الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الْإِجْرَامِ، وَالْإِجْرَامُ: ارْتِكَابُ الْجَرِيمَةِ، وَهِيَ الذَّنْبُ الَّذِي يَسْتَحِقُّ صَاحِبُهُ بِهِ النَّكَالَ وَالْعَذَابَ، وَلَمْ يَأْتِ الْإِجْرَامُ فِي الْقُرْآنِ إِلَّا مِنْ أَجرم الرُّبَاعِيِّ عَلَى وَزْنِ أَفعل، وَيَجُوزُ إِتْيَانُهُ فِي اللُّغَةِ بِصِيغَةِ الثُّلَاثِيِّ فَتَقُولُ: جَرم يجْرمُ كَضَرَبَ يضرِب، وَالْفَاعِلُ مِنْهُ جَارِمٌ، وَالْمَفْعُولُ مجْروم، كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ، وَمِنْهُ قَوْلُ عَمْرِو بْنِ الْبَرَّاقَةِ النَّهْمِيِّ:
وَنَنْصُرُ مَوْلَانَا وَنَعْلَمُ أَنَّهُ
…
كَمَا النَّاسِ مَجْرُومٌ عَلَيْهِ وجارمُ
وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ {وِرْداً} أَيْ عِطَاشًا، وَأَصْلُ الْوِرْدِ: الْإِتْيَانُ إِلَى الْمَاءِ، وَلَمَّا كَانَ الْإِتْيَانُ إِلَى الْمَاءِ لَا يَكُونُ إِلَّا مِنَ الْعَطَشِ أُطْلِقَ هُنَا اسْمُ الْوِرْدِ عَلَى الْجَمَاعَةِ الْعِطَاشِ، أَعَاذَنَا اللَّهُ وَالْمُسْلِمِينَ مِنَ الْعَطَشِ فِي الْآخِرَةِ وَالدُّنْيَا، وَمِنْ إِطْلَاقِ الْوِرْدِ عَلَى الْمَسِيرِ إِلَى الْمَاءِ قَوْلُ الرَّاجِزِ يُخَاطِبُ نَاقَتَهُ:
رِدِي رِدِي وِرْدَ قَطَاةٍ صمًّا
…
كدرية أعجبها برد المَاء] (1) .
-
زَلْزَلَة السَّاعَة
.
[قَوْله تَعَالَى: {ياأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَىْءٌ عَظِيمٌ يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّآ أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُم بِسُكَارَى وَلكن عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ} أَمَرَ جَلَّ وَعَلَا فِي أَوَّلِ هَذِهِ السُّورَةِ الْكَرِيمَةِ: النَّاسَ بِتَقْوَاهُ جَلَّ وَعَلَا، بِامْتِثَالِ أَمْرِهِ، وَاجْتِنَابِ نَهْيِهِ، وَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ، تَذْهَلُ بِسَبَبِهِ الْمَرَاضِعُ عَنْ أَوْلَادِهَا، وَتَضَعُ بِسَبَبِهِ الْحَوَامِلُ أَحْمَالَهَا، مِنْ شِدَّةِ الْهَوْلِ وَالْفَزَعِ، وَأَنَّ النَّاسَ يُرَوْنَ فِيهِ كَأَنَّهُمْ سُكَارَى مِنْ شِدَّةِ الْخَوْفِ، وَمَا هُمْ بسكارى من شرب الْخمر، وَلَكِن عَذَابه
(1) - 4/422: 425، مَرْيَم / 85، 86.
شَدِيد
…
وَمَا بَيَّنَهُ هُنَا مِنْ شَدَّةِ أَهْوَالِ السَّاعَةِ، وَعِظَمِ زَلْزَلَتِهَا، بَيَّنَهُ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {إِذَا زُلْزِلَتِ الأَرْضُ زِلْزَالَهَا وَأَخْرَجَتِ الأَرْضُ أَثْقَالَهَا وَقَالَ الإِنسَانُ مَا لَهَا يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا} وَقَوْلِهِ تَعَالَى {وَحُمِلَتِ الأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً} وَقَوْلِهِ تَعَالَى {إِذَا رُجَّتِ الأَرْضُ رَجّاً وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسّاً} وَقَوْلِهِ تَعَالَى {يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ أَبْصَارُهَا خَاشِعَةٌ} وَقَوْلِهِ تَعَالَى {ثَقُلَتْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ لَا تَأْتِيكُمْ إِلَاّ بَغْتَةً} إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى عِظَمِ هَوْلِ السَّاعَة
…
وَالزَّلْزَلَةُ: شِدَّةُ التَّحْرِيكِ وَالْإِزْعَاجِ، وَمُضَاعَفَةُ زَلِيلِ الشَّيْءِ عَنْ مَقَرِّهِ وَمَرْكَزِهِ: أَيْ تَكْرِيرُ انْحِرَافِهِ وَتَزَحْزُحِهِ عَنْ مَوْضِعِهِ، لِأَنَّ الْأَرْضَ إِذَا حُرِّكَتْ حَرَكَةً شَدِيدَةً تَزَلْزَلَ كُلُّ شَيْءٍ عَلَيْهَا زَلْزَلَةً قَوِيَّةً.
وَقَوله {يَوْمَ تَرَوْنَهَا} مَنْصُوب بتذهل، وَالضَّمِيرُ عَائِدٌ إِلَى الزَّلْزَلَةِ، وَالرُّؤْيَةُ: بَصَرِيَّةٌ، لِأَنَّهُمْ يَرَوْنَ زَلْزَلَةَ الْأَشْيَاءِ بِأَبْصَارِهِمْ، وَهَذَا هُوَ الظَّاهِرُ، وَقيل: إِنَّهَا من رَأْي العلمية.
وَقَوله {تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ} أَي بِسَبَب تِلْكَ الزلزلة، والذهول: الذّهاب عَن الْأَمر مَعَ دهشة، وَمِنْهُ قَوْلُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَوَاحَةَ رضي الله عنه:
ضربا يزِيل الْهَام عَن مقِيله
…
وَيذْهل الخليلَ عَن خَلِيله
وَقَالَ قطرب: ذهل عَن الْأَمر: اشْتغل عَنهُ. وَقيل: ذهل عَن الْأَمر: غفل عَنهُ لطرو شاغل، من هم أَو مرض، أَو نَحْو ذَلِك، وَالْمعْنَى وَاحِد، وَبَقِيَّة الْأَقْوَال رَاجِعَة إِلَى مَا ذكرنَا.
وَقَوله {كُلُّ مُرْضِعَةٍ} أَيْ كُلُّ أُنْثَى تُرْضِعُ وَلَدَهَا، وَوَجْهُ قَوْلِهِ: مُرْضِعَةٍ، وَلَمْ يَقُلْ: مُرْضِعٍ: هُوَ مَا تَقَرَّرَ فِي عِلْمِ الْعَرَبِيَّةِ، مِنْ أَنَّ الْأَوْصَافَ
الْمُخْتَصَّةَ بِالْإِنَاثِ إِنْ أُرِيدَ بِهَا الْفِعْلُ لَحِقَهَا التَّاءُ، وَإِنْ أُرِيدَ بِهَا النَّسَبُ جُرِّدَتْ مِنَ التَّاءِ، فَإِنْ قُلْتَ: هِيَ مُرْضِعٌ تُرِيدُ: أَنَّهَا ذَات رضَاع، جردته من التَّاء كَقَوْل امرىء الْقَيْس:
فمثلكِ حُبلى قد طرقت ومرضعا
…
فأَلْهَيْتُهَا عَنْ ذِي تمائِمَ مُغْيَلِ
وَإِنْ قُلْتَ: هِيَ مُرْضِعَةٌ بِمَعْنَى، أَنَّهَا تَفْعَلُ الرَّضَاعَ: أَيْ تُلْقِمُ الْوَلَدَ الثَّدْيَ، قُلْتَ: هِيَ مُرْضِعَةٌ بِالتَّاءِ وَمِنْهُ قَوْلُهُ:
كَمُرْضِعَةٍ أَوْلَادَ أُخرى وَضَيَّعَتْ
…
بَنِي بَطْنِهَا هَذَا الضَّلَالُ عَنِ الْقَصْدِ
كَمَا أَشَارَ لَهُ بِقَوْلِهِ:
وَمَا مِنَ الصِّفَاتِ بِالْأُنْثَى يَخُصُّ
…
عَنْ تَاءٍ اسْتَغْنَى لِأَنَّ اللَّفْظَ نَصٌّ
وَحَيْثُ مَعْنَى الْفِعْلِ يَعْنِي التَّاءَ زِدْ
…
كَذِي غَدَتْ مُرْضِعَةً طِفْلًا ولَد
وَمَا زَعَمَهُ بَعْضُ النُّحَاةِ الْكُوفِيِّينَ: مِنْ أَنَّ أُمَّ الصَّبِيِّ مُرْضِعَةٌ بِالتَّاءِ وَالْمُسْتَأْجَرَةَ لِلْإِرْضَاعِ: مُرْضِعٌ بِلَا هَاءٍ بَاطِلٌ، قَالَهُ أَبُو حَيَّانَ فِي الْبَحْرِ، وَاسْتَدَلَّ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ: كَمُرْضِعَةٍ أَوْلَادَ أُخْرَى الْبَيْتَ: فَقَدْ أَثْبَتَ التَّاءَ لِغَيْرِ الْأُمِّ، وَقَوْلُ الْكُوفِيِّينَ أَيْضًا: إِنَّ الْوَصْفَ الْمُخْتَصَّ بِالْأُنْثَى لَا يُحْتَاجُ فِيهِ إِلَى التَّاءِ، لِأَنَّ الْمُرَادَ مِنْهَا الْفَرْقُ بَيْنَ الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى: وَالْوَصْفُ الْمُخْتَصُّ بِالْأُنْثَى لَا يَحْتَاجُ إِلَى فَرْقٍ لِعَدَمِ مُشَارَكَةِ الذَّكَرِ لَهَا فِيهِ مَرْدُودٌ أَيْضًا، قَالَهُ أَبُو حَيَّانَ فِي الْبَحْرِ أَيْضًا مُسْتَدِلًّا بِقَوْلِ الْعَرَبِ: مُرْضِعَةٌ، وَحَائِضَةٌ، وَطَالِقَةٌ: وَالْأَظْهَرُ فِي ذَلِكَ هُوَ مَا قَدَّمْنَا، مِنْ أَنَّهُ إِنْ أُرِيدَ الْفِعْلُ جِيءَ بِالتَّاءِ، وَإِنْ أُرِيدَ النِّسْبَةُ جُرِّدَ مِنَ التَّاءِ، وَمِنْ مَجِيءِ التَّاءِ لِلْمَعْنَى الْمَذْكُورِ قَوْلُ الْأَعْشَى:
أَجَارَتَنَا بينِي فَإِنَّكِ طَالِقَهْ
…
كَذَاكَ أُمُورُ النَّاسِ غادٍ وَطَارِقَهْ
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: فَإِنْ قُلْتَ: لِمَ قِيلَ: مُرْضِعَةٍ دُونَ مُرْضِعٍ؟
قُلْتُ: الْمُرْضِعَةُ الَّتِي هِيَ فِي حَالِ الْإِرْضَاعِ مُلْقِمَةٌ ثَدْيَهَا الصَّبِيَّ، وَالْمُرْضِعُ: الَّتِي شَأْنُهَا أَنْ تُرْضِعَ، وَإِنْ لَمْ تُبَاشِرِ الْإِرْضَاعَ فِي حَالِ وصفهَا بِهِ، فَقيل: مُرْضِعَة، ليدل عَلَى أَنَّ ذَلِكَ الْهَوْلَ، إِذَا فُوجِئَتْ بِهِ هَذِهِ، وَقَدْ أَلْقَمَتِ الرَّضِيعَ ثَدْيَهَا: نَزَعَتْهُ عَنْ فِيهِ، لِمَا يَلْحَقُهَا مِنَ الدَّهْشَةِ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى {عَمَّآ أَرْضَعَتْ} الظَّاهِرُ أَنَّ مَا: مَوْصُولَةٌ، وَالْعَائِدُ مَحْذُوفٌ: أَيْ أَرْضَعَتْهُ عَلَى حَدِّ قَوْلِهِ فِي الْخُلَاصَةِ:
* وَالْحَذْفُ عِنْدَهُمْ كَثِيرٌ مِنْجَلِي *
فِي عائدٍ مُتَّصل إِنِ انْتَصَبَ
…
بفعلٍ أَوْ وصفٍ كَمَنْ نَرْجُو يَهَبْ
وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: هِيَ مَصْدَرِيَّةٌ: أَيْ تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَنْ إِرْضَاعِهَا.
قَالَ أَبُو حَيَّانَ فِي الْبَحْرِ: وَيُقَوِّي كَوْنَهَا مَوْصُولَةً تَعَدِّي وَضَعَ إِلَى الْمَفْعُولِ بِهِ فِي قَوْلِهِ: حَمْلَهَا لَا إِلَى الْمَصْدَرِ.
وَقَوْلُهُ: {وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا} أَيْ كُلُّ صَاحِبَةِ حَمْلٍ تضع جَنِينهَا، من شدَّة الْفَزع، والهول، وَالْحمل بِالْفَتْحِ: مَا كَانَ فِي بَطْنٍ مِنْ جَنِينٍ، أَوْ عَلَى رَأْسِ شَجَرَةٍ مِنْ ثَمَرٍ.
{وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى} جَمْعُ سَكْرَانَ: أَيْ يُشَبِّهُهُمْ مَنْ رَآهُمْ بِالسُّكَارَى، مِنْ شِدَّةِ الْفَزَعِ {وَمَا هُم بِسُكَارَى} مِنَ الشَّرَابِ {وَلكن عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ} وَالْخَوْفُ مِنْهُ هُوَ الَّذِي صيَّر مَنْ رَآهُمْ يُشَبِّهُهُمْ بِالسُّكَارَى، لِذَهَابِ عُقُولِهِمْ، مِنْ شِدَّةِ الْخَوْفِ، كَمَا يَذْهَبُ عَقْلُ السَّكْرَانِ مِنَ الشَّرَابِ. وَقَرَأَ حَمْزَة وَالْكسَائِيّ {وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُم بِسُكَارَى} بِفَتْحِ السِّينِ، وَسُكُونِ الْكَافِ فِي الْحَرْفَيْنِ عَلَى وَزْنِ فَعْلَى بِفَتْحٍ فَسُكُونٍ. وَقَرَأَهُ الْبَاقُونَ {سُكَارَى} بِضَمِّ السِّينِ، وَفَتْحِ الْكَافِ بَعْدَهَا أَلِفٌ فِي الْحَرْفَيْنِ أَيْضًا، وَكِلَاهُمَا جَمْعُ سَكْرَانَ عَلَى التَّحْقِيقِ. وَقِيلَ: إِنَّ سَكْرَى بِفَتْحٍ فَسُكُونٍ: جَمَعُ سَكِرٍ بِفَتْحٍ فَكَسْرٍ بِمَعْنَى: السَّكْرَانِ، كَمَا يُجْمَعُ الزَّمِنُ
عَلَى الزَّمْنَى، قَالَهُ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ، كَمَا نَقَلَهُ عَنْهُ أَبُو حَيَّانَ فِي الْبَحْرِ. وَقِيلَ: إِن سكرى مُفْرد، وَهُوَ غير صَوَاب
…
مَسْأَلَةٌ
اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي وَقْتِ هَذِهِ الزَّلْزَلَةِ الْمَذْكُورَةِ هُنَا، هَلْ هِيَ بَعْدَ قِيَامِ النَّاسِ مِنْ قُبُورِهِمْ يَوْمَ نَشُورِهِمْ إِلَى عَرَصَاتِ الْقِيَامَةِ، أَوْ هِيَ عِبَارَةٌ عَنْ زَلْزَلَةِ الْأَرْضِ قَبْلَ قِيَامِ النَّاسِ مِنَ الْقُبُورِ؟
فَقَالَتْ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ: هَذِهِ الزَّلْزَلَةُ كَائِنَةٌ فِي آخِرِ عُمْرِ الدُّنْيَا، وَأَوَّلِ أَحْوَالِ السَّاعَةِ، وَمِمَّنْ قَالَ بِهَذَا الْقَوْلِ: عَلْقَمَةُ، وَالشَّعْبِيُّ، وَإِبْرَاهِيمُ، وَعُبَيْدُ بْنُ عُمَيْرٍ، وَابْنُ جُرَيْجٍ. وَهَذَا الْقَوْلُ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى لَهُ وَجْهٌ مِنَ النَّظَرِ، وَلَكِنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ مَا يُؤَيِّدُهُ مِنَ النَّقْلِ، بَلِ الثَّابِتُ مِنَ النَّقْلِ يُؤَيِّدُ خِلَافَهُ. وَهُوَ الْقَوْلُ الْآخَرُ.
وَحُجَّةُ مَنْ قَالَ بِهَذَا الْقَوْلِ حَدِيثٌ مَرْفُوعٌ، جَاءَ بِذَلِكَ، إِلَّا أَنَّهُ ضَعِيفٌ لَا يَجُوزُ الِاحْتِجَاجُ بِهِ.
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ (1) مُبَيِّنًا دَلِيلَ مَنْ قَالَ: إِنَّ الزَّلْزَلَةَ الْمَذْكُورَةَ فِي آخِرِ الدُّنْيَا قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ: حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُحَمَّدٍ الْمُحَارِبِيُّ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ رَافِعٍ الْمَدَنِيِّ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي زِيَادٍ، عَنْ رَجُلٍ مِنَ الْأَنْصَارِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيِّ، عَنْ رَجُلٍ مِنَ الْأَنْصَارِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (2)
قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «لما فرغ الله من
(1) - (16/30) .
(2)
- وَهَذَا الْإِسْنَاد ضَعِيف لما فِيهِ من المجاهيل، وَكَذَا لضعف إِسْمَاعِيل بن أبي رَافع، فقد قَالَ عَنهُ الذَّهَبِيّ فِي الكاشف: ضَعِيف واه، وَقَالَ عَنهُ ابْن حجر فِي التَّقْرِيب: ضَعِيف الْحِفْظ.، وَكَذَا يزِيد، وَصَوَابه: مُحَمَّد بن يزِيد، وَقَالَ عَنهُ الذَّهَبِيّ فِي الكاشف: لَيْسَ بِحجَّة، وَقَالَ عَنهُ ابْن حجر فِي التَّقْرِيب: مَجْهُول الْحَال..
خَلْقِ السمواتِ والأرضِ خَلَقَ الصُّور فَأُعْطِيَ إسرافيلَ فَهُوَ وَاضِعُهُ عَلَى فِيهِ شَاخِصٌ بِبَصَرِهِ إِلَى السَّمَاءِ يَنْظُرُ مَتَى يُؤْمَرُ:» قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَمَا الصُّور؟ قَالَ:«قَرْنٌ» ، قَالَ: وَكَيْفَ هُوَ؟ قَالَ: «قَرْنٌ عَظِيمٌ يُنْفَخُ فِيهِ ثَلَاثَ نَفْخَاتٍ، الْأُولَى: نَفْخَةُ الْفَزَعِ، وَالثَّانِيَةُ: نَفْخَةُ الصَّعْقِ: وَالثَّالِثَةُ: نَفْخَةُ الْقِيَامِ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ» ، يَأْمُرُ اللَّهُ عز وجل إِسْرَافِيلَ بالنَّفخة الْأُولَى: انْفُخْ نَفْخَةَ الْفَزَعِ فَتُفْزِعُ أَهْلَ السَّمَاوَاتِ والأرضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ وَيَأْمُرُهُ اللَّهُ فَيُدِيمُهَا وَيُطَوِّلُهَا فَلَا يَفْتُرُ، وَهِيَ الَّتِي يَقُولُ اللَّهُ {وَمَا يَنظُرُ هَؤُلَاءِ إِلَاّ صَيْحَةً واحِدَةً مَّا لَهَا مِن فَوَاقٍ} فَيُسَيِّرُ اللَّهُ الْجِبَالَ فَتَكُونُ سَرَابًا، وَتُرَجُّ الْأَرْضُ بِأَهْلِهَا رَجًّا، وَهِيَ الَّتِي يَقُولُ اللَّهُ {يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ} فَتَكُونُ الْأَرْضُ كَالسَّفِينَةِ الْمُوبَقَةِ فِي الْبَحْرِ، تَضْرِبُهَا الْأَمْوَاجُ تُكْفَأُ بِأَهْلِهَا، أَوْ كَالْقِنْدِيلِ الْمُعَلَّقِ بِالْعَرْشِ، تُرَجِّجُهُ الْأَرْوَاحُ، فَتَمِيدُ النَّاسُ عَلَى ظَهْرِهَا، فَتَذْهَلُ الْمَرَاضِعُ، وَتَضَعُ الْحَوَامِلُ، وَتَشِيبُ الْوِلْدَانُ، وَتَطِيرُ الشَّيَاطِينُ هَارِبَةً حَتَّى تَأْتِيَ الْأَقْطَارَ، فَتَلَقَّاهَا الْمَلَائِكَةُ، فَتَضْرِبُ وُجُوهَهَا، وَيُوَلِّي النَّاسُ مُدْبِرِينَ، يُنَادِي بَعْضُهُمْ بَعْضًا، وَهُوَ الَّذِي يَقُولُ اللَّهُ {يَوْمَ التَّنَادِ يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ مَا لَكُمْ مِّنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} فَبَيْنَمَا هُمْ عَلَى ذَلِكَ، إِذْ تَصَدَّعَتِ الْأَرْضُ مِنْ قُطْرٍ إِلَى قُطْرٍ فَرَأَوْا أَمْرًا عَظِيمًا، وَأَخَذَهُمْ لِذَلِكَ مِنَ الْكَرْبِ مَا اللَّهُ أَعْلَمُ بِهِ، ثُمَّ نَظَرُوا إِلَى السَّمَاءِ، فَإِذَا هِيَ كالمُهل، ثُمَّ خُسِفَتْ شَمْسُهَا، وَخُسِفَ قَمَرُهَا، وَانْتَثَرَتْ نُجُومُهَا، ثُمَّ كُشِطَتْ عَنْهُمْ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:«وَالْأَمْوَاتُ لَا يَعْلَمُونَ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ» فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: فَمَنِ اسْتَثْنَى اللَّهُ حِينَ يَقُول {فَفَزِعَ مَن فِى السَّمَوَات وَمَن فِى الأَرْضِ إِلَاّ مَن شَآءَ اللَّهُ} قَالَ: «أُولَئِكَ الشُّهَدَاءُ، وَإِنَّمَا يَصِلُ الْفَزَعُ إِلَى
الْأَحْيَاءِ، أُولَئِكَ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ
يُرْزَقُونَ، وَقَاهُمُ اللَّهُ فَزَعَ ذَلِكَ الْيَوْمِ، وَأَمَّنَهُمْ، وَهُوَ عَذَاب الله يَبْعَثهُ على شِرَاء خلقه، وَهُوَ الَّذِي يَقُول {ياأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَىْءٌ عَظِيمٌ} إِلَى قَوْلِهِ {وَلكن عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ} » انْتَهَى مِنْهُ. وَلَا يَخْفَى ضَعْفُ الْإِسْنَادِ الْمَذْكُورِ كَمَا تَرَى. وَابْنُ جَرِيرٍ رحمه الله قَبْلَ أَنْ يَسُوقَ الْإِسْنَادَ الْمَذْكُورَ قَالَ مَا نَصُّهُ: وَقَدْ رُوِيَ عَنِ النَّبي صلى الله عليه وسلم بِنَحْوِ مَا قَالَ هَؤُلَاءِ خَبَرٌ فِي إِسْنَادِهِ نَظَرٌ، وَذَلِكَ مَا حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ إِلَى آخِرِ الْإِسْنَادِ، كَمَا سُقْنَاهُ عَنْهُ آنِفًا.
وَقَالَ ابْنُ كَثِيرٍ رحمه الله فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ: وَقَدْ أَوْرَدَ الْإِمَامُ أَبُو جَعْفَرِ بْنُ جَرِيرٍ مُسْتَنَدَ مَنْ قَالَ ذَلِكَ فِي حَدِيثِ الصُّورِ، مِنْ رِوَايَةِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ رَافِعٍ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي زِيَادٍ، عَنْ رَجُلٍ مِنَ الْأَنْصَارِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيِّ، عَنْ رَجُلٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، ثُمَّ سَاقَ الْحَدِيثَ نَحْوَ مَا ذَكَرْنَاهُ بِطُولِهِ، ثُمَّ قَالَ: هَذَا الْحَدِيثُ قَدْ رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَغَيْرُ وَاحِدٍ مُطَوَّلًا جِدًّا.
وَالْغَرَضُ مِنْهُ: أَنَّهُ دلَّ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الزَّلْزَلَةَ كَائِنَةٌ قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ أُضِيفَتْ إِلَى السَّاعَةِ لِقُرْبِهَا مِنْهَا، كَمَا يُقَالُ: أَشْرَاطُ السَّاعَةِ، وَنَحْوُ ذَلِكَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. انْتَهَى مِنْهُ. وَقَدْ عَلِمْتَ ضَعْفَ الْإِسْنَادِ الْمَذْكُورِ.
وَأَمَّا حُجَّةُ أَهْلِ الْقَوْلِ الْآخَرِ الْقَائِلِينَ: بِأَنَّ الزَّلْزَلَةَ الْمَذْكُورَةَ كَائِنَةٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بَعْدَ الْبَعْثِ مِنَ الْقُبُورِ، فَهِيَ مَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنِ النَّبي صلى الله عليه وسلم مِنْ تَصْرِيحِهِ بِذَلِكَ. وَبِذَلِكَ تَعْلَمُ أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ هُوَ الصَّوَابُ كَمَا لَا يَخْفَى.
قَالَ الْبُخَارِيُّ رحمه الله فِي صَحِيحِهِ (1) فِي التَّفْسِيرِ فِي بَابِ قَوْلِهِ {وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى} حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ حَفْصٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ، حَدَّثَنَا أَبُو صَالِحٍ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، قَالَ: قَالَ النَّبي صلى الله عليه وسلم
(1) - (4/1767)(4464) .
وَقَالَ أَبُو أُسَامَةَ، عَنِ الْأَعْمَشِ {وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُم بِسُكَارَى} قَالَ: من كل ألف تِسْعمائَة وَتِسْعَة وَتِسْعين: وَقَالَ جرير، وَعِيسَى بن يُونُس، وَأَبُو مُعَاوِيَة {سُكَارَى وَمَا هُم بِسُكَارَى} انْتَهَى مِنْ صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ.
وَفِيهِ تَصْرِيحِ النَّبي صلى الله عليه وسلم بِأَنَّ الْوَقْتَ الَّذِي تَضَعُ فِيهِ الْحَامِلُ حَمْلَهَا، وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى، وَمَا هُمْ بِسُكَارَى: هُوَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ لَا آخِرُ الدُّنْيَا.
وَقَالَ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ (1) أَيْضًا فِي كِتَابِ: الرِّقَاقِ فِي بَابِ: {إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَىْءٌ عَظِيمٌ} : حَدَّثَنِي يُوسُفُ بْنُ مُوسَى، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ «يَقُولُ اللَّهُ يَا آدَمُ، فَيَقُولُ: لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ وَالْخَيْرُ فِي يَدَيْكَ، قَالَ يَقُولُ: أَخْرِجْ بَعْثَ النَّارِ قَالَ: وَمَا بَعْثُ النَّارِ؟ قَالَ: مِنْ كُلِّ أَلْفٍ تِسْعَمِائَةٍ وَتِسْعَةً وَتِسْعِينَ، فَذَلِكَ حِينَ يَشِيبُ الصَّغِيرُ، وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا، وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى، وَمَا هُمْ
(1) - (5/2392)(6165) .
بِسُكَارَى. وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ. فَاشْتَدَّ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّنَا ذَلِكَ الرَّجُلُ: قَالَ: «أَبْشِرُوا، فَإِنَّ مِنْ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ أَلْفًا، وَمِنْكُمْ رَجُلٌ، ثُمَّ قَالَ: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنِّي لَأَطْمَعُ أَنْ تَكُونُوا ثُلُثَ أَهْلِ الْجَنَّةِ، فَحَمِدْنَا اللَّهَ وَكَبَّرْنَا. ثُمَّ قَالَ: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنِّي لَأَطْمَعُ أَنْ تَكُونُوا شَطْرَ أَهْلِ الْجَنَّةِ، إِنَّ مَثَلَكُمْ فِي الْأُمَمِ كَمَثَلِ الشَّعْرَةِ الْبَيْضَاءِ فِي جِلْدِ الثَّوْرِ الْأَسْوَدِ، أَوْ كَالرَّقْمَةِ فِي ذِرَاعِ الْحِمَارِ» انْتَهَى مِنْهُ. وَدَلَالَتُهُ عَلَى الْمَقْصُودِ ظَاهِرَةٌ.
وَقَالَ الْبُخَارِيُّ أَيْضًا فِي صَحِيحِهِ (1) فِي كِتَابِ: بَدْءِ الْخَلْقِ فِي أَحَادِيثِ الْأَنْبِيَاءِ فِي بَابِ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَن ذِى الْقَرْنَيْنِ} إِلَى قَوْلِهِ: {سَبَباً} حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ نَصْرٍ، حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، عَنِ الْأَعْمَش، حَدثنَا أَبُو صَالح، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه، عَنِ النَّبي صلى الله عليه وسلم قَالَ:«يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: يَا آدَمُ، فَيَقُولُ: لَبَّيْكَ، وَسَعْدَيْكَ، وَالْخَيْرُ فِي يَدَيْكَ، فَيَقُولُ: أَخْرِجْ بَعْثَ النَّارِ، قَالَ: وَمَا بَعْثُ النَّارِ؟ قَالَ: مِنْ كُلِّ أَلْفٍ تِسْعَمِائَةٍ وَتِسْعَةً وَتِسْعِينَ، فَعِنْدَهُ يَشِيبُ الصَّغِيرُ، وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا، وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى، وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ» إِلَى آخِرِ الْحَدِيثِ نَحْوَ مَا تَقَدَّمَ.
وَقَالَ مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ رحمه الله فِي صَحِيحِهِ (2) : فِي آخِرِ كِتَابِ الْإِيمَانِ بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ فِي بَابِ: بَيَانِ كَوْنِ هَذِهِ الْأُمَّةِ: نِصْفَ أَهْلِ الْجَنَّةِ: حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ الْعَبْسِيُّ، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «يَقُولُ اللَّهُ عز وجل: يَا آدَمُ، فَيَقُولُ: لَبَّيْكَ، وَسَعْدَيْكَ، وَالْخَيْرُ فِي يَدَيْكَ، قَالَ: يَقُولُ: أَخْرِجْ بَعْثَ النَّارِ، قَالَ: وَمَا بَعْثُ النَّارِ؟ قَالَ: مِنْ كُلِّ أَلْفٍ تِسْعَمِائَةٍ وَتِسْعَةً وَتِسْعِينَ، قَالَ:
(1) - (3/1221)(3170) .
(2)
- (1/201)(222) .
فَذَلِكَ حِينَ يَشِيبُ الصَّغِيرُ، وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا، وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى، وَمَا هُمْ بِسُكَارَى، وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ» إِلَى آخِرِ الْحَدِيثِ نَحْوَ مَا تَقَدَّمَ.
فَحَدِيثُ أَبِي سَعِيدٍ هَذَا الَّذِي اتَّفَقَ عَلَيْهِ الشَّيْخَانِ كَمَا رَأَيْتَ، فِيهِ التَّصْرِيحُ مِنَ النَّبي صلى الله عليه وسلم بِأَنَّ الْوَقْتَ الَّذِي تَضَعُ فِيهِ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا، وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى، وَمَا هُمْ بِسُكَارَى، بَعْدَ الْقِيَامِ مِنَ الْقُبُورِ كَمَا تَرَى، وَذَلِكَ نَصٌّ صَحِيحٌ صَرِيحٌ فِي مَحَلِّ النِّزَاعِ.
فَإِنْ قِيلَ: هَذَا النَّصُّ فِيهِ إِشْكَالٌ، لِأَنَّهُ بَعْدَ الْقِيَامِ مِنَ الْقُبُورِ لَا تَحْمِلُ الْإِنَاثُ، حَتَّى تَضَعَ حَمْلَهَا مِنَ الْفَزَعِ، وَلَا تُرْضِعَ، حَتَّى تَذْهَلَ عَمَّا أَرْضَعَتْ.
فَالْجَوَابُ عَنْ ذَلِكَ مِنْ وَجْهَيْنِ:
الْأَوَّلُ: هُوَ مَا ذَكَرَهُ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ، مِنْ أَنَّ مَنْ مَاتَتْ حَامِلًا تُبْعَثُ حَامِلًا، فَتَضَعُ حَمْلَهَا مِنْ شِدَّةِ الْهَوْلِ وَالْفَزَعِ، وَمَنْ مَاتَتْ مُرْضِعَةً بُعِثَتْ كَذَلِكَ، وَلَكِنَّ هَذَا يَحْتَاجُ إِلَى دَلِيلٍ.
الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ ذَلِكَ كِنَايَةٌ عَنْ شِدَّةِ الْهَوْلِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {يَوْماً يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيباً} وَمِثْلُ ذَلِكَ مِنْ أَسَالِيبِ اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ الْمَعْرُوفَةِ.
تَنْبِيهٌ
اعْلَمْ أَنَّ هَذَا الَّذِي دَلَّتْ عَلَيْهِ الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ الَّتِي ذَكَرْنَا بَعْضَهَا يَرِدُ عَلَيْهِ سُؤَالٌ، وَهُوَ أَنْ يُقَالَ: إِذَا كَانَتِ الزَّلْزَلَةُ الْمَذْكُورَةُ بَعْدَ الْقِيَامِ مِنَ الْقُبُورِ، فَمَا مَعْنَاهَا؟
وَالْجَوَابُ: أَنَّ مَعْنَاهَا: شِدَّةُ الْخَوْفِ، وَالْهَوْلِ، وَالْفَزَعِ، لِأَنَّ ذَلِكَ يُسَمَّى زِلْزَالًا، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى فِيمَا وَقَعَ بِالْمُسْلِمِينَ يَوْمَ الْأَحْزَابِ مِنَ الْخَوْفِ