الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
والفرق بين الأمر بالقضاء وبين السكوت عن القضاء أن الأمر بالقضاء يجعله من السُّنَّة، في حين أن السكوت عن فعل القضاء يجعله في دائرة التخيير. وهذا المعنى يتضمنه الحديث الذي رواه البخاري وأبو داود من طريق عبد الله المُزَني رضي الله عنه، وجاء فيه «صلوا قبل صلاة المغرب قال في الثالثة: لمن شاء، كراهية أن يتخذها الناس سُنَّة» . وقد مر في بحث [السنن الملحقة بالسنن الراتبة المؤكدة] في هذا الفصل. فلو بقي أمره عليه الصلاة والسلام «صلوا قبل صلاة المغرب» دون قوله «لمن شاء» لاعتُبرت الركعتان قبل صلاة المغرب من السُّنة، ولثابر المسلمون عليهما، فلما قال «لمن شاء» فقد انتفت عن الركعتين السُّنِّيَّةُ ودخلتا في دائرة التخيير، فكذلك قضاء هاتين الركعتين بعد صلاة العصر، فهو في دائرة التخيير وليس في دائرة السُّنة، فمن شاء صلاهما ومن شاء تركهما، ويُستثنى من قضاء السنن سُنَّةُ الفجر فقط، فهي داخلة في دائرة السُّنِّيَّة وليس في دائرة التخيير. فركعتا الفجر من السُّنَّة قضاؤهما، لأن أمره عليه الصلاة والسلام قد تعلق به بقوله «من نسي ركعتي الفجر فَلْيُصلِّهما إذا طلعت الشمس» . فقد صدر في قضاء ركعتي الفجر أمرٌ نبوي فصار من السُّنَّة، وهذا لم يحصل في قضاء أية سُنة أخرى من السنن الراتبة والملحقة بها، فلْيحرص المسلمون على ركعتي الفجر، ولْيصلوهما في وقتهما قبل صلاة الفجر، أو بعد صلاة الفجر إن هما فاتتا.
صلاة الرواتب في السفر
إن القاعدة التي وضعناها للتفريق بين السنن الراتبة والسنن الملحقة بها هي أن السنن الراتبة هي تلك التي لم يُصلِّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أقل منها ولم يتركها بحال مطلقاً، فهذان شرطان يتوجب وجودهما في السنن الراتبة، فإن نقص أحدهما أو زالا معاً لم تعُد سُنناً راتبة، وعندها يمكن اعتبارها سنناً ملحقة بالسنن الراتبة، وهذه القاعدة تصلح في الحضر كما تصلح في السفر. وباستعراض النصوص المتعلقة بصلاة التطوع في السفر نجد أن هذين الشرطين لم يتوفرا معاً في أية سُنَّة من سنن الصلوات المكتوبات، فقد جاءت النصوص بترك جميع السنن الراتبة في السفر أحياناً إن لم نقل غالباً، فهذا الترك للسنن الراتبة في السفر ولو مرة واحدة يخرجها عن كونها سُنناً راتبة في السفر، إذ لو كانت سُنَناً راتبة فيه لأُتيَ بها فيه بشكل دائم. وعلى هذا فإنا نقول إن الشرع الحنيف لم يسنَّ أية سُنة راتبة في السفر مطلقاً، وإنما شرع للمسلمين أن يصلوا صلاة تطوُّعٍ مطلق غير مقيد، لا يصح أن يقال عنها إنها من السنن الراتبة، فعن عيسى بن حفص بن عاصم عن أبيه قال «خرجنا مع ابن عمر فصلينا الفريضة، فرأى بعض ولده يتطوع فقال ابن عمر: صليتُ مع النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر وعثمان في السفر فلم يصلوا قبلها ولا بعدها، قال ابن عمر: ولو تطوَّعتُ لأتممت» رواه أحمد والبخاري ومسلم وأبو داود والنَّسائي. وفي رواية عند أحمد بلفظ «صحبتُ النبي صلى الله عليه وسلم حتى قبض، فكان لا يزيد على ركعتين، وأبا بكر رضي الله عنه حتى قبض، فكان لا يزيد عليها» . فهذا نص قطعي الدلالة على أن الرسول صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر وعثمان لم يصلوا في السفر السنن الراتبة ولا الملحقة بها، وهذا يعني أنه لا توجد سنن راتبة في السفر، لأنه كما قلنا لا تُترك السُّنن الراتبة لأن شرطها الدوام.
ولقد عجبتُ ممن يقول بالسنن الراتبة في السفر استدلالاً بالأحاديث التالية:
أ - عن ابن عمر رضي الله عنه قال «صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحضر والسفر، فصلى الظهر في الحضر أربعاً وبعدها ركعتين، وصلى العصر أربعاً وليس بعدها شئ، وصلى المغرب ثلاثاً وبعدها ركعتين، وصلى العشاء أربعاً، وصلى في السفر الظهر ركعتين وبعدها ركعتين، والعصر ركعتين وليس بعدها شئ، والمغرب ثلاثاً وبعدها ركعتين، والعشاء ركعتين وبعدها ركعتين» رواه أحمد والترمذي.
ب - عن ابن عباس رضي الله عنه قال «فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الحضر والسفر، فكما تصلِّي في الحضر قبلها وبعدها فصلِّ في السفر قبلها وبعدها» رواه أحمد والبيهقي.
ج - عن البراء بن عازب رضي الله عنه قال «سافرت مع النبي صلى الله عليه وسلم ثمانية عشر سفراً، فلم أره ترك الركعتين قبل الظهر» رواه أحمد.
فأقول لهؤلاء: أمَّا الحديث الأول فهو مرويٌّ عن ابن عمر، ولقد روى ابن عمر الحديث السابق الصحيح الذي يقول فيه «.. فلم يُصلُّوا قبلها ولا بعدها..» فهما متعارضان، ومع التعارض فإن الحديث الصحيح السابق يُرَجَّح على الحديث هذا، فيُعمل بالأول ويُترك الثاني. هذا أولاً. وثانياً فإن هذا الحديث عندما تحدث عن صلاة الحضر وأتى على ذكر السنن الراتبة ذكر للظهر ركعتين بعديتين فقط ولم يذكر للظهر سُنَّة قبلية، وهذا مخالف لجميع الأحاديث في هذا الموضوع، فدل ذلك على ضعف الحديث متناً وشذوذه، فيطرح ويعمل بالحديث الصحيح السابق. وثالثاً رُبَّ قائلٍ يقول إن هذا الحديث لا يتعارض مع الحديث السابق وإن الجمع بينهما ممكن، وذلك أن الحديث الأول يفيد غالب الأحوال، وأن الحديث الثاني يفيد أحوالاً أخرى لبيان الجواز كما يقولون، بمعنى أن غالب أحواله عليه الصلاة والسلام عدم صلاة هذه الركعات في السفر، وأنه فعلها أحياناً لبيان الجواز، فأقول إن هذا القول لا يصحُّ، إذ لا يصح أن توصف هذه الركعات بأنها سنن راتبة مع الاعتراف بأنه عليه الصلاة والسلام قد فعلها أحياناً وتركها أحياناً أُخرى. فكيف تبقى سنناً راتبة عندئذ؟ أما الحديث الثاني فهو حديث ضعيف لا يصلح للاستدلال، فقد ضعَّفه ابن القطَّان، كما ضعَّفه أحمد راوي هذا الحديث فهو إذن لا يسعفهم. وأما الحديث الثالث فإنه لا يدل على وجود سنة راتبة مؤكدة قبلية لصلاة الظهر في السفر، فقد روى الترمذي وأبو داود هذا الحديث بلفظ «صحبت رسول الله صلى الله عليه وسلم ثمانية عشر سفراً، فما رأيته ترك الركعتين إذا زاغت الشمس قبل الظهر» . فهاتان الركعتان ليستا هما السُّنة الراتبة للظهر كما يتوهمون، وإنما هما ركعتان تُصليان عندما تزيغ الشمس قبل موعد صلاة الظهر، فهما من النوافل.