم ثلثه، وينام سُدُسه، ويصوم يوماً ويفطر يوماً» رواه البخاري ومسلم وأبو داود وابن ماجة وأحمد.

فلو افترضنا أن الليل هنا اثنتا عشرة ساعة عصرية، فإن الثلث الآخِر يكون آخر أربع ساعات من الليل، ويكون الشطر ست ساعات، فلما نام داود عليه السلام نصف الليل الأول وقام ثلثه فإنه يكون قد صلى ساعتين من الساعات الأولى للثلث الآخِر من الليل ونام ساعتين منه أي نام سدس الليل، أي أنه صلى في ثلث الليل الآخر، فنال الفضيلة التامة. وهذا الحديث يشهد أيضاً للروايتين اللتين ترددتا بين شطر الليل وثلثه الأخير، فالفضيلة التامة يمكن أن تُنال بالبدء في الصلاة عند منتصف الليل، فداود عليه السلام كان ينام نصف الليل، أي ينام الساعات الست الأولى من الليل، ويقوم عند منتصف الليل، فيصلي ثُلُثاً من الليل بادئاً بمنتصف الليل، وبذلك يصلي ساعتين قبل ثلث الليل الآخر، ثم يصلي ساعتين أخريين من ثلث الليل الآخِر، وبذلك فإنه يصلي أربع ساعات، وهي تعادل ثلث الليل كما يقول الحديث «ويقوم ثلثه» . فهذا الثلث يجمع بين ساعتين قبل ثلث الليل الأخير وساعتين من ثلث الليل الأخير، فهو يجمع بين العمل بنصف الليل والعمل بثلث الليل الآخر.

ص: 77

ولكني أعود فأُذكِّر بأنّ وقت صلاة الليل موسَّع، يبدأ عقب صلاة العشاء، وإنما أحببت فقط أن أنوِّه بوقت الفضيلة التامة، وأنها تتردد بين نصف الليل الثاني وثلث الليل الآخِر.

أما قوله سبحانه في سورة المُزَّمِّل {قُم الليْلَ إلا قَلِيْلاً. نِصْفَهُ أَو انْقُصْ مِنْهُ قَلِيْلاً. أو زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّل القُرْآنَ تَرْتِيْلاً} الآيات 2، 3، 4 من السورة. وقوله سبحانه في السورة نفسها {إنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُوْمُ أَدْنَىْ مِنْ ثُلُثَي الليْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِن الذِيْنَ مَعَكَ

} الآية 20 من السورة. فإن هذا القول وذاك ليس في موضوع وقت الفضيلة التامة، وإنما هو متعلق بقدر قيام الليل، فلا يتعارض هذا مع الأحاديث النبوية التي حدَّدت وقت الفضيلة التامة بنصف الليل الثاني، وبثلث الليل الآخِر، وإنما معنى ما جاء في كتاب الله سبحانه أن قيام الليل لمن شاء التطويل هو بقدر نصف الليل، وعندها يبدأ بالصلاة عند منتصف الليل، وهذا يشمل الثلث الآخر من الليل. ويكون بقدر ثلث الليل، وهذا ظاهر. ويكون بقدر ثلثي الليل، وعندها يبدأ بالصلاة عقب انصرام ثلث الليل الأول، ويستمر إلى آخر الليل، فيشمل هو الآخر ثلث الليل الآخِر. ومثله {أَوْ زِدْ عَلَيْهِ} فهو أيضاً يبدأ قبل منتصف الليل ويستمر حتى آخره فيدخل فيه ثلث الليل الآخِر. وهكذا فإن ثلث الليل الآخر يدخل في جميع أحواله صلى الله عليه وسلم، في الصلاة التي ذكرت في المزَّمِّل في الموضعين منها.

ص: 78

وهذا كله متعلق بحق من يقوم الليل وحده في بيته، أما إن كان قيام الليل جماعةً في مسجد، ويكون بصلاة التراويح، فلْيكن ذلك في أول الليل عقب صلاة العشاء، لأن هذا هو ما كان عليه حال صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد مرَّ في بحث [صلاة التراويح] ما رواه البخاري ومالك «فقال عمر: نعمت البدعة هذه، والتي ينامون عنها أفضل مِن التي يقومون، يعني آخر الليل، وكان الناس يقومون أوله» .

أمَّا كم ركعات قيام الليل؟ فما قلته في صلاة التراويح أُعيد قوله هنا وهو أن الشرع لم يحدد لها عدداً معيناً يُلْتَزَم به، ولكنَّ أفضل ما تُصلى به من الركعات ثمان تعقبها ثلاث ركعات من الوتر، لأن هذا العدد هو ما رُوي عنه من فعله صلى الله عليه وسلم، فصلاة التراويح هي قيام الليل، وإنما خُصّت بهذا الاسم في شهر رمضان دون غيره من أشهر السنة. وقد مرَّ في بحث [صلاة التراويح] حديث أبي سَلَمة بن عبد الرحمن «أنه سأل عائشة رضي الله عنها: كيف كانت صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم في رمضان؟ فقالت: ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يزيد في رمضان ولا في غيره على إحدى عشرة ركعة، يصلي أربعاً فلا تسل عن حُسنهن وطولهن، ثم يصلي أربعاً فلا تسل عن حُسنهن وطولهن، ثم يصلي ثلاثاً

» رواه البخاري ومسلم ومالك وأبو داود وابن خُزَيمة. وعن عائشة رضي الله عنها قالت «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي من الليل ثلاث عشرة ركعة، يوتر من ذلك بخمسٍ، لا يجلس في شئ إلا في آخرها» رواه مسلم. وعن عائشة رضي الله عنها قالت «كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي من الليل ثلاث عشرة ركعة، منها الوتر وركعتا الفجر» رواه البخاري. وعن ابن عباس رضي الله عنه قال «كانت صلاة النبي صلى الله عليه وسلم ثلاث عشرة ركعة، يعني بالليل» رواه البخاري وابن حِبَّان. وعن عائشة أُم المؤمنين رضي الله عنها وقد سألها أبو سلمة عن صلاة رسول الله -

ص: 79

صلى الله عليه وسلم - فقالت «كان يصلي ثلاث عشرة ركعة، يصلي ثمانَ ركعات ثم يوتر، ثم يصلي ركعتين وهو جالس، فإذا أراد أن يركع قام فركع، ثم يصلي ركعتين بين النداء والإقامة من صلاة الصبح» رواه مسلم. وعن عامر الشعبي قال «سألت عبد الله بن عباس وعبد الله بن عمر عن صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم بالليل فقالا: ثلاث عشرة ركعة منها ثمانٍ، ويوتر بثلاث، وركعتين بعد الفجر» رواه ابن ماجة.

فالرسول صلى الله عليه وسلم كان يصلي من الليل ثماني ركعات، ثم يصلي الوتر، فربما صلى الوتر ثلاثاً وهو الأشهر والأغلب، وربما صلاه خمساً، وربما صلاه أكثر من ذلك أو أقل. والذي يهمُّنا هنا هو صلاة الليل، ففي الحديث الأول جاء أنه صلى أربعاً وأربعاً، أي صلى ثماني ركعات عدا الثلاث التي هي صلاة الوتر هنا، وجاء في الحديث الثاني أنه صلى ثلاث عشرة ركعة يوتر من ذلك بخمس، أي أنه صلى هنا ثماني ركعات أيضاً، وجاء في الحديث الثالث أنه كان يصلي ثلاث عشرة ركعة منها الوتر وركعتا الفجر، أي أنه كان يصلي ثماني ركعات، ثم ثلاثاً الوتر، ثم ركعتين سنة الفجر، وجاء في الحديث الرابع أنه صلى ثلاث عشرة ركعة، هكذا مجملةً دون تفصيل، وهي روايةٌ عن ابن عباس، وجاء في الحديث السادس المروي عن ابن عباس وابن عمر تفصيل هذا المجمل «ثلاث عشرة ركعة منها ثمانٍ، ويوتر بثلاث، وركعتين بعد الفجر» . فهو أيضاً يدل على أنه صلى ثماني ركعات، وجاء في الحديث الخامس أنه كان يصلي ثماني ركعات ثم يوتر. وهكذا فإن جميع هذه الأحاديث تدل صراحة أو دلالة على أن صلاة الليل ثماني ركعات.

ص: 80

ولكن جاءت أحاديث أخرى أقلُّ عدداً تذكر عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه صلى أكثر من ذلك تارة، وأقل من ذلك تارة أخرى، فمثلاً روى عبد الله بن قيس بن مَخْرمة عن زيد بن خالد الجهني رضي الله عنه قال «لأرْمُقَنَّ صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فصلى ركعتين خفيفتين، ثم صلى ركعتين طويلتين طويلتين طويلتين، ثم صلى ركعتين وهما دون اللتين قبلهما، ثم صلى ركعتين وهما دون اللتين قبلهما، ثم صلى ركعتين وهما دون اللتين قبلهما، ثم صلى ركعتين وهما دون اللتين قبلهما، ثم أوتر، فذلك ثلاث عشرة ركعة» رواه مسلم ومالك وابن ماجة. فهذا الحديث ذكر عشر ركعات لصلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم عدا الوتر، والركعتين الخفيفتين في بدء صلاته، وروى البخاري مثل ذلك عن ابن عباس.

ص: 81

وفي المقابل روى مسروق «أنه دخل على عائشة فسألها عن صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم بالليل؟ فقالت: كان يصلي ثلاث عشرة ركعة من الليل، ثم إنه صلى إحدى عشرة ركعة ترك ركعتين، ثم قُبض صلى الله عليه وسلم حين قُبض وهو يصلي من الليل تسع ركعات، آخر صلاته من الليل والوتر ثم ربما جاء إلى فراشي هذا، فيأتيه بلال فيؤذنه بالصلاة» رواه ابن حِبَّان. فهنا تذكر عائشة رضي الله عنها أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد ترك ركعتين، أي أنه أنقص من عدد ركعات صلاة الليل ثِنتين، فلما عُلِم أنها أسهبت رضي الله عنها في نقل الركعات الثماني حين كانت تذكر مجمل صلاته ثلاث عشرة ركعة، عُلِم أنها إنما قصدت من قولها هذا «أنَّه صلى إحدى عشرة ركعة، ترك ركعتين» ، أنه صار يصلي في آخر عهده ست ركعات من صلاة الليل عدا الثلاث من الوتر، فيكون المجموع تسع ركعات كما جاء في الحديث. أما قولها إنه صلى إحدى عشرة ركعة فيُحمل على أنها أضافت ركعتي الفجر، أو الركعتين الخفيفتين، ولم تحتسبهما من صلاة الليل، فصار العدد كله إحدى عشرة ركعة. وربما كانت الزيادة منه صلى الله عليه وسلم مرة، والنقص منه مرة أخرى في عدد ركعات صلاة الليل لأجل بيان الجواز وعدم وجوب الاقتصار على ثماني ركعات. فصلاة الليل كصلاة التراويح ثماني ركعات مع جواز الزيادة عليها والنقص منها.

والسُّنة في قيام الليل أن تُفتتح الصلاة بركعتين خفيفتين كما جاء ذلك في الحديث المار أعلاه، حديثِ زيد بن خالد الجهني «فصلى ركعتين خفيفتين» . وكذلك روى أبو هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال «إذا قام أحدكم من الليل فليفتتح صلاته بركعتين خفيفتين» رواه مسلم وأحمد. وعن عائشة رضي الله عنها قالت «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قام من الليل ليصلي افتتح صلاته بركعتين خفيفتين» رواه مسلم والبخاري وأحمد وأبو داود.

ص: 82

ومن السُّنَّة كذلك أن يقوم المرء بتنظيف أسنانه بالسواك أو بالفرشاة قبل الدخول في الصلاة، فقد روى حذيفة رضي الله عنه «أن النبي صلى الله عليه وسلم إذا قام للتهجُّد من الليل يَشُوص فاه بالسِّواك» رواه البخاري ومسلم والنَّسائي وابن حِبَّان.

ومن السُّنة أيضاً أن يدعو المسلم بما تيسر له من أدعية مأثورة قبل القيام بالصلاة. وقد اخترت لكم هذا الدعاء والذكر الذي رواه ابن عباس رضي الله عنه قال «كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا قام من الليل يتهجَّد قال: اللهم لك الحمد، أنت قَيِّم السموات والأرض ومَن فيهن، ولك الحمد، لك مُلْكُ السموات والأرض ومَن فيهن، ولك الحمد أنت نور السموات والأرض ومَن فيهن، ولك الحمد أنت مَلِكُ السموات والأرض، ولك الحمد أنت الحقُّ ووعدُك الحقُّ ولقاؤُك حقٌّ وقولُك حقٌّ، والجنة حق والنار حق، والنبيون حق، ومحمد صلى الله عليه وسلم حق، والساعة حق، اللهم لك أسلمتُ وبك آمنت، وعليك توكلت وإليك أنبت، وبك خاصمت وإليك حاكمت، فاغفر لي ما قدَّمتُ وما أخَّرتُ، وما أسررتُ وما أعلنتُ، أنت المقدِّم وأنت المؤخِّر، لا إله إلا أنت - أو - لا إله غيرك» رواه البخاري. ورواه أحمد وأبو داود والنَّسائي والترمذي باختلاف في الألفاظ.

ولمن شاء دعاءً أخفَّ وأسهل في الحفظ، فلْيقل ما رواه عُبادة بن الصامت رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال «من تعارَّ من الليل فقال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شئ قدير، الحمد لله وسبحان الله ولا إله إلا الله والله أكبر ولا حول ولا قوة إلا بالله، ثم قال: اللهم اغفر لي، أو دعا استُجيب له، فإن توضأ قُبلت صلاته» رواه البخاري وابن حِبَّان. ورواه ابن ماجة بزيادة [العليِّ العظيم] لتصبح «ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم» .

ص: 83

ويجوز في صلاة الليل الجهر كما يجوز الإسرار، ويجوز رفع الصوت كما يجوز الخفض، هذا إن كان المسلم يصلي منفرداً دون أن يصلي إلى جواره أحد، فإن صلى في مسجد أو مكان فيه آخرون يصلون، فلْيخفض صوته كي لا يشوِّش على مَن عنده من المصلين فعن عبد الله بن أبي قيس قال «سألت عائشة

كيف كانت قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم من الليل أيجهر أم يُسِرُّ؟ قالت: كلَّ ذلك قد كان يفعل، وربما جهر وربما أسرَّ» رواه أحمد والترمذي وأبو داود والنَّسائي وابن ماجة. وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال «كانت قراءة النبي صلى الله عليه وسلم بالليل يرفع طوراً ويخفض طوراً» رواه أبو داود. ورواه ابن ماجة قريباً من ذلك، وعن أبي سعيد رضي الله عنه قال «اعتكف رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد، فسمعهم يجهرون بالقراءة، فكشف الستر وقال: ألا إنَّ كلَّكم مناجٍ ربه فلا يُؤذيَنَّ بعضُكم بعضاً، ولا يرفع بعضكم على بعضٍ في القراءة، أو قال، في الصلاة» رواه أبو داود وابن خُزَيمة.

ص: 84

وكما تُقضى السنن الرواتب فإن من واظب على قيام الليل فأخذته نَوْمة، أو مَرِضَ من ليلته، أو شُغل عنه قضاه في نهاره المقبل، وقضاه ما بين صلاة الفجر وصلاة الظهر، فقد روى سعد بن هشام عن عائشة رضي الله عنها «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا فاتته الصلاة من الليل من وجع أو غيره صلى من النهار ثِنتي عشرة ركعة» رواه مسلم والنَّسائي. وفي رواية أخرى عند مسلم من طريق سعد بن هشام عن عائشة رضي الله عنها قالت «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا عمل عملاً أثبته، وكان إذا نام من الليل أو مرض صلى من النهار ثِنْتَي عشرة ركعة

» . وعن عمر ابن الخطاب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «من نام عن حزبه أو عن شئ منه فقرأه فيما بين صلاة الفجر وصلاة الظهر كُتب له كأنما قرأه من الليل» رواه مسلم والنَّسائي وابن ماجة وأبو داود وابن خُزَيمة.

ص: 85