الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وأخيراً أقول إن كثيراً من الناس يعمدون بعد الاستخارة إلى النوم وينتظرون أن يريهم الله سبحانه مناماً فيه الجواب على استخاراتهم، لذا فهم يؤخِّرون صلاة الاستخارة إلى ما بعد صلاة العشاء، وقبل أن يناموا يُصلُّون صلاة الاستخارة، ثم ينامون منتطرين من الله سبحانه أن يُريهم في منامهم ما استخاروه فيه، فهذه الكيفية ـ وتسمى التبييت ـ لا أصل لها في الشرع، فالأفضل ترك التبييت في الاستخارة، والوقوف عند ما دلت عليه النصوص.
ل. سجدة التلاوة
في القرآن الكريم عدد من المواضع إذا مرَّ بها القارئ استُحبَّ له أن يسجد لله سبحانه سجدة واحدة هي سجدة التلاوة، أو سجود التلاوة. فقد حث الشرع على السجود عند المرور بهذه المواضع، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إذا قرأ ابن آدم السجدة فسجد اعتزل الشيطان يبكي يقول: يا ويله أُمِر بالسجود فسجد فله الجنة، وأُمرت بالسجود فعصيت فلي النار» رواه أحمد ومسلم وابن ماجة وابن حِبَّان والبيهقي. قوله السجدة: يعني الآية التي فيها سجدة.
أما أن حكم هذه السجدة الندب وليس الوجوب فلأنه عليه الصلاة والسلام سجد مرات، وترك السجود مرات أخرى مما يجعل الأمر بالسجود محمولاً على الندب وليس على الوجوب، فعن أبي هريرة رضي الله عنه «أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ النجم فسجد وسجد الناس معه إلا رجلين أرادا الشهرة» رواه أحمد والطبراني وابن أبي شيبة. وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال «قرأ النبي صلى الله عليه وسلم النجم بمكة فسجد فيها، وسجد من معه غيرَ شيخٍ أخذ كفَّاً من حصى أو تراب، فرفعه إلى جبهته وقال: يكفيني هذا، فرأيته بعد ذلك قُتل كافراً» رواه البخاري ومسلم وأحمد والنَّسائي وأبو داود. وقد قيل إن الشيخ المذكور في هذا الحديث هو أمية بن خلف. وعن عطاء بن يسار أنه «سأل زيد بن ثابت رضي الله عنه، فزعم أنه قرأ على النبي صلى الله عليه وسلم والنجم فلم يسجد فيها» رواه البخاري ومسلم وأحمد والنَّسائي وأبو داود.
وكذلك كان صحابته رضوان الله عليهم يفعلون، فقد كانوا يسجدون مرة، ولا يسجدون مرة أخرى، فعن ربيعة بن عبد الله «أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قرأ يوم الجمعة على المنبر بسورة النحل، حتى إذا جاء السجدة نزل فسجد وسجد الناس، حتى إذا كانت الجمعة القابلة قرأ بها، حتى إذا جاءت السجدة قال: يا أيها الناس إنَّا نمرُّ بالسجود، فمن سجد فقد أصاب، ومن لم يسجد فلا إثم عليه، ولم يسجد عمر رضي الله عنه» . وفي رواية أخرى عن ابن عمر قوله - «إن الله لم يفرض السجود إلا أن نشاء» رواه البخاري والبيهقي.
أما المواضع التي يُستحب عندها السجود، فهناك مواضع متفق عليها، وهناك مواضع مختلف عليها. أما المواضع المتفق عليها فهي في السور التالية: الأعراف، الرعد، النحل، الإسراء، مريم، الحج، الفرقان، النمل، ألم تنزيل، وحم السجدة، وعددها عشر. وأما المواضع المختلف عليها فهي في السور التالية: السجدة الثانية في سورة الحج فقد أثبتها أحمد والشافعي، سورة ص فقد أثبتها أبو حنيفة وأحمد ومالك، سور المُفَصَّل الثلاث: النجم والانشقاق والعلق، فقد أثبتها أبو حنيفة والشافعي وأحمد، ونعني بالمُفَصَّل ما يبدأ بسورة الحُجُرات وينتهي بسورة الناس، ومجموع هذه السجدات خمسٌ، فيكون مجموع السجدات المتفق عليها والمختلف عليها خمس عشرة سجدة لم يثبتها كلها إلا الإمام أحمد.
والذي أراه وأذهب إليه هو أن جميع السجدات الخمس عشرة يُسن فيها السجود ويُستحب، باستثناء سجدة (ص) ، فإني أرى أن السجود فيها على الإباحة والتخيير، فمن شاء سجد بها ومن شاء تركها. قال ابن عباس رضي الله عنه «ص ليست من عزائم السجود، وقد رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يسجد فيها» رواه البخاري وأحمد وأبو داود والدارمي والترمذي. فقوله رضي الله عنه «ص ليست من عزائم السجود» واضح الدلالة. وعن أبي سعيد الخُدري قال «قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على المنبر ص، فلما بلغ السجدة نزل فسجد وسجد الناس معه، فلما كان يومٌ آخر قرأها، فلما بلغ السجدة تَشَزَّن الناسُ للسجود، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إنما هي توبة نبي، ولكني رأيتكم تشزَّنتم للسجود، فنزل فسجد وسجدوا» رواه أبو داود والدارمي وابن حِبَّان والحاكم والدارقطني. قوله تَشَزَّنَ الناسُ: أي تهيأوا.فقد وصفها صلى الله عليه وسلم بأنها توبة نبي - يعني نبي الله داود عليه السلام ولولا أنه رأى تهيؤ الناس للسجود لما سجد، ووقع في روايةٍ للنَّسائي من طريق ابن عباس رضي الله عنه «أن النبي صلى الله عليه وسلم سجد في ص وقال: سجدها داود توبة ونسجدها شكراً» . فمن شاء سجد في (ص) ، ومن شاء تركها.
أما سجدة الحج الثانية فهي ثابتة فلا ينبغي إسقاطها، إذ وردت فيها آثار كثيرة عن صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد روى ابن أبي شيبة من طريق ابن عمر رضي الله عنه عن عمر رضي الله عنه «أنه سجد في الحج سجدتين ثم قال: إن هذه السورة فُضِّلت على سائر السور بسجدتين» . وروى مالك مثل هذا الأثر. وروى ابن أبي شيبة أيضاً عن ابن عباس رضي الله عنه قال «في سورة الحج سجدتان» . وروى عبد الرزاق من طريق عبد الله بن دينار قال «رأيت ابن عمر يسجد في الحج سجدتين» . كما رُويت آثارٌ أخرى عن عدد من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم أنهم كانوا يسجدون في سورة الحج سجدتين.
وهذه النصوص وإنْ كانت آثاراً إلا أنها تدلُّ على المطلوب، لأن مثل هذه الأُمور لا يفعلها صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم من عند أنفسهم.
وأما سَجَدات المُفَصَّل الثلاث - النجم والانشقاق والعلق - فقد استدل ناس على عدم السجود فيها بأحاديث، منها ما رُوي عن ابن عباس رضي الله عنه «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يسجد في شئ من المُفَصَّل منذ تحوَّل إلى المدينة» رواه أبو داود. وما روي عن زيد بن ثابت رضي الله عنه قال «قرأت على النبي صلى الله عليه وسلم النجم فلم يسجد» رواه أحمد والبخاري ومسلم وأبو داود والترمذي. فنقول لهؤلاء أما الحديث الأول ففي إسناده أبو قُدامة واسمه الحارث بن عبيد، قال عنه أحمد: مضطرب الحديث. وقال عنه أبو حاتم: لا يُحتجُّ به. وهذا الحديث ضعفه يحيى بن معين والنووي، فهو غير صالح للاحتجاج. أما الحديث الثاني فإن عدم سجود رسول الله صلى الله عليه وسلم عند قراءة موضع سجدة لا يعني أن الموضع ليس موضع سجدة، إذ يحتمل أن يكون امتناعه عن السجود لبيان عدم الوجوب فحسب، فإذا علمنا أن هناك عدداً من الأحاديث تذكر سجوده صلى الله عليه وسلم عند هذا الموضع، أدركنا فعلاً أن امتناعه عن السجود إنما كان لبيان عدم الوجوب. فقد مرَّ قبل قليل حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عند البخاري وغيره وفيه «قرأ النبي صلى الله عليه وسلم النجم بمكة، فسجد فيها وسجد من معه
…
» . ومرَّ حديث أبي هريرة رضي الله عنه وفيه «أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ النجم فسجد، وسجد الناس معه
…
» رواه أحمد وغيره. فامتناعه صلى الله عليه وسلم عن السجود مرة عند قراءة النجم يُحمل على أنه أراد بيان عدم الوجوب، ولا يدل على أن هذه السورة ليس فيها سجود.
وأما سجدتا الانشقاق والعلق فقد وردت فيهما أحاديث تثبتهما، منها: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال «سجدنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في - إذا السماء انشقَّت، واقرأ باسم ربك -» رواه مسلم وأحمد وأبو داود والترمذي والنَّسائي. وعن أبي رافع قال «صليت مع أبي هريرة العَتَمَة فقرأ - إذا السماء انشقَّت - فسجد، فقلت: ما هذه؟ قال: سجدت بها خلف أبي القاسم صلى الله عليه وسلم، فلا أزال أسجد بها حتى ألقاه» رواه البخاري ومسلم وأحمد وأبو داود والنَّسائي. وقد مرَّ في بحث [قراءة القرآن في الصلوات الخمس] فصل [صفة الصلاة] . فالمستحب السجود عند هذه المواضع الأربع عشرة، ولا بأس بالسجود عند سجدة ص.
وكما أن السجود للقارئ مستحبٌّ، فكذلك السجود لمن حضر التلاوة من سامع ومستمع مُستحبٌ أيضاً، ولكنَّ سجود السامع والمستمع رهنٌ بسجود القارئ، فإن لم يسجد القارئ لم يسجد مَن عنده، فالقارئ إمامُ من حضر التلاوة، وبدون الإمام هذا لا سجود للحاضرين، فقد مرت الأحاديث «أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ النجم فسجد، وسجد الناس معه
…
» . «قرأ النبي صلى الله عليه وسلم النجم بمكة فسجد فيها، وسجد من معه
…
» . «أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قرأ يوم الجمعة على المنبر بسورة النحل، حتى إذا جاء السجدة نزل فسجد وسجد الناس
…
» . «قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على المنبر ص فلما بلغ السجدة نزل فسجد، وسجد الناس معه
…
» . «سجدنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في - إذا السماء انشقَّت، واقرأ باسم ربك -» . «سجدتُ بها خلف أبي القاسم صلى الله عليه وسلم» . فهذا في السجود خلف القارئ إن هو سجد.
أما الدليل على أن الحاضرين لا يسجدون إن لم يسجد القارئ فما روى زيد بن أسلم «أن غلاماً قرأ عند النبي صلى الله عليه وسلم السجدة، فانتظر الغلامُ النبيَ صلى الله عليه وسلم أن يسجد، فلما لم يسجد قال: يا رسول الله أليس في هذه السورة سجدة؟ قال: بلى ولكنك كنت إمامَنا فيها، فلو سجدتَ لسجدنا» رواه ابن أبي شيبة وعبد الرزاق. ورواه البيهقي والشافعي من طريق عطاء بن يسار. وهذا الحديث وإن كان مرسلاً، فإنه يصلح للاستدلال، لأن سقوط اسم الصحابي لا يضعف الحديث، فالصحابة كلهم عدول.
ويستحب سجود التلاوة في الصلاة كاستحبابه خارجها، ويُستحب في صلاة الفريضة والنافلة على السواء، فقد مرَّ حديث أبي رافع قبل قليل عند البخاري وغيره وفيه «صليت مع أبي هريرة العَتَمَةَ فقرأ - إذا السماء انشقَّت - فسجد
…
» . والعَتَمَة هي صلاة العشاء.
أما صفة سجدة التلاوة فكالتالي: يكبر ويسجد ويقول [سبحان ربي الأعلى] ثلاثاً، ويضيف إن شاء ما يلي [سجد وجهي للذي خلقه وصوَّره وشقَّ سمعَه وبصرَه بحوله وقوته فتبارك الله أحسن الخالقين] ويضيف إن شاء [اللهم احْطُطْ عني بها وِزْراً، واكتب لي بها أجراً، واجعلها لي عندك ذُخْراً، وتقبَّلْها مني كما تقبَّلْتَها من عبدك داود] . ويمكنه أن يكرر هذين الدعاءين ثلاثاً، ثم يرفع ويسلِّم عن يمينه وعن يساره ولا يتشهد.
أما عن التكبير فقد روى نافع عن ابن عمر قال «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ علينا القرآن، فإذا مرَّ بالسجدة كبَّر وسجد وسجدنا» رواه أبو داود والبيهقي وعبد الرزاق. وعن عبد الله ابن مسلم قال «كان أُبيٌّ إذا قرأ السجدة قال الله أكبر ثم سجد» رواه ابن أبي شيبة. ولم يُرو عن صحابي أنه ترك التكبير أو أمر بتركه عند سجود التلاوة.
أما عن تسبيحة [سبحان ربي الأعلى] فقد مرت ثلاثة أحاديث في ذلك، أعني ذكر [سبحان ربي الأعلى] في السجود هي:
أ - عن عقبة بن عامر رضي الله عنه قال «
…
فلما نزلت سبح اسم ربك الأعلى قال: اجعلوها في سجودكم» رواه أحمد وابن ماجة وابن حِبَّان.
ب - عن أبي بَكْرة رضي الله عنه «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يسبح في ركوعه سبحان ربي العظيم، ثلاثاً، وفي سجوده سبحان ربي الأعلى» رواه البزَّار.
ج - عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه «
…
وإذا سجد قال سبحان ربي الأعلى، ثلاث مرات» رواه ابن ماجة. وتجدونها كاملة في بحث [الركوع وهيئته والذِّكر فيه] فصل [صفة الصلاة] . وحيث أن سجدة التلاوة هي سجود، فإنَّ السُّنَّة أن يقال فيها [سبحان ربي الأعلى] ثلاثاً.
أما عن الذكر الثاني [سجد وجهي
…
] إلخ، فقد ورد فيه عن عائشة رضي الله عنها قالت «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في سجود القرآن: سجد وجهي للذي خلقه وشقَّ سمعه وبصره بحوله وقوته» رواه أحمد وأبو داود والنَّسائي. ورواه الترمذي والحاكم وزادا «فتبارك الله أحسن الخالقين» . كما رواه البيهقي وابن أبي شيبة وزادا «وصوَّره» بعد قوله «خَلَقَه» . ورواه ابن السكن وقال في آخره «ثلاثاً» .
وأما عن الذكر الثالث، فقد ورد فيه عن ابن عباس رضي الله عنه قال «كنت عند النبي صلى الله عليه وسلم، فأتاه رجل فقال: إني رأيت البارحة فيما يرى النائم كأني أُصلي إلى أصل شجرة، فقرأت السجدة فسجدت، فسجدت الشجرة لسجودي، فسمعتها تقول: اللهم احْطُطْ عني بها وِزْراً، واكتب لي بها أجراً، واجعلها لي عندك ذخراً، قال ابن عباس: فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم قرأ السجدة فسجد، فسمعته يقول في سجوده مثل الذي أخبره الرجل عن قول الشجرة» رواه ابن ماجة. ورواه الترمذي وابن حِبَّان وزادا «وتقبلها مني كما تقبَّلتَها من عبدك داود» .