الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وكما يجوز للمفترض أن يصلي خلف المتنفل فكذلك يجوز العكس، أي يجوز للمتنفل أن يصلي خلف المفترض، بل ويُندب ذلك له إن هو أدرك صلاة الجماعة سواء في المسجد أو في العراء وكان هو قد أدى الفريضة، فيندب له عندئذٍ أن يدخل في صلاة الجماعة، وتكون صلاته معهم نافلة وهم يؤدون صلاة الفريضة، لما رُوي عن محجن الديلي رضي الله عنه قال «أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فأُقيمت الصلاة فجلست، فلما صلى قال لي: ألست بمسلم؟ قلت: بلى، قال: فما منعك أن تصلي مع الناس؟ قال قلت: قد صليت في أهلي، قال: فصلِّ مع الناس» رواه أحمد ومالك وابن حِبَّان والحاكم والنَّسائي. ولما رُوي عن يزيد بن الأسود رضي الله عنه، وقد مرَّ بتمامه في [حكم صلاة الجماعة وفضلها] وجاء فيه «
…
فقال: ما منعكما أن تُصلِّيا مع الناس؟ قالا: يا رسول الله إنا قد كنا صلينا في الرحال قال: فلا تفعلا، إذا صلى أحدكم في رحله ثم أدرك الصلاة مع الإمام فلْيصلِّها معه، فإنها له نافلة» رواه أحمد وأبو داود والنسائي والترمذي والدارمي.
الإمام يصلي جالساً
يجوز للإمام إن كان مريضاً أن يصلي بالناس جالساً، وفي هذه الحالة يصلِّي المؤتمُّون به وهم جالسون أيضاً مقتدين بإمامهم، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إنما جُعِل الإمام ليُؤتمَّ به فلا تختلفوا عليه، وإذا كبر فكبروا وإذا ركع فاركعوا، وإذا قال: سمع الله لمن حمده، فقولوا: اللهم ربنا لك الحمد، وإذا سجد فاسجدوا، وإذا صلى جلوساً فصلوا جلوساً أجمعين» رواه أحمد والبخاري ومسلم وأبو داود والترمذي. وقد مرَّ في بحث [متابعة المأموم للإمام] فصل [صلاة الجماعة] . وعن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها أنها قالت «صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيته وهو شاكٍ، فصلى جالساً وصلى وراءه قوم قياماً، فأشار إليهم أن اجلسوا، فلما انصرف قال: إنما جُعل الإمام ليؤتمَّ به، فإذا ركع فاركعوا وإذا رفع فارفعوا، وإذا صلى جالساً فصلوا جلوساً» رواه البخاري ومسلم وأحمد وأبو داود وابن ماجة. وعن جابر رضي الله عنه قال «اشتكى رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلينا وراءه وهو قاعد، وأبو بكر يُسمع الناس تكبيرَه، فالتفت إلينا فرآنا قياماً فأشار إلينا فقعدنا، فصلينا بصلاته قعوداً، فلما سلَّم قال: إنْ كدتم آنفاً لتفعلون فعل فارس والروم، يقومون على ملوكهم وهم قعود فلا تفعلوا، ائتموا بأئمتكم إن صلَّى قائماً فصلوا قياماً، وإن صلَّى قاعداً فصلوا قعوداً» رواه مسلم وأحمد وأبو داود والنَّسائي وابن ماجة. وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنه «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان في نفرٍ من أصحابه فقال: ألستم تعلمون أني رسول الله إليكم؟ قالوا: بلى نشهد أنك رسول الله، قال: ألستم تعلمون أنه من أطاعني فقد أطاع الله ومِن طاعة الله طاعتي؟ قالوا: بلى نشهد أنه من أطاعك فقد أطاع الله ومِن طاعة الله طاعتك، قال: فإنَّ مِن طاعة الله أن تطيعوني، ومن طاعتي أن تطيعوا أُمراءَكم، وإن صلوا قعوداً فصلوا
قعوداً» رواه ابن حِبَّان والطبراني وأحمد والطحاوي. فهذا النص مِن أبلغ الدلالات على وجوب صلاة المأمومين جلوساً إن صلى الإمام جالساً.
أما ما يُروى من أن أبا حنيفة وأصحابه والشافعي وأصحابه ومالك وأصحابه قالوا بصلاة المأمومين قياماً خلف الإمام الجالس، فهو رأيٌ مرجوح وضعيف.
أما أبو حنيفة ومالك فقد اعتمدا على حديث رواه الدارقطني والبيهقي وعبد الرزاق من طريق جابر الجُعفي عن الشعبي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لا يَؤُمَّنَّ أحدٌ بعدي جالساً» فنقول لهما إن هذا الحديث قال عنه الدارقطني بعد أن رواه (لم يَروه غير جابر الجُعفي عن الشعبي وهو متروك، والحديث مرسل لا تقوم له الحجة) . ونقل البيهقي هذا القول في كتابه عند روايته لهذا الحديث. وقال الشافعي عن جابر إنه ضعيف جداً. وقال عنه أبو حنيفة إنه كذاب. فقد ذكر ابن حِبَّان عن أبي يحيى الحماني قال: سمعت أبا حنيفة يقول (ما رأيت فيمن لقيت أفضل من عطاء، ولا لقيت فيمن لقيت أكذب من جابر الجُعفي
…
) فالحديث هذا ساقط لا يحل الاحتجاج به، وإني لأعجب من الأحناف كيف يأخذون بهذا الحديث رغم تكذيب إمامهم لراويه جابر الجُعفي!
وأما الشافعي وأصحابه فقد قالوا إن الأحاديث الآمرة بالصلاة جلوساً خلف الإمام الجالس هي منسوخة بالحديث التالي: عن عائشة رضي الله عنها قالت «لما ثقل رسول الله صلى الله عليه وسلم جاء بلال يُؤْذِنه بالصلاة، فقال: مروا أبا بكر يصلي بالناس، فقلت: يا رسول الله إن أبا بكر رجلٌ أسيف، وإنه متى ما يقم مقامك لا يُسمع الناس، فلو أمرت عمر، فقال: مروا أبا بكر أن يصلي بالناس، فقلت لحفصة: قولي له: إن أبا بكر رجل أَسيف، وإنه متى يقم مقامك لم يُسمع الناس، فلو أمرتَ عمر، فقال: إنكنَّ لأنتنَّ صواحب يوسف، مروا أبا بكر أن يصلي بالناس، فلما دخل في الصلاة وجد رسول الله صلى الله عليه وسلم في نفسه خِفَّة، فقام يتهادى بين رجلين ورِجْلاه تخُطان في الأرض حتى دخل المسجد، فلما سمع أبو بكر حِسَّه ذهب أبو بكر يتأخر، فأومأ إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى جلس عن يسار أبي بكر، فكان أبو بكر يصلي قائماً، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي قاعداً، يقتدي أبو بكر بصلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، والناس يقتدون بصلاة أبي بكر رضي الله عنه» رواه البخاري. ورواه مسلم وجاء فيه «
…
فأجلساه إلى جنب أبي بكر، وكان أبو بكر يصلي وهو قائم بصلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، والناس يصلون بصلاة أبي بكر، والنبي صلى الله عليه وسلم قاعد» . قوله الأسيف: أي الرقيق الرحيم.
والرد على هؤلاء من وجوه:
1-
إن حادثة صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو جالس، وصلاة أبي بكر مقتدياً به وهو قائم والناس يصلون قياماً بصلاة أبي بكر قد وردت في أحاديث صحيحة، ولكن هناك أحاديث أُخرى صحيحة قد أوردت الحادثة نفسها بشكل مغاير، فذكرت أن المأمومين قد صلوا جلوساً خلف إمامهم رسولِ الله صلى الله عليه وسلم الجالس، ويكفي حديث جابر المار قبل قليل، فقد جاء فيه «اشتكى رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلينا وراءه وهو قاعد وأبو بكر يُسمع الناس تكبيرَه، فالتفت إلينا فرآنا قياماً، فأشار إلينا فقعدنا، فصلينا بصلاته قعوداً» وحيث أن هذه الحادثة وردت مرة بكيفية معينة، ووردت بكيفية مختلفة مرة أُخرى، فقد أصبحت محتملة، ومع الاحتمال يسقط الاستدلال.
2 -
إن الحديث قد رُوي عن عائشة رضي الله عنها، وهناك حديث مروي عنها هكذا: عن عائشة رضي الله عنها «أن أبا بكر صلى بالناس ورسول الله صلى الله عليه وسلم في الصف خلفه» رواه ابن حِبَّان وابن خُزيمة. ورواه أحمد وابن أبي شيبة والطحاوي بلفظ «صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرضه الذي مات فيه خلف أبي بكر قاعداً» فعائشة رضي الله عنها قد رُوي عنها قولان متعارضان: أحدهما يقول إن الإمام كان الرسول عليه الصلاة والسلام، وثانيهما يقول إن الإمام كان أبا بكر رضي الله عنه، فصار الأمر محتملاً، ومع الاحتمال يسقط الاستدلال.
3 -
حديث عائشة الثاني يدعمه ويقويه الحديث التالي: عن أنس بن مالك قال «آخِرُ صلاة صلاها رسول الله صلى الله عليه وسلم مع القوم في ثوب واحد متوشِّحاً به - يريد قاعداً خلف أبي بكر» رواه ابن حِبَّان. ورواه أحمد بلفظ «آخر صلاة صلاها رسول الله صلى الله عليه وسلم مع القوم في ثوب واحد متوشِّحاً به خلف أبي بكر» ورواه الترمذي بلفظ «صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرضه خلف أبي بكر قاعداً في ثوب متوشِحاً به» . وقال (هذا حديث حسن صحيح) وهذا الحديث عن أنس، والذي قبله عن عائشة رضي الله عنها حديثان صحيحان لا مطعن في أي منهما، فهل بعد هذين الحديثين وبعد حديث جابر يبقى للشافعي وأصحابه ما يتمسكون به من القول بنسخ الأحاديث الكثيرة الصحيحة القائلة بصلاة المأمومين جلوساً خلف الإمام الجالس؟ هل يصح نسخ الأحاديث الصحيحة الكثيرة بحديث محتمل؟.
4-
روى ابن أبي شيبة من طرق أن كلاً من جابر بن عبد الله وأُسيد بن حضير وقيس بن قهد قد صلى إماماً وهو جالس، وأن المأمومين خلفه صلوا جلوساً، وقال ابن حِبَّان (إن من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعة أفتوا به: جابر بن عبد الله وأبو هريرة وأُسيد ابن حُضير وقيس ابن قهد، والإجماع عندنا إجماع الصحابة
…
ولم يُرو عن أحد من الصحابة خلاف لهؤلاء الأربعة لا بإسناد متصل ولا منقطع، فكأن الصحابة أجمعوا على أن الإمام إذا صلى قاعداً كان على المأمومين أن يصلوا قعوداً) وقال عبد الرزاق (وما رأيت الناس إلا على أن الإمام إذا صلى قاعداً صلى من خلفه قعوداً، وهي سُنة من غير واحد) وحيث أن الصحابة أجمعوا أو كادوا، وحيث أن ذلك سُنة فهل يصح بعدئذ القول بالنسخ، وهل أحدٌ أعلم بالنسخ من الصحابة؟.
5 -
إن الرسول صلى الله عليه وسلم قد أمر المصلين بالاقتداء بالإمام في قيامه وجلوسه، وعندما رآهم يخالفون إمامهم بالصلاة خلفه قياماً وهو جالس قال «إنْ كدتم آنفاً لتفعلون فعل فارس والروم يقومون على ملوكهم وهو قعود» . وقد قرأت تعليقاً لطيفاً لأحمد محمد شاكر على هذه المسألة أنقله لكم (ودعوى النسخ يردها سياق أحاديث الأمر بالقعود وألفاظها، فإن تأكيد الأمر بالقعود بأعلى ألفاظ التأكيد مع الإنكار عليهم بأنهم كادوا يفعلون فعل فارس والروم يبعد معهما النسخ، إلا إن ورد نص صريح يدل على إعفائهم من الأمر السابق وأنَّ علة التشبُّه بفعل الأعاجم زالت، وهيهات أن يوجد هذا النص، بل كل ما زعموه للنسخ هو حديث عائشة - أعني في صلاة النبي في مرض موته مع أبي بكر - ولا يدل على شئ مما أرادوا
…
) .
6 -
وأقول أخيراً ما يلي: على افتراض أنه لا توجد نصوص تعارض حديث عائشة الأول الذي يعتمدون عليه في ادِّعاء النسخ، وقطعاً للحجة، فإنه لا حاجة بهم إلى القول بالنسخ، وإنما كان عليهم أن يحملوا ما حصل على أنه من خصوصياته عليه الصلاة والسلام، بمعنى أنه ما كان لغير رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكون إماماً لإمام، فالأحاديث تذكر أن أبا بكر كان الإمام، وأن الناس خلفه كانوا يأتمون به ويقتدون به، وأن أبا بكر كان يأتمُّ ويقتدي برسول الله صلى الله عليه وسلم، فالأحاديث تقول «وكان أبو بكر يصلي وهو قائم بصلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، والناس يصلون بصلاة أبي بكر» ووقع في روايةٍ عند ابن حِبَّان وغيره «فكان أبو بكر يأتمُّ بالنبي صلى الله عليه وسلم، والناس يأتمون بأبي بكر» فهل يقول الشافعيون إن الصلاة بإمامين في وقت واحد جائز ومشروع؟ ألا يدل ذلك على أنه من خصوصياته عليه الصلاة والسلام التي لا يجوز لمسلم أن يقلده فيه؟.