المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌القنوت في الوتر وفي الصلاة المكتوبة - الجامع لأحكام الصلاة - محمود عويضة - جـ ٣

[محمود عبد اللطيف عويضة]

فهرس الكتاب

- ‌الفصل الحادي عشرصلاة التطوُّع أو صلاة النّفْل

- ‌فضل صلاة التطوع وأصنافها

- ‌أ. السُّنَنُ الراتبة المؤكدة

- ‌ب. السُّنن الملحقة بالسنن الراتبة المؤكَّدة

- ‌قضاءُ السنن الراتبة والسنن الملحقة بها

- ‌صلاة الرواتب في السفر

- ‌ج. تحيَّة المسجد

- ‌د. الوتر

- ‌القنوت في الوتر وفي الصلاة المكتوبة

- ‌هـ. صلاة التراويح

- ‌و. قيام الليل

- ‌ز. صلاة الضُّحى

- ‌ح. صلاة الكسوف

- ‌ط. صلاة الاستسقاء

- ‌ي. صلاة التسابيح

- ‌ك. صلاة الاستخارة

- ‌ل. سجدة التلاوة

- ‌م. سجدة الشكر وصلاة الشكر

- ‌ن. الصلاة بعد الفراغ من الطواف عند المقام

- ‌س. الصلاةُ عَقِبَ الأذان

- ‌ع. الصلاةُ عَقِبَ الوضوء

- ‌الأوقاتُ المنهيُّ عن الصلاة فيها

- ‌أحكامٌ عامة لصلاة التطوُّع

- ‌1- في صلاة الفريضة لا يجوز الجلوس ولا الاضطجاع إلا من ضرورة

- ‌2 - إذا كان المسلم في المسجد فأقيمت الصلاة المفروضة

- ‌3 - الصلاة المكتوبة الأصل فيها أن تُؤدَّى في المساجد جماعة

- ‌4 - وكما يجوز أن تصلَّى النافلةُ انفرادياً فإنه يجوز أن تصلَّى جماعةً

- ‌الفصل الثاني عشرصلاة الجماعة

- ‌حكم صلاة الجماعة وفضلها

- ‌صلاة النساء

- ‌الإمام يصلي صلاة خفيفة

- ‌متابعة المأموم للإمام

- ‌تنعقد الجماعة بإمام ومأموم واحد

- ‌مفارقةُ الإمام

- ‌الصلاةُ جماعةً في المسجد مرتين

- ‌المسبوق يدخل في الصلاة على الحال التي عليها الإمام

- ‌خروج المُحْدِث من الصلاة

- ‌أ. صفة الأئمَّةالأحقُّ بالإمامة

- ‌إِمامة الأعمى

- ‌إمامة الصبي

- ‌إمامة المرأة

- ‌اقتداء المقيم بالمسافر وبالعكس

- ‌اقتداء المفترض بالمتنفل وبالعكس

- ‌الإمام يصلي جالساً

- ‌صلاة الإمام المخلّ بشروط الصلاة

- ‌الإمام يستخلف في صلاته

- ‌الإمام يكرهه المصلون

- ‌موقف الصبيان والنساء

- ‌صلاة الرجل وحده خلف الصفوف

- ‌أين يقف الإمام من المأمومين

الفصل: ‌القنوت في الوتر وفي الصلاة المكتوبة

أما أمره عليه الصلاة والسلام أن يجعل آخر صلاة الليل الوتر، فإنه يعني أن من يصلي صلاة الليل لا يقدِّم الوتر على صلاته ولا يجعله بين صلاته، وإنما يجعله في آخرها، فمن فعل ذلك ونام فقد امتثل للأمر النبوي الكريم، ثم إن هو استيقظ من ليلته تلك وبدا له أن يصلي تطوُّعاً فلْيُصلِّ ما شاء دون محظور ولا ينقض ما صلاه من قبل، ولا يكون بفعله هذا قد خالف الأمر النبوي، لأنه سبق له أن امتثل للأمر، وامتثاله للأمر لا يعني حرمانه من التنفل فيما لو استيقظ من ليلته وأراد الصلاة.

وكما أضفنا قبل قليل من أن الوتر يُصلَّى مرة واحدة في الليلة الواحدة، فإننا نضيف هنا أن الوتر هو من النوافل التي داوم على فعلها رسول الله صلى الله عليه وسلم وحث المسلمين على القيام بها، فيأخذ الوتر حكم السنن التي داوم عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم من حيث مشروعية قضائها إنْ هي فاتت وخرج وقتها، فمن نام دون أن يصلي الوتر ثم استيقظ وقد طلع الفجر فإن له أن يصلي الوتر، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إذا أصبح أحدكم ولم يوتر فليوتر» رواه الحاكم والبيهقي. وعن أبي سعيد رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «من نام عن وتره أو نسيه فلْيصلِّه إذا أصبح أو ذكره» رواه البيهقي والدارقطني والحاكم. ورواه أبو داود إلا أنه لم يذكر - إذا أصبح -. ورواه الترمذي بلفظ «من نام عن وِتره فلْيُصلِّ إذا أصبح» . وعن الأغرِّ المُزَني «أن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا نبي الله إني أصبحت ولم أُوتر، قال: فأوتر» رواه الطبراني.

‌القنوت في الوتر وفي الصلاة المكتوبة

ص: 51

ونبدأ بالقنوت في الوتر فنقول: يُسنُّ القنوت في صلاة الوتر في الركعة الأخيرة منه، ويُفعل طيلة العام، ويتأكد في النصف الأخير من رمضان، ويُؤتى به عقب الركوع، ولكن إن قنت قبل الركوع جاز له ذلك، فالأمر موسَّع، ولكن القنوت عقب الركوع أحبُّ إليَّ، قال البيهقي (رُواةُ القنوت بعد الركوع أكثر وأحفظ وعليه درج الخلفاء الراشدون) . وقال أحمد: لم يَروِ عن أنسٍ القنوتَ قبل الركوع سوى عاصم الأحول فحسب.

ويُندب أن يُدعى بالدعاء التالي في الوتر [اللهم اهدني فيمن هديت، وعافني فيمن عافيت، وتَولَّني فيمن توليت، وبارك لي فيما أعطيت، وقِني شرَّ ما قضيت، فإنك تقضي ولا يُقضى عليك، إنه لا يَذِلُّ من واليت، ولا يَعِزُّ من عاديت، تباركت ربنا وتعاليت] . أو بالدعاء التالي [اللهم إني أعوذ برضاك من سَخَطِك، وأعوذ بمعافاتك من عقوبتك، وأعوذ بك منك، لا أُحصي ثناءً عليك، أنت كما أثنيتَ على نفسك] . ولا يعني هذا وذاك أنه لا يصح الدعاء إلا بهما، فَلْيدعُ المسلمُ ربه في حاجته بهذا الدعاء أو بذاك أو بسواهما، أو يجمع بين الدعاء المأثور والدعاء في حاجته. فعن علي رضي الله عنه «أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول في آخر وتره: اللهم إني أعوذ برضاك من سَخَطك، وأعوذ بمعافاتك من عقوبتك، وأعوذ بك منك، لا أُحصي ثَناءً عليك، أنت كما أثنيتَ على نفسك» رواه أحمد والحاكم وأبو داود والترمذي والنَّسائي. فالحديث يقول «كان يقول في آخر وتره» أي في الركعة الأخيرة منه. وما جاء في هذا الحديث من دعاء هو الدعاء الثاني الذي ذكرته قبل قليل. وعن الحسن بن علي رضي الله عنه قال «علَّمني رسول الله صلى الله عليه وسلم كلماتٍ أقولهن في قنوت الوتر: اللهم اهدني فيمن هديت، وعافني فيمن عافيت، وتولَّني فيمن توليت، وبارك لي فيما أعطيت، وقِني شرَّ ما قضيت، فإنك تقضي ولا يُقضى عليك، إنه لا يذل من واليت، تباركت ربنا وتعاليت» رواه أحمد والترمذي

ص: 52

والنَّسائي وابن خُزَيمة وأبو داود. ورواه البيهقي والطبراني بزيادة «ولا يعزُّ من عاديت» عقب «إنه لا يَذِلُّ من واليت» . وهي زيادة صحيحة فتُقبل وتضاف إلى الدعاء.

وروى أبو داود «أن عمر بن الخطاب جمع الناس على أُبيِّ بن كعب، فكان يصلي لهم عشرين ليلة، ولا يقنت بهم إلا في النصف الباقي» . يعني النصف الأخير من رمضان، لأن الحديث يتحدث عن صلاة التراويح، وهي لا تكون إلا في رمضان، بدلالة حديث ثان رواه أبو داود بلفظ «أنَّ أُبيَّ بن كعب أمَّهم - يعني في رمضان - وكان يقنت في النصف الآخر من رمضان» . وستأتي الأدلة على جواز القنوت قبل الركوع وبعده تالياً.

ص: 53

أما القنوت في الصلوات الخمس المكتوبة فإنه مشروع في النوازل والكوارث فحسب، فإن وقعت النوازل والكوارث فالقنوت مشروع في جميع الصلوات الخمس، ولا يُشرَع اتخاذُ صلاةٍ بعينها للقنوت، بمعنى ألا تختص بالقنوت صلاةٌ دون صلاة. أما إن عدمت النوازل والكوارث فلا قنوت في الصلوات الخمس، ولا قنوت آنئذٍ إلا في الوتر فحسب، فعن أبي مالك الأشجعي قال «قلت لأبي: يا أبتِ إنك قد صليت خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر وعثمان وعلي ههنا بالكوفة قريباً من خمس سنين أكانوا يقنتون؟ قال: أَيْ بُنيَّ مُحْدَث» رواه أحمد والنَّسائي وابن ماجة والترمذي وابن أبي شيبة. ورواه ابن حِبَّان ولفظه «صليت خلف النبي صلى الله عليه وسلم فلم يقنت، وصليت خلف أبي بكر فلم يقنت، وصليت خلف عمر فلم يقنت، وصليت خلف عثمان فلم يقنت، وصليت خلف علي فلم يقنت، ثم قال: يا بُني إنها بدعة» . ولا أعني بالنوازل والكوارث ما كان منها عاماً فقط كالحروب والزلازل والبراكين والطوفان، وإنما أعني أيضاً ما يصيب المرء من نكباتٍ ومصائب، فقد يُسجَن الشخص، أو يطلبه سلطان متسلِّط، أو يضل السبيل في سفره، أو يمرض مرضاً شديداً، ففي هذه النوازل الفردية أيضاً يقنت المصلِّي في أية صلاة مكتوبة، والدليل على القنوت في النوازل ما رُوي عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال «قنت النبي صلى الله عليه وسلم شهراً متتابعاً في الظهر والعصر والمغرب والعشاء والصبح في دُبُر كل صلاة، إذا قال سمع الله لمن حمده في الركعة الأخيرة، يدعو على حيٍّ من بني سُلَيم على رِعْلٍ وذَكْوانَ وعُصَيَّة، ويُؤَمِّن مَنْ خلفَه، قال: أرسل إليهم يدعوهم إلى الإسلام فقتلوهم» . قال عكرمة: هذا مفتاح القنوت. رواه ابن خُزَيمة وأحمد وأبو داود والبيهقي والحاكم.

ص: 54

ويستمر المسلم يقنت ما دامت النازلة واقعة، فإذا انتهت النازلة توقف عن القنوت، أو قنت فيها ما شاء ثم توقف، ولا يُديم القنوت بعد انقضائها، فعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال «قنت رسول الله صلى الله عليه وسلم شهراً بعد الركوع، يدعو على رِعْلٍ وذَكْوَانَ وقال: عُصَيَّةُ عصت الله ورسوله» رواه أحمد والنَّسائي والبخاري. ورواه مسلم مقيَّداً بصلاة الصبح. وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال «قنت رسول الله صلى الله عليه وسلم شهراً يدعو بعد الركوع على حيٍّ من أحياء العرب ثم تركه» رواه أحمد ومسلم وابن حِبَّان والنَّسائي وأبو داود. وعن عاصم الأحول عن أنس قال «سألته عن القنوت أَقَبْلَ الركوع أو بعد الركوع؟ فقال: قبل الركوع، قال قلت: فإنهم يزعمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قنت بعد الركوع؟ فقال: كذبوا، إنما قنت رسول الله صلى الله عليه وسلم شهراً يدعو على ناس قَتَلوا أناساً من أصحابه يقال لهم القُرَّاء» رواه أحمد ومسلم. ورواه البخاري ولفظه «عن عاصم قال: سألت أنس بن مالك عن القنوت فقال: قد كان القنوت، قلت: قبل الركوع أو بعده؟ قال: قبله، قلت: فإن فلاناً أخبرني عنك أنك قلت بعد الركوع، فقال: كذب، إنما قنت رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد الركوع شهراً، أراه كان بعث قوماً يقال لهم القُرَّاء زُهاء سبعين رجلاً إلى قوم من المشركين دون أولئك، وكان بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد، فقنت رسول الله صلى الله عليه وسلم شهراً يدعو عليهم» . وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال «قنت رسول الله صلى الله عليه وسلم في صلاة العَتَمَة شهراً يقول في قنوته: اللهم أَنْجِ الوليد بن الوليد، اللهم نَجِّ سَلَمة بن هشام، اللهم نجِّ عيَّاش بن أبي ربيعة، اللهم نجِّ المستضعفين من المؤمنين، اللهم أشدد وطأتك على مضر، اللهم اجعلها عليهم سنين كسِنِي يوسف، قال أبو هريرة: وأصبح رسول الله - صلى

ص: 55

الله عليه وسلم - ذات يوم فلم يدع لهم، فذكرت ذلك له فقال صلى الله عليه وسلم: أما تراهم قد قدموا؟» رواه ابن حِبَّان وأبو داود وابن خُزَيمة. ورواه مسلم بلفظ «عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قنت بعد الركعة في صلاةٍ شهراً، إذا قال سمع الله لمن حَمِده يقول في قنوته.. - مثل رواية ابن حِبَّان.. قال أبو هريرة رضي الله عنه: ثم رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ترك الدعاء بعد، قلت: أرى رسول الله صلى الله عليه وسلم قد ترك الدعاء لهم، قال فقيل: وما تراهم قد قدموا» .

فقد دلت هذه الأحاديث على أن القنوت يُشرع في النوازل بقدرها وينتهي بانتهائها ولا يستمر، وقد قال ابن حِبَّان عقب رواية الحديث الأخير (في هذا الخبر بيان واضح أن القنوت إنما يُقنت في الصلوات عند حدوث حادثة مثل ظهور أعداء الله على المسلمين، أو ظلم ظالم ظُلم المرء به أو تعدَّى عليه، أو أقوام أحب أن يدعو لهم، أو أسرى من المسلمين في أيدي المشركين وأحب الدعاء لهم بالخلاص من أيديهم، أو ما يشبه هذه الأحوال. فإذا كان بعض ما وصفنا موجوداً قنت المرء في صلاة واحدة أو الصلوات كلها أو بعضها دون بعض، بعد رفع رأسه من الركوع في الركعة الأخيرة من صلاته، يدعو على من شاء باسمه ويدعو لمن أحب باسمه، فإذا عدم مثل هذه الأحوال لم يقنت حينئذ في شئ من صلاته، إذ المصطفى صلى الله عليه وسلم يقنت على المشركين ويدعو للمسلمين بالنجاة، فلما أصبح يوماً من الأيام ترك القنوت، فذكر ذلك أبو هريرة، فقال صلى الله عليه وسلم: أما تراهم قد قدموا، ففي هذا أبين البيان على صحة ما أصَّلْناه) . ولقد أصاب ابن حِبَّان فيما ذهب إليه فيما أرى.

ص: 56

إلا أن هناك من يقولون إن القنوت إنما يكون في صلاة الفجر فحسب، وهؤلاء قسمان: قسم يقول: يُقْنَت في صلاة الفجر طيلة العام، والقسم الآخر يقول: يُقْنَت عند النوازل في صلاة الفجر فحسب، وقد استدلوا بجملة من الأحاديث أذكر منها ما يلي:

أ - عن أنس رضي الله عنه «أن النبي صلى الله عليه وسلم قنت شهراً يدعو عليهم، ثم تركه، وأما في الصبح فلم يزل يقنت حتى فارق الدنيا» رواه الدارقطني والبيهقي والحاكم. وروى أحمد الشطر الثاني منه.

ب - عن ابن سيرين قال «سُئل أنس بن مالك: هل قنت رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: نعم بعد الركوع، ثم سُئل بعد ذلك مرة أخرى: هل قنت رسول الله صلى الله عليه وسلم في صلاة الصبح؟ قال: بعد الركوع يسيراً» رواه أحمد ومسلم وأبو داود والنَّسائي والطحاوي. ورواه البخاري بلفظ «عن محمد بن سيرين قال: سُئل أنس: أقنت النبي صلى الله عليه وسلم في الصبح؟ قال: نعم، فقيل له: أَوَقنت قبل الركوع؟ قال: بعد الركوع يسيراً» .

ج - عن أنس بن مالك قال «سُئِل عن القنوت في صلاة الصبح، فقال: كنا نقنت قبل الركوع وبعده» رواه ابن ماجة.

د - عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال «بعث النبي صلى الله عليه وسلم سرية يقال لهم القُرَّاءُ فأصيبوا، فما رأيت النبي صلى الله عليه وسلم وَجَدَ على شئ ما وَجَدَ عليهم، فقنت شهراً في صلاة الفجر، ويقول: إن عُصَيَّةَ عَصَوا الله ورسوله» رواه البخاري ومسلم.

ص: 57

هـ - عن خُفاف بن إيماءٍ بن رَحْضَةَ الغِفاري قال «صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم الصبح ونحن معه، فلما رفع رأسه من الركعة الأخيرة قال: لعن الله لِحْيان ورِعْلاً وذَكْوان، وعُصَيَّة عَصَوْا الله ورسوله، أسلم سالمها الله، وغِفار غفر الله لها، ثم وقع رسول الله صلى الله عليه وسلم ساجداً، فلما انصرف قرأ على الناس: يا أيها الناس إني أنا لستُ قلتُه ولكن الله عز وجل قاله» رواه أحمد وابن حِبَّان ومسلم.

فنقول لهؤلاء: أما الحديثان الخامس والرابع فيدلان على أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد قنت في صلاة الصبح وأن القنوت إنما كان لأجل حادثة القراء الذين قُتلوا، وهذان الحديثان لا يفيدان حصر القنوت في صلاة الفجر، وإنما يذكران واقعة عينٍ حصلت رآها الراوي فنقلها، فنقْلُ وقوع القنوتِ في صلاة الفجر لا ينفي وقوعه في غير صلاة الفجر كما هو ظاهر، بل إن عندنا أحاديث تذكر وقوع القنوت في صلاة الصبح وفي غير صلاة الصبح عند حادثة القراء هؤلاء، ما ينفي حصر وقوع القنوت في صلاة الفجر فحسب، فقد مرَّ حديث ابن عباس رضي الله عنه عند ابن خُزَيمة وأحمد وأبي داود والبيهقي والحاكم قبل قليل وفيه «قنت النبي صلى الله عليه وسلم شهراً متتابعاً في الظهر والعصر والمغرب والعشاء والصبح، في دبر كل صلاة إذا قال سمع الله لمن حمده في الركعة الأخيرة، يدعو على حيٍّ من بني سُلَيم على رِعْلٍ وذَكْوان وعُصَيَّة

» .

ص: 58

وثبت أيضاً أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان عند النوازل يقنت في الصبح وفي غير الصبح، مما ينفي اختصاص الصبح بالقنوت، فقد روى أبو هريرة رضي الله عنه «أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا رفع رأسه من الركعة الأخيرة من صلاة العشاء الآخرة قنت وقال: اللهم أنج الوليد بن الوليد، اللهم أنج سَلَمة بن هشام، اللهم أنج عيَّاش بن أبي ربيعة، اللهم أنج المستضعفين من المؤمنين، اللهم اشدُدْ وطأتك على مضر، اللهم اجعلها سنين كسِنِي يوسف عليه السلام» رواه أحمد ومسلم وابن خُزَيمة وأبو داود وابن حِبَّان. وقد مرَّ الحديث قبل قليل بلفظ ابن حِبَّان. فهذا حديث في القنوت في صلاة العشاء، وأيضاً روى أبو سلمة عن أبي هريرة رضي الله عنه قال «والله لأُقَرِّبنَّ لكم صلاةَ رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: فكان أبو هريرة يقنت في الركعة الآخرة من صلاة الظهر وصلاة العشاء وصلاة الصبح، قال أبو عامر في حديثه العشاء الآخرة وصلاة الصبح بعدما يقول سمع الله لمن حمده، ويدعو للمؤمنين ويلعن الكفار، قال أبو عامر: ويلعن الكافرين» رواه أحمد ومسلم وأبو داود والنَّسائي. فهذا حديث في القنوت في صلاة الظهر وصلاة العشاء وصلاة الصبح. وروى البراء بن عازب رضي الله عنه «أن النبي صلى الله عليه وسلم قنت في الصبح والمغرب» رواه أحمد ومسلم وأبو داود والنَّسائي والترمذي. فهذا حديث في القنوت في صلاة الصبح وصلاة المغرب، ومثله ما رُوي عن أنس بن مالك رضي الله عنه أنه قال «كان القنوت في المغرب والفجر» رواه البخاري. فهل بقيت حجة لهؤلاء لحصر القنوت بصلاة الصبح عند النوازل؟.

ص: 59

أما الحديثان الثالث والثاني فيدلان على أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد قنت في صلاة الصبح، وأن ذلك كان جواب سؤال، فالسائل سأل عن القنوت في صلاة الصبح فأجيب بالإيجاب، ولم يسأل السائل عن القنوت في غير الصبح لنرى هل يكون إثباتٌ أو نفيٌ، فلا دلالة في هذين الحديثين على حصر القنوت في صلاة الصبح، فلم يبق لهؤلاء من دليل يصلح لحصر القنوت في صلاة الصبح سوى الحديث الأول فقط وهو قوله «وأما في الصبح فلم يزل يقنت حتى فارق الدنيا» . ونرد عليهم بما يلي:

أ - إن هذا الحديث يعارض الحديث السابق المار قبل قليل، وفيه «صليت خلف النبي صلى الله عليه وسلم فلم يقنت

» رواه ابن حِبَّان والنَّسائي وابن ماجة والترمذي وابن أبي شيبة من طريق أبي مالك الاشجعي. ورواه أحمد بلفظ «قلت لأبي: يا أبتِ إنك قد صلي خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر وعثمان وعلي ههنا بالكوفة قريباً من خمس سنين أكانوا يقنتون؟ قال: أي بني مُحْدثٌ» . فكيف نوفق بين هذين الحديثين المتعارضين؟ إنه لا بد من ردِّ أحدهما أو أن نلجأ إلى التأويل.

ب - إنه قد ثبت عندنا أن القنوت إنما كان مقيداً في الصلوات المفروضة بحلول النوازل، فقد مرَّت الأحاديث الدالة على ذلك فلا نعيد، فهذه الأحاديث أيضاً تتعارض مع هذا الحديث، فإما أن نرد هذا الحديث، وإما أن نلجأ إلى التأويل، ومما يدل أيضاً على ما نقول ما رواه أنس رضي الله عنه «أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم كان لا يقنت إلا إذا دعا لقوم أو دعا على قوم» رواه ابن خُزَيمة. وما رواه أبو هريرة رضي الله عنه «أن النبي صلى الله عليه وسلم كان لا يقنت إلا أن يدعو لأحد أو يدعو على أحد، وكان إذا قال سمع الله لمن حمده قال ربنا ولك الحمد، اللهم أنج..» رواه ابن خُزَيمة. ومثله روى ابن حِبَّان، فماذا يقول هؤلاء؟.

ص: 60

ج - هذا الحديث مطعون فيه، إذ رواه أبو جعفر الرازي التميمي، وهذا الراوي قال فيه أحمد: ليس بقوي في الحديث. وقال علي بن المديني: إنه يَخْلِط. وقال أبو زُرْعة: إنه شيخ يَهِمُ كثيراً. وقال ابن معين: إنه يُكتب حديثه ولكنه يخطئ. وقال ابن حِبَّان (كان ينفرد عن المشاهير بالمناكير، لا يعجبني الاحتجاج بحديثه إلا فيما وافق الثقات) . فالحديث ضعيف لا يُحتج به ولا يصمد أمام الأحاديث الكثيرة الصحيحة والحسنة المعارضة له.

د - عندنا أحاديث صحيحة تُلقي الضوء على أن القنوت في صلاة الصبح إنما كان مؤقتاً بمدة شهر واحد فحسب، وأنه حصل عند وقوع نازلة القراء، فعن أنس بن مالك رضي الله عنه «قنت رسول الله صلى الله عليه وسلم شهراً بعد الركوع في صلاة الصبح يدعو على رِعْلٍ وذَكْوانَ ويقول: عُصَيَّةُ عصت الله ورسوله» رواه مسلم. وعن أنس بن مالك رضي الله عنه «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قنت شهراً بعد الركوع في صلاة الفجر يدعو على بني عُصَيَّة» رواه مسلم. فكيف يروي أبو جعفر الرازي عن أنس رضي الله عنه أن الرسول صلى الله عليه وسلم ما زال يقنت في الصبح حتى فارق الدنيا؟.

ص: 61

هـ - إن هذا الحديث لا شك في أنه مُعارِضٌ لأحاديث صحيحة كثيرة، ومع التعارض يُترك هذا الحديث ويُعمَل بالأحاديث الصحيحة الكثيرة، وهذا القول لا بد منه إن نحن أخذنا بظاهر الحديث دون تأويل، ولكن يمكن أن نلجأ إلى التأويل رحمةً بمن صح عندهم هذا الحديث، وحاروا في التوفيق بينه وبين الأحاديث الكثيرة الصحيحة، فنقول: إن هذا الحديث يُحْمَل على أنه يعني بالقنوت طول القيام ولا يعني الدعاء المعروف، بمعنى أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يقف في صلاة الفجر أطولَ من وقوفه في غير هذه الصلاة، فهذا هو المعنى المقصود لهذا الحديث، وليس أنه عليه الصلاة والسلام كان يقنت بمعنى أنه كان يدعو، وأن وقوفه الطويل كان من أجل الإطالة في ذكر الله سبحانه، فهذا التأويل يَلجأُ إليه من أعمل الدليلين ولم يطرح أحدهما، يشهد له ما رواه محمد بن سيرين قال «حدَّثني مَن صلى مع النبي صلى الله عليه وسلم صلاة الغداة، فلما رفع رأسه من الركعة الثانية قام هُنَيَّة» رواه أبو داود والدارقطني. ورواه النَّسائي بلفظ «حدثني بعض من صلى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الصبح فلما قال: سمع الله لمن حمده، من الركعة الثانية قام هُنَيْهَةً» . وعلى كلا الوجهين أخذاً بظاهر الحديث أو أخذاً بالتأويل فإنه لا يُشرع القنوت الدائم في صلاة الصبح، ولا في أية صلاة مفروضة.

ص: 62