المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ مسألة: أهل الفترة معذورون في الدنيا، ويختبرون في الآخرة - الجموع البهية للعقيدة السلفية - جـ ٢

[أبو المنذر المنياوي]

فهرس الكتاب

- ‌فصل الْعذر بِالْجَهْلِ

- ‌ مَسْأَلَة: أهل الفترة معذورون فِي الدُّنْيَا، ويختبرون فِي الْآخِرَة

- ‌فصل فِي الحاكمية

- ‌ وَقْفَة مَعَ آيَات الْمَائِدَة وَبَيَان حكم من لم يحكم بِمَا أنزل الله

- ‌ تَنْبِيه: يجب التنبه إِلَى الْفرق بَين النظام الشَّرْعِيّ، والنظام الإداري فِي الحاكمية

- ‌باب الْإِيمَان بِالْمَلَائِكَةِ

- ‌فصل - مَلَائِكَة الصعُود بالأرواح:

- ‌فصل - الْحفظَة، وَمَا تكْتب

- ‌ هَل تكْتب الْحفظَة مَا لَا ثَوَاب فِيهِ، وَلَا عِقَاب

- ‌ المفاضلة بَين الْمَلَائِكَة وصالحي الْبشر

- ‌فصل بعض أَحْكَام الْجِنّ

- ‌ هَل إِبْلِيس ملك فِي الأَصْل أم لَا؟ وَبَيَان ذُريَّته، وَكَيف تناسله

- ‌ الْجِنّ مكلفون، وَبَيَان أَن مؤمنيهم فِي الْجنَّة، وكفارهم فِي النَّار

- ‌ إِذا كَانَ الْجِنّ من نَار فَكيف تحرقه النَّار

- ‌ لَا رسل من الْجِنّ

- ‌ هَل ينْكح الْإِنْس الْجِنّ، أَو الْعَكْس، وَحكمه

- ‌باب الْإِيمَان بالكتب

- ‌ الْإِيمَان بالكتب كلهَا

- ‌ صحف إِبْرَاهِيم ومُوسَى عليهما السلام

- ‌ الْكتاب الَّذِي أَخذه يحيى عليه السلام بِقُوَّة هُوَ: التَّوْرَاة

- ‌ معنى تَنْزِيل الْقُرْآن على قلب النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم

- ‌باب الْإِيمَان بالرسل الْكِرَام - عَلَيْهِم الصَّلَاة وَالسَّلَام

- ‌فصل وجوب الْإِيمَان بِجَمِيعِ الرُّسُل - عَلَيْهِم الصَّلَاة وَالسَّلَام

- ‌ تَكْذِيب لرَسُول وَاحِد تَكْذِيب لجَمِيع الرُّسُل

- ‌ لَا طَرِيق لمعْرِفَة أوَامِر الله ونواهيه إِلَّا عَن طَرِيق الْوَحْي

- ‌ دُعَاء الْأَنْبِيَاء - عَلَيْهِم الصَّلَاة وَالسَّلَام - مستجاب

- ‌ مِيرَاث الْأَنْبِيَاء - عَلَيْهِم الصَّلَاة وَالسَّلَام

- ‌ غَلَبَة الْأَنْبِيَاء - عَلَيْهِم الصَّلَاة وَالسَّلَام - وَمَعْنَاهَا

- ‌ عصمَة الْأَنْبِيَاء - عَلَيْهِم الصَّلَاة وَالسَّلَام

- ‌ الله تَعَالَى يَأْمر أنبياءه عليهم السلام وينهاهم ليشرع لأممهم

- ‌ نسَاء الْأَنْبِيَاء معصومات من الزِّنَا

- ‌ التَّوْبَة دَعْوَة الرُّسُل - عَلَيْهِم الصَّلَاة وَالسَّلَام

- ‌ المعجزة

- ‌ أولُوا الْعَزْم من الرُّسُل

- ‌ المفاضلة بَين الْأَنْبِيَاء - عَلَيْهِم الصَّلَاة وَالسَّلَام

- ‌ بعض المفارقات من الْقُرْآن بَين نَبينَا صلى الله عليه وسلم وَغَيره من الرُّسُل

- ‌ الْفرق بَين النَّبِي وَالرَّسُول

- ‌ عُقُوبَة الْأُمَم المكذبة للرسل، وَبَيَان وَجه الْمُنَاسبَة بَين عَملهَا وعقابها

- ‌فصل بعض أَحْكَام الْأَنْبِيَاء

- ‌فصل الْإِيمَان بسيدنا مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم

- ‌ كل نَبِي بُشِّرَ بِالنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم

- ‌ النَّبِي صلى الله عليه وسلم هُوَ دَعْوَة إِبْرَاهِيم عليه السلام وَمن ذُريَّته

- ‌ معرفَة أهل الْكتاب ليَوْم مولده

- ‌ بعض أَسْمَائِهِ صلى الله عليه وسلم وَصِفَاته

- ‌ عُمُوم رسَالَته صلى الله عليه وسلم وَوُجُوب الْإِيمَان بِهِ

- ‌ إتباع النَّبِي صلى الله عليه وسلم مُوجب لمحبة الله جلّ وَعلا لذَلِك المُتتَّبِع

- ‌ تَعْظِيمه صلى الله عليه وسلم بإتباعه

- ‌ حرمته صلى الله عليه وسلم حَيا كحرمته مَيتا

- ‌ الْهدى الْعَام وَالْخَاص

- ‌ بَيَان الرضي فِي قَوْله تَعَالَى: {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى}

- ‌ بَيَان الْخَيْر الْكثير الَّذِي أعْطِيه النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم

- ‌ الْإِسْرَاء والمعراج

- ‌ هَل يَقع الِاجْتِهَاد من النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم

- ‌ عصمته صلى الله عليه وسلم

- ‌ أمة النَّبِي صلى الله عليه وسلم أفضل الْأُمَم

- ‌فصل سيدنَا آدم عليه السلام

- ‌ أَمر الله - تَعَالَى - الْمَلَائِكَة كلهم بِالسُّجُود لسيدنا آدم عليه السلام

- ‌ سيدنَا آدم عليه السلام لَيْسَ من أولي الْعَزْم من الرُّسُل

- ‌ سيدنَا آدم عليه السلام رَسُول، وَنَبِي مُكَلم

- ‌فصل سيدنَا إِدْرِيس عليه السلام

- ‌فصل سيدنَا نوح عليه السلام

- ‌ إِبْرَاهِيم من ذريّة نوح، وَبَعض الْأَنْبِيَاء من ذرّية نوح دون إِبْرَاهِيم عليهم السلام

- ‌فصل سيدنَا إِبْرَاهِيم عليه السلام

- ‌ مِلَّة سيدنَا إِبْرَاهِيم عليه السلام هِيَ دين الْإِسْلَام

- ‌ صحف سيدنَا إِبْرَاهِيم عليه السلام

- ‌ شدَّة صدق سيدنَا إِبْرَاهِيم عليه السلام

- ‌ ذُريَّته عليه السلام

- ‌فصل سيدنَا لوط عليه السلام

- ‌فصل سيدنَا أَيُّوب عليه السلام

- ‌فصل سيدنَا يُونُس عليه السلام

- ‌فصل سيدنَا مُوسَى عليه السلام

- ‌ الْآيَات التسع لسيدنا مُوسَى عليه السلام

- ‌فصل سيدنَا الْخضر عليه السلام

- ‌ نسب سيدنَا الْخضر عليه السلام

- ‌ سَبَب تَسْمِيَته بالخضر

- ‌ هَل كَانَ الْخضر رَسُولا أم نَبيا أم وليا أم ملكا

- ‌ هَل الْخضر عليه السلام حَيّ حَتَّى الْآن

- ‌فصل سيدنَا دَاوُد عليه السلام

- ‌فصل سيدنَا سُلَيْمَان بن دَاوُد عليهما السلام

- ‌ مَا هِيَ فتْنَة سُلَيْمَان عليه السلام

- ‌ تسخير اللهُ لِسُلَيْمَان الرّيح وَالشَّيَاطِين

- ‌فصل سيدنَا زَكَرِيَّا وَابْنه سيدنَا يحيى عليهما السلام

- ‌فصل سيدنَا يحيى وَعِيسَى عليهما السلام ابْني الْخَالَة

- ‌ بعض صِفَات سيدنَا يحيى عليه السلام

- ‌فصل سيدنَا عِيسَى عليه السلام

- ‌ مناظرة بَين عَالم مُسلم وَنَصْرَانِي

- ‌ سيدنَا عِيسَى عليه السلام حيّ فِي السَّمَاء، وسينزل آخر الزَّمَان قرب قيام السَّاعَة

- ‌بَاب الْإِيمَان بِالْيَوْمِ الآخر

- ‌ من يقبض الْأَرْوَاح

- ‌فصل: الْقَبْر

- ‌ الأَرْض لَا تَأْكُل أجساد الْأَنْبِيَاء، وَهل تَأْكُل أجساد الشُّهَدَاء

- ‌ هَل يسمع الْمَوْتَى؟ وَالْكَلَام على تلقين الْمَوْتَى

- ‌ عَذَاب الْقَبْر

- ‌ الْمَيِّت يعذب ببكاء أَهله عَلَيْهِ

- ‌ زِيَارَة الْقُبُور

- ‌فصل: يَوْم الْقِيَامَة

- ‌ بعض أَسْمَائِهِ

- ‌ إِنْكَار الْكفَّار ليَوْم الْقِيَامَة وتوعدهم على ذَلِك بالسعير

- ‌ مُدَّة يَوْم الْقِيَامَة

- ‌بعض أَشْرَاط السَّاعَة

- ‌ القحطاني

- ‌ الدَّجَّال، وَبَيَان أَنه حيّ حَتَّى الْآن

- ‌ يَأْجُوج وَمَأْجُوج

- ‌من آثَار يَوْم الْقِيَامَة

- ‌ تشقق السَّمَاء

- ‌ تسيير الْجبَال وبروز الأَرْض

- ‌فصل الْبَعْث

- ‌ إِنْكَار الْكفَّار للبعث

- ‌ إِنْكَار الْبَعْث سَببا لدُخُول النَّار

- ‌ براهين الْبَعْث

- ‌ نفخة الْبَعْث، وخروجهم مُسْرِعين لِلْحسابِ

- ‌ كَيفَ يُحشر المتقون، ويُساق المجرمون

- ‌ زَلْزَلَة السَّاعَة

- ‌ الْحَشْر يكون لجَمِيع الْمَخْلُوقَات

- ‌ بَيَان كَيْفيَّة الْعرض

- ‌ مَا جَاءَ فِي تطاير الصُّحُف

- ‌ يَوْم الْقِيَامَة يدعى كل أنَاس بإمامهم

- ‌ من أَسبَاب اسوداد الْوُجُوه يَوْم الْقِيَامَة

- ‌ السُّؤَال يَوْم الْقِيَامَة

- ‌ الشُّهُود يَوْم الْقِيَامَة

- ‌ الْمِيزَان

- ‌ الْفرق بَين الْكتاب وَالْمِيزَان

- ‌فصل: الْجنَّة وَالنَّار

- ‌ دُخُول الْجنَّة بِفضل من الله - تَعَالَى-، وتفاوت الْمنَازل بِحَسب الْأَعْمَال

- ‌ التَّوَارُث بَين أهل الْجنَّة وَأهل النَّار

- ‌ بعض مَا جَاءَ فِي نعيم أهل الْجنَّة

- ‌ بعض صِفَات الْحور الْعين

- ‌ الْجنَّة لَا ليل فِيهَا، وَإِنَّمَا هِيَ نور دَائِم وضياء

- ‌النَّار

- ‌ عدد أَبْوَاب النَّار

- ‌ بعض صِفَات النَّار وَبَيَان أَنَّهَا منَازِل

- ‌ كَيفَ ينْبت الضريع فِي النَّار

- ‌ النَّار لَهَا إِدْرَاك وحس

- ‌ أَشد أهل النَّار عذَابا

- ‌ الْفرق بَين عَذَاب الْكفَّار وعصاة الْمُوَحِّدين

- ‌ خُلُود أهل الْجنَّة وخلود أهل النَّار

- ‌بَاب: الْإِيمَان بِالْقضَاءِ وَالْقدر

- ‌ الله عز وجل يَصْرِفُ الْأَشْقِيَاءَ، الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمُ الشَّقَاوَةُ فِي علمه، عَن الْحق، ويحول بَينهم وَبَينه

- ‌ أَنْوَاع الأقلام

- ‌ التَّقْدِير الحولي فِي لَيْلَة الْقدر

- ‌ الْأَمر الكوني، وَالْأَمر الشَّرْعِيّ

- ‌ الْفرق والمذاهب فِي الْقدر

- ‌ الرَّد على مَذْهَب الجبرية، وَتَقْرِير مَذْهَب السّلف

- ‌ بَيَان أَن الْأَخْذ بالأسباب لَا يُنَافِي التَّوَكُّل

- ‌بَاب: متفرقات عقائدية

- ‌الصُّوفِيَّة

- ‌ مَذْهَب الصُّوفِيَّة

- ‌بعض جهالات متأخري الصُّوفِيَّة

- ‌ اعْتِقَادهم سُقُوط التكاليف إِذا بلغ العَبْد (الْيَقِين) الْمعرفَة

- ‌ ادعاؤهم جَوَاز الْعَمَل بالإلهام

- ‌ الرقص

- ‌ الذّكر بِاللَّفْظِ الْمُفْرد

- ‌ التباهي بالزيارة

- ‌الشِّيعَة

- ‌دَعْوَة وحدة الْأَدْيَان وَبَيَان مَا فِيهَا من حق وباطل

الفصل: ‌ مسألة: أهل الفترة معذورون في الدنيا، ويختبرون في الآخرة

الْإِجْمَاعَ وَجَزَمَ بِهِ النَّوَوِيُّ فِي (شَرْحِ مُسْلِمٍ) ، أَوْ يُعْذَرُونَ بِالْفَتْرَةِ وَهُوَ ظَاهِرُ الْآيَاتِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا، وَإِلَى هَذَا الْخِلَافِ أَشَارَ فِي (مَرَاقِي السُّعُودِ) بِقَوْلِهِ:

ذُو فَتْرَةٍ بِالْفَرْعِ لَا يُرَاعُ

وَفِي الْأُصُولِ بَيْنَهُمْ نِزَاعُ

وَقَدْ حَقَّقْنَا هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ مَعَ مُنَاقَشَةِ أَدِلَّةِ الْفَرِيقَيْنِ فِي كِتَابِنَا (دَفْعُ إِيهَامِ الِاضْطِرَابِ عَنْ آيَاتِ الْكِتَابِ) فِي سُورَةِ «بَنِي إِسْرَائِيلَ» فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} ، وَلذَلِك اختصرناها هُنَا.] (1) .

-‌

‌ مَسْأَلَة: أهل الفترة معذورون فِي الدُّنْيَا، ويختبرون فِي الْآخِرَة

.

[قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} . ظَاهِرُ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنَّ اللَّهَ جلَّ وَعَلَا لَا يُعَذِّبُ أَحَدًا مِنْ خَلْقِهِ لَا فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآخِرَةِ. حَتَّى يَبْعَثَ إِلَيْهِ رَسُولًا يُنْذِرُهُ وَيُحَذِّرُهُ فَيُعْصَى ذَلِكَ الرَّسُولُ، وَيُسْتَمَرُّ عَلَى الْكُفْرِ وَالْمَعْصِيَةِ بَعْدَ الْإِنْذَارِ وَالْإِعْذَارِ.

وَقَدْ أَوْضَحَ جلَّ وَعَلَا هَذَا الْمَعْنَى فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى:{رُّسُلاً مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلَاّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} فَصَرَّحَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: بِأَنْ لَا بُدَّ أَنْ يَقْطَعَ حُجَّةَ كُلِّ أَحَدٍ بِإِرْسَالِ الرُّسُلِ، مُبَشِّرِينَ مَنْ أَطَاعَهُمْ بِالْجَنَّةِ، وَمُنْذِرِينَ مَنْ عَصَاهُمُ النَّارَ.

وَهَذِهِ الْحُجَّةُ الَّتِي أَوْضَحَ هُنَا قَطَعَهَا بِإِرْسَالِ الرُّسُلِ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ. بَيَّنَهَا فِي آخِرِ سُورَةِ طَهَ بِقَوْلِهِ {وَلَوْ أَنَّآ أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِّن قَبْلِهِ لَقَالُواْ رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِن قَبْلِ أَن نَّذِلَّ وَنَخْزَى} .

وَأَشَارَ لَهَا فِي سُورَةِ الْقَصَصِ بِقَوْلِهِ: {وَلَوْلا أَن تُصِيبَهُم مُّصِيبَةٌ بِمَا

(1) - 2/300: 303، الْأَعْرَاف / 172، 173.

ص: 357

قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُواْ رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَنَتِّبِعَ آيَاتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} ، وَقَوْلِهِ جلَّ وَعَلَا:{ذَلِكَ أَن لَّمْ يَكُنْ رَّبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ} ، وَقَوله:{يَأَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَآءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مَّنَ الرُّسُلِ أَن تَقُولُواْ مَا جَآءَنَا مِن بَشِيرٍ وَلَا نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ} ، وَكَقَوْلِهِ:{وَهذا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ أَن تَقُولُواْ إِنَّمَآ أُنزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَآئِفَتَيْنِ مِن قَبْلِنَا وَإِن كُنَّا عَن دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ أَوْ تَقُولُواْ لَوْ أَنَّآ أُنزِلَ عَلَيْنَا الْكِتَابُ لَكُنَّآ أَهْدَى مِنْهُمْ فَقَدْ جَآءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ} ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.

وَيُوَضِّحُ مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ هَذِهِ الْآيَاتُ الْمَذْكُورَةُ وَأَمْثَالُهَا فِي الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ مِنْ أَنَّ اللَّهَ جلَّ وَعَلَا لَا يُعَذِّبُ أَحَدًا إِلَّا بَعْدَ الْإِنْذَارِ وَالْإِعْذَارِ عَلَى أَلْسِنَةِ الرُّسُلِ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ تَصْرِيحُهُ جلَّ وَعَلَا فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ بِأَنْ لَمْ يْدْخِلْ أَحَدًا النَّارَ إِلَّا بَعْدَ الْإِعْذَارِ وَالْإِنْذَارِ عَلَى أَلْسِنَةِ الرُّسُلِ.

فَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ جلَّ وَعَلَا: {كُلَّمَا أُلْقِىَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَآ أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ قَالُواْ بَلَى قَدْ جَآءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِن شَىْءٍ} .

وَمَعْلُومٌ أَنَّ قَوْلَهُ جلَّ وَعَلَا: {كُلَّمَا أُلْقِىَ فِيهَا فَوْجٌ} يَعُمُّ جَمِيعَ الْأَفْوَاجِ الْمُلْقِينَ فِي النَّارِ.

قَالَ أَبُو حَيَّانَ فِي «الْبَحْرِ الْمُحِيطِ» فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ الَّتِي نَحْنُ بِصَدَدِهَا مَا نَصُّهُ: «وَكُلَّمَا» تَدُلُّ عَلَى عُمُومِ أَزْمَانِ الْإِلْقَاءِ فَتَعُمُّ الْمُلْقِينَ، وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ جلَّ وَعَلَا:{وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِلَى جَهَنَّمَ زُمَراً حَتَّى إِذَا جَآءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَآ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَآءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُواْ بَلَى وَلكن حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ} ، وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ:{وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُواْ} عَام

ص: 358

لِجَمِيعِ الْكُفَّارِ.

وَقَدْ تَقَرَّرَ فِي الْأُصُولِ: أَنَّ الْمُوصُولَاتِ كَالَّذِي وَالَّتِي وَفُرُوعِهِمَا مِنْ صِيَغِ الْعُمُومِ، لِعُمُومِهَا فِي كُلِّ مَا تَشْمَلُهُ صِلَاتُهَا، وَعَقَدَهُ فِي مَرَاقِي السُّعُودِ بِقَوْلِهِ فِي صِيَغِ الْعُمُومِ:

صِيَغُهُ كُلُّ أَوِ الْجَمِيعُ

وَقَدْ تَلَا الَّذِي الَّتِي الْفُرُوعَ

وَمُرَادُهُ بِالْبَيْتِ: أَنَّ لَفْظَةَ «كُلٍّ، وَجَمِيعٍ، وَالَّذِي، وَالَّتِي» وَفُرُوعِهِمَا كُلُّ ذَلِكَ مِنَ صِيغ الْعُمُومِ، فَقَوْلُهُ تَعَالَى:{وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِلَى جَهَنَّمَ زُمَراً} إِلَى قَوْله {يَوْمِكُمْ هَذَا} عَامٌّ فِي جَمِيعِ الْكُفَّارِ، وَهُوَ ظَاهِرٌ فِي أَنَّ جَمِيعَ أَهْلِ النَّارِ قَدْ أَنْذَرَتْهُمُ الرُّسُلُ فِي دَارِ الدُّنْيَا، فَعَصَوُا أَمْرَ رَبِّهِمْ كَمَا هُوَ وَاضِحٌ.

وَنَظِيرُهُ أَيْضًا قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ كَفَرُواْ لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُواْ وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِّنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِى كُلَّ كَفُورٍ وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَآ أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً غَيْرَ الَّذِى كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ وَجَآءَكُمُ النَّذِيرُ} . فَقَوله {وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِلَى جَهَنَّمَ} إِلَى قَوْله {النَّذِيرُ فَذُوقُواْ} عَامٌّ أَيْضًا فِي جَمِيعِ أَهْلِ النَّارِ. كَمَا تَقَدَّمَ إِيضَاحُهُ قَرِيبًا.

وَنَظِيرُ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَقَالَ الَّذِينَ فِى النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُواْ رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْماً مِّنَ الْعَذَابِ قَالُواْ أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُم بِالْبَيِّنَاتِ قَالُواْ بَلَى قَالُواْ فَادْعُواْ وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَاّ فِى ضَلَالٍ} ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى أَنَّ جَمِيعَ أَهْلِ النَّارِ أَنْذَرَتْهُمُ الرُّسُلُ فِي دَارِ الدُّنْيَا.

وَهَذِهِ الْآيَاتُ الَّتِي ذَكَرْنَا وَأَمْثَالُهَا فِي الْقُرْآنِ تَدُلُّ عَلَى عُذْرِ أَهْلِ الْفَتْرَةِ بِأَنَّهُمْ لَمْ يَأْتِهِمْ نَذِيرٌ وَلَوْ مَاتُوا عَلَى الْكُفْرِ، وَبِهَذَا قَالَتْ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ

ص: 359

الْعِلْمِ.

وَذَهَبَتْ جَمَاعَةٌ أُخْرَى مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ إِلَى أَنَّ كُلَّ مَنْ مَاتَ عَلَى الْكُفْرِ فَهُوَ فِي النَّارِ وَلَوْ لَمْ يَأْتِهِ نَذِيرٌ، وَاسْتَدَلُّوا بِظَوَاهِرِ آيَاتٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ، وَبِأَحَادِيثَ عَنِ النَّبي صلى الله عليه وسلم. فَمِنَ الْآيَاتِ الَّتِي اسْتَدَلُّوا بِهَا قَوْلُهُ تَعَالَى:{وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً} ، وَقَوْلُهُ:{إِن الَّذِينَ كَفَرُواْ وَمَاتُواْ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} ، وَقَوْلُهُ:{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَمَاتُواْ وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَن يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِم مِّلْءُ الأَرْضِ ذَهَبًا وَلَوِ افْتَدَى بِهِ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُمْ مِّن نَّاصِرِينَ} ، وَقَوْلُهُ:{إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَآءُ} ، وَقَوله:{وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَآءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِى بِهِ الرِّيحُ فِى مَكَانٍ سَحِيقٍ} ، وَقَوْلُهُ {إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيهِ الْجَنَّةَ} ، وَقَوْلُهُ:{قَالُواْ إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ} ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.

وَظَاهِرُ جَمِيعِ هَذِهِ الْآيَاتِ الْعُمُومُ. لِأَنَّهَا لَمْ تُخَصَّصْ كَافِرًا دُونَ كَافِرٍ، بَلْ ظَاهِرُهَا شُمُولُ جَمِيعِ الْكُفَّارِ.

وَمِنَ الْأَحَادِيثِ الدَّالَّةِ عَلَى أَنَّ الْكُفَّارَ لَا يُعْذَرُونَ فِي كُفْرِهِمْ بِالْفَتْرَةِ مَا أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ: حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا عَفَّانُ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسٍ: أَنَّ رَجُلًا قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَين أَبي؟. قَالَ:«فِي النَّار» فَلَمَّا قَفَّى دَعَاهُ فَقَالَ: «إنَّ أَبي وَأَبَاكَ فِي النَّار» (1) اهـ. وَقَالَ مُسْلِمٌ رحمه الله فِي صَحِيحِهِ أَيْضًا: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ، وَمُحَمَّدُ بْنُ عَبَّادٍ وَاللَّفْظُ لِيَحْيَى قَالَا: حَدَّثَنَا مَرْوَانُ بْنُ مُعَاوِيَةَ، عَنْ يَزِيدَ يَعْنِي ابْنَ كِيسَانَ، عَنْ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:

(1) - صَحِيح مُسلم (1/191)(203) .

ص: 360

«اسْتَأْذَنْتُ رَبِّي أَنْ أَسْتَغْفِرَ لِأُمِّي فَلَمْ يَأْذَنْ لِي، وَاسْتَأْذَنْتُهُ أَنْ أَزُورَ قَبْرَهَا فَأَذِنَ لِي» حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَزُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ قَالَا: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدٍ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ كِيسَانَ، عَنْ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: زَارَ النَّبي صلى الله عليه وسلم قَبْرَ أُمِّهِ فَبَكَى وأَبكى مَنْ حَوْلَهُ. فَقَالَ: «اسْتَأْذَنْتُ رَبِّي فِي أَنْ أَسْتَغْفِرَ لَهَا فَلَمْ يُؤْذَنْ لِي، وَاسْتَأْذَنْتُهُ فِي أَنْ أَزُورَ قَبْرَهَا فَأَذِنَ لِي، فَزُورُوا الْقُبُورَ فَإِنَّهَا تذكِّر الْمَوْتَ» (1) اهـ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَحَادِيثِ الدَّالَّةِ عَلَى عَدَمِ عُذْرِ الْمُشْرِكِينَ بِالْفَتْرَةِ.

وَهَذَا الْخِلَافُ مَشْهُورٌ بَيْنَ أَهْلِ الْأُصُولِ، هَلِ الْمُشْرِكُونَ الَّذِينَ مَاتُوا فِي الْفَتْرَةِ وَهُمْ يَعْبُدُونَ الْأَوْثَانَ فِي النَّارِ لِكُفْرِهِمْ، أَوْ مَعْذُورُونَ بِالْفَتْرَةِ؟ وَعَقَدَهُ فِي «مَرَاقِي السُّعُودِ» بِقَوْلِهِ:

ذُو فَتْرَةٍ بِالْفَرْعِ لَا يُرَاعُ

وَفِي الْأُصُولِ بَيْنَهُمْ نِزَاعٌ

وَمِمَّنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّ أَهْلَ الْفَتْرَةِ الَّذِينَ مَاتُوا عَلَى الْكُفْرِ فِي النَّارِ: النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ، وَحَكَى عَلَيْهِ الْقَرَافِيُّ فِي شَرْحِ التَّنْقِيحِ الْإِجْمَاعَ. كَمَا نَقَلَهُ عَنْهُ صَاحِبُ «نَشْرِ الْبُنُودِ» .

وَأَجَابَ أَهْلُ هَذَا الْقَوْلِ عَنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} مِنْ أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ:

الْأَوَّلُ: أَنَّ التَّعْذِيبَ المنفى فِي قَوْله {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ} ، وَأَمْثَالِهَا مِنَ الْآيَاتِ، إِنَّمَا هُوَ التَّعْذِيبُ الدُّنْيَوِيُّ، كَمَا وَقَعَ فِي الدُّنْيَا مِنَ الْعَذَابِ بِقَوْمِ نُوحٍ، وَقَوْمِ هُودٍ، وَقَوْمِ صَالِحٍ، وَقَوْمِ لُوطٍ، وَقَوْمِ شُعَيْبٍ، وَقَوْمِ مُوسَى وَأَمْثَالِهِمْ. وَإِذًا فَلَا يُنَافِي ذَلِكَ التَّعْذِيبَ فِي الْآخِرَةِ.

وَنَسَبَ هَذَا الْقَوْلَ الْقُرْطُبِيُّ، وَأَبُو حَيَّانَ، وَالشَّوْكَانِيُّ وَغَيْرُهُمْ فِي

(1) - صَحِيح مُسلم (2/671)(976) .

ص: 361

تَفَاسِيرِهِمْ إِلَى الْجُمْهُورِ.

وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ مَحَلَّ الْعُذْرِ بِالْفَتْرَةِ الْمَنْصُوصَ فِي قَوْلِهِ: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ} وَأَمْثَالِهَا فِي غَيْرِ الْوَاضِحِ الَّذِي لَا يُخْفَى عَلَى أَدْنَى عَاقِلٍ، أَمَّا الْوَاضِحُ الَّذِي لَا يَخْفَى عَلَى مَنْ عِنْدَهُ عَقْلٌ كَعِبَادَةِ الْأَوْثَانِ فَلَا يُعْذَرُ فِيهِ أَحَدٌ؛ لِأَنَّ الْكُفَّارَ يُقِرُّونَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ رَبُّهُمْ، الْخَالِقُ الرَّازِقُ، النَّافِعُ، الضَّارُّ، وَيَتَحَقَّقُونَ كُلَّ التَّحَقُّقِ أَنَّ الْأَوْثَانَ لَا تَقْدِرُ عَلَى جَلْبِ نَفْعٍ وَلَا عَلَى دَفْعِ ضُرٍّ، كَمَا قَالَ عَنْ قَوْمِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ وَعَلَى نَبِيِّنَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ:{لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلَاءِ يَنطِقُونَ} وَكَمَا جَاءَتِ الْآيَاتُ الْقُرْآنِيَّةُ بِكَثْرَةٍ بِأَنَّهُمْ وَقْتَ الشَّدَائِدِ يُخْلِصُونَ الدُّعَاءَ لِلَّهِ وَحْدَهُ. لِعِلْمِهِمْ أَنَّ غَيْرَهُ لَا يَنْفَعُ وَلَا يَضُرُّ، كَقَوْلِهِ {فَإِذَا رَكِبُواْ فِى الْفُلْكِ دَعَوُاْ اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} ، وَقَوْلِهِ:{وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَّوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُاْ اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} ، وَقَوْلِهِ:{وَإِذَا مَسَّكُمُ الْضُّرُّ فِى الْبَحْرِ ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إِلَا إِيَّاهُ} ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ، وَلَكِنَّ الْكُفَّارَ غَالَطُوا أَنْفُسَهُمْ لِشِدَّةِ تَعَصُّبِهِمْ لِأَوْثَانِهِمْ فَزَعَمُوا أَنَّهَا تُقَرِّبُهُمْ إِلَى اللَّهِ زُلْفَى، وَأَنَّهَا شُفَعَاؤُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ، مَعَ أَنَّ الْعَقْلَ يَقْطَعُ بِنَفْيِ ذَلِكَ.

الْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّ عِنْدَهُمْ بَقِيَّةَ إِنْذَارٍ مِمَّا جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ الَّذِينَ أُرْسِلُوا قَبْلَ نَبِيِّنَا صلى الله عليه وسلم. كَإِبْرَاهِيمَ وَغَيْرِهِ، وَأَنَّ الْحُجَّةَ قَائِمَةٌ عَلَيْهِمْ بِذَلِكَ، وَجَزَمَ بِهَذَا النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ، وَمَالَ إِلَيْهِ الْعِبَادِي فِي (الْآيَاتِ الْبَيِّنَاتِ) .

الْوَجْهُ الرَّابِعُ: مَا جَاءَ مِنَ الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ عَنِ النَّبي صلى الله عليه وسلم، الدَّالَّةِ عَلَى أَنَّ بَعْضَ

أَهْلِ الْفَتْرَةِ فِي النَّارِ، كَمَا قَدَّمْنَا بَعْضَ الْأَحَادِيثِ الْوَارِدَةِ بِذَلِكَ فِي صَحِيحٍ مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ.

وَأَجَابَ الْقَائِلُونَ بِعُذْرِهِمْ بِالْفَتْرَةِ عَنْ هَذِهِ الْأَوْجُهِ الْأَرْبَعَةِ، فَأَجَابُوا عَنِ الْوَجْهِ الْأَوَّلِ، وَهُوَ كَوْنُ التَّعْذِيبِ فِي قَوْله:{وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} إِنَّمَا هُوَ التَّعْذِيبُ الدُّنْيَوِيُّ دُونَ الْأُخْرَوِيِّ مِنْ وَجْهَيْن:

ص: 362

الْأَوَّلُ: أَنَّهُ خِلَافَ ظَاهِرِ الْقُرْآنِ؛ لِأَنَّ ظَاهِرَ الْقُرْآنِ انْتِفَاءُ التَّعْذِيبِ مُطْلَقًا، فَهُوَ أَعَمُّ مِنْ كَوْنِهِ فِي الدُّنْيَا، وَصَرْفُ الْقُرْآنَ عَنْ ظَاهِرِهِ مَمْنُوعٌ إِلَّا بِدَلِيلٍ يَجِبُ الرُّجُوعُ إِلَيْهِ.

الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الْقُرْآنَ دَلَّ فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ على شُمُولِ التَّعْذِيبِ الْمَنْفِيِ فِي الْآيَةِ لِلتَّعْذِيبِ فِي الْآخِرَةِ. كَقَوْلِهِ: {كُلَّمَا أُلْقِىَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَآ أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ قَالُواْ بَلَى} وَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ جَمِيعَ أَفْوَاجِ أَهْلِ النَّارِ مَا عُذِّبُوا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا بَعْدَ إِنْذَارِ الرُّسُلِ. كَمَا تَقَدَّمَ إِيضَاحُهُ بِالْآيَاتِ الْقُرْآنِيَّةِ.

وَأَجَابُوا عَنِ الْوَجْهِ الثَّانِي، وَهُوَ أَنَّ مَحَلَّ الْعُذْرِ بِالْفَتْرَةِ فِي غَيْرِ الْوَاضِحِ الَّذِي لَا يُخْفَى عَلَى أَحَدٍ بِنَفْسِ الْجَوَابَيْنِ الْمَذْكُورِينَ آنِفًا؛ لِأَنَّ الْفَرْقَ بَيْنَ الْوَاضِحِ وَغَيْرِهِ مُخَالِفٌ لِظَاهِرِ الْقُرْآنِ، فَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ دَلِيلٍ يَجِبُ الرُّجُوعُ إِلَيْهِ، وَلِأَنَّ اللَّهَ نَصَّ عَلَى أَنَّ أَهْلَ النَّارِ مَا عُذِّبُوا بِهَا حَتَّى كَذَّبُوا الرُّسُلَ فِي دَارِ الدُّنْيَا، بَعْدَ إِنْذَارِهِمْ مِنْ ذَلِكَ الْكُفْرِ الْوَاضِحِ، كَمَا تَقَدَّمَ إِيضَاحُهُ.

وَأَجَابُوا عَنِ الْوَجْهِ الثَّالِثِ الَّذِي جَزَمَ بِهِ النَّوَوِيُّ، وَمَالَ إِلَيْهِ الْعَبَّادِيُّ، وَهُوَ قِيَامُ الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ بِإِنْذَارِ الرُّسُلِ الَّذِينَ أُرْسِلُوا قَبْلَهُ صلى الله عليه وسلم بِأَنَّهُ قَوْلٌ بَاطِلٌ بِلَا شَكٍّ؛ لِكَثْرَةِ الْآيَاتِ الْقُرْآنِيَّةِ الْمُصَرِّحَةِ بِبُطْلَانِهِ؛ لِأَنَّ مُقْتَضَاهُ أَنَّهُمْ أُنْذِرُوا عَلَى أَلْسِنَةِ بَعْضِ الرُّسُلِ وَالْقُرْآنُ يَنْفِي هَذَا نَفْيًا بَاتًّا فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ. كَقَوْلِهِ فِي «يس» :{لِتُنذِرَ قَوْماً مَّآ أُنذِرَ آبَآؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ} وَ «مَا» فِي قَوْلِهِ {مَّآ أُنذِرَ آبَآؤُهُمْ} نَافِيَةٌ عَلَى التَّحْقِيقِ، لَا مَوْصُولَةٌ، وَتَدُلُّ لِذَلِكَ الْفَاءُ فِي قَوْلِهِ {فَهُمْ غَافِلُونَ} ، وَكَقَوْلِهِ فِي «الْقَصَصِ» :{وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا وَلكن رَّحْمَةً مِّن رَّبِّكَ لِتُنذِرَ قَوْماً مَّآ أَتَاهُم مِّن نَّذِيرٍ مِّن قَبْلِكَ} ، وَكَقَوْلِهِ فِي «سَبَأٍ» {وَمَآ آتَيْنَاهُمْ مِّنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَهَا وَمَآ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِّن نَّذِيرٍ} ، وَكَقَوْلِهِ فِي «الم السَّجْدَةِ» : {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ لِتُنذِرَ قَوْماً مَّآ أَتَاهُم مِّن نَّذِيرٍ مِّن

ص: 363

قَبْلِكَ} ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.

وَأَجَابُوا عَنِ الْوَجْهِ الرَّابِعِ، بِأَنَّ تِلْكَ الْأَحَادِيثَ الْوَارِدَةَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ أَخْبَارُ آحَادٍ يُقَدَّمُ عَلَيْهَا الْقَاطِعُ، وَهُوَ قَوْلُهُ:{وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} ، وَقَوْلُهُ:{كُلَّمَا أُلْقِىَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَآ أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ قَالُواْ بَلَى} ، وَنَحْوُ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.

وَأَجَابَ الْقَائِلُونَ بِالْعُذْرِ بِالْفَتْرَةِ أَيْضًا عَنِ الْآيَاتِ الَّتِي اسْتَدَلَّ بِهَا مُخَالِفُوهُمْ كَقَوْلِهِ: {وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً} ، إِلَى آخِرِ مَا تَقَدَّمَ مِنَ الْآيَاتِ بِأَنَّ مَحَلَّ ذَلِكَ فِيمَا إِذَا أُرْسِلَتْ إِلَيْهِمُ الرُّسُلَ فَكَذَّبُوهُمْ بِدَلِيلِ قَوْله:{وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} .

وَأَجَابَ الْقَائِلُونَ بِتَعْذِيبِ عَبَدَةِ الْأَوْثَانِ مِنْ أَهْلِ الْفَتْرَةِ عَنْ قَوْلِ مُخَالِفِيهِمْ: إِنَّ الْقَاطِعَ الَّذِي هُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} يَجِبُ تَقْدِيمُهُ عَلَى أَخْبَارِ الْآحَادِ الدَّالَّةِ عَلَى تَعْذِيبِ بَعْضِ أَهْلِ الْفَتْرَةِ، كَحَدِيثَيْ مُسْلِمٍ فِي صَحِيحِهِ الْمُتَقَدِّمِينَ بِأَنَّ الْآيَةَ عَامَّةٌ، وَالْحَدِيثَيْنِ كِلَاهُمَا خَاصٌّ فِي شَخْصٍ مُعَيَّنٍ. وَالْمَعْرُوفُ فِي الْأُصُولِ أَنَّهُ لَا يَتَعَارَضُ عَامٌّ وَخَاصٌّ؛ لِأَنَّ الْخَاصَّ يَقْضِي عَلَى الْعَامِّ كَمَا هُوَ مَذْهَبُ الْجُمْهُورِ، خِلَافًا لِأَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله، كَمَا بَيَّنَاهُ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ.

فَمًا أَخْرَجَهُ دَلِيلٌ خَاصٌّ خَرَجَ مِنَ الْعُمُومِ، وَمَا لَمْ يُخْرِجْهُ دَلِيلٌ خَاصٌّ بَقِيَ دَاخِلًا فِي الْعُمُومِ. كَمَا تَقَرَّرَ فِي الْأُصُولِ.

وَأَجَابَ الْمَانِعُونَ بِأَنَّ هَذَا التَّخْصِيصَ يُبْطِلُ حِكْمَةَ الْعَامِّ؛ لِأَنَّ اللَّهَ جَلَّ وَعَلَا تَمَدَّحُ بِكَمَالِ الْإِنْصَافِ. وَأَنَّهُ لَا يُعَذِّبُ حَتَّى يَقْطَعَ حُجَّةَ الْمُعَذَّبِ بِإِنْذَارِ الرُّسُلِ فِي دَارِ الدُّنْيَا، وَأَشَارَ لِأَنَّ ذَلِكَ الْإِنْصَافَ الْكَامِلَ، وَالْإِعْذَارَ الَّذِي هُوَ قَطْعُ الْعُذْرِ عِلَّةٌ لِعَدَمِ التَّعْذِيبِ، فَلَوْ عَذَّبَ إِنْسَانًا وَاحِدًا مِنْ غَيْرِ إِنْذَارٍ لَاخْتَلَّتْ تِلْكَ الْحِكْمَةُ الَّتِي تَمَدَّحَ اللَّهُ بِهَا، وَلَثَبَتَتْ لِذَلِكَ الْإِنْسَانِ

ص: 364

الْحُجَّةُ الَّتِي أَرْسَلَ اللَّهُ الرُّسُلَ لِقَطْعِهَا، كَمَا بَيَّنَهُ بِقَوْلِهِ:{رُّسُلاً مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلَاّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} ، وَقَوْلِهِ:{وَلَوْ أَنَّآ أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِّن قَبْلِهِ لَقَالُواْ رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِن قَبْلِ أَن نَّذِلَّ وَنَخْزَى} كَمَا تَقَدَّمَ إِيضَاحُهُ.

وَأَجَابَ الْمُخَالِفُونَ عَنْ هَذَا بِأَنَّهُ لَوْ سَلَّمَ أَنَّ عَدَمَ الْإِنْذَارِ فِي دَارِ الدُّنْيَا عِلَّةٌ لِعَدَمِ التَّعْذِيبِ فِي الْآخِرَةِ، وَحَصَلَتْ عِلَّةُ الْحُكْمِ الَّتِي هِيَ عَدَمُ الْإِنْذَارِ فِي الدُّنْيَا، مَعَ فَقْدِ الْحُكْمِ الَّذِي هُوَ عَدَمُ التَّعْذِيبِ فِي الْآخِرَةِ لِلنَّصِّ فِي الْأَحَادِيثِ عَلَى التَّعْذِيبِ فِيهَا، فَإِنَّ وُجُودَ عِلَّةِ الْحُكْمِ مَعَ فَقْدِ الْحُكْمِ الْمُسَمَّى فِي اصْطِلَاحِ أَهْلِ الْأُصُولِ بِـ «النَّقْضِ» تَخْصِيصٌ لِلْعِلَّةِ، بِمَعْنَى أَنَّهُ قَصَرَ لَهَا عَلَى بَعْضِ أَفْرَادِ مَعْلُولِهَا بِدَلِيلٍ خَارِجٍ كَتَخْصِيصِ الْعَامِّ، أَيْ قَصْرُهُ عَلَى بَعْضِ أَفْرَادِهِ بِدَلِيلٍ. وَالْخِلَافُ فِي النَّقْضِ هَلْ هُوَ إِبْطَالٌ لِلْعِلَّةِ، أَوْ تَخْصِيصٌ لَهَا مَعْرُوفٌ فِي الْأُصُولِ، وَعَقَدَ الْأَقْوَالَ فِي ذَلِكَ صَاحِبُ «مَرَاقِي السُّعُودِ» بِقَوْلِهِ فِي مَبْحَثِ الْقَوَادِحِ:

مِنْهَا وُجُودُ الْوَصْفِ دُونَ الْحُكْمِ

سَمَّاهُ بِالنَّقْضِ وُعَاةُ الْعِلْمِ

وَالْأَكْثَرُونَ عِنْدَهُمْ لَا يَقْدَحُ

بَلْ هُوَ تَخْصِيصٌ وَذَا مُصَحِّحٌ

وَقَدْ رُوِيَ عَنْ مَالِكٍ تَخْصِيصٌ

إِنْ يَكُ الِاسْتِنْبَاطُ لَا التَّنْصِيصُ

وَعَكْسُ هَذَا قَدْ رَآهُ الْبَعْضُ

وَمُنْتَقَى ذِي الِاخْتِصَارِ النَّقْضُ

إِنْ لَمْ تَكُنْ مَنْصُوصَةً بِظَاهِرٍ

وَلَيْسَ فِيمَا اسْتُنْبِطَتْ بِضَائِرِ

إِنْ جَا لِفَقْدِ الشَّرْطِ أَوْ لِمَا مَنَعَ

وَالْوَفْقُ فِي مِثْلِ الْعَرَايَا قَدْ وَقَعَ

فَقَدْ أَشَارَ فِي الْأَبْيَاتِ إِلَى خَمْسَةِ أَقْوَالٍ فِي النَّقْضِ: هَلْ هُوَ تَخْصِيصٌ، أَوْ إِبْطَالٌ لِلْعِلَّةِ، مَعَ التَّفَاصِيلِ الَّتِي ذَكَرَهَا فِي الْأَقْوَالِ الْمَذْكُورَةِ.

وَاخْتَارَ بَعْضُ الْمُحَقِّقِينَ مِنْ أَهْلِ الْأُصُولِ: أَنَّ تَخَلُّفَ الْحُكْمِ عَنِ الْوَصْفِ

ص: 365

إِنْ كَانَ لِأَجْلِ مَانِعٍ مَنَعَ مِنْ تَأْثِيرِ الْعِلَّةِ، أَوْ لِفَقْدِ شَرْطِ تَأْثِيرِهَا فَهُوَ تَخْصِيصٌ لِلْعِلَّةِ، وَإِلَّا فَهُوَ نَقْضٌ وَإِبْطَالٌ لَهَا.

فَالْقَتْلُ الْعَمْدُ الْعَدُوَّانُ عِلَّةٌ لِوُجُوبِ الْقِصَاصِ إِجْمَاعًا، فَإِذَا وُجِدَ هَذَا الْوَصْفُ الْمُرَكَّبَ الَّذِي هُوَ الْقَتْلُ الْعَمْدُ الْعُدْوَانُ، وَلَمْ يُوجَدِ الْحُكْمُ الَّذِي هُوَ الْقِصَاصُ فِي قَتْلِ الْوَالِدِ وَلَدَهُ لِكَوْنِ الْأُبُوَّةِ مَانِعًا مِنْ تَأْثِيرِ الْعِلَّةِ فِي الْحُكْمِ فَلَا يُقَالُ هَذِهِ الْعِلَّةُ مَنْقُوضَةٌ؛ لِتَخَلُّفِ الْحُكْمِ عَنْهَا فِي هَذِهِ الصُّورَةِ، بَلْ هِيَ عِلَّةُ مَنَعَ مِنْ تَأْثِيرِهَا مَانِعٌ. فَيُخَصَّصُ تَأْثِيرُهَا بِمَا لَمْ يَمْنَعْ مِنْهُ مَانِعٌ.

وَكَذَلِكَ مَنْ زَوَّجَ أَمَتَهُ مِنْ رَجُلٍ، وَغَرَّهُ فَزَعَمَ لَهُ أَنَّهَا حُرَّةٌ فَوَلَدَ مِنْهَا. فَإِنَّ الْوَلَدَ يَكُونُ حُرًّا، مَعَ أَنَّ رِقَّ الْأُمِّ عِلَّةٌ لِرِقِّ الْوَلَدِ إِجْمَاعًا؛ لِأَنَّ كُلَّ ذَاتِ رَحِمٍ فَوَلَدُهَا بِمَنْزِلَتِهَا؛ لِأَنَّ الْغُرُورَ مَانِعٌ مَنَعَ مِنْ تَأْثِيرِ الْعِلَّةِ

الَّتِي هِيَ رِقُّ الْأُمِّ فِي الْحُكْمِ الَّذِي هُوَ رِقُّ الْوَلَدِ، وَكَذَلِكَ الزِّنَى: فَإِنَّهُ عَلِمَ لِلرَّجْمِ إِجْمَاعًا.

فَإِذَا تَخَلَّفَ شَرْطُ تَأْثِيرِ هَذِهِ الْعِلَّةِ الَّتِي هِيَ الزِّنَى فِي هَذَا الْحُكْمِ الَّذِي هِيَ الرَّجْمُ، وَنَعْنِي بِذَلِكَ الشَّرْطِ الْإِحْصَانَ. فَلَا يُقَالُ إِنَّهَا عِلَّةٌ مَنْقُوضَةٌ، بَلْ هِيَ عِلَّةٌ تَخَلَّفَ شَرْطُ تَأْثِيرِهَا. وَأَمْثَالُ هَذَا كَثِيرَةٌ جِدًّا. هَكَذَا قَالَهُ بَعْضُ الْمُحَقِّقِينَ.

قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ: الَّذِي يَظْهَرُ: أَنَّ آيَةَ «الْحَشْرِ» دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ النَّقْضَ تَخْصِيصٌ لِلْعِلَّةِ مُطْلَقًا، وَاللَّهَ تَعَالَى أَعْلَمُ. وَنَعْنِي بِآيَةِ «الْحَشْرِ» قَوْلَهُ تَعَالَى فِي بَنِي النَّضِيرِ:{وَلَوْلَا أَن كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلَاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِى الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِى الآخِرَةِ عَذَابُ النَّارِ} .

ثُمَّ بَيَّنَ جَلَّ وَعَلَا عِلَّةَ هَذَا الْعِقَابِ بِقَوْلِهِ: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَآقُّواْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} . وَقَدْ يُوجَدُ بَعْضُ مَنْ شَاقَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ، وَلَمْ يُعَذِّبْ بِمِثْلِ الْعَذَابِ الَّذِي عَذَّبَ بِهِ بَنُو النَّضِيرِ، مَعَ الِاشْتِرَاكِ فِي الْعِلَّةِ الَّتِي هِيَ مُشَاقَّةُ اللَّهِ وَرَسُولِهِ.

ص: 366

فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ تَخَلُّفَ الْحُكْمِ عَنِ الْعِلَّةِ فِي بَعْضِ الصُّوَرِ تَخْصِيصٌ لِلْعِلَّةِ لَا نَقْضٌ لَهَا. وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.

أَمَّا مَثَلُ بَيْعِ التَّمْرِ الْيَابِسِ بِالرَّطْبِ فِي مَسْأَلَةِ بَيْعِ الْعَرَايَا فَهُوَ تَخْصِيصٌ لِلْعِلَّةِ إِجْمَاعًا لَا نَقْضَ لَهَا. كَمَا أَشَارَ لَهُ فِي الْأَبْيَاتِ بِقَوْلِهِ: * وَالْوَفْقُ فِي مِثْلِ الْعَرَايَا قَدْ وَقَعَ *

قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ: الظَّاهِرُ أَنَّ التَّحْقِيقَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ الَّتِي هِيَ: هَلْ يَعْذُرُ الْمُشْرِكُونَ بِالْفَتْرَةِ أَوْ لَا؟ هُوَ أَنَّهُمْ مَعْذُورُونَ بِالْفَتْرَةِ فِي الدُّنْيَا، وَأَنَّ اللَّهَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَمْتَحِنُهُمْ بِنَارٍ يَأْمُرُهُمْ بِاقْتِحَامِهَا، فَمَنِ اقْتَحَمَهَا دَخْلَ الْجَنَّةَ وَهُوَ الَّذِي كَانَ يُصَدِّقُ الرُّسُلَ لَوْ جَاءَتْهُ فِي الدُّنْيَا، وَمَنِ امْتَنَعَ دَخَلَ النَّارَ وَعُذِّبَ فِيهَا، وَهُوَ الَّذِي كَانَ يُكَذِّبُ الرُّسُلَ لَوْ جَاءَتْهُ فِي الدُّنْيَا؛ لَأَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا كَانُوا عَامِلِينَ لَوْ جَاءَتْهُمُ الرُّسُلُ.

وَإِنَّمَا قُلْنَا: إِنَّ هَذَا هُوَ التَّحْقِيقُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ لِأَمْرَيْنِ:

الْأَوَّلُ - أَنَّ هَذَا ثَبَتَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَثُبُوتُهُ عَنْهُ نَصٌّ فِي مَحَلِّ النِّزَاعِ. فَلَا وَجْهَ لِلنِّزَاعِ أَلْبَتَّةَ مَعَ ذَلِكَ.

قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ كَثِيرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ الَّتِي نَحْنُ بِصَدَدِهَا، بَعْدَ أَنْ سَاقَ الْأَحَادِيثَ الْكَثِيرَةَ الدَّالَّةَ عَلَى عُذْرِهِمْ بِالْفَتْرَةِ وَامْتِحَانِهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، رَادًّا عَلَى ابْنِ عَبْدِ الْبَرِّ تَضْعِيفَ أَحَادِيثِ عُذْرِهِمْ وَامْتِحَانِهِمْ، بِأَنَّ الْآخِرَةَ دَارُ جَزَاءٍ لَا عَمَلٍ، وَأَنَّ التَّكْلِيفَ بِدُخُولِ النَّارِ تَكْلِيفٌ بِمَا لَا يُطَاقُ وَهُوَ لَا يُمْكِنُ مَا نَصَّهُ: وَالْجَوَابُ عَمَّا قَالَ: أَنَّ أَحَادِيثَ هَذَا الْبَابِ مِنْهَا مَا هُوَ صَحِيحٌ كَمَا قَدْ نَصَّ عَلَى ذَلِكَ كَثِيرٌ مِنْ أَئِمَّةِ الْعُلَمَاءِ، وَمِنْهَا مَا هُوَ حَسَنٌ، وَمِنْهَا مَا هُوَ ضَيْفٌ يَتَقَوَّى بِالصَّحِيحِ وَالْحَسَنِ. وَإِذَا كَانَتْ أَحَادِيثُ الْبَابِ الْوَاحِدِ مُتَّصِلَةً مُتَعَاضِدَةً عَلَى هَذَا النَّمَطِ، أَفَادَتِ الْحُجَّةَ عِنْدَ النَّاظِرِ فِيهَا. وَأَمَّا قَوْلُهُ: إِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ دَارُ جَزَاءٍ، فَلَا شَكَّ أَنَّهَا

ص: 367

دَارُ جَزَاءٍ، وَلَا يُنَافِي التَّكْلِيفَ فِي عَرَصَاتِهَا قَبْلَ دُخُولِ الْجَنَّةِ أَوِ النَّارِ. كَمَا حَكَاهُ الشَّيْخُ أَبُو الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيُّ عَنْ مَذْهَبِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ مِنَ امْتِحَانِ الْأَطْفَالِ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى:{يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ} .

وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصِّحَاحِ وَغَيْرِهَا: «أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ يَسْجُدُونَ لِلَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَأَنَّ الْمُنَافِقَ لَا يَسْتَطِيعُ ذَلِكَ،

وَيَعُودُ ظَهْرُهُ كَالصَّفِيحَةِ الْوَاحِدَةِ طَبَقًا وَاحِدًا، كُلَّمَا أَرَادَ السُّجُودَ خَرَّ لِقَفَاهُ» (1) . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ فِي الرَّجُلِ الَّذِي يَكُونُ آخِرَ أَهْلِ النَّارِ خُرُوجًا مِنْهَا:«أَنَّ اللَّهَ يَأْخُذُ عُهُودَهُ وَمَوَاثِيقَهُ أَلَّا يَسْأَلَ غَيْرَ مَا هُوَ فِيهِ، وَيَتَكَرَّرُ ذَلِكَ مِنْهُ، وَيَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: يَا بن آدم، مَا أغدرك ثُمَّ يَأْذَنُ لَهُ فِي دُخُولِ الْجَنَّةِ» (2) .

وَأَمَّا قَوْلُهُ: فَكَيْفَ يُكَلِّفُهُمُ اللَّهُ دُخُولَ النَّارِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ فِي وُسْعِهِمْ؟ فَلَيْسَ هَذَا بِمَانِعٍ مِنْ صِحَّةِ الْحَدِيثِ. فَإِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ الْعِبَادَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِالْجَوَازِ عَلَى الصِّرَاطِ وَهُوَ جِسْرٌ عَلَى مَتْنِ جَهَنَّمَ أَحَدُّ مِنَ السَّيْفِ وَأَدَقُّ مِنَ الشَّعْرِ، وَيَمُرُّ الْمُؤْمِنُونَ عَلَيْهِ بِحَسْبِ أَعْمَالِهِمْ، كَالْبَرْقِ، وَكَالرِّيحِ، وَكَأَجَاوِيدِ الْخَيْلِ وَالرِّكَابِ، وَمِنْهُمُ السَّاعِي، وَمِنْهُمُ الْمَاشِي، وَمِنْهُمْ مَنْ يَحْبُو حَبْوًا، وَمِنْهُمُ الْمَكْدُوسُ عَلَى وَجْهِهِ فِي النَّارِ. وَلَيْسَ مَا وَرَدَ فِي أُولَئِكَ بِأَعْظَمَ مِنْ هَذَا، بَلْ هَذَا أَطَم وَأعظم!

وَأَيْضًا: فَقَدْ ثَبَتَتِ السُّنَّةُ بِأَنَّ الدَّجَّالَ يَكُونُ مَعَهُ جَنَّةٌ وَنَارٌ، وَقَدْ أَمَرَ الشَّارِعُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يُدْرِكُونَهُ أَنْ يَشْرَبَ أَحَدُهُمْ مِنَ الَّذِي يرى أَنه نَار فَإِنَّهُ

(1) - أخرجه البُخَارِيّ (6/2704)(7000) ، وَمُسلم (1/167)(183) مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ رضي الله عنه.

(2)

- أخرجه البُخَارِيّ (5/2403)(6204) ، وَمُسلم (1/163)(182) مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه.

ص: 368

يَكُونُ عَلَيْهِ بَرْدًا وَسَلَامًا (1) . فَهَذَا نَظِيرُ ذَلِكَ.

وَأَيْضًا: فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنْ يَقْتُلُوا أَنْفُسَهُمْ، فَقَتَلَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا حَتَّى قَتَلُوا فِيمَا قِيلَ فِي غَدَاةٍ وَاحِدَةٍ سَبْعِينَ أَلْفًا، يَقْتُلُ الرَّجُلُ أَبَاهُ وَأَخَاهُ، وَهُمْ فِي عَمَايَةِ غَمَامَةٍ أَرْسَلَهَا اللَّهُ عَلَيْهِمْ، وَذَلِكَ عُقُوبَةٌ لَهُمْ عَلَى عِبَادَةِ الْعِجْلِ (2) . وَهَذَا أَيْضًا شَاقٌّ عَلَى النُّفُوسِ جِدًّا لَا يَتَقَاصَرُ عَمَّا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. انْتَهَى كَلَامُ ابْنِ كَثِيرٍ بِلَفْظِهِ.

وَقَالَ ابْنُ كَثِيرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَيْضًا قَبْلَ هَذَا الْكَلَامِ بِقَلِيلٍ مَا نَصُّهُ: وَمِنْهُمْ مَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّهُمْ يُمْتَحَنُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِي عَرَصَاتِ الْمَحْشَرِ، فَمَنْ أَطَاعَ دَخَلَ الْجَنَّةَ، وَانْكَشَفَ عِلْمُ اللَّهِ فِيهِ بِسَابِقِ السَّعَادَةِ، وَمَنْ عَصَى دَخَلَ النَّارَ دَاخِرًا، وَانْكَشَفَ عِلْمُ اللَّهِ فِيهِ بِسَابِقِ الشَّقَاوَةِ (3) .

وَهَذَا الْقَوْلُ يَجْمَعُ بَيْنَ الْأَدِلَّةِ كُلِّهَا، وَقَدْ صَرَّحَتْ بِهِ الْأَحَادِيثُ الْمُتَقَدِّمَةُ الْمُتَعَاضِدَةُ، الشَّاهِدُ بَعْضُهَا لِبَعْضٍ.

وَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ الَّذِي حَكَاهُ الشَّيْخُ أَبُو الْحسن عَليّ بن إِسْمَاعِيل الْأَشْعَرِيّ

(1) - أخرجه البُخَارِيّ (3/1272)(3266) ، وَمُسلم (4/2248)(2934) من حَدِيث حُذَيْفَة رضي الله عنه.

(2)

- انْظُر الْآثَار الْوَارِدَة فِي ذَلِك فِي " تَفْسِير الطَّبَرِيّ"(1/286) .

(3)

- أخرج أَحْمد (4/24) عَن الْأسود بن سريع أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: {أَرْبَعَة يَوْم الْقِيَامَة رجل أَصمّ لَا يسمع شَيْئا وَرجل أَحمَق وَرجل هرم وَرجل مَاتَ فِي فَتْرَة فَأَما الْأَصَم فَيَقُول رب لقد جَاءَ الْإِسْلَام وَمَا أسمع شَيْئا وَأما الأحمق فَيَقُول رب لقد جَاءَ الْإِسْلَام وَالصبيان يحذفوني بالبعر وَأما الْهَرم فَيَقُول رَبِّي لقد جَاءَ الْإِسْلَام وَمَا أَعقل شَيْئا وَأما الَّذِي مَاتَ فِي الفترة فَيَقُول رب مَا أَتَانِي لَك رَسُول فَيَأْخُذ مواثيقهم ليطيعنه فَيُرْسل إِلَيْهِم أَن أدخلُوا النَّار قَالَ فوالذي نفس مُحَمَّد بِيَدِهِ لَو دخلوها لكَانَتْ عَلَيْهِم بردا وَسلَامًا} ، وَأخرج نَحوه عَن أبي هُرَيْرَة، والْحَدِيث صَححهُ الشَّيْخ الألباني رحمه الله فِي الصَّحِيحَة (1434) ، وَهُوَ فصل النزاع فِي هَذِه الْمَسْأَلَة.

ص: 369

عَنْ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ، وَهُوَ الَّذِي نَصَرَهُ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرٍ الْبَيْهَقِيُّ فِي كِتَابِ (الِاعْتِقَادِ) وَكَذَلِكَ غَيْرُهُ مِنْ مُحَقِّقِي الْعُلَمَاءِ وَالْحُفَّاظِ وَالنُّقَّادِ. انْتَهَى مَحَلُّ الْغَرَضِ مِنْ كَلَامِ ابْنِ كَثِيرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى، وَهُوَ وَاضِحٌ جِدًّا فِيمَا ذَكَرْنَا.

الْأَمْرُ الثَّانِي: أَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَ الْأَدِلَّةِ وَاجِبٌ مَتَى مَا أَمْكَنَ بِلَا خِلَافٍ؛ لِأَنَّ إِعْمَالَ الدَّلِيلَيْنِ أَوْلَى مِنْ إِلْغَاءِ أَحَدِهِمَا، وَلَا وَجْهَ لِلْجَمْعِ بَيْنَ الْأَدِلَّةِ إِلَّا هَذَا الْقَوْلُ بِالْعُذْرِ وَالِامْتِحَانِ، فَمَنْ دَخَلَ النَّارَ فَهُوَ الَّذِي لَمْ يَمْتَثِلْ مَا أَمَرَ بِهِ عِنْدَ ذَلِكَ الِامْتِحَانِ، وَيَتَّفِقُ بِذَلِكَ جَمِيعُ الْأَدِلَّةِ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.

وَلَا يَخْفَى أَنَّ مِثْلَ قَوْلِ ابْنِ عَبْدِ الْبَرِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: إِنَّ الْآخِرَةَ دَارُ جَزَاءٍ لَا دَارُ عَمَلٍ لَا يَصِحُّ أَنْ تَرِدَ بِهِ النُّصُوصُ الصَّحِيحَةُ الثَّابِتَةُ عَنِ النَّبي صلى الله عليه وسلم. كَمَا أَوْضَحْنَاهُ فِي كِتَابِنَا (دَفْعُ إِيهَامِ الِاضْطِرَابِ عَنْ آيَاتِ الْكتاب) .] (1) .

(1) - 3/429: 440، بني إِسْرَائِيل / 15، وَانْظُر أَيْضا (2/168)(الْأَنْعَام/19) .

ص: 370