الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مَنْ مَاتَ مِنْ أُمَّتِي لَا يُشْرِكُ بِاللَّهِ شَيْئا» رَوَاهُ
…
مُسلم (1) .] (2) .
وَقَالَ صَاحب التَّتِمَّة رحمه الله: [قَوْله تَعَالَى: {الَّذِى أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خوْفٍ} : إِنَّ فِي هَذِهِ السُّورَةِ دَلِيلًا عَلَى أَنَّ دَعْوَةَ الْأَنْبِيَاءِ مُسْتَجَابَةٌ، لِأَنَّ الْخَلِيلَ عَلَيْهِ وَعَلَى نَبينَا الصَّلَاة وَالسَّلَام دَعَا لأهل الْحَرَام بِقَوْلِهِ:{فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مَّنَ النَّاسِ تَهْوِى إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِّنَ الثَّمَرَاتِ} .
وَقَالَ أَيْضا: {رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ} ، فَأَطْعَمَهُمُ اللَّهُ مِنْ جُوعٍ وَآمَنُهُمْ مِنْ خَوْفٍ، وَبَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِم آيَاته.] (3) .
-
مِيرَاث الْأَنْبِيَاء - عَلَيْهِم الصَّلَاة وَالسَّلَام
-.
[قَوْله تَعَالَى عَنْ زَكَرِيَّا: {وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِىَ مِن وَرَآئِى وَكَانَتِ امْرَأَتِى عَاقِرًا فَهَبْ لِى مِن لَّدُنْكَ وَلِيّاً يَرِثُنِى وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيّاً} .
مَعْنَى قَوْلِهِ: {خِفْتُ الْمَوَالِىَ} أَيْ خِفْتُ أَقَارِبِي وَبَنِي عَمِّي وَعُصْبَتِي: أَنْ يُضَيِّعُوا الدِّينَ بَعْدِي، وَلَا يَقُومُوا لِلَّهِ بِدِينِهِ حَقَّ الْقِيَامِ، فَارْزُقْنِي وَلَدًا يَقُومُ بَعْدِي بِالدِّينِ حَقَّ الْقيام. وَبِهَذَا التَّفْسِير تعلم أَن معنى قومه «يَرِثنِي» أَنه إِرْث وَعلم وَنُبُوَّةٍ، وَدَعْوَةٍ إِلَى اللَّهِ وَالْقِيَامِ بِدِينِهِ، لَا إِرْثَ مَالٍ، وَيَدُلُّ لِذَلِكَ أَمْرَانِ:
أَحَدُهُمَا: قَوْلُهُ {وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ} وَمَعْلُومٌ أَنَّ آلَ يَعْقُوب انقرضوا
(1) - صَحِيحِ مُسْلِمٍ (1/189)(199) مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه.
(2)
- 4/344 - 345، مَرْيَم / 59 - 60.
(3)
- 9/539 - 540، قُرَيْش / 4.
مِنْ زَمَانٍ، فَلَا يُورَثُ عَنْهُمْ إِلَّا الْعِلْمُ وَالنُّبُوَّةُ وَالدِّينُ.
وَالْأَمْرُ الثَّانِي: مَا جَاءَ مِنَ الْأَدِلَّةِ عَلَى أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ لَا يُورَثُ عَنْهُمُ الْمَالُ، وَإِنَّمَا يُورَثُ عَنْهُمُ الْعِلْمُ وَالدِّينُ، فَمِنْ ذَلِكَ مَا أَخْرَجَهُ الشَّيْخَانِ فِي صَحِيحَيْهِمَا عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رضي الله عنه، عَنْهُ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ:«لَا نُورَثُ، مَا تَرَكْنَا صَدَقَةٌ» (1) ، وَمِنْ ذَلِكَ أَيْضًا مَا رَوَاهُ الشَّيْخَانِ أَيْضًا عَنْ عُمَرَ رضي الله عنه أَنَّهُ قَالَ لِعُثْمَانَ، وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، وَالزُّبَيْرِ وَسَعْدٍ، وَعَلِيٍّ، وَالْعَبَّاسِ، رضي الله عنهم:«أَنْشُدُكُمُ اللَّهَ الَّذِي بِإِذْنِهِ تَقُومُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ، أَتَعْلَمُونَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «لَا نُورَثُ مَا تَرَكْنَا صَدَقَةٌ» ، قَالُوا: نَعَمْ (2) . وَمِنْ ذَلِكَ مَا أَخْرَجَهُ الشَّيْخَانِ أَيْضًا عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها أَنَّ أَزْوَاجَ النَّبي صلى الله عليه وسلم حِينَ تُوَفِّي أَرَدْنَ أَنْ يَبْعَثْنَ عُثْمَانَ إِلَى أَبِي بَكْرٍ يَسْأَلْنَهُ مِيرَاثَهُنَّ. فَقَالَتْ عَائِشَةُ: أَلَيْسَ قَالَ النَّبي صلى الله عليه وسلم: «مَا تَرَكْنَا صَدَقَةٌ» (3) . وَمِنْ ذَلِكَ مَا رَوَاهُ الشَّيْخَانِ أَيْضًا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «لَا تقتسم ورثني دِينَارا، مَا تركتُ بعد نَفَقَة نسَائِي ومؤونة عَامِلِي فَهُوَ صدقةٌ» (4) وَفِي لَفْظٍ عِنْدَ أَحْمَدَ: «لَا تقتسم ورثني دِينَارًا وَلَا دِرْهَمًا» (5) .
وَمِنْ ذَلِكَ أَيْضًا مَا رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ فَاطِمَةَ رضي الله عنها قَالَتْ لِأَبِي بَكْرٍ رضي الله عنه: مَنْ يَرِثُكَ إِذَا مِتَّ؟ قَالَ: وَلَدِي وَأَهْلِي، قَالَتْ: فَمَا لَنَا لَا نَرِثُ النَّبي صلى الله عليه وسلم؟ قَالَ: سَمِعْتُ النَّبي صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «إِنَّ النَّبي لَا يُورَثُ» وَلَكِنْ أعول من كَانَ رَسُول الله
(1) - أخرجه البُخَارِيّ (3/1126)(2926) ، وَمُسلم (3/1380)(1759) .
(2)
- أخرجه البُخَارِيّ (5/2048)(5043) ، وَمُسلم (3/1376)(1757) .
(3)
- أخرجه البُخَارِيّ (6/2475)(6349) ، وَمُسلم (3/1379)(1758) .
(4)
- أخرجه البُخَارِيّ (3/1020)(2624) ، وَمُسلم (3/1382)(1760) .
(5)
- أخرجه أَحْمد (2/242) .
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعُولُهُ، وَأُنْفِقُ عَلَى مَنْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُنْفِقُ (1) .
فَهَذِهِ الْأَحَادِيثُ وَأَمْثَالُهَا ظَاهِرَةٌ فِي أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ لَا يُورَثُ عَنْهُمُ الْمَالُ بَلِ الْعِلْمُ وَالدِّينُ. فَإِنْ قِيلَ: هَذَا مُخْتَصٌّ بِهِ صلى الله عليه وسلم. لِأَنَّ قَوْلَهُ «لَا نُورَثُ» يَعْنِي بِهِ نَفْسَهُ. كَمَا قَالَ عُمَرُ رضي الله عنه فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ الْمُشَارِ إِلَيْهِ عَنْهُ آنِفًا: أُنْشِدُكُمْ بِاللَّهِ الَّذِي بِإِذْنِهِ تَقُومُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ، هَلْ تَعْلَمُونَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«لَا نُورَثُ مَا تَرَكْنَا صَدَقَةٌ» يُرِيدُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَفْسَهُ، فَقَالَ الرَّهْطُ: قَدْ قَالَ ذَلِكَ الْحَدِيثَ. فَفِي هَذَا الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ أَنَّ عُمَرَ قَالَ: أَنَّ مُرَادَ النَّبي صلى الله عليه وسلم بِقَوْلِهِ «لَا نُورَثُ» نَفْسُهُ، وَصَدَّقَهُ الْجَمَاعَةُ الْمَذْكُورُونَ فِي ذَلِكَ، وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى الْخُصُوصِ فَلَا مَانِعَ إِذَنْ مِنْ كَوْنِ الْمَوْرُوثِ عَنْ زَكَرِيَّا فِي الْآيَةِ الَّتِي نَحْنُ بِصَدَدِهَا هُوَ الْمَالُ؟ فَالْجَوَابُ مِنْ أَوْجُهٍ:
الْأَوَّلُ: أَنَّ ظَاهِرَ صِيغَةِ الْجَمْعِ شُمُولُ جَمِيعِ الْأَنْبِيَاءِ، فَلَا يَجُوزُ الْعُدُولُ عَنْ هَذَا الظَّاهِرِ إِلَّا بِدَلِيلٍ مِنْ كِتَابٍ أَوْ سُنَّةٍ. وَقَوْلُ عُمَرَ لَا يَصِحُّ تَخْصِيصُ نَصٍّ مِنَ السُّنَّةِ بِهِ؛ لِأَنَّ النُّصُوصَ لَا يَصِحُّ تَخْصِيصُهَا بِأَقْوَالِ الصَّحَابَةِ عَلَى التَّحْقِيقِ كَمَا هُوَ مُقَرَّرٌ فِي الْأُصُولِ.
الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ قَوْلَ عُمَرَ «يُرِيدُ صلى الله عليه وسلم نَفْسَهُ» لَا يُنَافِي شُمُولَ الْحُكْمِ لِغَيْرِهِ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ، لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ قَصْدُهُ يُرِيدُ أَنَّهُ هُوَ صلى الله عليه وسلم يَعْنِي نَفْسَهُ فَإِنَّهُ لَا يُورَثُ، وَلَمْ يَقُلْ عُمَرُ إِنَّ اللَّفْظَ لَمْ يَشْمَلْ غَيْرَهُ، وَكَوْنُهُ يَعْنِي نَفْسَهُ لَا يُنَافِي أَنَّ غَيْرَهُ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ لَا يُورَثُ أَيْضًا.
الْوَجْهُ الثَّالِثُ: مَا جَاءَ مِنَ الْأَحَادِيثِ صَرِيحًا فِي عُمُوم عدم الْإِرْث المَال فِي جَمِيعِ الْأَنْبِيَاءِ. وَسَنَذْكُرُ طَرَفًا مِنْ ذَلِكَ هُنَا إِنْ شَاءَ الله تَعَالَى.
(1) - أخرجه التِّرْمِذِيّ (4/157)(1608) ، وَقَالَ حسن غَرِيب، وَأحمد (1/10) ، وَلم يذكر أَحْمد أَبَا هُرَيْرَة فِي إِسْنَاده، والْحَدِيث صَححهُ الشَّيْخ الألباني رحمه الله.
قَالَ ابْنُ حَجَرٍ فِي فَتْحِ الْبَارِي مَا نَصُّهُ: وَأَمَّا مَا اشْتُهِرَ فِي كُتُبِ أَهْلِ الْأُصُولِ وَغَيْرِهِمْ بِلَفْظِ «نَحْنُ مَعَاشِرَ الْأَنْبِيَاءِ لَا نُورَثُ» (1) فَقَدْ أَنْكَرَهُ جَمَاعَةٌ مِنَ الْأَئِمَّةِ، وَهُوَ كَذَلِكَ بِالنِّسْبَةِ لِخُصُوصِ لَفْظِ «نَحْنُ» لَكِنْ أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ عُيَيْنَةَ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ بِلَفْظِ «إِنَّا مَعَاشِرَ الْأَنْبِيَاءِ لَا نُورَثُ» (2) الْحَدِيثَ وَأَخْرَجَهُ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مَنْصُورٍ، عَنِ ابْنِ عُيَيْنَةَ عَنْهُ، وَهُوَ كَذَلِكَ فِي مُسْنَدِ الْحُمَيْدِيِّ عَنِ ابْنِ عُيَيْنَةَ، وَهُوَ مِنْ أَتْقَنِ أَصْحَابِ ابْنِ عُيَيْنَةَ فِيهِ. وَأَوْرَدَهُ الْهَيْثَمُ بْنُ كُلَيْبٍ فِي مُسْنَدِهِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي بَكْرٍ الصَّدِيقِ بِاللَّفْظِ الْمَذْكُورِ. وَأَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ (3) بِنَحْوِ اللَّفْظِ الْمَذْكُورِ. وَأَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ فِي الْعِلَلِ (4) من رِوَايَة أم هانىء عَنْ فَاطِمَةَ رضي الله عنها، عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصَّدِيقِ بِلَفْظِ «إِنَّ الْأَنْبِيَاءَ لَا يُورَثُونَ» انْتَهَى مَحَلُّ الْغَرَضِ مِنْ كَلَامِ ابْنِ حَجَرٍ، وَقَدْ رَأَيْتُ فِيهِ هَذِهِ الطُّرُقَ الَّتِي فِيهَا التَّصْرِيحُ بِعُمُومِ الْأَنْبِيَاءِ، وَقَدْ قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: إِنَّ إِنْكَارَ الْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ غَيْرُ مُسَلَّمٍ إِلَّا بِالنِّسْبَةِ لخُصُوص لفظ «نَحن» هَذِه الرِّوَايَاتُ الَّتِي أَشَارَ لَهَا يَشُدُّ بَعْضُهَا.
وَقَدْ تَقَرَّرَ فِي الْأُصُولِ أَنَّ الْبَيَانَ يَصِحُّ بِكُلِّ مَا يُزِيلُ الْإِشْكَالَ وَلَوْ قَرِينَةٌ أَوْ غَيْرُهَا كَمَا قَدَّمْنَاهُ مُوَضَّحًا فِي تَرْجَمَةِ هَذَا الْكِتَابِ الْمُبَارَكِ، وَعَلَيْهِ فَهَذِهِ الْأَحَادِيثُ الَّتِي ذَكَرْنَا تُبَيِّنُ أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ قَوْلِهِ فِي الْحَدِيثِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ «لَا نُورَثُ» أَنَّهُ يَعْنِي نَفْسَهُ. كَمَا قَالَ عُمَرُ وَجَمِيعُ الْأَنْبِيَاءِ كَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ الرِّوَايَات
(1) - أخرجه الرّبيع فِي مُسْنده (ص/261)(969) ، بِسَنَد فِيهِ أَبُو عُبَيْدَة، وَهُوَ مُسلم بن أبي كَرِيمَة، قَالَ عَنهُ أَبُو حَاتِم: مَجْهُول.
(2)
- أخرجه أَحْمد (2/463) ، وَصحح إِسْنَاده الأرناؤوط.
(3)
- (5/26)(4578) .
(4)
- (1/231)(34) .
الْمَذْكُورَةُ. وَالْبَيَانُ إِرْشَادٌ وَدَلَالَةٌ يَصِحُّ بِكُلِّ شَيْءٍ يُزِيلُ اللَّبْسَ عَنِ النَّصِّ مِنْ نَصٍّ أَوْ فِعْلٍ أَوْ قَرِينَةٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ. قَالَ فِي مَرَاقِي السُّعُودِ فِي تَعْرِيفِ الْبَيَانِ وَمَا بِهِ الْبَيَانُ:
تَصْيِيرُ مُشْكَلٍ مِنَ الْجَلِيِّ
…
وَهُوَ وَاجِبٌ عَلَى النَّبي
إِذَا أُرِيدَ فَهْمُهُ وَهْوَ بِمَا
…
مِنَ الدَّلِيلِ مُطْلَقًا يَجْلُو الْعَمَا
وَبِهَذَا الَّذِي قَرَّرْنَا تَعْلَمُ: أَنَّ قَوْلَهُ هُنَا {يَرِثُنِى وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ} يَعْنِي وِرَاثَةَ الْعِلْمِ وَالدِّينِ لَا الْمَالِ. وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ} . فَتِلْكَ الْوِرَاثَةُ أَيْضًا وِرَاثَةُ عِلْمٍ وَدِينٍ، وَالْوِرَاثَةُ قَدْ تُطْلَقُ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ عَلَى وِرَاثَةِ الْعِلْمِ وَالدِّينِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى:{ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا} ، وَقَوْلِهِ:{وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُواْ الْكِتَابَ مِن بَعْدِهِمْ لَفِى شَكٍّ مِّنْهُ مُرِيبٍ} ، وَقَوْلِهِ:{فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُواْ الْكِتَابَ} ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.
وَمِنَ السُّنَّةِ الْوَارِدَةِ فِي ذَلِكَ مَا رَوَاهُ أَبُو الدَّرْدَاءِ رضي الله عنه عَنِ النَّبي صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: «الْعُلَمَاءُ وَرَثَةُ الْأَنْبِيَاءِ» (1) وَهُوَ فِي الْمُسْنَدِ وَالسُّنَنِ قَالَ صَاحِبُ (تَمْيِيزُ الطَّيِّبِ مِنَ الْخَبِيثِ، فِيمَا يَدُورُ عَلَى أَلْسِنَةِ النَّاس من الحَدِيث) : رَوَاهُ أَحْمد أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَآخَرُونَ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ مَرْفُوعًا بِزِيَادَةِ «إِنَّ الْأَنْبِيَاءَ لَمْ يُوَرِّثُوا دِينَارًا وَلَا دِرْهَمًا، وَإِنَّمَا وَرَّثُوا الْعِلْمَ» وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ وَالْحَاكِمُ وَغَيْرُهُمَا انْتَهَى مِنْهُ بِلَفْظِهِ. وَقَالَ صَاحِبُ (كشف الخفاء ومزيل الألباس عَمَّا اشْتهر من الْأَحَادِيثِ عَلَى أَلْسِنَةِ النَاسِ) : «الْعُلَمَاءُ وَرَثَةُ الْأَنْبِيَاءِ» رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْأَرْبَعَةُ وَآخَرُونَ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ مَرْفُوعا بِزِيَادَة «إِن
(1) - أخرجه أَبُو دَاوُد (2/341)(3641) ، وَالتِّرْمِذِيّ (5/48)(2682) ، وَابْن مَاجَه (1/81)(223) ، وَأحمد (5/196) ، وَابْن حبَان (1/289)(88) ، والْحَدِيث صَححهُ الشَّيْخ الألباني رحمه الله.
الْأَنْبِيَاءَ لَمْ يُوَرِّثُوا دِينَارًا وَلَا دِرْهَمًا وَإِنَّمَا وَرَّثُوا الْعِلْمَ..» الْحَدِيثَ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ وَالْحَاكِمُ وَغَيْرُهُمَا، وَحَسَّنَهُ حَمْزَةُ الْكِنَانِيُّ وَضَعَّفَهُ غَيْرُهُمْ لِاضْطِرَابِ سَنَدِهِ لَكِنْ لَهُ شَوَاهِدُ. وَلِذَا قَالَ الْحَافِظُ: لَهُ طرق يعرف بهَا أَن الحَدِيث أَصْلًا، وَرَوَاهُ الدَّيْلَمِيُّ عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ بِلَفْظِ التَّرْجَمَةِ اهـ مَحَلُّ الْغَرَضِ مِنْهُ.
وَالظَّاهِرُ صَلَاحِيَةُ هَذَا الْحَدِيثِ لِلِاحْتِجَاجِ لِاعْتِضَادِ بَعْضِ طُرُقِهِ بِبَعْضٍ. فَإِذَا عَلِمْتَ مَا ذَكَرْنَا مِنْ دَلَالَةِ هَذِهِ الْأَدِلَّةِ عَلَى أَنَّ الْوِرَاثَةَ الْمَذْكُورَةَ فِي الْآيَةِ وِرَاثَةُ عِلْمٍ وَدِينٍ لَا وِرَاثَةَ مَالٍ فَاعْلَمْ أَنَّ لِلْعُلَمَاءِ فِي ذَلِكَ ثَلَاثَةَ أَقْوَالٍ:
الْأَوَّلُ: هُوَ مَا ذَكَرْنَا.
وَالثَّانِي: أَنَّهَا وِرَاثَةُ مَالٍ.
وَالثَّالِثُ: أَنَّهَا وَبِالنِّسْبَةِ لِآلِ يَعْقُوبَ فِي قَوْلِهِ «وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ» وِرَاثَةُ عِلْمٍ وَدِينٍ، وَهَذَا اخْتِيَارُ ابْنِ جَرِيرٍ الطَّبَرِيِّ.
وَقَدْ ذَكَرَ مَنْ قَالَ: إِنَّ وِرَاثَتَهُ لِزَكَرِيَّا وِرَاثَةَ مَالٍ حَدِيثًا عَنِ النَّبي صلى الله عليه وسلم فِي ذَلِكَ أَنَّهُ قَالَ: «رَحِمَ اللَّهُ زَكَرِيَّا مَا كَانَ عَلَيْهِ مِنْ وَرَثَتِهِ» (1) أَيْ مَا يَضُرُّهُ إِرْثُ وَرَثَتِهِ لِمَالِهِ. وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذَا لَمْ يَثْبُتْ عَنِ النَّبي صلى الله عليه وسلم.
وَالْأَرْجَحُ فِيمَا يَظْهَرُ لَنَا هُوَ مَا ذَكَرْنَا مِنْ أَنَّهَا وِرَاثَةُ عِلْمٍ وَدِينٍ؛ لِلْأَدِلَّةِ الَّتِي ذَكَرْنَا وَغَيْرِهَا مِمَّا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ.
وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ كَثِيرٍ فِي تَفْسِيرِهِ هُنَا مَا يُؤَيِّدُ ذَلِكَ مِنْ أَوْجُهٍ، قَالَ رحمه الله فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى:{وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِىَ مِن وَرَآئِى} : وَجْهُ خَوْفِهِ أَنَّهُ خَشِيَ أَنْ يَتَصَرَّفُوا مِنْ بَعْدِهِ فِي النَّاسِ تَصَرُّفًا سَيِّئًا فَسَأَلَ اللَّهَ وَلَدًا يَكُونُ نَبِيًّا مِنْ بَعْدِهِ؛ لِيَسُوسَهُمْ بِنُبُوَّتِهِ بِمَا يُوحَى إِلَيْهِ فَأُجِيبَ فِي ذَلِكَ؛ لَا أَنَّهُ خَشِيَ من
(1) - أخرجه الطَّبَرِيّ فِي "تَفْسِيره"(16/48) من حَدِيث قَتَادَة مَرْفُوعا بِهِ، وَهُوَ مُرْسل.
وِرَاثَتِهِمْ لَهُ مَالَهُ؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ أَعْظَمُ مَنْزِلَةً، وَأَجَلُّ قَدْرًا مِنْ أَنْ يُشْفِقَ عَلَى مَالِهِ إِلَى مَا هَذَا حَدُّهُ، وَأَنْ يَأْنَفَ مِنْ وِرَاثَةِ عَصَبَاتِهِ لَهُ، وَيَسْأَلَ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لِيَحُوزَ مِيرَاثَهُ دُونَهُمْ وَهَذَا وَجْهٌ.
الثَّانِي: أَنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ أَنَّهُ كَانَ ذَا مَالٍ؛ بَلْ كَانَ نَجَّارًا يَأْكُلُ مِنْ كَسْبِ يَدَيْهِ. وَمِثْلُ هَذَا لَا يَجْمَعُ مَالًا، وَلَا سِيَّمَا الْأَنْبِيَاءُ، فَإِنَّهُمْ كَانُوا أَزْهَدَ شَيْءٍ فِي الدُّنْيَا.
الثَّالِثُ: أَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «لَا نُورَثُ مَا تَرَكْنَا صَدَقَةٌ» وَفِي رِوَايَةٍ عِنْدَ التِّرْمِذِيِّ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ «نَحْنُ مَعْشَرَ الْأَنْبِيَاءِ لَا نُورَثُ» (1) وَعَلَى هَذَا فَتَعَيَّنَ حَمْلُ قَوْلِهِ {فَهَبْ لِى مِن لَّدُنْكَ وَلِيّاً يَرِثُنِى} عَلَى مِيرَاثِ النُّبُوَّةِ؛ وَلِهَذَا قَالَ {يَرِثُنِى وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ} كَقَوْلِهِ: {وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ} أَيْ فِي النُّبُوَّةِ، إِذْ لَوْ كَانَ فِي الْمَالِ لَمَا خَصَّهُ مِنْ بَيْنِ إِخْوَتِهِ بِذَلِكَ، وَلَمَا كَانَ فِي الْإِخْبَارِ بِذَلِكَ كَبِيرُ فَائِدَةٍ، إِذْ مِنَ الْمَعْلُومِ الْمُسْتَقِرِّ فِي جَمِيعِ الشَّرَائِعِ وَالْمِلَلِ: أَنَّ الْوَلَدَ يَرِثُ أَبَاهُ، فَلَوْلَا أَنَّهَا وِرَاثَةٌ خَاصَّةٌ لَمَا أَخْبَرَ بِهَا، وَكُلُّ هَذَا يُقَرِّرُهُ وَيُثْبِتُهُ مَا صَحَّ فِي الْحَدِيثِ:«نَحْنُ مَعَاشِرَ الْأَنْبِيَاءِ لَا نُورَثُ. مَا تَرَكْنَا فَهُوَ صَدَقَةٌ» اهـ مَحَلُّ الْغَرَضِ مِنْ كَلَامِ ابْنِ كَثِيرٍ، ثُمَّ سَاقَ بَعْدَ هَذَا طُرُقَ الْحَدِيثِ الَّذِي أَشَرْنَا لَهُ «يَرْحَمُ اللَّهُ زَكَرِيَّا وَمَا كَانَ عَلَيْهِ مِنْ وَرَثَةِ مَالِهِ» الْحَدِيثَ. ثُمَّ قَالَ فِي أَسَانِيدِهِ: وَهَذِهِ مُرْسَلَاتٌ لَا تُعَارِضُ الصِّحَاحَ. وَاعْلَمْ أَنَّ لَفْظَ «نَحْنُ مَعَاشِرَ الْأَنْبِيَاءِ» وَلَفْظَ «إِنَّا مَعَاشِرَ الْأَنْبِيَاءِ» مُؤَدَّاهُمَا وَاحِدٌ، إِلَّا أَنَّ «إِنَّ» دَخَلَتْ عَلَى «نَحْنُ» فَأَبْدَلَتْ لَفْظَةَ «نَحْنُ» الَّتِي هِيَ الْمُبْتَدَأُ بِلَفْظَةِ «نَا» الصَّالِحَةِ لِلنَّصْبِ، وَالْجُمْلَةُ هِيَ هِيَ إِلَّا أَنَّهَا فِي أحد اللَّفْظَيْنِ أكدت. «إِن» كَمَا لَا يخفى.] (2) .
(1) - سبق تَخْرِيج هَذِه الرِّوَايَات، وَلم أَقف على هَذَا الحَدِيث عِنْد التِّرْمِذِيّ.
(2)
- 4/223: 228، مَرْيَم / 5.