الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
2 -
إن البخاري ذكر الحديث تحت عنوان [باب صلاة الضحى في السفر] ، وهذا يعني أن البخاري قد فهم من الحديث، أو قل قد علم أنَّ ابن عمر حين نفى صلاة الضحى إنما نفاها في حالة السفر وليس بشكل مطلق، ولا بدَّ من أنَّ البخاري قد استند في وضع الحديث في باب السفر إلى أَمرٍ ثبت عنده، وهو المشهود له بالدقة البالغة في رواية الأحاديث.
3 -
إن ابن عمر نفسه قد رُوي عنه ما يعارض هذا الحديث إن هو اعتُبر نافياً لمطلق الصلاة في السفر والحضر، فعن نافع «أن ابن عمر رضي الله عنهما كان لا يصلي من الضحى إلا في يومين، يوم يقدَم مكة فإنه كان يقدَمها ضحى،
…
ويوم يأتي مسجد قُباء
…
» رواه البخاري. وإذن فإن الروايات المنقولة عن ابن عمر جاءت متعارضة هي الأخرى.
وبذلك يترجح لدينا الرأي القائل بمشروعية صلاة الضحى للروايات العديدة الصحيحة التي تثبتها. إذ الصحيح الثابت أن صلاة الضحى مشروعة ومندوبة، ولكنها ليست من السنن الراتبة التي حافظ عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي الضحى حتى نقول لا يدعها، ويدعها حتى نقول لا يصليها» رواه أحمد والترمذي.
ح. صلاة الكسوف
وهي الصلاة المسنونة المشروعة عند حصول كسوفٍ للشمس أو للقمر. والكسوف يطلق على ذهاب الضوء، وعلى الاسوداد. وكما يطلق الكسوف على اسوداد الشمس فإنه يطلق كذلك على اسوداد القمر، وإن شئنا التمييز بينهما قلنا كسوف الشمس وخسوف القمر، وكلاهما جائز لغة وشرعاً.
أما وقت صلاة الكسوف فيبدأ عند بدء كسوف الشمس ويستمر إلى أن ينجلي الكسوف ويذهب، ويعود ضوء الشمس كاملاً، كما أنه يبدأ عند بدء خسوف القمر، ويستمر إلى أن ينجلي الخسوف ويذهب، ويعود نور القمر كاملاً. وصلاة الكسوف كصلاة الخسوف تماماً تُؤدَّى عند ذهاب ضوء الشمس أو ذهاب نور القمر كلياً أو جزئياً دون اعتبارٍ لأوقات النهي، فلو حصل كسوف الشمس عقب صلاة العصر فإن صلاة الكسوف تُؤدَّى عندئذ دون كراهة على الرأي الصحيح، لأن هذا الوقت هو وقتها.
والأصل في صلاة الكسوف أن تستغرق كامل وقتها، فيبدأ المسلم بالصلاة مع بدء الكسوف وينتهي منها مع انتهائه، فعن المغيرة بن شعبة قال «كَسَفَت الشمسُ على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم مات إبراهيم فقال الناس: كسفت الشمس لموت إبراهيم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الشمس والقمر لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته، فإذا رأيتم فصلُّوا وادعوا الله» رواه البخاري وأحمد والبيهقي وابن خُزَيمة والبزَّار. ورواه مسلم وجاء فيه «
…
فإذا رأيتموهما فادعوا الله وصلوا حتى ينكشف» . وعن أبي بَكْرة قال «خَسَفَت الشمسُ على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فخرج يجرُّ رداءه حتى انتهى إلى المسجد وثاب الناس إليه، فصلى بهم ركعتين، فانجلت الشمس فقال: إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله، وإنهما لا يخسفان لموت أحد، وإذا كان ذلك فصلوا وادعوا حتى ينكشف ما بكم، وذلك أن ابناً للنبي صلى الله عليه وسلم مات يقال له إبراهيم، فقال الناس في ذلك» رواه البخاري وابن حِبَّان وأحمد والنَّسائي. قوله في الحديث الأول: فإذا رأيتموهما فادعوا الله وصلوا حتى ينكشف، وقوله في الحديث الثاني: إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله وإنهما لا يخسفان لموت أحد، وإذا كان ذلك فصلوا وادعوا حتى ينكشف ما بكم: يدلان على جملة أحكام منها:
أ - إن صلاة الكسوف هي صلاة الخسوف نفسها.
ب - إن البدء في الصلاة يكون عند بدء الكسوف أو الخسوف.
ج - إن الصلاة تستغرق كامل وقتها، بمعنى أن يبدأ في الصلاة عند بدء الكسوف ويستمر بها إلى انكشافه وذهابه مهما طال زمنه، سواء استمر ساعة أو أكثر أو أقل.
وأُلفت النظر هنا إلى أن صلاة الكسوف لا ينبغي أن تُشغل عن الصلاة المكتوبة، فإما أن تُصلَّى المكتوبة أولاً - ويكون ذلك إن كان وقتها قد ضاق - ثم تُصلَّى صلاة الكسوف، وإما أن تُصلَّى صلاة الكسوف أولاً ويُفرغ منها قبل انتهاء وقت المكتوبة لتبقى للمكتوبة فترة كافية.
ويُسن أداء هذه الصلاة جماعةً في المساجد، ولا يُؤذَّن لها ولا يُقام، وإنما يُكتفى بدعوة المصلين بالقول [الصلاةُ جامعة] فعن أبي بَكرة قال «كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فانكسفت الشمس، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم يجر رداءه حتى دخل المسجد، فصلى بنا ركعتين حتى انجلت الشمس، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الشمس والقمر لا ينكسفان لموت أحد، فإذا رأيتموها فصلوا وادعوا حتى ينكشف ما بكم» رواه البخاري وغيره. فهذا دليل على مشروعية صلاة الكسوف جماعةً في المساجد. وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه قال «لما كَسَفَت الشمسُ على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم نودي: إن الصلاة جامعة، فركع النبي صلى الله عليه وسلم ركعتين في سجدة، ثم قام فركع ركعتين في سجدة ثم جلس، ثم جُلِّي عن الشمس، قال، وقالت عائشة رضي الله عنها: ما سجدت سجوداً قطُّ كان أطول منها» رواه البخاري ومسلم وابن خُزَيمة والنَّسائي. وعن عائشة رضي الله عنها «أن الشمس خَسَفَت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبعث منادياً: الصلاةُ جامعةٌ، فاجتمعوا وتقدَّم فكبَّر، وصلَّى أربع ركعات في ركعتين وأربع سجدات» رواه مسلم. فهذان دليلان على أن النداء لصلاة الكسوف إنما يكون بالقول [الصلاةُ جامعة] .
ومن المندوب في حالة حصول الكسوف أو الخسوف عدا الصلاة الإكثارُ من الدعاء والتصدُّق، خاصة إن فرغ المصلُّون من صلاتهم والكسوفُ أو الخسوفُ لا زالت منهما بقية، فيمكن إشغال بقية الوقت بذكر الله ودعائه. وبمعنى آخر أقول إذا حصل الكسوف صلى المسلمون صلاة طويلة محاولين أن يقضوا كامل وقت الكسوف بالصلاة، فإن هم أتموا صلاتهم قبل انقضاء الكسوف أمضَوا ما تبقى من وقت الكسوف بالدعاء والذكر. أما إن انتهى الكسوف وهم في الصلاة أتمُّوها خفيفة، فقد مرَّ حديث المغيرة بن شعبة عند البخاري وغيره قبل قليل وفيه «فإذا رأيتم فصلوا وادعوا الله» . ومثله حديث أبي بَكْرة عند البخاري وغيره المار قبل قليل وفيه «وإذا كان ذلك فصلوا وادعوا حتى ينكشف ما بكم» . وعن أبي موسى رضي الله عنه قال «خَسَفت الشمس فقام النبي صلى الله عليه وسلم فَزِعاً يخشى أن تكون الساعة، فأتى المسجد فصلَّى بأطول قيام وركوع وسجود رأيته قط يفعله، وقال: هذه الآيات التي يرسل الله لا تكون لموت أحد ولا لحياته، ولكن يخوِّف الله بها عباده، فإذا رأيتم شيئاً من ذلك فافزعوا إلى ذكر الله ودعائه واستغفاره» رواه البخاري وابن حِبَّان. وعن عائشة رضي الله عنها قالت «خَسَفَت الشمسُ في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم - فذكرت الحديث إلى أن قالت - فخطب الناس فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا ينخسفان لموت أحد ولا لحياته، فإذا رأيتم ذلك فادعوا الله وكبِّروا، وصلُّوا وتصدقوا
…
» رواه البخاري ومسلم وأحمد ومالك والنَّسائي. وعن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما قالت «خَسَفَت الشمسُ على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم - فذكرت الحديث إلى أن قالت - ثم رَقِيَ المنبر فقال: أيها الناس إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا يَخْسَفان لموت أحد ولا لحياته، فإذا رأيتم ذلك فافزعوا إلى الصلاة وإلى الصدقة وإلى ذِكر الله
…
» رواه أحمد.
أما صفة صلاة الكسوف فهي ركعتان اثنتان، كل ركعة منها بركوعين اثنين، وما سوى ذلك فرأي مرجوح، وتُؤدَّى كالتالي: يُحْرِم الإمام بالتكبير، ويقرأ الفاتحة جهراً وسورة طويلة، ثم يركع ركوعاً طويلاً قريباً من القيام، ثم يقوم قائلاً: سمع الله لمن حمده ربنا ولك الحمد، ثم يقرأ الفاتحة وسورة طويلة، ولكن دون قراءة القيام الأول، ثم يركع ركوعاً طويلاً دون الركوع الأول، ثم يرفع قائلاً: سمع الله لمن حمده ربنا ولك الحمد، ثم يسجد سجوداً طويلاً، ثم يجلس جلسة طويلة، ثم يسجد سجوداً طويلاً دون السجود الأول، ثم يقوم، ويفعل في الركعة الثانية ما فعله في الركعة الأولى، ولكن بإطالةٍ أقلَّ مما في الركعة الأولى، وينصرف من الصلاة بالتسليم، محاولاً أن لا يفرغ من الصلاة حتى ينجلي الكسوف. هذه هي الكيفية الصحيحة الواردة في الأحاديث الصحيحة، ونستدل على كل تفاصيلها بالأدلة التالية:
أ - عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم «أن يهودية جاءت تسألها فقالت لها: أعاذكِ الله من عذاب القبر، فسألت عائشة رسول الله صلى الله عليه وسلم: أيعذَّب الناس في قبورهم؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم عائذاً بالله من ذلك، ثم ركب رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات غداة مركباً، فخَسَفَت الشمسُ فرجع ضحى، فمرَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بين ظهراني الحُجَر، ثم قام يصلي وقام الناس وراءه، فقام قياماً طويلاً ثم ركع ركوعاً طويلاً، ثم رفع فقام قياماً طويلاً وهو دون القيام الأول، ثم ركع ركوعاً طويلاً وهو دون الركوع الأول، ثم رفع فسجد، ثم قام فقام قياماً طويلاً وهو دون القيام الأول، ثم ركع ركوعاً طويلاً وهو دون الركوع الأول، ثم قام قياماً طويلاً وهو دون القيام الأول، ثم ركع ركوعاً طويلاً وهو دون الركوع الأول، ثم رفع فسجد، وانصرف فقال ما شاء الله أن يقول، ثم أمرهم أن يتعوذوا من عذاب القبر» رواه البخاري ومسلم ومالك والنَّسائي وأحمد.
ب - عن عائشة رضي الله عنها زوج النبي صلى الله عليه وسلم «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلَّى يوم خَسَفَت الشمسُ، فقام فكبر فقرأ قراءة طويلة، ثم ركع ركوعاً طويلاً، ثم رفع رأسه فقال: سمع الله لمن حمده، وقام كما هو، ثم قرأ قراءة طويلة وهي أدنى من القراءة الأولى، ثم ركع ركوعاً طويلاً وهي أدنى من الركعة الأولى، ثم سجد سجوداً طويلاً، ثم فعل في الركعة الآخرة مثل ذلك، ثم سلَّم وقد انجلت الشمس، فخطب الناس فقال في كسوف الشمس والقمر: إنهما آيتان من آيات الله لا يَخْسَفان لموت أحد ولا لحياته، فإذا رأيتموهما فافزعوا إلى الصلاة» رواه البخاري.
ج - عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنه قال «كَسَفَت الشمسُ على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقام وقمنا معه، فأطال القيام حتى ظننا أنه ليس براكع، ثم ركع فلم يكد يرفع رأسه، ثم رفع فلم يكد يسجد، ثم سجد فلم يكد يرفع رأسه، ثم جلس فلم يكد يسجد، ثم سجد فلم يكد يرفع رأسه، ثم فعل في الركعة الثانية كما فعل في الأولى، وجعل ينفخ في الأرض ويبكي وهو ساجد في الركعة الثانية، وجعل يقول: ربِّ لِمَ تعذبهم وأنا فيهم، ربِّ لِمَ تعذبنا ونحن نستغفر؟ فرفع رأسه وقد تجلَّت الشمس وقضى صلاته فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أيها الناس إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله عز وجل، فإذا كَسَفَ أحدُهما فافزعوا إلى المساجد
…
» رواه أحمد والنَّسائي وابن خُزَيمة.
د - عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت «خَسَفَت الشمسُ على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم المصلَّى، فكَّبر وكبَّر الناس، ثم قرأ فجهر بالقراءة وأطال القيام، ثم ركع فأطال الركوع، ثم رفع رأسه فقال: سمع الله لمن حمده، ثم قام فقرأ فأطال القراءة، ثم ركع فأطال الركوع، ثم رفع رأسه ثم سجد، ثم قام ففعل في الثانية مثل ذلك ثم قال: إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله عز وجل لا ينخسفان لموت أحد ولا لحياته، فإذا رأيتم ذلك فافزعوا إلى الصلاة» رواه أحمد والبخاري ومسلم والترمذي.
هـ - عن جابر قال «انكسفت الشمس في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم مات إبراهيم بن رسول الله صلى الله عليه وسلم
…
- وجاء فيه -
…
فكبًّر ثم قرأ فأطال القراءة، ثم ركع نحواً مما قام، ثم رفع رأسه من الركوع، فقرأ قراءة دون القراءة الأولى، ثم ركع نحواً مما قام
…
» رواه مسلم وأحمد وأبو داود والبيهقي.
و عن عائشة رضي الله عنها «جهر النبي صلى الله عليه وسلم في صلاة الخسوف بقراءته، فإذا فرغ من قراءته كبَّر فركع، وإذا رفع من الركعة قال: سمع الله لمن حمده ربنا ولك الحمد، ثم يعاود القراءة في صلاة الكسوف أربع ركعات في ركعتين وأربع سجدات» رواه البخاري وابن حِبَّان ومسلم.
وإذا فرغ من الصلاة استُحِبَّ للإمام أن يخطب المُصلِّين بما يناسب المقام، والدليل على أن لصلاة الكسوف خطبةً الحديثُ (ب) الذي روته عائشة رضي الله عنها عند البخاري، فقد جاء فيه «فخطب الناس فقال
…
» . والحديث (ج) الذي رواه عبد الله بن عمرو رضي الله عنه عند أحمد وغيره، فقد جاء فيه «وقضى صلاته فحمد الله وأثنى عليه ثم قال
…
» . وكذلك الحديث الذي روته عائشة رضي الله عنها قالت «خَسَفَت الشمسُ في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالناس، فقام فأطال القيام، ثم ركع فأطال الركوع، ثم قام فأطال القيام وهو دون القيام الأول، ثم ركع فأطال الركوع وهو دون الركوع الأول، ثم سجد فأطال السجود، ثم فعل في الركعة الثانية مثل ما فعل في الأولى، ثم انصرف وقد انجلت الشمس، فخطب الناس فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا ينخسفان لموت أحد ولا لحياته، فإذا رأيتم ذلك فادعوا الله وكبروا وصلوا وتصدقوا، ثم قال: يا أمة محمد، ما من أحدٍ أغير من الله أن يزني عبده أو تزني أمته، يا أمة محمد والله لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً» رواه البخاري ومسلم وأحمد ومالك والنَّسائي. وكذلك الحديث المروي عن أسماء رضي الله عنها قالت «فانصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد تجلَّت الشمس، فخطب فحمد الله بما هو أهله ثم قال: أما بعد» رواه البخاري. وغير هذه الأحاديث كثير، وكلها تذكر أنه عليه الصلاة والسلام بعد أن يفرغ من صلاته يقف فيخطب الناس.
وأُلفت النظر إلى أن الفقهاء والأئمة قد اختلفوا في صفة صلاة الكسوف اختلافاً كبيراً، فمنهم من قال إن صلاة الكسوف ركعتان اثنتان عاديتان كركعتي الفجر مستدلين بأحاديث مروية، ومنهم من قال إنها ركعتان في كل ركعة ركوعان اثنان، وهو ما أخذنا به وأثبتناه بالأحاديث الكثيرة الصحيحة السابقة، ومنهم من قال إنها ركعتان في كل ركعة ثلاثة ركوعات، مستدلين بأحاديث مروية، ومنهم من قال إنها ركعتان في كل ركعة أربعة ركوعات، مستدلين بأحاديث مروية، ومنهم من قال إنها ركعتان في كل ركعة خمسة ركوعات، مستدلين بأحاديث مروية، ومنهم من قال إنها ركعتان ثم ركعتان ثم ركعتان، وكلها عادية مثل صلاة الفجر إلى أن ينتهي الكسوف، مستدلين هم كذلك بأحاديث مروية، ولم أجد ضرورة لذكر كل هذه الأحاديث.
وحسبي أن أقول ما يلي: نعم إن جابر بن عبد الله قد رُوي عنه حديث الثلاثة ركوعات عند أحمد ومسلم، وكذلك رُوي عن عائشة رضي الله عنها عند أحمد ومسلم، وروي عن عليَّ ابن أبي طالب رضي الله عنه أنه قد صلَاّها أربعة ركوعات في الركعة الواحدة عند أحمد والبيهقي، وأن ابن عباس رضي الله عنه قد رُوي عنه الركوعات الأربعة في الركعة الواحدة عند أحمد ومسلم، وأن أُبيَّ بن كعب رضي الله عنه قد رُوي عنه حديث الركوعات الخمسة عند أحمد وأبي داود والحاكم، وأن محمود بن لبيد والنعمان بن بشير وعبد الله بن عمرو رضي الله عنهم قد رُويت عنهم أحاديث بأن صلاة الكسوف ركعتان اثنتان عاديتان، وأن النعمان ابن بشير رضي الله عنه قد رُوي عنه حديثٌ بالصلاة ركعتين ركعتين عند أحمد وأبي داود والنَّسائي وابن ماجة والحاكم.
ولا يُنكَر أن عدداً من هذه الأحاديث صحيحة الإسناد تصلح للاحتجاج، وكان يمكن الأخذ بجميع هذه الأحاديث والقول بجواز صلاة الكسوف على صفات وكيفيات عدة لو كان قد رُوي عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه فعل كل ذلك في أوقات مختلفة وكسوفات عدة. أمَّا وأنَّ الرسول صلى الله عليه وسلم قد صلى صلاةَ كسوفٍ واحدة، وأنه عليه الصلاة والسلام قد صلَّى هذه الصلاة في السنة العاشرة للهجرة، وأنه صلَاّها يوم مات ولده إبراهيم، وأنه عليه الصلاة والسلام قد مات بعد موت إبراهيم بحوالي أربعة أشهر ونصف، ولا يُحتَمل في هذه المدة اليسيرة حصول كسوفين، وأنه قد رُوي أن صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا يجهلون كيفية هذه الصلاة قبل أن يصليها رسول الله صلى الله عليه وسلم آنذاك، مما يدل على أنه لم يُصلِّها معهم قبل ذلك، وأن أبا شُريحٍ الخُزاعي قال «كَسَفَت الشمسُ في عهد عثمان ابن عفان رضي الله عنه وبالمدينة عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، قال: فخرج عثمان فصلَّى بالناس تلك الصلاة ركعتين وسجدتين في كل ركعة، قال: ثم انصرف عثمان فدخل داره
…
» رواه أحمد والبيهقي والطبراني والبزَّار. وقال الهيثمي (رواته مُوثَّقون) ما يدل دلالة واضحة على أن صلاة الكسوف إنما تكون بركعتين وسجدتين في كل ركعة من ركعتيها، وأن هذا هو الثابت عند صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإلا لما صلَاّها عثمان بالصحابة دون إنكار، فلما عُلِم كلُّ ذلك علمنا أن القصة متحدة، وأنه لم تكن صلواتُ كسوفٍ عدةٌ من رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل صلاة كسوف واحدة يوم مات إبراهيم قبل وفاته عليه الصلاة والسلام بأقلَّ من خمسة أشهر. وإذن فإن احتمال وجود عدة كيفيات لهذه الصلاة غير وارد، فلم يبق إلا الترجيح بين هذه الروايات المتعارضة.